تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٥

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٥

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٩

مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ) والظاهر أنهم قوم صالح ولوط وشعيب كما ورد في قصصهم على هذا الترتيب في «الأعراف» وفي «هود» وغيرهما. وعن ابن عباس أنهم بنو إسرائيل. والمعنى إنا بعد ما أخلينا الديار من المكلفين أنشأناهم وبلغناهم حد التكليف حتى قاموا مقام من كانوا قبلهم. ثم بين كمال علمه وقدرته في شأن المكلفين بقوله (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ) أي كل طائفة مجتمعة في قرن لها آجال مكتوبة في الحياة وفي الموت بالهلاك أو الإهلاك ، لا يتقدمها ولا يتأخر عنها ، وفيه أن المقتول ميت بأجله. وقال الكعبي : معنى الآية أنهم لا يتقدمون وقت عذابهم إن لم يؤمنوا ، ولا يتأخرون عنه ولا يستأصلهم إلا إذا علم منهم أنهم لا يزدادون إلا عنادا ، وأنهم لا يلدون مؤمنا ، وأنه لا نفع في بقائهم لغيرهم ولا ضرر على أحد في هلاكهم. ثم بين أن رسل الله كانوا بعد هذه القرون متواترين وأن شأنهم في التكذيب كان واحدا ، وكانت سنة الله فيهم باتباع بعضهم بعضا في الإهلاك. والتاء في (تَتْرا) بدل من الواو في الوتر وهو الفرد أي أرسلناهم واحدا بعد واحد ، والرسول يلابس المرسل والمرسل إليه جميعا فلذلك جاء في القرآن «رسلنا» و «رسلهم» و «رسولها» وأحاديث يكون اسم جمع للحديث أو جمعا له من غير لفظه ، ومنه أحاديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويكون جمعا للأحدوثة من لفظها كالأضحوكة والأعجوبة وهو المراد من الآية أي جعلناهم أخبارا يسمعونها ويتعجب منها لأنهم استؤصلوا فلم يبق فيهم عين ولا أثر سوى الحكاية. ثم ذكر طرفا من قصة موسى عليه‌السلام. عن الحسن (بِآياتِنا) أي بديننا كيلا يلزم منه تكرار لأن السلطان المبين هو المعجز ، والأقرب قول ابن عباس أنها الآيات التسع لأن الآيات عند ذكر الرسل يراد بها المعجزات في عرف القرآن ، والسلطان هو العصا لأنها كانت أم آياته وأقدمها فخصت بالذكر لشرفها وقوة دلالتها. ويجوز أن يراد أنها آيات في أنفسها وحجة بينة بالنسبة إلى المتحدين بها ، أو يراد به تسلط موسى عليه‌السلام في الاستدلال على الصانع وأنه ما كان يقيم لهم وزنا. ثم حكى عن فرعون وقومه صفتهم وشبهتهم. أما الصفة فهي الاستكبار والعلو أي طلبوا الكبر وتكلفوه واستنكفوا عن قبول الحق وكانوا مع ذلك رفيعي الحال في أمور الدنيا غالبين قاهرين مستظهرين بالعدد والعدد ، وأما الشبهة فهي إنكار كون الرسول من جنس البشر ولا سيما إذا كان قومهما وهم بنو إسرائيل خدما وعبيدا لهم. قال أبو عبيدة : العرب تسمي كل من دان لملك عابدا له ، ويحتمل أن يقال : إنه كان يدعي الإلهية فادعى للناس العبادة وإن طاعتهم عبادة على الحقيقة والبشر يقع على الواحد وعلى الجمع. والمثل يوصف به الاثنان والجمع والمذكر والمؤنث. ويقال أيضا : هما مثلاه وهم أمثاله. ثم بين أنه لما خطرت هذه الشبهة ببالهم صرحوا بالتكذيب فأهلكوا لذلك وكانوا في حكم الله وعلمه كذلك. ثم حكى ما

١٢١

جرى على قوم موسى بعد إهلاك عدوهم (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) أي التوراة (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) ومن الناس من ظن أن هذا الضمير راجع إلى فرعون وملئه. والمعنى أنه خص موسى بالكتب لا للتكذيب ولكن ليهتدوا به ، فلما أصروا على الكفر مع البيان العظيم استحقوا الإهلاك وهو وهم لأن موسى لم يؤت التوراة إلا بعد إهلاك القبط بدليل قوله (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى) [القصص : ٤٣] وفي قوله في أول «البقرة» (وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) إلى قوله (وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) [الآية : ٥١] والقصة مشهورة. فالصحيح أنه ذكر موسى وأراد قومه كما يقال «هاشم وثقيف» ويراد قومهم نظيره (عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ) [يونس : ٨٣] وقد مر في آخر «يونس».

ثم أجمل قصة عيسى بقوله (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) وقد مر بيانه في آخر الأنبياء في قوله (وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ) [الآية : ٩٢] قال جار الله : لو قيل آيتين لجاز لأن مريم ولدت من غير مسيس ، وعيسى روح من الله ألقى إليها وقد تكلم في المهد وكان يحيى الموتى مع معجزات أخر. واللفظ محتمل للتثنية على تقدير : وجعلنا ابن مريم آية وأمه آية ثم حذفت الأولى لدلالة الثانية عليها. والأقرب حمل اللفظ على الوجه الذي لا يتم إلا بمجموعهما وهو الولادة على الوجه العجيب الناقص للعادة. والربوة بحركات الراء هي الأرض المرتفعة. عن كعب وقتادة وأبي العالية : هي إيليا أرض بيت المقدس وأنها كبد الأرض وأقرب إلى السماء بثمانية عشر ميلا. وعن الحسن : فلسطين والرملة. ومثله عن أبي هريرة قال : الزموا هذه الرملة رملة فلسطين فإنها الربوة التي ذكرها الله. وقال الكلبي وابن زيد : هي مصر. والأكثرون على أنها دمشق وغوطتها والقرار المستقر من أرض منبسطة مستوية. وعن قتادة : أراد ذات ثمار وماء يعني لأجل الثمار يستقر فيها ساكنوها والمعين الماء الظاهر الجاري على وجه الأرض من عانه إذا أدركه بعينه فوزنه «معيون» على «مفعول» وقال الفراء والزجاج : إن شئت جعلته «فعيلا» من الماعون وهو ما سهل على معطيه من أثاث البيت ومثله قول أبي علي : المعين السهل الذي ينقاد ولا يتعاصى. وقال جار الله : ووجه من جعله «فعيلا» أنه نفاع لظهوره وجريه من الماعون وهو المنفعة. قال المفسرون : سببب الإيواء أنها قرت بابنها عيسى إلى الربوة وبقيت بها اثنتي عشرة سنة ، وإنما ذهب بها ابن عمها يوسف ثم رجعت إلى أهلها بعد ما مات ملكهم. قوله سبحانه (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ) ليس على ظاهره لأنهم أرسلوا في أزمنة مختلفة وفي تأويله وجوه : أحدها الإعلام بأن كل رسول في زمانه نودي بذلك ووصى به ليعتقد السامع أن أمرا نودي له جميع الرسل حقيق أن

١٢٢

يؤخذ به ويعمل عليه ، ويؤيد هذا التأويل ما روي عن أم عبد الله أخت شداد بن أوس أنها بعثت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقدح من لبن في شدة الحر عند فطره صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو صائم فرده الرسول إليها وقال : من أين لك هذا؟ فقالت : من شاة لي ثم رده وقال : من أين هذه الشاة؟ فقالت : اشتريتها بمالي فأخذه. ثم إنها جاءته وقالت : يا رسول الله لم رددته؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بذلك أمرت الرسل أن لا تأكل إلا طيبا ولا تعمل إلا صالحا. وثانيها وهو قول محمد بن جرير أن المراد به عيسى وقد خاطب الواحد خطاب الجمع لشرفه وكقوله (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ) [آل عمران : ١٧٣] والمراد نعيم بن مسعود. ووقع هذا الإعلام عند إيواء عيسى ومريم إلى الربوة فذكر على سبيل الحكاية أي آويناهما وقلنا لهما هذا أي أعلمناهما أن الرسل كلهم خوطبوا بهذا الكلام ، فكلا مما رزقناكما واعملا عملا صالحا اقتداء بالرسل. وثالثها وهو الأظهر عندي أن المراد نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه ذكر ذلك بعد انقضاء أخبار الرسل. ووجه اتصال الكلام بما بعده ظاهر كما نقرره ، ووجه اتصاله بما قبله هو انتهاء الكلام إلى ذكر المستلذ وبالحقيقة المراد به الأمة كقوله (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) [الطلاق : ١] والطيب ما يستطاب ويستلذ من المآكل والفواكه أو هو الحلال. وقيل : طيبات الرزق حلال لا يعصى الله فيه ، وصاف لا ينسى الله فيه ، وقوام يمسك النفس ويحفظ العقل. وفي تقديم الأكل من الطيبات على الأمر بالعمل الصالح دليل على أن العمل الصالح لا بد أن يكون مسبوقا بأكل الحلال. وفي قوله (إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) تحذير من مخالفة هذا الأمر. وقال في سورة سبأ (إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [الآية : ١١] وكلاهما من أسمائه تعالى إلا أنه ورد هاهنا على الأصل لأن العلم أعلم وهناك راعى الفاصلة أو خصص لأن الخطاب مخصوص بآل داود.

ومن قرأ (وَإِنَ) بالكسر فعلى الاستئناف ، ومن قرأ بالفتح مخففا ومشددا فعلى حذف لام التعليل والمعلل (فَاتَّقُونِ) ثم من قال : الخطاب لجميع الرسل فالمشار إليه بهذه هو أصول الأديان والشرائع التي لا خلاف فيها بين الرسل وجملتها تقوى الله كما ختم به الآية. والضمير في (فَتَقَطَّعُوا) راجع إلى أممهم. قال الكلبي ومقاتل والضحاك : يعني مشركي مكة والمجوس واليهود والنصارى. ومن قال : الخطاب لعيسى فهذه إشارة إلى ملته في وقتها. وعلى القول الأظهر بل على جميع الأقوال المشار إليه ملة الإسلام كما مر مثله في آخر سورة الأنبياء ، كأنه أمر هناك بالعبادة التي هي أعم ثم أمر بالتقوى التي هي أخص ولهذا قال (فَتَقَطَّعُوا) بالفاء ليتوجه الذم أتم فإن المأتي به كلما كان أبعد من المأمور به كان سبب الذم أقوى ، فلا يكون ترتيب التقطع على التقوى كترتبه على العبادة ولهذا أكد التقطع بقوله (زُبُراً) بضم الباء جمع زبور أي حال كونه كتبا مختلفة يعني جعلوا دينهم أديانا ومذاهب

١٢٣

شتى. ومن قرأ بفتح الباء فمعناه قطعا استعيرت من زبر الفضة والحديد. ثم أكد الذم بقوله (كُلُّ حِزْبٍ بِما) أي كل فريق منهم مغتبط بما اتخذه دينا لنفسه معجب به يرى أنه المحق الرابح وغيره المبطل الخاسر. ثم بالغ في الذم والتهديد بقوله (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ) وهذا الأمر مما يدل على أن المخاطب بقوله (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ) هو نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد يطلق لفظ الجماعة على الواحد تعظيما وتفخيما كقوله (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً) [النحل : ١٢٠] والغمرة الماء الذي يغمر القامة. قال جار الله : ضربت مثلا لما هم مغمورون فيه من جهلهم وغوايتهم ، أو شبهوا باللاعبين في غمرة الماء لما هم عليه من الباطل. قلت : وأنت إذا تأملت فيما أسلفنا لك في المقدمة التاسعة من مقدمات الكتاب عرفت الفرق بين الوجهين. قال في الكشاف إلى حين أي إلى أن يقتلوا أو يموتوا. والتحقيق أنه الحالة التي يظهر عندها الحسرة والندامة وذلك إذا عرّفهم الله بطلان ما كانوا عليه وعرّفهم سوء منقلبهم فيشمل الموت والقبر والمحاسبة والنار ، وفيه تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونهي عن الجزع من تأخير عقابهم. ثم إن القوم كانوا أصحاب نعمة ورفاهية فبين الله تعالى أن ذلك الذي جعله مددا لهم وهو المال والبنون سبب لاستدراجهم إلى زيادة الإثم نظيره في آل عمران (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) [الآية : ١٧٨] وما في (أَنَّما) موصولة والرابط محذوف أي نسارع لهم فيه. وفي قوله (بَلْ لا يَشْعُرُونَ) أنهم أشباه البهائم لا فطنة لهم ولا شعور حتى يتفكروا أهو استدراج أم مسارعة في الخبر. وفيه أنه سبحانه أعطاهم هذه النعم ليكونوا متمكنين بها من الاشتغال بطلب الحق وحين أعرضوا عن الحق كان لزوم الحجة عليهم أقوى.

التأويل : (يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ) لم يعلموا أنهم وإن كانوا يأكلون مما يأكلون ولكنهم لا يأكلون كما يأكلون. «المؤمن يأكل في معي واحد والكافر يأكل في سبعه أمعاء» (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ) وأهل الله يأكلون ويشربون من مقام «أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني» (١) (وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ) أي في حال الطفولية كانت صفات الروح والقلب عون النفس وتربيتها وتربية صفاتها لاستكمال القالب إلى حد البلوغ ، والاستعداد لتحمل أعباء تكاليف الشرع (وَآوَيْناهُما) يعني مريم النفس وعيسى القلب (إِلى رَبْوَةٍ) القالب الذي فيه قرارهما ويجري فيه ماء معين الحكمة من القلب على اللسان (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ) أي القوى المرسلة إلى القالب.

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب التمني باب ٩. مسلم في كتاب الصوم حديث ٥٧ ، ٥٨. الموطأ في كتاب الصيام حديث ٥٨. أحمد في مسنده (٣ / ٨) (٦ / ١٢٦).

١٢٤

(إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (٥٨) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (٥٩) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (٦٠) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (٦١) وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٢) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (٦٣) حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (٦٤) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (٦٥) قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (٦٦) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (٦٧) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٦٩) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٠) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (٧١) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٧٢) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٣) وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (٧٤) وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٥) وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (٧٦) حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٧) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٧٨) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٩) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٨٠) بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (٨١) قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٨٢) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٨٣) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٤) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٨٥) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٨٦) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٨٧) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٨) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (٨٩) بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٩٠))

القراآت : تهجرون بضم التاء وكسر الجيم : نافع. الآخرون بفتح التاء وضم الجيم خرجا فخرج بغير الألف فيهما : ابن عامر كلاهما بالألف حمزة وعلي وخلف. الباقون بحذف الألف من الأول وإثباتها في الثاني فتحنا بالتشديد : يزيد (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) الثانية والثالثة : أبو عمرو وسهل ويعقوب. الآخرون باللام فيهما كالأول حملا على المعنى لأن قولك «من رب هذا» «ولمن هذا» في معنى واحد.

١٢٥

الوقوف : (مُشْفِقُونَ) ه لا (يُؤْمِنُونَ) لا (يُشْرِكُونَ) ه لا (راجِعُونَ) ه لا لأن الكل معطوفات على اسم «إن» والخبر (أُولئِكَ) الجملة (سابِقُونَ) ه لا (يُظْلَمُونَ) ه (عامِلُونَ) ه (يَجْأَرُونَ) ه لا لحق القول (لا تُنْصَرُونَ) ه (تَنْكِصُونَ) ه لا لأن ما بعده حال (مُسْتَكْبِرِينَ) ه قد قيل : على جعل الجار والمجرور مفعول (سامِراً) أو مفعول (تَهْجُرُونَ) ه (الْأَوَّلِينَ) ه (مُنْكِرُونَ) ه لصورة الاستفهام وهو العطف (جِنَّةٌ) ط (كارِهُونَ) ه (فِيهِنَ) ط (مُعْرِضُونَ) ه ط لأن الاستفهام إنكار (خَيْرٌ) ز وقد قيل : بناء على أن الواو للابتداء والحال أوجه. (الرَّازِقِينَ) ه (مُسْتَقِيمٍ) ه (لَناكِبُونَ) ه (يَعْمَهُونَ) ه (يَتَضَرَّعُونَ) ه (مُبْلِسُونَ) ه (وَالْأَفْئِدَةَ) ط (تَشْكُرُونَ) ه (تُحْشَرُونَ) ه (وَالنَّهارِ) ط (تَعْقِلُونَ) ه (الْأَوَّلُونَ) ه (لَمَبْعُوثُونَ) ه (الْأَوَّلِينَ) ه (تَعْلَمُونَ) ه (لِلَّهِ) ط (تَذَكَّرُونَ) ه (الْعَظِيمِ) ه (لِلَّهِ) ط (تَتَّقُونَ) ه (تَعْلَمُونَ) ه (لِلَّهِ) ط (تُسْحَرُونَ) ه (لَكاذِبُونَ) ه.

التفسير : إنه سبحانه لما نفي الخيرات الحقيقية عن الكفرة المتنعمين أتبعه ذكر من هو أهل للخيرات عاجلا وآجلا فوصفهم بصفات أربع : الأولى الإشفاق من خشية ربهم وظاهره ينبىء عن تكرار ، لأن الإشفاق يتضمن الخشية فمنهم من قال : جمع بينهما للتأكيد ، ومنهم من حمل الخشية على العذاب أي من عذاب ربهم مشفقون وهو قول الكلبي ومقاتل ، ومنهم من حمل الإشفاق على أثره وهو الدوام في الطاعة. والمعنى الذين هم من خشيته دائمون على طاعته جادّون في طلب مرضاته. ومنهم من قال : الإشفاق كمال الخوف أي هم من سخط الله عاجلا ومن عقابه آجلا في نهاية الخوف ، ويلزم ذلك أن يكونوا في غاية الاحتراز عن المعاصي. وفيه أنهم إذا كانوا خائفين من الخشية فلأن يخافوا من عدم الخشية أولى. الثانية قوله (وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) والظاهر أنها القرآن. وقيل : هي المخلوقات الدالة على وجود الصانع. وليس المراد التصديق بوجودها فقط فإن ذلك معلوم بالضرورة فلا يوجب المدح ، بل التصديق بكونها دلائل موصلة إلى العرفان ويتبعه الإقرار اللساني ظاهرا. الثالثة التبري عما سوى الله ظاهرا وباطنا بأن لا يشرك به طرفة عين. الرابعة قوله (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا) أي يعطون ما أعطوا (وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) خائفة في شأن ذلك الإعطاء. ثم علل ذلك الوجل بقوله (أَنَّهُمْ) أي لأنهم (إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ) فإن من اعتقد الرجوع إلى الجزاء والمساءلة ونشر الصحف وتتبع الأعمال وعلم أن المجازي هو الذي لا يخفى عليه الضمائر والسرائر لم يخل عمله من حسن النية وخلوص الطوية بحيث يكون أبعد عن الرياء وأدخل في الإخلاص. والظاهر أن هذا الإيتاء مختص بالزكاة والتصدق ، ويحتمل

١٢٦

أن يراد إعطاء كل فعل أو خصلة أي إتيانها يؤيده ما روي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ ويأتون ما أتوا أي يفعلون ما فعلوا. وعن عائشة أنها قالت : قلت يا رسول الله هو الذي يزني ويسرق ويشرب الخمر وهو على ذلك يخاف الله؟ قال : لا يا بنت الصديق ولكن هو الذي يصلي ويصوم ويتصدق وهو على ذلك يخاف الله أن لا يقبل منه. وفي قوله (يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) معنيان : أحدهما يرغبون في الطاعات أشد الرغبة فيبادرونها ، والثاني أنهم يتعجلون في الدنيا وجوه المنافع والإكرام لأنهم إذا سورع بها لهم فقد سارعوا في نيلها. قال جار الله : وهذا الوجه أحسن طباقا للآية المتقدمة لأن فيه إثبات ما نفى عن الكفار للمؤمنين. وقال في قوله (وَهُمْ لَها سابِقُونَ) إنه متروك المفعول أو منويه أي فاعلون السبق لأجلها أو سابقون الناس لأجلها ، والمراد إياها سابقون كقولك «هو لزيد ضارب» بمعنى «هو زيدا ضارب» جئت باللام لضعف عمل اسم الفاعل ولا سيما فيما قبله ، والمعنى أنهم ينالون الخيرات قبل الأخرى حيث عجلت لهم في الدنيا. وجوّز أن يكون (لَها سابِقُونَ) خبرين أحدهما بعد الآخر كقولك «هذا هو» لهذا الأمر أي صالح له.

وحين انجر الكلام إلى ذكر أعمال المكلفين ذكر حكمين لها الأوّل قوله (وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) وفي الوسع قولان : أحدهما أنه الطاقة والآخر أنه دون الطاقة وهو قول المعتزلة ومقاتل والضحاك والكلبي ، لأنه اتسع فيه على المكلف ولم يضيق مثاله إن لم يستطيع أن يصلي قائما فليصل قاعدا وإلا فليوم إيماء. وفيه أن هذا الذي وصف به الصالحين غير خارج من وسعهم. الثاني قوله (وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ) والمراد بنطقه إثبات كل عمل فيه وهو اللوح أو صحيفة الأعمال لا يقرأون منها يوم القيامة إلا ما هو صدق وعدل. والبحث بين الأشاعرة والمعتزلة في مثل هذا المقام معلوم. أما قوله (بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا) ففيه طريقان : أحدهما راجع إلى الكفار والمعنى بل قلوب الكفار في غفلة غامرة لها من هذا الذي بيناه في القرآن ، أو من هذا الذي ينطق بالحق أو الذي عليه هؤلاء المؤمنون. (وَلَهُمْ أَعْمالٌ) متجاوزة لذلك الذي وصف به المؤمنون كمتابعة الهوى وطلب الدنيا والإعراض عن المولى. (هُمْ لَها عامِلُونَ) في الحال على سبيل الاعتياد لا يفطمون عنها حتى يأخذهم العذاب أو في الاستقبال لأنها مبينة في علم الله مكتوبة في اللوح عليهم أن يعملوا بها بحكم الشقاء الأزلي. وثانيهما وهو اختيار أبي مسلم أن هذه الآيات من صفات المشفقين كأنه سبحانه قال بعد وصفهم (وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) ونهايته ما أتى به هؤلاء. (وَلَدَيْنا كِتابٌ) يحفظ أعمالهم. (بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا) الذي وصفناهم به أهو مقبول عند الله أم مردود (وَلَهُمْ أَعْمالٌ) من (دُونِ ذلِكَ) الذي وصف (هُمْ لَها

١٢٧

عامِلُونَ) وهي النوافل السرية والأعمال القلبية. ثم إنه رجع إلى وصف الكفار بقوله (حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ) وهو عذاب الآخرة أو قتلهم يوم بدر أو الجوع حين دعا عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسنيّ يوسف. فابتلاهم الله بالقحط حتى أكلوا الجيف والكلاب والعظام المحترقة والقدّ والأولاد. والجؤار الصراخ باستغاثة. ثم أخبر أنه يقال لهم حينئذ على جهة التبكيت (لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ) لا تغاثون من جهتنا أو لا تمنعون منا ، ثم عدد عليهم التوبيخ بمقابحهم. ومعنى النكوص على العقبين التباعد عن الحق والتجافي عنه كمن رجع على ورائه وقد مر في «الأنعام».

وفي مرجع الضمير في (بِهِ) أقوال : أحدها أنه للبيت العتيق أو للحرم. والذي سوّغ هذا الإضمار شهرتهم بالاستكبار بالبيت والتفاخر بولايته والقيام به وكانوا يقولون لا يظهر علينا أحد لأنا أهل الحرم. وثانيها مستكبرين بهذا التراجع والتباعد. وثالثها مستكبرين بالقرآن على تضمين الاستكبار معنى التكذيب ، أو على أن الباء للسببية لأن سماع القرآن كان يحدث لهم استكبارا وعتوّا. ورابعها أنه يتعلق بـ (سامِراً) أو بـ (تَهْجُرُونَ) والهجر بالضم الفحش وبالفتح الهذيان ، وأهجر في منطقه إذا أفحش. والضمير للقرآن أو للنبي أي تسمرون بذكر القرآن وبالطعن فيه أو في النبي ، وكانت عامة سمرهم حول البيت ذكر القرآن وتسميته سحرا وشعرا وسب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والسامر نحو الحاضر في الإطلاق على الجمع. ثم بين أن سبب إقدامهم على الكفر أحد أمور أربعة : الأوّل عدم التدبر في القرآن لأنهم إن تدبروه وتأملوا مبانيه ومعانيه ظهر لهم صدقه وإعجازه فيصدقوا به وبمن جاء به. الثاني قوله (أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ) والمراد أمر الرسالة. ثم المقصود تقرير أنه لم يأت آباءهم الأقربين رسول كقوله (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ) [يس : ٦] فلذلك أنكروه واستبعدوه ، أو تقرير أنه أتى آباءهم الأقدمين رسل وذلك أنهم عرفوا بالتواتر أن رسل الله فيهم كثيرة وكانت الأمم بين مصدق ناج وبين مكذب هالك بعذاب الاستئصال ، فما دعاهم ذلك إلى تصديق هذا الرسول وآباؤهم إسماعيل وأعقابه من عدنان وقحطان. وقيل : أراد أفلم يدبروا القرآن فيخافوا عند تدبر آياته وأقاصيصه مثل ما نزل بمن قبلهم من المكذبين ، أم جاءهم من الأمن ما لم يأت آباءهم حين خافوا الله فآمنوا به وبكتبه ورسله وأطاعوه؟ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا تسبوا مضر ولا ربيعة فإنهما كانا مسلمين ولا تسبوا قسا فإنه كان مسلما ولا تسبوا الحرث بن كعب ولا أسد بن خزيمة ولا تميم بن مر فإنهم كانوا على الإسلام وما

١٢٨

شككتم فيه من شيء فلا تشكوا في أن تبعا كان مسلما» (١) الثالث قوله (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا) نبه بذلك على أنهم عرفوه وعرفوا صحة نسبته وأمانته فكيف كذبوه بعد أن اتفقت كلمتهم على أنه أمين؟ الرابع نسبتهم إياه إلى الجنون وكانوا يعلمون أنه أرجحهم عقلا ولكنه جاء بما يخالف هواهم فتشككوا في أمره أو شككوا العوام إبقاء على مناصبهم ورياستهم. ثم أضرب عن أقوالهم منبها على مصدوقية أمر النبي فقال (بَلْ جاءَهُمْ) متلبسا (بِالْحَقِ) أو الباء للتعدية والحق الدين القويم والصراط المستقيم (وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) وأقلهم كانوا لا يكرهونه وإن لم يظهروا الإيمان به خوفا من قالة الأعداء كما يحكى عن أبي طالب ، ولهذا جاء الخلاف في صحة إسلامه. ثم بين أن الإلهية تقتضي الاستقلال في الأوامر والنواهي ، وأن الحق والصواب ينحصر فيما دبره إله العالمين وقدّره فقال (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ) نظيره ما مر في قوله (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء : ٢٢] وقيل : الحق الإسلام ، والمراد لو انقلب الإسلام شركا كما تقتضيه أهواؤهم لجاء الله بالقيامة ، ولأهلك العالم ولم يؤخر. وعن قتادة : الحق هو الله ، والمعنى لو كان الله آمرا بالشرك والمعاصي على وفق آرائهم لما كان إلها ولكان شيطانا فلا يقدر على إمساك السموات والأرض ، وحينئذ يختل نظام العالم. ثم ذكر أن نزول القرآن عليهم من جملة الحق فقال (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ) إن كانت الباء للتعدية فظاهر ، وإن كانت للمصاحبة فعلى حذف مضاف أي أتاهم رسولنا متلبسا بالكتاب الذي هو ذكرهم أي وعظهم أوصيتهم وفخرهم ، أو الإضافة بدل اللام العهدي أي بالذكر الذي كانوا يتمنونه ويقولون (لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) [الصافات : ١٦٩] ثم بيّن أن دعوته ليست مشوبة بالطمع الموجب للنفرة فقال (أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً) أي جعلا وكذا الخراج وقد مر في آخر الكهف. وقيل : الخرج أقل ولذا قرأ الأكثرون (خَرْجاً فَخَراجُ) يعني أم تسألهم على هدايتك لهم قليلا من عطاء الخلق فالكثير من عطاء الخالق خير.

وحين أثبت لرسوله مواجب قبول قوله ونفى عنه أضدادها صرح بمضمون أمره ومكنون سره فقال (وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) هو دين الإسلام لا تدعوهم إلى غيره من الطرق المنحرفة عن جادة الصواب ، وأشار إلى هذه الطرق بقوله (وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) هم المذكورون فيما تقدم أو كل من لا يؤمن بالاخرة (عَنِ الصِّراطِ) المستقيم المذكور (لَناكِبُونَ) والتركيب يدور على العدول عن القصد ومنه المنكب لمجمع

__________________

(١) روى أحمد في مسنده (٥ / ٣٤٠) «لا تسبوا تبعا فإنه قد كان أسلم» ولم يأت على ذكر التبعية.

١٢٩

عظم العضد والكتف ، والنكباء للريح التي تعدل عن مهاب الرياح للقوم. ثم بين إصرارهم على الكفر بقوله (وَلَوْ رَحِمْناهُمْ) الآية. يروى أنه لما أسلم ثمامة بن أثال الحنفي ولحق باليمامة ومنع الميرة عن أهل مكة وأخذهم الله بالسنين حتى أكلوا العلهز ، جاء أبو سفيان إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أنشدك الله والرحم ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين؟ فقال : بلى. فقال الآباء بالسيف والأبناء بالجوع فادع الله أن يكشف عنا الضر فأنزل الله الآية. والمعنى لو كشف الله برحمته هذا الهزال والجوع عنهم لأصروا على ما هم فيه من الطغيان. ثم استشهد على ذلك بقوله (وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ) أي قبل ذلك (بِالْعَذابِ) يعني ما جرى عليهم يوم بدر (فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ) أي ما خضعوا له وقد مر اشتقاقه في «آل عمران» (وَما يَتَضَرَّعُونَ) عدل إلى المضارع لأنه أراد وما من عادة هؤلاء أن يتضرعوا حتى فتحنا عليهم باب العذاب الشديد وهو الجوع الذي هو أشد من الأسر والقتل ، فأبلسوا الساعة أي خضعت رقابهم وجاء أعتاهم وأشدهم شكيمة وأخشنهم عريكة يستعطفك. ويحتمل أن يراد محناهم بكل محنة من القتل والجوع فما شوهد منهم انقياد للحق وهم كذلك إذا عذبوا بنار جهنم فحينئذ يبلسون ، والإبلاس السكوت مع تحير أو اليأس من كل خير. ثم نبه بقوله (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ) على أن أسباب التأمل في الدلائل موجودة ، وأبواب الأعذار بالكلية مسدودة ، فما كفر من كفر ولا عند من عند إلا للشقاء الأزلي. وفي قوله (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) أي تشكرون شكرا قليلا «وما» مزيدة للتوكيد دليل على أن المقر أقل من الجاحد. وعن أبي مسلم أنه قال : أراد بالقلة العدم. وفي الآية ثلاثة معان : أحدها إظهار النعمة. وثانيها مطالبة العباد بالشكر عليها فشكر السمع أن لا يسمع إلا لله وبالله ومن الله ، وشكر البصر أن ينظر بنظر العبرة لله وبالله وإلى الله ، وشكر الفؤاد تصفيته عن رين الأخلاق الذميمة وقطع تعلقه عن الكونين لشهوده بالله. وثالثها الشكاية أن الشاكر قليل.

ثم بين دلائل أخر على الوحدانية فقال (وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ) أي خلقكم وبثكم في الأرض للتناسل وإلى حيث لا مالك سواه تحشرون بعد تفرقكم (وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) وفيه مع تذكر نعمة الحياة بيان أن المقصود منها الانتقال إلى دار الثواب (وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي هو مختص بتصريفهما وأنهما يشبهان الموت والحياة. وفي قوله (أَفَلا تَعْقِلُونَ) توبيخ وتهديد. ثم نبه بقوله (بَلْ قالُوا) الآيات على أنه لا شبهة لهم في إنكار البعث إلا التشبث بحبل التقليد والاستبعاد. قال علماء المعاني : قوله (لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا) وارد على الأصل لأن التأكيد مذكور عقيب المؤكد وبعده المفعول الثاني. وأما في سورة النمل فسبب تقديم المفعول الثاني على الضمير وعلى المعطوف هو أنه اقتصر

١٣٠

هناك على قوله (تُراباً) والتراب أبعد في باب الإعادة من العظام ، فقدم ليدل على مزيد الاعتناء به في شأن الاستنكار. ثم رد على منكري الإعادة أو على عبدة الأوثان بقوله (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي إن كان عندكم علم فأجيبوني وفيه استهانة بهم وتجهيل لهم بأمر الديانات حتى جوّز أن يشتبه عليهم مثل هذا المكشوف الجلي. وفي قوله (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) ترغيب في التدبر وبعث على التأمل في أمر التوحيد والبعث ، فإن من قدر على اختراع الأرض ومن فيها كان حقيقا بأن لا يشرك به بعض خلقه وكان قادرا على إعادة ما أفناه ، وفي قوله (أَفَلا تَتَّقُونَ) مثل هذا الترغيب مع التخويف وكان أولى بالآية الثانية لأجل التدرج ولتعظيم السموات والعرش ، ولأن تذكر واجب الوجود مقدم على اتقاء مخالفته ، قال جار الله : أجرت فلانا على فلان إذا أغثته منه ومنعته يعني وهو يغيث من يشاء ممن يشاء ولا يغيث أحد منه أحدا (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) بهذه الصفة غيره فأجيبوني به. ومعنى (تُسْحَرُونَ) تخدعون عن طاعته والخادع هو الشيطان والهوى. ثم بين بقوله (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِ) أنه قد بالغ في الحجاج عليهم بهذه الآيات حتى استبان بما هو الحق والصدق (وَإِنَّهُمْ) مع ذلك (لَكاذِبُونَ) حيث يدعون له الولد والشريك وينسبون إليه العجز عن الإعادة.

التأويل : (مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) إشارة إلى استيلاء سلطان الهيبة في الحضور والغيبة (بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) هي ما يكاشف لهم من شواهد الحق في السر والعلانية (بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ) هو ترك الملاحظة في رد الناس وقبولهم ومدحهم وذمهم وانقطاع النظر في المضار والضار عن الوسائط والأسباب (يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) يتوجهون إلى الله وينقطعون عما سواه (وَهُمْ لَها سابِقُونَ) على قدر سبق العناية (وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) كلفهم أن يقولوا لا إله إلا الله وهم قادرون على ذلك ، وأمرهم بقبول دعوة الأنبياء وما هم بعد بعاجزين عنه ، وقد كتب في اللوح أنهم يقدرون على هذه التكاليف. (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) فلا يكلفون ما ليس في وسعهم واستعدادهم حتى إذا أخذنا (أَكابِرَ مُجْرِمِيها) مجرميهم بعذاب فساد الاستعداد لفسدت سموات أرواحهم وأرض نفوسهم ومن فيهن من القلب والسر (وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) فيه أن العلماء بالله عليهم أن لا يدنسوا وجوه قلوبهم الناضرة بدنس الأطماع الفارقة. (وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ) أولا بعذاب الغبن (حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ) باب عذاب الرين يحيي بنوره قلوب بعض عباده ويميت نفوسهم عن صفاتها الذميمة ، أو يحيي بعض النفوس باتباع شهواتها ويميت بعض القلوب باستيلاء ظلمات الطبيعة عليها (وَلَهُ اخْتِلافُ) ليل البشرية ونهار الروحانية أو طول ليل الفراق وقصر نهار الوصال (قالُوا

١٣١

أَإِذا مِتْنا) فيه أن اليأس من الوصول والوصال ليس من شيم أهل الكمال فقد تقوم قيامة العشق فيبعث القلب الميت (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) ملكوت كل شيء هي جهة روحانيته (وَهُوَ يُجِيرُ) الأشياء بقيوميته عن الهلاك ولا مانع له ممن أراد به أن لا يجيره.

(مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (٩١) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٩٢) قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (٩٣) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٩٤) وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (٩٥) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (٩٦) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (٩٧) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (٩٨) حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٠٠) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (١٠١) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٢) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (١٠٣) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (١٠٤) أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٠٥) قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (١٠٦) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (١٠٧) قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (١٠٨) إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١٠٩) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (١١٠) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (١١١) قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (١١٢) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (١١٣) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١٤) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (١١٥) فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (١١٦) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (١١٧) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١١٨))

القراآت : عالم بالرفع : أبو جعفر ونافع وحمزة وعلي وعاصم غيره حفص إلا الخزاز. وقرأ رويس بالخفض إذا وصل وبالرفع إذا ابتدأ ، الآخرون بالخفض (لَعَلِّي أَعْمَلُ) بسكون الياء : عاصم وحمزة وعلي وخلف وسهل ويعقوب وابن مجاهد عن ابن ذكوان. شقاوتنا حمزة وعلي وخلف والمفضل. الباقون (شِقْوَتُنا) بكسر الشين وسكون القاف في غير ألف. (سِخْرِيًّا) بضم السين وكذلك في صاد : أبو جعفر ونافع وحمزة وعلي

١٣٢

وخلف والمفضل والخزاز عن هبيرة. الآخرون بكسرها إنهم بالكسر : حمزة وعلي والخزاز عن هبيرة. قل كم قل إن لبثتم على الأمر فيهما : حمزة وعلي وابن مجاهد وأبو عون عن قنبل وافق ابن كثير في الأول. (لا تُرْجَعُونَ) على البناء للفاعل يعقوب وحمزة وعلي وخلف.

الوقوف : (عَلى بَعْضٍ) ط (يَصِفُونَ) ه ط لمن قرأ بالرفع إلى هو عالم ومن خفض لم يقف لأنه بدل أو وصف (يُشْرِكُونَ) ه (ما يُوعَدُونَ) ه لا لأن قوله «فلا» جواب للشرط وهو إما والنداء عارض (الظَّالِمِينَ) ه لا (لَقادِرُونَ) ه (السَّيِّئَةَ) ط (يَصِفُونَ) ه (الشَّياطِينِ) ه لا (يَحْضُرُونِ) ه (ارْجِعُونِ) ه لا لتعلق لعل (كَلَّا) ط لأنها للردع عما قبلها أي لا يرجع. وقيل : مبتدأ بها بمعنى حقا والأول أحسن (قائِلُها) ط (يُبْعَثُونَ) ه (وَلا يَتَساءَلُونَ) ه (الْمُفْلِحُونَ) ه (خالِدُونَ) ه (كالِحُونَ) ه (تُكَذِّبُونَ) ه (ضالِّينَ) ه (ظالِمُونَ) ه (وَلا تُكَلِّمُونِ) ه (الرَّاحِمِينَ) ه ج للآية والوصل أجوز لشدة اتصال المعنى وللفاء (تَضْحَكُونَ) ه (صَبَرُوا) ط لمن قرأ (أَنَّهُمْ) بالكسر (الْفائِزُونَ) ه (سِنِينَ) ه (الْعادِّينَ) ه (تَعْلَمُونَ) ه (لا تُرْجَعُونَ) ه (الْحَقُ) ه لا لأن ما بعده يصلح مستأنفا وحالا أي تعالى متوحدا غير مشارك (إِلَّا هُوَ) ه لا لأن قوله (رَبُّ الْعَرْشِ) يصلح بدلا من هو وخبر مبتدأ محذوف (الْكَرِيمِ) ط (آخَرَ) لا لأن الجملة بعده صفة (بِهِ) لا لأن ما بعده جواب (عِنْدَ رَبِّهِ) ط (الْكافِرُونَ) ه (الرَّاحِمِينَ) ه.

التفسير : لما أثبت لنفسه الإلهية بالدلائل الإلزامية في الآيات المتقدمة نفى عن نفسه الأنداد والأضداد بقوله (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ) بقوله (وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ) وفيه ردّ على القائلين بأن الملائكة بنات الله وإبطال لأقوال اليهود والنصارى والثنوية. ثم ذكر شبه دليل التمانع بقوله (إِذاً لَذَهَبَ) وهو جواب لمن معه المحاجة من أهل الشرك وجواب الشرط محذوف دل عليه الكلام السابق تقديره : ولو كان معه آلهة لذهب كل إله بما خلق لا نفرد كل واحد منهم بالخلق الذي خلقه واستبد به ، لأن اجتماعهم على خلق واحد لا يتصور فإن ذلك يقتضي عجز الواحد عن ذلك الخلق ، وحينئذ يكون ملك كل واحد منهم متميزا عن ملك الآخرين. (وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) أي لغلب بعضهم على بعض كما ترون حال ملوك الدنيا من تمايز الممالك ومن التغالب ، وعدم اللازم يدل على عدم الملزوم فلذلك ختم الآية بقوله (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) إلى قوله (عَمَّا يُشْرِكُونَ) ثم أمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكارم الأخلاق ومحاسن العادات قائلا (قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي) أي إن كان لا بد من أن تريني ما تعدهم من العذاب في الدنيا أو في الآخرة (فَلا تَجْعَلْنِي) قريبا لهم. وقد يجوز أن يستعيذ

١٣٣

العبد بالله مما علم أنه لا يفعله إظهارا للعبودية واستكانة له ويؤيده تكرار رب مرتين. وكانوا ينكرون العذاب ويسخرون منه فأكد وقوعه بقوله (وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ) قيل : فيه دليل على أن القدرة تصح على المعدوم لأنه أخبر أنه قادر على تعجيل عقوبتهم ثم لم يفعل ذلك ثم أمره بالصفح عن سيئاتهم ومقابلتها بما يمكن من الإحسان حتى إذا اجتمع الصفح والإحسان وبذل الاستطاعة فيه كان أحسن لأنها حسنة مضاعفة بإزاء سيئة. أو نقول : المكافأة حسنة ولكن العفو أحسن. عن ابن عباس هي شهادة أن لا إله إلا الله والسيئة الشرك. وعن مجاهد هي أن يسلم عليه إذا لقيه. قيل : هي منسوخة بآية السيف والأولى أن يقال : هي محكمة لأن المداراة مستحبة ما لم تؤد إلى محذور (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ) مما ليس فيك من المثالب والمراد أنه أقدر على جزائهم فعليه أن يفوض أمرهم إلى الله ويدفع أذاهم بالكلام الجميل والسلام وبيان الأدلة على أحسن الوجوه. ثم أتبع هذا التعليم ما يقويه على ذلك وهو الاستعاذة بالله من همزات الشياطين. والهمز النخس ومنه «مهماز الرائض» وذلك أنهم يحثون الناس على المعاصي بأنواع الوساوس كما يحث الرائض الدابة على المشي بالمهماز وهي حديدة تكون في مؤخر خفه. عن الحسن أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول بعد استفتاح الصلاة «اللهم إني أعوذ بك من همزات الشياطين همزه ونفخه ونفثه» (١) فهمزه الجنون ونفثه الشعر ونفخه الكبر. ثم أمره بالتعوّذ من أن يحضروه أصلا كما يقال : أعوذ بالله من خصومتك بل أعوذ بالله من لقائك. وعن ابن عباس أراد الحضور عند تلاوة القرآن. وعن عكرمة عند النزع والأولى العموم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد اشتكى إليه رجل أرقا به فقال : إذا أردت النوم فقل أعوذ بكلمات الله التامات من غضبه وعقابه ومن شر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون. قوله (حَتَّى إِذا جاءَ) قيل : متعلق بقوله (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) وقيل : بـ (يَصِفُونَ) أي لا يزالون على سوء الذكر إلى هذا الوقت وما بينهما اعتراض وتأكيد للإغضاء عنهم مستعينا بالله على الشيطان أن يستزله عن الحلم. والمراد بمجيء الموت أماراته التي تحقق عندها الموت وصارت المعرفة ضرورية فحينئذ يسأل الرجعة ولا ينافي هذا السؤال الرجعة عند معاينة النار كقوله (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ) [الانعام : ٢٧] والأكثرون على أنهم الكفار. وروى الضحاك عن ابن عباس أنها تشمل من لم يزك ولم يحج لقوله (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي) [المنافقون : ١٠] وأما وجه الجمع في قوله (ارْجِعُونِ) مع وحدة المنادي

__________________

(١) رواه أبو داود في كتاب الطب باب ١٩. الترمذي في كتاب الدعوات باب ٩٣. الموطأ في كتاب الشعر حديث ٩. أحمد في مسنده (٢ / ١٨١) (٤ / ٥٧).

١٣٤

فقيل : إن الجمعية راجعة إلى الفعل كأنه قال : ارجع مرات ونظيره (أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ) [ق : ٢٤] أي ألق ألق. وقيل (رَبِ) للقسم والخطاب للملائكة القابضين للأرواح أي بحق الله ارجعون والأقرب أن الجمع للتعظيم كقول الشاعر :

ألا فارحموني يا إله محمد

وقوله :

فإن شئت حرمت النساء سواكم

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا عاين المؤمن الملائكة قالوا نرجعك إلى الدنيا فيقول : إلى دار الهموم والأحزان بل قدوما إلى الله. وأما الكافر فيقول : رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت» قال جار الله : أي لعلي آتي بما تركته من الإيمان وأعمل فيه صالحا كما تقول لعلي أبني على أس تريد أؤسس أسا وأبني عليه. وقيل : أي فيما خلفت من المال والأولى العموم فيدخل فيه العبادات البدنية والمالية والحقوق كأنهم تمنوا الرجعة ليصلحوا ما أفسدوه ويطيعوا فيما عصوا. قيل : كيف سألوا الرجعة وقد علموا صحة الدين بالضرورة ومن الدين أن لا رجعة؟ والجواب بعد تسليم أنهم عرفوا كل الدين أن الإنسان قد يتمنى شيئا مع علمه بتعذره كقول القائل «ليت الشباب يعود» والاستغاثة بجنس هذه المسألة قد تحسن.

قولهم (لَعَلِّي) ليس المراد به الشك وإنما هو كقول المقصر «مكنوني لعلي أتدارك» مع كونه جازما بأنه سيتدارك. ويحتمل أنهم وإن كانوا جازمين بذلك إلا أن أمر المستقبل مبني على الظن والتخمين دون اليقين فلذلك أوردوا الكلام بصورة الترجي. ثم ردعهم بقوله (كَلَّا) أي ليس الأمر على ما توهموه من إمكان الرجعة (إِنَّها كَلِمَةٌ) والمراد بها طائفة من الكلام منتظم بعضها مع بعض وهي قوله (ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً هُوَ قائِلُها) لا محالة لا يخليها ولا يسكت عنها لاستيلاء الحسرة والحيرة عليه وهو قائلها وحده لإيجاب إليها ولا تسمع منه (وَمِنْ وَرائِهِمْ) الضمير لكل المكلفين أي أمامهم (بَرْزَخٌ) حائل بينهم وبين الجنة أو النار وبين الجزاء التام (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) وذلك البرزخ هو مدة ما بين الموت إلى البعث ، ولعل بعض الحجب من الأخلاق الذميمة يندفع في هذه المدة. وقال في الكشاف : حائل بينهم وبين الرجعة ومعناه الإقناط الكلي لما علم أنه لا رجعة يوم البعث إلا إلى الآخرة. ثم وصف يوم البعث بقوله (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ) قد مر معناه في أواخر «طه». وقوله (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ) ليس المراد به نفي النسب لأن ذلك ثابت بالحقيقة فإذن المراد حكمه وما يتفرع عليه من التعاطف والتراحم والتواصل ، فقد يكون أحد القريبين في

١٣٥

الجنة والآخر في النار ويكون بكل مكلف من اشتغال نفسه ما يمنعه من الالتفات إلى أحوال نسبه. عن قتادة : لا شيء أبغض إلى الإنسان من أن يرى من يعرفه مخافة أن يثبت له عليه شيء. وأما الجمع بين قوله (وَلا يَتَساءَلُونَ) وبين قوله (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) [المؤمنون : ١٠] فظاهر لأن هذا في صفة أهل الموقف وذاك في صفة أهل الجنة. ولو سلم أن كليهما في وصف أهل الموقف فلن نسلم اتحاد المواطن والأزمنة وغيرها من الاعتبارات التي يقع فيها التساؤل كحقوق النسب ونحوها. عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ثلاثة مواطن تذهل فيها كل نفس : حين يرمي إلى كل إنسان كتابه ، وعند الموازين وعلى جسر جهنم» وقد مر مثل اية الموازين في أول «الأعراف» فليرجع إلى هنالك. وقوله (فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ) بدل من (خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) ولا محل له كالمبدل فإن الصلة لا محل لها أو خبر بعد خبر لأولئك أو خبر مبتدأ محذوف. ومعنى خسران أنفسهم امتناع انتفاعهم بها. وقال ابن عباس : خسروها بأن صارت منازلهم للمؤمنين. ومعنى (تَلْفَحُ) تسفع أي تضرب وتأكل لحومهم وجلودهم النار ، قاله ابن عباس. وعن الزجاج أن اللفح والنفح واحد إلا أن اللفح أشد تأثيرا والكلوح أن يتقلص الشفتان عن الأسنان كالرؤوس المشوية. يروى أن عتبة الغلام مر في السوق برأس أخرج من التنور فغشي عليه ثلاثة أيام ولياليهن. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : تشويه النار فتتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه وتسترخي شفته السفلى حتى تبلغ سرته. وقال الجوهري : الكلوح تكشر في عبوس.

ثم بيّن سبحانه أنه يقال لهم حينئذ تقريعا وتوبيخا (أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) قالت المعتزلة : لو كان فعل التكذيب بخلق الله تعالى لم يكن لهذا التقريع وجه وعورض بالعلم والداعي. وفسرت المعتزلة الشقاوة بسوء العاقبة التي علم الله أنهم يستحقونها لسوء أعمالهم. وتفسرها الأشاعرة بما كتب الله عليهم في الأزل من الكفر وسائر المعاصي أن يعلموها حتى يؤل حالهم إلى النار. ومعنى غلبة الشقاوة على هذا التفسير ظاهر ، وأما على تفسير المعتزلة فقد قال جار الله : معناه ملكتنا وأخذت منا. وقال الجبائي : أراد طلبنا اللذات المحرمة وحرصنا على العمل القبيح ساقنا إلى هذه الشقاوة ، فأطلق اسم المسبب على السبب. وليس هذا باعتذار منهم لعلمهم بأن لا عذر لهم فيه ، ولكنه اعتراف بقيام حجة الله تعالى عليهم في سوء صنيعهم. وأجيب بأن طلب تلك اللذات لا بد أن ينتهي إلى داعية يخلقها الله فيه بدليل قوله (وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ) أي في علم الله وسابق تقديره. وحمله المعتزلة على الاعتراف بأنهم اختاروا الضلال قالوا : ولو كان الكفر بخلق الله لكانوا بأن يجعلوا ذلك عذرا لهم أولى. وأجيب بأن فحوى الكلام يؤل إلى هذا كما قررنا. عن ابن

١٣٦

عباس : أن لهم ست دعوات إذا دخلوا النار قالوا ألف سنة (رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا) [السجدة : ١٢] فيجابون (حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي) [السجدة : ١٣] فينادون ألفا (رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ) [غافر : ١١] فيجابون (ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ) [غافر : ١٢] فينادون ألفا (يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) فيجابون (إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) [الزخرف : ٧٧] فينادون ألفا (رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) [إبراهيم : ٤٤] فيجابون (أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ) [إبراهيم : ٤٤] فينادون ألفا (رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً) فيجابون (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ) [فاطر : ٣٧] فينادون ألفا (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها) فيجابون (اخْسَؤُا فِيها) [المؤمنون : ١٠٨] وهو آخر كلام يتكلمون به ، ثم لا كلام بعد ذلك إلا الشهيق والزفير والعواء كعواء الكلاب أي لا يفهمون ولا يفهمون ولهذا قال جار الله (وَلا تُكَلِّمُونِ) أي في رفع العذاب وليس نهيا عن الكلام فإنها ليست بدار تكليف ولكنه تنبيه على أن العذاب لا يرفع ولا يخفف. ومعنى (اخْسَؤُا) انزجروا صاغرين كما تنزجر الكلاب إذا طردت. يقال : خسأ الكلب وخسأ نفسه يتعدى ولا يتعدى وهو المراد في الآية. ثم عدد عليهم بعض قبائحهم في الدنيا بقوله (إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي) هم الصحابة. وقيل : أهل الصفة خاصة. عن الخليل وسيبويه أن السخري بالضم والكسر مصدر سخر إلا أن في ياء النسب زيادة تأكيد. وعن الكسائي والفراء أن المكسور من الهزء والمضموم من التسخير والاستعباد والمعنى اتخذتموهم هزؤا وتشاغلتم بهم ساخرين (حَتَّى أَنْسَوْكُمْ) بتشاغلكم بهم على تلك الصفة (ذِكْرِي) فلم تذكروني حتى تخافوني.

ثم ذكر من حال المؤمنين ما أوجب الحسرة والندامة للساخرين. فمن قرأ (أَنَّهُمْ) بالكسر على الاستئناف فمعناه ظاهر أي قد فازوا حيث صبروا ، ومن قرأ بالفتح فعلى أنه مفعول جزيتهم أي جزيتهم فوزهم. ومن قرأ (قالَ) فالضمير لله أو لمن أمر بسؤالهم من الملائكة ، ومن قرأ قل فالخطاب للملك أو لبعض رؤساء أهل النار. والغرض من هذا السؤال التوبيخ والتبكيت فقد كانوا لا يعدّون اللبث إلا في الدنيا ويظنون أن الفناء يدوم بعد الموت ولا إعادة ، فلما حصلوا في النار وأيقنوا أنهم فيها خالدون سئلوا (كَمْ لَبِثْتُمْ) تنبيها لهم على أن ما ظنوه دائما طويلا فهو يسير بالإضافة إلى ما أنكروه إذ لا نسبة للمتناهي إلى غير المتناهي ولا سيما إذا كان الأول أيام سرور والثاني أيام غم وحزن. واختلفوا في الأرض فقيل : وجه الأرض حين ما كانوا أحياء فإنهم زعموا أن لا حياة سواها ، فلما أحياهم الله تعالى وعذبوا في النار سئلوا عن ذلك توبيخا. وقال آخرون : المراد جوف الأرض وهو القبر لظاهر لفظة «في» ولقوله (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ)

١٣٧

[الروم : ٥٥] وقوله (عَدَدَ سِنِينَ) بدل من مميزكم. وقيل : تمييز. احتج بعض من أنكر عذاب القبر بأن قوله (فِي الْأَرْضِ) يتناول زمان كونهم أحياء فوق الأرض وزمان كونهم أمواتا في بطن الأرض. فلو كانوا معذبين في القبر لعلموا أن مدة مكثهم في الأرض طويلة فما كانوا يقولون (لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) وأجيب بأن الجواب لا بد أن يكون على حسب السؤال وإنما سئلوا عن موت لا حياة بعده إلا في الآخرة وذلك لا يكون إلا بعد عذاب القبر. ويحتمل أن يكونوا سئلوا عن قدر اللبث الذي اجتمعوا فيه فلا يدخل في ذلك تقدم موت بعضهم على البعض ، فصح أن يكون جوابهم (لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) عند أنفسنا. وليس هذا من قبيل الكذب إذ لعلهم نسوا ذلك لكثرة ما هم فيه من الأهوال فقالوا : إلا نعرف من عدد السنين إلا أنا نستقله ونحسبه يوما أو بعض يوم. وقد اعترفوا بهذا النسيان حيث قالوا (فَسْئَلِ الْعادِّينَ) أي ليس من شأننا أن نعدّها لما نحن فيه من العذاب فاسأل من يقدر أن يلقى إليه فكره ، أو اسأل الملائكة الذين يعدّون أعمال العباد ويحصون أعمالهم. وعن ابن عباس : أنساهم ما كانوا فيه من العذاب بين النفختين. وقيل : أرادوا بقولهم (لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) تصغير لبثهم وتحقيره بالإضافة إلى ما وقعوا فيه وعرفوه من داوم العذاب. وقد صدّقهم الله في ذلك حيث قال (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً) ووبخهم على غفلتهم التي كانوا عليها بقوله (لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي لو علمتم البعث والحشر لما كنتم تعدونه طويلا. ثم زاد في التوبيخ بقوله (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً) أي عابثين أو لأجل العبث وهو الفعل الذي لا غاية له صحيحة. وجوّزوا أن يكون قوله (وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) معطوفا على (عَبَثاً) أي للعبث ولترككم غير مرجوعين وفيه دلالة على وجوب وقوع القيامة فلولاها لم يتميز المطيع من العاصي والمحسن من المسيء. ثم نزه ذاته عن كل عيب وعبث قائلا (فَتَعالَى) الآية ووصف العرش بالكريم لنزول الرحمة أو الخير منه أو باعتبار من استوى عليه كما يقال «بيت كريم» إذا كان ساكنوه كراما. وقرىء (الْكَرِيمِ) بالرفع وهو ظاهر. ثم زيف طريقة المقلدة من أهل الشرك وقوله لا برهان له به كقوله (ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) [آل عمران : ١٥١] وهو صفة جيء بها للتأكيد لا أن بعض الآلهة قد يقوم على وجوده برهان. وجوّز جار الله أن يكون اعتراضا بين الشرط والجزاء كقول القائل : من أحسن إلى زيد لا أحق بالإحسان إليه منه فالله مثيبه. ومعنى (حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) أنه بلغ عقابه إلى حيث لا يقدر أحد على حسابه إلا الله. وقرىء (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ) بفتح الهمزة أي حسابه عدم فلاحه فوضع (الْكافِرُونَ) موضع الضمير. جعل فاتحة السورة (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) وأورد في خواتيهما (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) فشتان ما بين الفريقين. وحين أثنى على المؤمنين في أثناء الكلام بأنهم يقولون (رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) نبه

١٣٨

في آخر السورة على أنه قول ينبغي أن يواظب المكلف عليه ففيه الانقطاع إلى الله والإعراض عمن سواه والله المستعان.

التأويل : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ) فيه أن نفخة العناية الأزلية إذا نفخت في صور القلب قامت القيامة وانقطعت الأسباب فلا يلتفت إلى أحد من الأنساب ، لا إلى أهل ولا إلى ولد لاشتغاله في طلب الحق واستغراقه في بحر المحبة ، فلا يقع بينهم التساؤل عما تركوا من أسباب الدنيا ولا عن أحوال أهاليهم وأخدانهم وأوطانهم إذا فارقوها (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ) في طلب الحق (شَأْنٌ يُغْنِيهِ) [عبس : ٣٧] عن طلب الغير (فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) لأنهم إذا خفت موازينهم عن طلب الحق وانقطع عليه الطريق بنوع من التعلقات ورجع القهقرى بطل استعداده في الطلب ، فإن الإنسان كالبيضة المستعدة لقبول تصرف دجاجة الولاية فيه وخروج الفرخ فيها ، فما لم تتصرف فيها الدجاجة يكون استعداده باقيا ، فإذا تصرفت الدجاجة فيها وانقطع تصرفها عنها بإفساد البيضة فلا ينفعها التصرف بعد ذلك لفساد الاستعداد ولهذا قالت المشايخ : مرتد الطريقة شر من مرتد الشريعة. ولهذا قال (فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ) وأجيبوا بقوله (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) لأنه ليس من سنتنا إصلاح الاستعداد بعد إفساده (إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي) هم العلماء بالله النصحاء لأجله (فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا) فضربتم أنفسكم على سيوف هممهم العلية (حَتَّى أَنْسَوْكُمْ) بهممهم وبيد الرد (ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ) لأن قلوبكم قد ماتت وكثرة الضحك تميت القلب (جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا) فيه أن أهل السعادة كما ينتفعون بمعاملاتهم الصالحة مع الله ينتفعون بإنكار منكريهم ، ومثله حال أهل الشقاء في الجانب الآخر وهو الاستضرار (لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ) أي لا يظهر عليه برهان العبادة وهو النور والضياء والبهاء والصفاء وإن تقرب إلى ذلك الذي عبده من دون الله بأنواع القربات.

١٣٩

سورة النور مدنية حروفها ٥٣٣٠ كلامها ١٣١٦ آياتها ٦٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢) الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (٣) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٦) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٧) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (٨) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٩) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (١٠))

القراآت : فرضناها بالتشديد : ابن كثير وأبو عمرو ورأفة بفتح الهمزة : ابن كثير عن ابن فليح ورفعه الباقون بالإسكان وكلاهما مصدر. وكذلك روى الخزاعي عن أصحابه ، وروى ابن شنبوذ عن البزي هاهنا وفي الحديد متحركة الهمزة ، وعن قنبل هاهنا بالفتح وفي الحديد بالسكون. وقرأ أبو عمر وغير شجاع ويزيد والأعشى والأصبهاني عن ورش وحمزة في الوقف بغير همز أربع شهادات بالرفع : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد. الآخرون بالنصب على إعمال المصدر فيما في حكم المصدر والتقدير فواجب شهادة أحدهم شهادات أربعا أن مخففة لعنة الله بالرفع : نافع وسهل ويعقوب والمفضل. الباقون بالتشديد والنصب والخامسة الثانية بالنصب : حفص على معنى وتشهد الشهادة الخامسة. أن مخففا غضب فعلا ماضيا (اللهِ) بالرفع : نافع

١٤٠