تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٥

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٥

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٩

وعن ابن عباس أن الشغل افتضاض الأبكار أو ضرب الأوتار. وقيل : التزاور. وقيل : ضيافة الله. وعن الكلبي : هم في شغل عن أهاليهم من أهل النار لا يهمهم أمرهم لئلا يدخل عليهم تنغيص من تنعمهم. والفاكه والفكه المتنعم المتلذذ ومنه الفاكهة لأنها تؤكل للتلذذ لا للتغذي والفكاهة الحديث لأجل التلذذ لا للضرورة. والأزواج ظاهرها زوج المرأة وزوجة الرجل. وقيل : أراد أشكالهم في الأحساب وأمثالهم في الإيمان كقوله (وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ) [ص : ٥٨] قال أهل العرفان : من شرائط السماع الزمان والمكان والإخوان فقوله (هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ) إشارة إلى عدم الوجوه الموحشة وأن لهم في ظل الله ما يمنع الإيذاء كقوله (لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً) [الدهر : ١٣] وقوله (عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ) دليل على القوّة والفراغة والتمكن من أنواع الملاذ. وقوله (لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ) إشارة إلى سائر أنواع الملاذ الزائدة على قدر الضرورة.

وقوله (وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ) إشارة إلى دفع جميع حوائجهم وما يخطر ببالهم. قال الزجاج : هو افتعل من الدعاء أي ما يدعونه أهل الجنة يأتيهم. وقال جار الله : هو للاتخاذ أي ما يدعون به أو ما يدعون به أو ما يدعون لأنفسهم كقولك : يشتوي. أي اتخذ لنفسه شواء. أو هو بمعنى التداعي. وعلى الوجهين إما أن يراد كل ما يدعو به الله أحد أو كل ما يطلبه من صاحبه فإنه يجاب له بذلك ، أو يراد أن كل ما يصح أن يدعى به ويطلب فهو حاصل لهم قبل الطلب. وقيل : معناه يتمنون من قولهم : ادّع عليّ ما شئت أي تمنه عليّ. وقيل : هو من الدعوى وذلك أنهم كانوا يدّعون في الدنيا أن الله هو مولاهم وأن الكافرين لا مولى لهم بينه قوله (سَلامٌ) يقال لهم (قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) أي من جهته بواسطة الملائكة. وقيل : أراد لهم ما يدّعون سالم خالص لا شوب فيه. و (قَوْلاً) أي عدة وعلى هذا يكون قوله (لَهُمْ) للبيان و (ما يَدَّعُونَ سَلامٌ) مبتدأ وخبر كقولك : لزيد الشرف متوفر. وقال بعضهم : يحتمل أن يكون (قَوْلاً) نصبا على التمييز لأن السلام من الملك قد يكون قولا وقد يكون إشارة. وقال أهل البيان قوله (وَامْتازُوا) معطوف على المعنى كأنه قيل : دوموا أيها المؤمنون في النعيم وامتازوا اليوم أيها المجرمون. أو قلنا لأهل الجنة : إنكم في شغل وقلنا لأهل النار : امتازوا وهو كقوله (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) [الشورى : ٧] أو تميزوا في أنفسكم غيظا وحنقا فلا دواء لألمكم ولا شفاء لسقمكم كقوله في صفة جهنم (تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ) [الملك : ٨] أو افترقوا خلاف ما للمؤمن من الاجتماع بالإخوان فلا عذاب كفرقة الأخدان يؤيده ما روي عن الضحاك : لكل كافر بيت من النار يكون فيه لا يرى ولا يرى. وعن قتادة : أراد اعتزلوا عن كل خير ترجون ، أو امتازوا عن

٥٤١

شفعائكم وقرنائكم. أو المراد تميزهم بسواد الوجه وزرقة العين وبأخذ الكتاب بالشمال وبخفة الميزان وغير ذلك. وقال صاحب المفتاح : قوله (إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ) إلى آخر الآيات خطاب لأهل المحشر بدلالة الفاء في قوله (فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ) بعد قوله (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً) وقد جاء في التفاسير أن قوله (إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ) إنما يقال حين يسار بهم إلى الجنة فيؤل معنى الكلام إلى قول القائل إن أصحاب الجنة منكم يا أهل المحشر يؤل حالهم إلى أسعد حال فليمتازوا عنكم إلى الجنة ، وامتازوا أنتم عنهم أيها المجرمون. ثم كان لسائل أن يقول : إن الإنسان خلق ظلوما جهولا والجهل عذر فبين الله تعالى أن الأعذار زائلة قائلا (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ) والآية إلى قوله (أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ) شبه اعتراض ، فيه توبيخ لأهل النار وما ذلك العهد عن بعضهم أنه الذي مر ذكره في قوله (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ) [طه : ١١٥] وقيل : هو المذكور في قوله (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ) [الأعراف : ١٧٢] وقيل : هو المبين على لسان الرسل. ومعنى (لا تَعْبُدُوا) لا تطيعوا ولا تنقادوا وسوسته وتزيينه. وقوله (هذا) إشارة إلى ما عهد إليهم من مخالفة الشيطان وعبادة الرحمن. قال أهل المعاني : التنوين في قوله (صِراطٌ) للتعظيم إذ لا صراط أقوم منه ، أو للتنويع أي هذا بعض الطرق المستقيمة ، ففيه توبيخ لهم على العدول عنه كما يقول الرجل لولده وقد نصحه النصح البالغ : هذا فيما أظن قول نافع غير ضار. وفي ذكر الصراط هاهنا إشارة إلى أن الإنسان في دار التكليف مسافر والمجتاز في بادية يخاف فيها على نفسه وماله لا يكون عنده شيء أهم من معرفة طريق قريب أمن. ثم بين لهم عدواة الشيطان بقوله (وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا) وهو في لغاته كلها بمعنى الخلق من جبله الله على كذا أي طبعه عليه. عن علي رضي‌الله‌عنه أنه قرأ جيلا بياء منقوطة من تحت بنقطتين. ثم أشار إلى محل امتياز المجرمين إليه بقوله (هذِهِ جَهَنَّمُ) وقوله (اصْلَوْهَا) أمر إهانة وتنكيل نحو ذق. وفي قوله (الْيَوْمَ) إشارة إلى أن اللذات قد مضت وأيامها قد انقضت وليس بعد ذلك إلا العقاب. روى أهل التفسير أنهم يجحدون يوم القيامة كفرهم في الدنيا فحينئذ يختم على أفواههم وتتكلم جوارحهم. وفي الحديث «يقول العبد يوم القيامة إني لا أجيز شاهدا إلا من نفسي فيختم على فيه ويقال لأركانه : انطقي فتنطق بأعماله ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول بعد الكنّ وسحقا فعنكن كنت أناضل» (١) قال المتكلمون : إنه لا يبعد من الله تعالى إنطاق كل جرم من الأجرام إنطاق اللسان وهو فاعل لما يشاء. قال الحكيم : إنهم لا يتكلمون بشيء لانقطاع أعذارهم وانهتاك أستارهم فيقفون ناكسي الرؤوس وقوف القنوط اليئوس.

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب الزهد حديث ١٧.

٥٤٢

وتكلم الأعضاء عبارة عن ظهور إمارات الذنوب عليهم بحيث لا يبقى للإنكار مجال كقول القائل : الحيطان تبكي على صاحب الدار إذا ظهر أمارات الحزن وأسبابه. ثم إنه تعالى أسند الختم إلى نفسه وأسند التكلم والشهادة إلى الأيدي والأرجل لكيلا يقال : إن الإقرار بالإجبار غير مقبول. وأيضا إنه أسند التكلم إلى الأيدي والشهادة إلى الأرجل لأن الأعمال مستندة إلى الأيدي غالبا كقوله (وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) [الشورى : ٣٠] فهي كالعاملة ، والشاهد على العامل ينبغي أن يكون غيره. وإنما جعلت الشهادة عليهم منهم لأن غيرهم إما صالحون وهم أعداء للمجرمين فلهم أن يقولوا شهادتهم غير مقبولة في حقنا ، وإما فاسقون وشهادة الفسقة غير مقبولة شرعا.

وهاهنا نكتة وهي أن الختم لازم للكفار في الدارين ، ختم الله على قلوبهم في الدنيا وكان قولهم بأفواههم كما قال (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) [آل عمران : ١٦٧] ثم إذا ختم على أفواههم أيضا في الآخرة لزم أن يكون قولهم بسائر أعضائهم. هذا وقد ذكرنا مرارا أنه تعالى كلما يذكر تمسك الجبرية يذكر عقيبه تمسك القدرية وبالعكس. وكان للقدرية أن تتمسك بقوله (يَكْسِبُونَ تَكْفُرُونَ) حيث أسند الله الكفر والكسب إليهم فلا جرم عقبه بتمسك الجبري وهو قوله (وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا) ووجه التمسك أن إعماء البصائر شبه إعماء الأبصار ، وسلب القوّة العقلية كسلب القوّة الجسمية. فكما أنه لو شاء لطمس على أبصارهم حتى لا يهتدوا إلى الطريق القاهر الظاهر ولو شاء لسلب قوّة جسومهم بالمسخ حتى لا يقدروا على تقدم ولا تأخر ، فكذلك إذا شاء أعمى البصائر وسلب قواهم العقلية حتى لم يفهموا دليلا ولم يتفكروا في آية. والطمس محو أثر شق العين. قال جار الله (فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ) أصله فاستبقوا إلى الصراط فانتصب بنزع الخافض. والمعنى لو شاء لمسخ أعينهم فلو راموا أن يسبقوا إلى الصراط الذي عهدوه واعتادوا على سلوكه إلى مساكنهم لم يقدروا عليه إذ الصراط طريق الاستباق ، والاستباق مضمن معنى الابتدار. فالمراد لو شاء لأعماهم حتى لو أرادوا أن يمشوا مستبقين في الطريق المألوف أو مبتدرين إياه كما كان هجيراهم لم يستطيعوا. أو يجعل الصراط مسبوقا لا مسبوقا إليه ، فالمعنى لو طلبوا أن يخلفوا الصراط الذي اعتادوه لعجزوا ولم يقدروا إلا على سلوك الطريق المعتاد كالعميان يهتدون فيما ألفوا من المقاصد والجهات دون غيرها. عن ابن عباس : أراد لمسخناهم قردة وخنازير. وقيل : حجارة. وعن قتادة : لأقعدناهم على أرجلهم أو أزمناهم على أرجلهم. والمكان والمكانة واحد أراد مسخا مجمدا بحيث لا يقدرون أن يرجعوا مكانهم. وإنما قدم الطمس على المسخ تدرّجا من الأهون إلى الأصعب ، فإن الأعمى قد

٥٤٣

يهتدي إلى وجوه التصرف بأمارات عقلية أو حسية غير البصر. وأما الممسوخ على مكانه فلا يهتدي إلى شيء أصلا. ولمثل ما قلنا قدم المضيّ على الرجوع فإن سلوك طريق قد رآه مرة يكون أهون مما لم يره أصلا ، فنفى أوّلا استطاعة الأصعب ثم نفى استطاعة الأهون أيضا لأجل المبالغة. وحين قطع الأعذار بسبق الإنذار وذلك في قوله (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ) شرع في قطع عذر آخر للكافر وهو أن يقول : لم يكن لبثنا في الدنيا إلا يسيرا ولو عمرتنا لما وجدت منا تقصيرا فقال الله تعالى (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ) كقوله (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) [الحج : ٥] افلا تعقلون أنكم كلما دخلتم في السن ضعفتم وقد عمرتم ما تمكنتم فيه من النظر والعمل ، ومن لم يأت بالواجب في زمان الإمكان لم يأت به في زمن الأزمان. وعن بعضهم :

طوى العصران ما نشراه مني

فأبلى جدّتي نشر وطيّ

أراني كل يوم في انتقاص

ولا يبقى على النقصان شيّ

وقال آخر :

أرى الأيام تتركني وتمضي

وأوشك أنها تبقى وأمضي

علامة ذاك شيب قد علاني

وضعف عند إبرامي ونقضي

وما كذب الذي قد قال قبلي

إذا ما مر يوم مر بعضي

وحيث بين أصل الوحدانية والحشر في هذه السورة مرات أقربها قوله (وَأَنِ اعْبُدُونِي) وقوله (هذِهِ جَهَنَّمُ) إلى آخرها عاد إلى أصل الرسالة بقوله (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ) وإنما لم يقل وما علمناه السحر ولا الكهانة مع أنهم ادّعوا أنه ساحر كاهن لأنه ما تحدّاهم إلا بالقرآن. وإنما نسبوه إلى السحر عند إظهار فعل خارق كشق القمر وحنين الجذع إليه ، ونسبوه إلى الكهانة عند إخباره عن الغيوب وهو نوع خاص من الكلام من غير اعتبار الفصاحة اللفظية والمعنوية. قال جار الله معنى قوله (وَما يَنْبَغِي لَهُ) أنه لا يتأتى له ولا يتسهل كما جعلناه أميا لا يهتدي للخط. وروي عن الخليل أن الشعر كان أحب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من كثير من الكلام ولكن كان لا يتأتى له. قال وما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :

أنا النبي لا كذب

أنا ابن عبد المطلب

وقال :

هل أنت إلا إصبع دميت

وفي سبيل الله ما لقيت

كلام اتفاقي من غير قصد وتعمد ، والشعر كلام موزون مقفى مع تعمد. وقيل : أراد

٥٤٤

نفي الشعر عن القرآن فقال (وَما عَلَّمْناهُ) بتعليم القرآن (الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي) للقرآن أن يكون شعرا وأنا أقول : الأحسن أن يقال : ما ينبغي له معناه أنه لا يليق بجلالة منصبه لأن الشعر مادته كلام يفيد تأثيرا دون التصديق وهو التخييل ، وأما الوزن والقافية فهما كالصورة ويفيدانه ترويجا وتزيينا فجلّ رتبته من التخييل الذي هو قريب من المغالطة ، ولهذا لم يؤمر بأن يدعو بهما إلى سبيل ربه. وإنما أمر بأن يدعو إلى الدين بسائر أصناف الكلام حيث قيل (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل : ١٢٥] ونظيره قوله هاهنا (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ) أي موعظة (وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) ذو البيان أو الإبانة وأنه يشمل البرهان والجدل. أما البرهان فظاهر ، وأما الجدل فلأن النتيجة إذا كانت في نفسها حقة. فالرجل العالم المحق ليس عليه إلا إفحام الخصم الألدّ وإلزامه بمقدّمات مسلمة أو مشهورة ، ومما يؤيد ما ذكرنا ما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ قول طرفة :

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا

ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

هكذا : ويأتيك من لم تزوّد بالأخبار. ولا ريب أنه كان يتأتى له رواية الشعر إن لم يتأت له قرضه ، وما ذاك إلا للتنزه عما يشبه ما يشين رتبته ولا يوافق مغزاه. ويروى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قال :

هل أنت إلا إصبع دميت

انقطع الوحي أياما حتى قالت الكفار إن محمدا قد ودعه ربه وقلاه ، وهذا أحد أسباب نزول تلك الآية. ولمثل ما قلنا لم يرو عنه كلام منظوم وإن كان حقا وصدقا كالذي قاله بعض الشعراء في التوحيد والحقائق. وقد أشار إلى نحو ذلك بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن من الشعر لحكمة» (١) وقد مر في تفسير قوله سبحانه في آخر الشعراء (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [الآية : ٢٢٧] وذلك أن الشاعر يقصد لفظا فيوافقه معنى حكمي. وبالجملة لا يخلو الشعر عن تكلف ما ، وقد يدعوه النظم إلى تغيير المعنى لمراعاة اللفظ ، فأين الشارع من الشاعر؟ ثم بين كون القرآن منزلا على هذا الوجه بقوله لتنذر يا محمد أو لينذر هو أي القرآن (مَنْ كانَ حَيًّا) عاقلا متأملا. ويجوز أن تكون الحياة عبارة عن الإيمان ، أو المراد بالحي من يؤل حاله إلى الإيمان. أو المراد بالإنذار الانتفاع به مثل (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة : ٢] (إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ) [يس : ١١] وقوله (وَيَحِقَّ الْقَوْلُ) كقوله في أول

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الأدب باب ٩٠. الترمذي في كتاب الأدب باب ٦٩. ابن ماجة في كتاب الأدب باب ٤١. الدارمي في كتاب الاستئذان باب ٦٩. أحمد في مسنده (١ / ٢٦٩) (٣ / ٤٥٦) (٥ / ١٢٥).

٥٤٥

السورة (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ) وقد مر وهذا كلام مطابق من حيث المعنى كأنه قال : لتنذر من كان حيا ويحق القول على من كان ميتا لأن الكافر في عداد الموتى. ثم عاد إلى تقرير دلائل الوحدانية مع تعداد النعم فقال (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ) أي من جملة ما عملته (أَيْدِينا) فاستعار عمل الأيدي لتفرده بالأحداث والإيجاد مع اشتمال المحدث والموجد على غرائب وعجائب حتى قال فيه (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) [الغاشية : ١١] وقوله (فَهُمْ لَها مالِكُونَ) إشارة إلى إتمام الإنعام في خلق الأنعام. وقوله (وَذَلَّلْناها لَهُمْ) إشارة إلى ما فوق التمام فقد يملك الشيء ولا يكون مسخرا ، ومن الذي يقدر على تذليل الإبل لو لا أمر الله بتسخيرها حتى قال بعضهم :

يصرفه الصبيّ بكل وجه

ويحبسه على الخسف الجرير

وتضربه الوليدة بالهراوي

فلا غير لديه ولا نكير

والجرير حبل يجعل للبعير بمنزلة العذار للدابة. ومن زعم أن الملك بمعنى الضبط من قوله : لا أملك رأس البعير أن يفر. يلزمه التكرار. ثم فصل بعض منافعها بقوله (فَمِنْها رَكُوبُهُمْ) والركوب والركوبة ما يركب كالحلوب والحلوبة ، والتاء للمبالغة. وقيل : للوحدة والمنافع كالجلود والأوبار والأصواف ، ذكرها بالاسم العام لما في تفصيلها من الطول. والمشارب جمع مشرب وهو موضع الشرب أي الأواني المتخذة من جلودها ، أو هو الشرب كالألبان والاسمان.

وحين وبخهم على عدم الشكر بقوله (أَفَلا يَشْكُرُونَ) زاد في توبيخهم بقوله (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً) أي وضعوا الشرك مكان الشكر فلا أظلم منهم. وفي قوله (لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ) إلى قوله (مُحْضَرُونَ) وجهان : أحدهما أنهم طمعوا في أن يتقوّوا بهم ويعتضدوا بمكانهم والأمر عكس ذلك حيث هم جند لآلهتهم معدّون يخدمونهم ويذبون عنهم من غير نفع في آلهتهم. وثانيهما اتخذوهم لينصروهم عند الله بالشفاعة ، والأمر على خلاف ذلك حيث إن آلهتهم يوم القيامة جند محضرون لعذابهم لأنهم يجعلون وقودا للنار. ووجه ثالث وهو أن يكون قوله (وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ) تأكيدا لعدم الاستطاعة فإن من حضر واجتمع ثم عجز عن النصرة يكون في غاية الضعف بخلاف من لم يتأهب ولم يجمع أنصاره. ثم عقب دليل التوحيد بالرسالة مسليا رسوله بقوله (فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ) باتخاذ الشريك لله أو بالطعن في الرسالة أو بالإيذاء والتهديد. ثم علل عدم الحزن بقوله (إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ) من النفاق وسائر العقائد الفاسدة (وَما يُعْلِنُونَ) من الشرك وسائر الأفعال القبيحة ، أو يسرون من المعرفة بالله ويعلنون من العناد. وجوّز جار الله فتح «أن» على تقدير

٥٤٦

لام التعليل ، بل جوز أن تكون المفتوحة بدلا من (قَوْلُهُمْ) والمكسورة مفعولا لـ (قَوْلُهُمْ) ويكون نهي الرسول عن ذلك كنهيه عن الشرك في قوله (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [الأنعام : ١٤] ثم أردف الرسالة بالحشر مع أن فيه دليلا آخر على التوحيد مأخوذا من الأنفس ، فإن الأول كان مأخوذا من الآفاق. وفي قوله (فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) وجهان : أحدهما فإذا هو بعد ما كان ماء مهينا رجل مميز منطيق معرب عما في ضميره كقوله (أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ) [الزخرف : ١٨] فقوله (مِنْ نُطْفَةٍ) إشارة إلى أدنى ما كان عليه الإنسان وقوله (فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) إشارة إلى أعلى ما حصل عليه الآن ، لأن أعلى أحوال الناطق أن يقدر على المخاصمة والذب عن نفسه بالكلام الفصيح. وثانيهما قول كثير من المفسرين إنها نزلت في جماعة من كفار قريش تكلموا في البعث فقال لهم أبيّ بن خلف الجمحي : واللات والعزى لأصيرن إلى محمد ولأخصمنه. وأخذ عظما باليا فجعل يفتته بيده ويقول : يا محمد أترى الله يحيي هذا بعد ما قد رمّ؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : نعم ويبعثك ويدخلك جهنم. قال أهل البيان : سمى قولهم (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) مثلا لأن إنكار قدرة الله تعالى على إحياء الموتى قصة عجيبة. وفيه تشبيه الخالق القادر العليم بالمخلوق العاجز عن خلق أدنى بعوضة الجاهل بما يجري عليه من الأحوال. والرميم اسم لما بلي من العظام كالرمة والرفات ولا يبعد أن يكون صفة. ولم تؤنث بتقدير موصوف محذوف أي شيء رميم ، أو لأنه بمعنى فاعل كقوله (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ) [الأعراف : ٥٦] وفي الآية دليل ظاهر على أن عظام الميتة نجسة لأن الموت والحياة يتعاقبان عليها. وقال أصحاب أبي حنيفة : إنها طاهرة وإن الحياة لا تحل فيها فلا يتصور موتها ، وكذا الشعر والعصب. وتأوّلوا الآية بأن المراد بإحياء العظام ردّها على ما كانت عليه غضة طرية في بدن حيّ حساس. واعلم أن المنكرين للحشر منهم من اكتفى في إنكاره بمجرد الاستبعاد كقوله (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) فأزال استبعادهم بتصوير الخلق الأول ، فإن الذي قدر على جعل النطفة المتشابهة الأجزاء إنسانا مختلف الأبعاض والأعضاء ، مودعا فيه الفهم والعقل وسائر أسباب المزية والفضل ، فهو على إعادتها أقدر. ومنهم من ذكر شبهة وهي كقولهم : إن الإنسان بعد العدم لم يبق شيئا فكيف يصح إعادة المعدوم عقلا؟ أو كقولهم : إن الذي تفرقت أجزاؤه في أبدان السباع وجدران الرباع كيف يجمع ويعاد؟ أو كقولهم إن إنسانا إذا نشأ مغتذيا بلحم إنسان آخر فلا بد أن لا يبقى للآكل وللمأكول جزء يمكن إعادته. فأجاب الله تعالى عن الأول بقوله (يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) يعني كما خلق الإنسان ولم يكن شيئا مذكورا فإنه يعيده وإن لم يكن شيئا. وعن الباقيتين بقوله (وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) فيجمع الأجزاء المتفرقة في البقاع والسباع وهكذا

٥٤٧

يعلم الأصلي من الفضلي فيجمع الأجزاء الأصلية للآكل والمأكول. ثم شبه خلق الإنسان بل الحيوان من قبل إيداع الحرارة الغريزية التي بها قوام الحياة في جوهر رطب طريّ بإنشاء الشجر الأخضر الذي تنقدح منه النار. قالت العرب : في كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار أي استكثر واستغزر يقطع الرجل منهما غصنين مثل السواكين وهما خضراوان يقطر منهما الماء فيسحق المرخ ـ وهو ذكر على العفار ـ وهي أنثى ـ فتنقدح النار بإذن الله عزوجل.

وعن ابن عباس : ليس من شجرة إلا وفيها نار إلا العناب قالوا : ولذلك يتخذ منه كذينقات القصارين. قلت : ويشبه أن يكون كل شجرة في غاية الصلابة هكذا إلا أن يكون له سبب خاص به كما يروى أنه معجزة لموسى عليه‌السلام فإنه قد رأى النار فيها فلا ينبغي لغيره أن يراها. ثم أكد قدرته الكاملة على خلق الإنسان إبداء وإعادة بتذكر خلق السموات والأرض الذي هو أكبر من خلق الناس. ثم أثبت ما نفاه مستفهما للتقرير بقوله (بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ) الكثير الخلق الكامل فيه (الْعَلِيمُ) بكل جوهر وعرض وما يطلق عليه اسم الشيئية. ثم بين أن إيجاده ليس متوقفا إلا على تعلق الإرادة بالمقدور وقد مر تقريره في أوائل «البقرة» وغيرها. قالت المعتزلة : في الآية دلالة على أن المعدوم شيء. وأجيب بأن الآية دلت على أنه حين تعلق الإرادة به شيء ، أما إنه قبل ذلك شيء فكلا. ثم ختم السورة بتقرير المبدأ والمعاد على الإجمال. فقوله (بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) إشارة إلى المبدأ. وقوله (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) إشارة إلى المعاد وإذا تقرر الطرفان فما بينهما الوسط المشتمل على التكاليف والرسالة ، فهذه الآية كالنتيجة للمقدمات السابقة في السورة. عن ابن عباس : كنت لا أعلم ما روي في فضائل يس وقراءتها كيف خصت بذلك فإذا أنه لهذه الآية. روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ان لكل شيء قلبا وقلب القرآن يس» (١) فذكر الإمام الغزالي رضي‌الله‌عنه أن الإيمان صحته بالاعتراف بالحشر وأنه مقرر في هذه السورة بأبلغ وجه فلذلك سماها قلب القرآن. وقال غيره : إن الأصول الثلاثة التي يتعلق بها نصيب الجنان وهي التوحيد والرسالة والحشر مكررة في هذه السورة. وليس فيها شيء من بيان وظيفة اللسان ولا العمل بالأركان. فلما كان أعمال القلب لا غير سماه قلبا ، ولهذا ورد في الأخبار أنه ينبغي أن تقرأ على الميت حالة النزع وذلك ليزداد بها قوة قلبه ، فإن الأعضاء الظاهرة وقتئذ ساقطة المنة ، والقلب مقبل على الله معرض عما سواه ولنا فيه وجه هو بالتأويل أشبه فلنذكره هناك.

__________________

(١) رواه الترمذي في كتاب ثواب القرآن باب ٧. الدارمي في كتاب فضائل القرآن باب ٢١.

٥٤٨

التأويل : (اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ) من الدنيا وشهواتها (وَما خَلْفَكُمْ) من نعيم الجنة ولذاتها (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) بمشاهدة الجمال وأنوار الكمال (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) إشارة إلى نفخ إسرافيل المحبة في صور القلب ، فإذا السر والروح والخفي من أجداث أوصاف البشرية (إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) يرجعون بعضها بالسير وبعضها بالطيران (إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ) شغلهم الله بالمفاكهة عن المشاهدة كما قال بعض الصوفية : والناس يخرجون من مسجد الجامع هؤلاء حشو الجنة. وللمجالسة أقوام آخرون وهم الفارغون من الالتفات إلى الكونين. قال الله تعالى (فَإِذا فَرَغْتَ) [الشرح : ٧] أي من تعلقات الكونين (فَانْصَبْ) [الشرح : ٧] لطلب الوصال. ويحكى أن الآية قرئت في مجلس الشبلي رضي‌الله‌عنه فشهق شهقة وغاب ، فلما أفاق قال : مساكين لو علموا أنهم عم شغلوا لهلكوا. ويحتمل أن يقال : إنهم اليوم أي في الدنيا في شغل بأنواع الطاعات والعبادات من طلب الحق والشوق إلى لقائه كما يحكى عن يحيى بن معاذ أنه قال : رأيت رب العزة في منامي فقال لي : ابن معاذ ، كل الناس يطلبون مني إلا أبا يزيد فإنه يطلبني. ويمكن أن يقال : إنهم اليوم في الدنيا في شغل بالطاعات والرضا بما قسم الله عن طلب اللذات والفوائد وارتكاب المحرمات والزوائد. أو يقال : إنه خطاب للعصاة فإن أهل الله هم المستغرقون في بحار عظمة الله ، وأهل الجنة مشتغلون باستيفاء اللذات وليس للعصاة إلا رحمتي وكرمي كما قال (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) [الزمر : ٥٣] (وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ) في بعض الاخبار المروية أن عبدا لتشهد عليه أعضاؤه بالذلة فتتطاير شعرة من جفن عينه فتستأذن بالشهادة له فيقول الحق تعالى : تكلمي يا شعرة جفن عين عبدي واحتجي عن عبدي. فتشهد له بالبكاء من خوفه فيغفر له وينادي مناد : هذا عتيق الله بشعرة. (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ) إن السالك إذا عمر صار في آخر الأمر إلى الفناء في الله حتى لا يبقى منه ما يستند الفعل إليه. وفي قوله (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ) إشارة إلى أن العلوم والصنائع كلها من الله تعالى وبتعليمه وإلهامه. (مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ) وهو شجرة البشرية نار المحبة (تُوقِدُونَ) مصباح قلوبكم. وإنما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن قلب القرآن يس» لأن ذكره صلى‌الله‌عليه‌وسلم رمز إليه في أول السورة وفي آخرها. أما الأول فقد مر في تفسير لفظ (يس) وأما الثاني فلأن قوله (فَسُبْحانَ) إلى آخره يدل على المبدأ والمعاد تصريحا ، وعلى الرسالة ضمنا ، ولا ريب أن القلب خلاصة كل ذي قلب ، وإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان خلاصة المخلوقات وكان خلقه القرآن الذي نزل على قلبه ، وكأن فاتحة السورة وخاتمتها مبنية على ذكره منبئة عن سره كالقلب في جوف صاحبه فلأجل هذه المناسبات أطلق على (يس) أنه قلب القرآن والله ورسوله أعلم بأسرار كلامه.

٥٤٩

(سورة والصافات مكية حروفها ثلاثة آلاف وثمانمائة وستة وعشرون

كلمها ثمانمائة وستون آياتها مائة واثنان وثمانون)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (٢) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (٣) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (٥) إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (٦) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (٧) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (٨) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (٩) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (١٠) فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (١١) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (١٢) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (١٣) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (١٤) وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١٥) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (١٧) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (١٨) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (١٩) وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢١) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (٢٣) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (٢٤) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (٢٥) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (٢٦) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٧) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (٢٨) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٢٩) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (٣٠) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (٣١) فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (٣٢) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٣) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (٣٤) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ (٣٥) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (٣٦) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (٣٧) إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (٣٨) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (٤١) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (٤٢) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٤٣) عَلى سُرُرٍ

٥٥٠

مُتَقابِلِينَ (٤٤) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (٤٥) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (٤٦) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (٤٧) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (٤٨) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (٤٩) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٥٠) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (٥١) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (٥٣) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (٥٤) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (٥٥) قالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (٥٦) وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٥٧) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (٥٨) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٥٩) إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٠) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (٦١) أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (٦٢) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (٦٣) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (٦٤) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (٦٥) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٦٦) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (٦٧) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (٦٨) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (٦٩) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (٧٠) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (٧١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (٧٢) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (٧٤) وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (٧٥) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (٧٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (٧٨) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (٧٩) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (٨١) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٨٢))

القراآت : (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا) وما بعدهما مدغما : حمزة وأبو عمرو غير عباس (بِزِينَةٍ) منونا : حمزة وعاصم غير المفضل الكواكب بالنصب : أبو بكر وحماد. الباقون : بالجر (لا يَسَّمَّعُونَ) بتشديد السين والميم وأصله «يتسمعون» : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد. الآخرون : بسكون السين وتخفيف الميم. (بَلْ عَجِبْتَ) بالضم : حمزة وعلي وخلف. الآخرون : بالفتح على الخطاب آيذا بالمد والياء إنا بهمزة واحدة مكسورة : يزيد وقالون وزيد. الباقون : مثل التي في «الرعد» وأما الثانية فمثل التي في «الرعد» (أَوَآباؤُنَا) مثل (أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى) [الأعراف : ٩٨] وكذلك في «الواقعة» (لا تَناصَرُونَ) بالتشديد البزي وابن فليح (أَإِنَّا أَإِنَّكَ) (أَإِفْكاً) مثل (أَإِنَّكُمْ) في «الأنعام» (يُنْزَفُونَ) بضم الياء وكسر الزاي : حمزة وعلي وخلف والمفضل. الآخرون : بفتح الزاي لترديني بالياء في الحالين : يعقوب وافق ورش وسهل وعباس في الوصل.

الوقوف : (صَفًّا) ه لا (زَجْراً) ه لا (لَواحِدٌ) ه ط (الْمَشارِقِ) ه ط (الْكَواكِبِ) ه لا (مارِدٍ) ه ج لاحتمال ما بعده الوصف والاستئناف قاله السجاوندي. وعليه بحث

٥٥١

يجيء في التفسير (واصِبٌ) ه لا (ثاقِبٌ) ه ج (خَلَقْنا) ط (لازِبٍ) ه (وَيَسْخَرُونَ) ه ص (لا يَذْكُرُونَ) ه ص (يَسْتَسْخِرُونَ) ه ص (مُبِينٌ) ه ج (لَمَبْعُوثُونَ) ه لا (الْأَوَّلُونَ) ه ط (داخِرُونَ) ه (يَنْظُرُونَ) ه (الدِّينِ) ه (تُكَذِّبُونَ) ه (يَعْبُدُونَ) ه لا (الْجَحِيمِ) ه (مَسْؤُلُونَ) ه لا لأن المسئول عنه قوله (ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ) ه (مُسْتَسْلِمُونَ) ه (يَتَساءَلُونَ) ه (الْيَمِينِ) ه (مُؤْمِنِينَ) ه ج (سُلْطانٍ) ج للعدول مع اتفاق الجملتين (طاغِينَ) ه (لَذائِقُونَ) ه (غاوِينَ) ه (مُشْتَرِكُونَ) ه (بِالْمُجْرِمِينَ) ه (يَسْتَكْبِرُونَ) ه (مَجْنُونٍ) ه ط (الْمُرْسَلِينَ) ه (الْأَلِيمِ) ه ج (تَعْمَلُونَ) ه لا (الْمُخْلَصِينَ) ه (مَعْلُومٌ) ه (فَواكِهُ) ج لاحتمال الواو الحال والاستئناف (مُكْرَمُونَ) ه لا (النَّعِيمِ) ه لا (مُتَقابِلِينَ) ج (مَعِينٍ) ه لا (لِلشَّارِبِينَ) ه ج لأن ما بعده يصلح وصفا واستئنافا (يُنْزَفُونَ) ه (عِينٌ) ط (مَكْنُونٌ) ج (يَتَساءَلُونَ) ه (قَرِينٌ) ه (الْمُصَدِّقِينَ) ه (لَمَدِينُونَ) ه (مُطَّلِعُونَ) ه (الْجَحِيمِ) ه (لَتُرْدِينِ) ه (الْمُحْضَرِينَ) ه (بِمَيِّتِينَ) ه لا (بِمُعَذَّبِينَ) ه (الْعَظِيمُ) ه (الْعامِلُونَ) ه (الزَّقُّومِ) ه (لِلظَّالِمِينَ) ه (الْجَحِيمِ) ه لا لأن ما بعده صفة لشجرة (الشَّياطِينِ) ه (الْبُطُونَ) ه لا لأن «ثم» لترتيب الأخبار (حَمِيمٍ) ه (الْجَحِيمِ) ه ج (ضالِّينَ) ه لا للعطف مع اتصال المعنى (يُهْرَعُونَ) ه (الْأَوَّلِينَ) ه (مُنْذِرِينَ) ه (الْمُنْذَرِينَ) ه لا (الْمُخْلَصِينَ) ه (الْمُجِيبُونَ) ه ز (الْعَظِيمِ) ه ز (الْباقِينَ) ه ز (فِي الْآخِرِينَ) ه لا لأن ما بعده مفعول تركنا على سبيل الحكاية (الْعالَمِينَ) ه (الْمُحْسِنِينَ) ه (الْمُؤْمِنِينَ) ه (الْآخَرِينَ) ه.

التفسير : إنه سبحانه بدأ في أوّل هذه السورة بالتوحيد كما ختم السورة المتقدمة بذكر المعاد وأقسم على المطلوب بثلاثة أشياء ، أما الحكمة في القسم فكما مرّ في أول سورة يس ، وأما الإقسام بغير الله وصفاته فلا نسلم أنه لا يجوز لله سبحانه ، أو هو على عادة العرب ، أو المراد تعظيم هذه الأشياء وتشريفها ، أو المراد رب هذه الأشياء فحذف المضاف. قال الواحدي : إدغام التاء في الصاد حسن وكذا التاء في الزاي وفي الذال لتقارب مخارجها ، ألا ترى أن التاء والصاد هما من طرف اللسان وأصول الثنايا ويجتمعان في الهمس ، والمدغم فيه يزيد على المدغم في الإطباق والصفير وإدغام الأنقص في الأزيد حسن؟ وأيضا الزاي مجهورة وفيها زيادة صفير. ثم المقسم بها في الآيات إما أن تكون صفات ثلاثا لموصوف واحد أو صفات لموصوفات متباينة. وأما التقدير الأوّل ففيه وجوه الأوّل : أنها صفة الملائكة لأنهم صفوف في السماء كصفوف المصلين في الأرض ، أو أنهم يصفون أجنحتهم في الهواء واقفين منتظرين لأمر الله تعالى. والصف ترتيب الشيء على

٥٥٢

نسق. الفاعل صاف ، والجماعة صافة ، والصافات جمع الجمع ولو لا ذلك لقيل والصافين. قال الحكيم : يشبه أن يكون معنى كونهم صفوفا أن لكل منهم مرتبة معينة في الشرف أو بالغلبة. والزجر سوق السحاب. قال ابن عباس : يعني الملائكة الموكلين بالسحاب. وقال آخرون : أراد زجرهم الناس عن المعاصي بالخواطر والإلهامات ، أو بدفع تعرض الشياطين عن بني آدم. والتاليات الذين يتلون كتاب الله على الأنبياء. والحاصل أن كونهم صافين إشارة إلى استكمال جواهر الملائكة في ذواتها أعني وقوفهم في مواقف العبودية والطاعة ، وكونهم زاجرين إشارة إلى كيفية تأثيراتها في إزالة ما لا ينبغي من جواهر الأرواح البشرية ، وكونهم تالين إشارة إلى كيفية تأثيراتها في إفاضة الجلايا القدسية والأنوار الإلهية على الأرواح الإنسانية. الوجه الثاني أنها صفات النفوس الإنسانية المقبلة على عبودية الله وعبادته وهم ملائكة الأرض ، أقسم بنفوس المصلين بالجماعات الزاجرين أنفسهم عن الشهوات أو عن إلقاء وساوس الشيطان في قلوبهم أثناء الصلوات بتقديم الاستعاذة أو برفع الأصوات ، التالين للقرآن في الصلاة وغيرها. أو أقسم بنفوس العلماء الصافات لأجل الدعوة إلى دين الله الزاجرات عن الشبهات والمنهيات بالمواعظ والنصائح الدارسات شرائع الله وكتبه لوجه الله ، أو أقسم بنفوس المجاهدين في سبيل الله كقوله (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا) [الصف : ٣] والزجرة والصيحة سواء. والمراد رفع الصوت بزجر الخيل. وأما التاليات فذلك أنهم يشتغلون وقت المحاربة بقراءة القرآن وذكر الله. يحكى عن علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه أنه كان يخرج من الصف وسيفه ينطف دما فإذا رقى ربوة يأتي بالخطبة الغراء. الوجه الثالث أنها صفات آيات القرآن وذلك أنها أنواع مختلفة بعضها دلائل التوحيد ، وبعضها دلائل العلم والقدرة ، وبعضها دلائل النبوة ، وبعضها دلائل المعاد ، وبعضها بيان التكاليف والأحكام ، وبعضها تعليم الأخلاق الفاضلة ، وكلها مترتبة ترتيبا لا يتغير ولا يتبدل فكأنها أجرام واقفة في صفوف معينة ، ولا ريب أنها تزجر المكلفين عن المناهي والمنكرات. وأما نسبة التلاوة إليهن فمجاز كما يقال : شعر شاعر. والفاء في هذه الوجوه لترتب الصفات في الفضل فالفضل للصف ثم للزجر ثم للتلاوة أو بالعكس فلكل وجه. ويحتمل وإن لم يذكره جار الله أن تكون لترتيب معانيها في الوجود كقوله :

الصابح فالغانم فالآيب

كأنه قال : الذي صبح فغنم فآب. مثاله المصلون يقفون أوّلا صفوفا ثم يزجرون الوساوس عنهم بالاستعاذة ثم يشتغلون بالقراءة.

٥٥٣

وأما التقدير الثاني وهو أن يكون المراد بهذه الأمور الثلاثة موصوفات متغايرة ؛ فالصافات الطير من قوله (وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ) [النور : ٤١] والزاجرات كل ما زجر عن معاصي الله ، والتاليات كل من تلا كتاب الله. أو الصافات طائفة من الملائكة أو من الأشخاص الإنسانية ، وكل من الزاجرات والتاليات طائفة أخرى. وقيل : الصافات العالم الجسماني المنضود كرة فوق كرة من الأرض إلى الفلك الأعظم ، والزاجرات الأرواح المدبرة للأجسام بالتحريك والتصريف ، والتاليات الأرواح المستغرقة في بحار معرفة الله تعالى والثناء عليه. والفاء على هذه المعاني لترتب الموصوفات في الفضل. ثم إنه سبحانه لم يقتصر في إثبات التوحيد على الحلف ولكنه عقبه بالدليل الباهر فقال (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ) فلكل كوكب مشرق ومغرب بل للشمس ولسائر السيارات وللثوابت في كل يوم مشرق آخر بحسب تباعدها عن منطقة المعدل وتقاربها منها. وإنما اقتصر على ذكر المشارق لشرفها ولدلالتها على البغارب كقوله (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل : ٨١]. ثم بين أنه جعل الكواكب بحيث يشاهدها الناس من السماء الدنيا وهي تأنيث الأدنى لمنفعتين : الأولى تحصيل الزينة ، والثانية الحفظ من الشيطان. والزينة مصدر كالنسبة أو اسم لما يزان به الشيء كالليقة لما تلاق به الدواة. ثم قرأ بالإضافة فلها وجوه : أن يكون مصدرا مضافا إلى الفاعل أي بأن زانتها الكواكب وإلى المفعول أي بأن زان الله تعالى الكواكب وحسنها في أنفسها ، فإن النور والضوء أحسن الصفات وأكملها ، وكذا أشكالها المختلفة كشكل الثريا وبنات النعش والجوزاء وسائر الصور المتوهمة من الخطوط التي تنظم طائفة منها ، وقد ترتقي إلى نيف وأربعين منها صور البروج الاثني عشر. وبالجملة إشراق الجواهر الزواهر وتلألؤها على بسيط أزرق بنظام مخصوص مما يروق الناظر ، ويجوز أن يقع (الْكَواكِبِ) بيانا للزينة وهي اسم لأن الزينة مبهمة في الكواكب وغيرها مما يزان به فيكون كخاتم فضة. ويجوز أن يراد بالزينة ما زينت به الكواكب كما روي عن ابن عباس أنه فسر الزينة بالضوء. ومن قرأ بتنوين (بِزِينَةٍ) وجر (الْكَواكِبِ) فعلى الإبدال ، ومن قرأ بتنوين (بِزِينَةٍ) ونصب (الْكَواكِبِ) فعلى أنه بدل من محل (بِزِينَةٍ) أو من السماء ، أو على أن المراد بتزيينها الكواكب كما في أحد وجوه الإضافة. قوله (وَحِفْظاً) فيه وجوه أحدها : أنه محمول على المعنى والتقدير : إنا خلقنا الكواكب زينة للسماء وحفظا من الشياطين. وثانيها أن يقدر مثل الفعل المتقدم للتعليل كأنه قيل : وحفظا من كل شيطان زيناها بالكواكب. وثالثها قال المبرد : إذا ذكرت فعلا ثم عطفت عليه مصدر فعل آخر نصبت المصدر لأنه قد دل على فعله بما تقدم. تقول : افعل ذلك وكرامة أي وأكرمك كرامة ، وذلك لما علم أن الأسماء لا تعطف على الأفعال فالتقدير : وحفظناها

٥٥٤

حفظا. قال المفسرون : الشياطين كانوا يصعدون إلى قرب السماء فربما سمعوا كلام الملائكة وعرفوا به ما سيكون من الغيوب فأخبروا صنعاءهم ، فجعل الله الكواكب في زمن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحيث تحرقهم وتحفظ أهل السماء من إصغائهم. قال الحكيم : ليس المراد بالكواكب الحافظة أنفس الكواكب المركوزة في الأفلاك وإلا لوقع نقصان ظاهر في أعدادها ، بل المراد ما يضاهيها من الشهب الحادثة عند كرة النار من الأبخرة المرتفعة ، وقد مر تحقيق ذلك في أول سورة الحجر. قال الإمام فخر الدين الرازي رحمه‌الله : إن الشياطين لهم حذق كامل في استخراج الصنائع الدقيقة فإذا عرفوا هذه الحالة بالتجربة فلم لا يمنعون منه. وأيضا إنهم مخلوقون من النار والنار كيف تؤثر في النار؟ وأيضا مقر الملائكة السطح الظاهر من الفلك الأعلى وإنهم لا يصعدون إلا إلى قريب من الفلك الأدنى فكيف يسمعون كلام الملائكة؟ والجواب أنا لا نسلم حذقهم في كل الأمور ولهذا جاء في وجوه تسخيرهم ما جاء على أن موضع الاستراق والاحتراق غير متعين ، ووقوع هذه الحالة أيضا كالنادر. فلعل المسترق يكون غير واقف عليه ، والنيران بعضها أقوى من البعض وليس الشيطان نارا صرفا ، ولكن الناري غالب عليه. ولا نسلم أن الملائكة لا ينزلون إلى الفلك الأخير بإذن الله. والمارد الخارج من الطاعة وقد مر اشتقاقه في قوله مردوا على النفاق.

والضمير في قوله (لا يَسَّمَّعُونَ) لكل شيطان لأنه في معنى الجمع. والتسمع تكلف السماع سمع أو لم يسمع وقد ضمن معنى الإصغاء فلذلك عدّي بإلى. وقيل : معنى سمعت إليه صرفت إلى جهته سمعي. قال جار الله : هذه الجملة لا يصح أن تكون صفة لأن الحفظ من شياطين غير سامعين أو مستمعين لا معنى له ، ولا يصح أن يكون استئنافا لأن سائلا لو سأل : لم يحفظ من الشياطين؟ فأجيب بأنهم لا يسمعون. لم يستقم فبقي أن يكون كلاما منقطعا مبتدأ به لاقتصاص حال المسترقة للسمع. قلت : لو كان صفة باعتبار ما يؤول إليه حالهم جاز ، وكذا إن كان مستأنفا كأنه قيل : لم يحفظ فأجيب لأنهم يؤلون إلى كذا. ومن هنا زعم بعضهم أن أصله لئلا يسمعوا لهم فحذفت اللام ثم «أن» وأهدر عملها كما في قول القائل :

ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى

ورد عليه في الكشاف أن حذف اللام في قولك «جئتك أن تكرمني» وحذف «أن» في قول الشاعر جائز ، فأما اجتماعهما فمنكر من المنكرات. قلت : إن القرآن حجة على غيره مع أن قول الشاعر أيضا لا يصح إلا بتقدير اللام أو «من» مع «أن». والملأ الأعلى الملائكة

٥٥٥

لأنهم يسكنون السموات. وعن ابن عباس : أراد أشراف الملائكة. وعنه : الكتبة من الملائكة. والقذف الرمي بحجر تقول : قذفته بحجر أي رميت إليه حجرا. وقوله (مِنْ كُلِّ جانِبٍ) أي مرة من هذا الجانب ومرة من هذا الجانب. وقيل : من كل الجوانب. (دُحُوراً) أي طردا مع صغار مصدر من غير لفظ الفعل ، لأن القذف والطرد متغايران كأنه قيل : يقذفون قذفا أو يدحرون دحورا. ويجوز أن يكون مفعولا له أي لأجل الدحور أو مصدرا في موضع الحال أي مدحورين كقوله (مَذْمُوماً مَدْحُوراً) [الإسراء : ١٨] (وَلَهُمْ) أي للشياطين (عَذابٌ واصِبٌ) دائم وقد مر في النحل في قوله (وَلَهُ الدِّينُ واصِباً) [النحل : ٥٢] يعني أنهم في الدنيا مرجومون بالشهب ولهم في الآخرة نوع من العذاب غير منقطع (إِلَّا مَنْ خَطِفَ) في محل الرفع بدلا من الواو في (لا يَسَّمَّعُونَ) أي لا يسمع إلا الشيطان الذي اختلس الكلمة مسارقة. وقيل : وثب وثبة. وقيل : الاستثناء منقطع خبره (فَأَتْبَعَهُ) أي أتبعه ورمى في أثره (شِهابٌ ثاقِبٌ) مضيء أو ماض فإذا قذفوا احترقوا. وقيل : تصيبهم آفة فلا يعودون. وقيل : لا يقتلون بالشهب بل يحس بذلك فلا يرجع ولهذا لا يمتنع غيره من ذلك. وقيل : يصيبهم مرة ويسلمون مرة فصاروا في ذلك كراكبي السفينة للتجارة. وحين بين الوحدانية ودلائلها في أول هذه السورة أراد أن يذكر ما يدل على الحشر والكلام فيه من طريقين : الأوّل أن يقال : قدر على الأصعب فيقدر على الأسهل بالأولى ، الثاني قدر في أول الأمر فيقدر في الحالة الثانية. أما الطريق الأوّل فأشار إليه بقوله (فَاسْتَفْتِهِمْ) أي سل قومك أو صاحبهم وأراد بمن خلقنا ما ذكرنا من الملائكة والسموات والأرض والمشارق والكواكب والشهب والشياطين ، وغلب أولي العقل على غيرهم. وقيل : أراد عادا وثمود ومن قبلهم من الأمم الخالية. والقول الأول أقوى بدليل فاء التعقيب ولإطلاق قوله (خَلَقْنا) اكتفاء ببيان ما تقدمه كأنه قال : خلقنا كذا وكذا من عجائب الخلق ، فاستخبرهم أهم أشد خلقا أم هذه الخلائق ، ومن هان عليه هذه كان خلق البشر بل إعادته عليه أهون. وأما الطريق الثاني فإليه الإشارة بقوله (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ) أي لازم والباء بدل من الميم عند أكثرهم ولهذا قال ابن عباس : هو الملتصق من الطين الحر. وقال مجاهد والضحاك : هو المنتن. ووجه الاستدلال أن هذا الجسم لو لم يكن قابلا للحياة لم يقبلها من أول الأمر ، وإذا قبلها أوّلا فلا يبقى ريب في قبولها ثانيا ، وقادرية الله تعالى باقية على حالها فالإعادة أمر ممكن ، وقد أخبر الصادق عن وقوعها فيجب وقوعها. وفي هذا الطريق الثاني تقوية للطريق الأوّل ، فإن خلقهم من الطين شهادة عليهم بالضعف والرخاوة. ثم بين أنهم مع قيام الحجج الضرورية عليهم مصرون على الإنكار فقال (بَلْ عَجِبْتَ) من قرأ بفتح التاء فظاهر أي عجبت يا محمد من تكذيبهم وإنكارهم البعث (وَ) هم (يَسْخَرُونَ) من

٥٥٦

تعجبك ، أو عجبت من القرآن حين أعطيته ويسخر أهل الكفر منه. ومن قرأ بالضم فأورد عليه أن التعجب على الله غير جائز لأنه روعة تعتري الشخص عند استعظام الشيء. وقيل : هذه حالة تحصل عند الجهل بصفة الشيء. وأجيب بأن معناه : قل يا محمد بل عجبت. سلمنا لكن العجب هو أن يرى الإنسان ما ينكره الكافر والإنكار من الله تعالى غير منكر. سلمنا لكن هذه الألفاظ في حقه تعالى محمولة على النهايات كالمكر والاستهزاء والمعنى : بلغ من عظم آياتي وكثرة خلائقي أني استعظمتها فكيف بعبادي وهؤلاء بجهلهم وعنادهم يسخرون منها ، أو استعظمت إنكارهم البعث ممن هذه أفعاله وهم يسخرون ممن يصف الله تعالى بالقدرة عليه نظيره الآية (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ) [الرعد : ٥]. عند من يرى أن العجب من الله. وقد جاء في الحديث «يعجب ربك من الشاب ليس له صبوة». وقال أيضا : «عجب ربكم من ألكم وقنوطكم وسرعة إجابته». والألّ التضرع. ثم حكى عنهم أنه كما أن دأبهم السخرية عند إيراد البراهين فكذلك دأبهم أنهم إذا وعظوا لا يتعظون.

(وَإِذا رَأَوْا آيَةً) بينة كانشقاق القمر وغيره من المعجزات (يَسْتَسْخِرُونَ) يبالغون في السخرية أو يستدعي بعضهم من بعض أن يسخر منها ونسبوا ما رأوه إلى السحر. فالحاصل أنه لا تفيد معهم البراهين الضرورية ولا المقدمات الوعظية ولا المعجزات الدالة على صدق إخبارك بالبعث. قوله (أَوَآباؤُنَا) من قرأ بسكون الواو فمعطوف على محل اسم «أن» ، ومن قرأ بفتحها فعليه ، أو على الضمير في (لَمَبْعُوثُونَ) وحسن الفصل بهمزة الاستفهام والمعنى : أيبعث أيضا آباؤنا؟ يعنون أنهم أقدم فبعثهم أبعد. وعلى الأوّل أرادوا إنكار أن يبعث واحد منهم أو من آبائهم فأرغمهم الله سبحانه بقوله (قُلْ نَعَمْ) تبعثون (وَأَنْتُمْ داخِرُونَ) صاغرون أذلاء. وإذا كان كذلك (فَإِنَّما هِيَ) أي البعثة أو هو مبهم يوضحه خبره (زَجْرَةٌ) واحدة يعني صيحة النفخة الثانية (فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ) أراد أنهم أحياء بصراء أو أراد أنهم ينظرون أمر الله فيهم. (وَقالُوا يا وَيْلَنا) الظاهر أن كلامهم يتم عند قوله (تُكَذِّبُونَ) يقوله الكفرة فيما بينهم. وقيل : إن كلامهم يتم عند قوله (يا وَيْلَنا) ثم قال الله أو الملائكة (هذا يَوْمُ الدِّينِ) الجزاء والحساب (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ) القضاء والفرق بين المحسن والمسيء (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا) بالكفر أو بالفسق يعني رؤساءهم. وهذا الحشر بمعنى الجمع لأنه بعد البعث أي اجمعوهم (وَأَزْواجَهُمْ) أي أشكالهم الذين على دينهم وسيرتهم ؛ الزاني مع الزاني ، والسارق مع السارق ، والشارب مع الشارب. وقيل : قرناءهم من الشياطين. وقيل : نساءهم اللاتي على ملتهم. (وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) من الأصنام (فَاهْدُوهُمْ) ادعوهم أو قدموهم والسابق يسمى الهادي أو دلوهم (إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) وسطها أو طريقها لأنه قال

٥٥٧

بعد ذلك (وَقِفُوهُمْ) أي احبسوهم للسؤال كأنهم إذا انتهوا إلى الجحيم سئلوا تهكما وتوبيخا بالعجز عن التناصر (ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ) قد أسلم بعضهم بعضا وخذله. وحقيقته طلب كل منهم سلامة نفسه فقال المفسرون : إن أبا جهل قال يوم بدر : نحن جميع منتصر فيوبخ على ذلك يوم القيامة. ثم حكى أنهم في جهنم يتساءلون تساؤل التخاصم وذلك أن اتباعهم (قالُوا) لرؤسائهم (إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ) وفيه وجوه ، الأول : أنها استعارة عن الخيرات والسعادات وذلك أن الجانب الأيمن أشرف من الأيسر شرعا وعرفا. كان رسول الله يحب التيامن في كل شيء ولهذا أمرت الشريعة بمباشرة أفاضل الأمور باليمين وأراطلها بالشمال ، وجعلت اليمين لكاتب الحسنات والشمال لكاتب السيئات ، ووعد المحسن أن يؤتى كتابه بيمينه والمسيء بالضد ، وما جعلت يمنى إلا للتيمن بها ولذلك تيمنوا بالسانح وتطيروا بالبارح. فقيل : أتاه عن اليمين أي من قبل الخير وناحيته فصدّه عنه وأضله. قال جار الله : من المجاز ما غلب عليه الاستعمال حتى لحق بالحقيقة وهذا من ذاك لأن اليمين كالحقيقة في الخير. ثم صار قولك «أتاه عن اليمين» مجازا في المعنى المذكور. الثاني : أن يقال : فلان يمين فلان إذا كان عنده بمنزلة رفيعة فكأنهم قالوا : إنكم كنتم تخدعوننا وتوهمون أننا عندكم بمحل رفيع فوثقنا بكم وقبلنا عنكم. الثالث : اليمين الحلف ، كان الكفار قد حلفوا لهؤلاء الضعفة أن ما يدعونهم إليه هو الحق فوثقوا بأيمانهم وتمسكوا بعهودهم. الرابع : أن اليمين القوة والقهر فبها يقع البطش غالبا أي كنتم تأتوننا عن القهر والغلبة حتى حملتمونا على الضلال. وكما أن الضمير في (قالُوا) الأول كان عائدا إلى الأتباع بقرينة الخطاب ، فالضمير في (قالُوا) الثاني يعود إلى الرؤساء لمثل تلك القرينة. والمعنى بل أبيتم أنتم الإيمان وأعرضتم عنه كما أعرضنا. (وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً) مختارين الطغيان وهذا مثل محاجة إبليس (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ) [إبراهيم : ٢٢] (فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ) قال مقاتل : أراد قوله : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ) [الأعراف : ١٨] والمعنى أنه لما أخبر عن وقوعنا في العذاب وكان خبر الله حقا فلا جرم وجب وقوعنا في العذاب. قال جار الله : لو حكى الوعيد كما هو لقال «إنكم لذائقون» ولكنه عدل به إلى لفظ المتكلم لأنهم يتكلمون بذلك عن أنفسهم وكلا الاستعمالين شائع (فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ) أي أقدمنا على إغوائكم لأنا كنا موصوفين في أنفسنا بالغواية كأنهم قالوا : إن اعتقدتم أن غوايتكم بسبب إغوائنا فغوايتنا إن كانت بسبب إغواء غاو آخر لزم التسلسل فعلمنا أن غوايتنا أيضا من الله كما مر في قوله (فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا) هذا تفسير أهل السنة. وأما المعتزلة فيفسرون الآيات هكذا قالوا : (بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) أي كنتم مختارين الكفر على الإيمان ، وما سلبنا تمكنكم من تسلط بل اخترتم أنتم الطغيان فحق

٥٥٨

علينا وعيد الله بأنا ذائقون لعذابه لا محالة لعلمه بحالنا واستحقاقنا بها العقوبة (فَأَغْوَيْناكُمْ) فدعوناكم إلى الغي لأنا كنا غاوين فأردنا إغواءكم لتكونوا أمثالنا. وحين حكى كلام الأتباع والمتبوعين أنتج من ذلك قوله (فَإِنَّهُمْ) جميعا (يَوْمَئِذٍ) أي يوم القيامة (فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) كما كانوا مشتركين في الغواية. ولعل للمتبوعين عذابا زائدا للإغواء ولكن الزيادة لا تنافي الاشتراك في أصل الشيء (إِنَّا كَذلِكَ) أي مثل ذلك الفعل (نَفْعَلُ) بكل مجرم أي كافر بدليل قوله (إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ) يأبون من قبوله ، والجملة الشرطية خبر «كان» وهو مع الاسم والخبر خبر «إن» وإن ألغيت «كان» فالخبر (يَسْتَكْبِرُونَ) و «إذا» ظرفه.

(وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ) عنوا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين أنهم منكرون للتوحيد وللنبوّة جميعا فردّ عليهم بقوله (بَلْ جاءَ) متلبسا (بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ) وفيه تنبيه على أن التوحيد دين كل الأنبياء ثم صدقهم في قولهم (فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا) ونقل الكلام من الغيبة إلى الحضور للمبالغة قائلا (إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ) ثم كان لقائل أن يقول : كيف يليق بالرحيم الكريم المتعالي عن النفع والضر أن يعذب عبيده فقال (وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فالحكمة اقتضت الأمر بالخير والطاعة ، والنهي عن القبيح والمعصية ، والأمر والنهي لا يكمل المقصود بهما إلا بالترغيب والترهيب ، وإذا وقع الإخبار عنه وجب تحققه صونا للكلام عن الكذب هذا بتفسير المعتزلة أشبه. والسنّي يقول : لا اعتراض عليه في شيء ولا يسأل عما يفعل. قال جار الله (إِلَّا عِبادَ اللهِ) استثناء منقطع أي لكن عباد الله (الْمُخْلَصِينَ أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ) قلت : يجوز أن يكون الاستثناء متصلا والمعنى : وما تجزون إلا ما كنتم تعملون من غير زيادة إلا المخلصين فإن جزاءهم بالأضعاف. ويحتمل أن يكون الخطاب في قوله (إِنَّكُمْ) للمكلفين جميعا فيصح الاستثناء المتصل مطلقا أي تذوقون العذاب الأليم. قوله (مَعْلُومٌ) قيل : أي معلوم الوقت كقوله (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) [مريم : ٦٢] وقيل : معلوم الصفة لكونه مخصوصا بخصائص خلق عليها من طيب طعم ورائحة ولذة وحسن منظر. وقيل : معلوم القدر على حسب استحقاقهم. وقيل : أراد أنهم يتيقنون دوامه لا كرزق الدنيا الذي لا يعلم متى يحصل ومتى يقطع. ثم فسر ذلك الرزق بأنه (فَواكِهُ) فقيل : إن الفاكهة عبارة عما يؤكل لأجل التلذذ لا لأجل الحاجة ، وأرزاق أهل الجنة كلها كذلك لأنهم مستغنون عن حفظ الصحة بالأقوات فإنهم أجسام محكمة مخلوقة للأبد فلذلك سمي رزقهم فاكهة. وقيل : أراد به التنبيه بالأدنى على الأعلى ، فإذا كانت الفاكهة حاضرة أبدا كان الطعام أولى بالحضور.

٥٥٩

وحيث بين الأكل ذكر أن ذلك حاصل مع الإكرام والتعظيم فقال (وَهُمْ مُكْرَمُونَ) إذ الأكل الخالي عن التعظيم يليق بالبهائم. وحين ذكر مأكولهم وصف مسكنهم وهيئة جلوسهم فقال (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) وقد مر في «الحجر». ثم وصف مشروبهم. قال أهل اللغة : لا يسمى الإناء كأسا إلا إذا كان فيها خمر ، وقد تسمى الخمر نفسها كأسا. عن الأخفش :

كل كأس في القرآن فهي الخمر

وكذا في تفسير ابن عباس. والمعين النهر الجاري على وجه الأرض وأصله معيون لأنه الظاهر للعيون أو من عين الماء. وقد يقال : عان الماء يعين إذا ظهر جاريا قاله ثعلب. وقيل : «فعيل» من المعن وهو المنقعة أو الماء الشديد الجري ومنه أمعن في السير أي بالغ فيه. واشتدّ وصف الخمر بما يوصف به الماء لأنها تجري في الجنة في أنهار كما يجري الماء. وبيضاء صفة للكأس : قال الحسن : خمر الجنة أشدّ بياضا من اللبن. و (لَذَّةٍ) إما مصدر وصف بها للمبالغة كأنها نفس اللذة ، أوصي تأنيث. اللذ واللذ اللذيذ واحد كالطب والطبيب ثم بين أن خمر الجنة لا تغتال العقول. يقال : غاله يغوله غولا إذا أهلكه وأفسده ، وفيه تعريض بخمر الدنيا ولهذا قدم الظرف وبنى الكلام على الاسم في قوله (وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) أي يسكرون. وخص هذا الوصف بالذكر لأنه أعظم المفاسد في شرب الخمر. يقال : نزف الشارب على البناء للمفعول إذا ذهب عقله. والتركيب يدور على الفناء والنفاد ومنه نزحت الركية حتى نزفتها إذا لم تترك فيها ماء. وأنزف مثله ومعناه صار ذا نزف. وعن بعضهم أن معنى قوله (وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) هو أن الشراب لا ينقطع عنهم لئلا يلزم نوع من التكرار. والأوّلون حملوه على المبالغة. ثم وصف منكوحهم بقوله (وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ) أي حابساتها عن غير أزواجهن كقوله (عُرُباً) [الواقعة : ٣٧] والعين جمع العيناء مؤنث الأعين وهو كبير العين. ثم شبههن ببيض النعام المكنون في وكناتها ، وذلك لأن فيها بياضا يشوبه قليل من الصفرة ، وإذا كانت مستورة في أماكنها كانت مصونة عن الغبرة والتغير فكانت في غاية الحسن ، وبها تشبه العرب النساء وتسميهن بيضات الخدور. ثم عطف على قوله (يُطافُ) قوله (فَأَقْبَلَ) وهو مضارع في المعنى إلا أنه على عادة الله تعالى في الأخبار. ولعل هذا التذاكر عقيب إطافة الكأس فلهذا جيء بالفاء بخلاف ما مر في تخاصم أهل النار. والمراد أنهم يشربون فيتحادثون على الشراب كعادة أهل المنادمة والعشرة. قال بعضهم :

وما بقيت من اللذات إلا

أحاديث الكرام على المدام

٥٦٠