تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٥

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٥

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٩

والضمير في «به» للماء. وإنما قدم الأنعام هاهنا على الأنفس لأن الزرع لا يصلح أوّله إلا للأنعام وإنما يحدث الحب في آخر أمره. قال في «طه» (كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ) [الآية : ٥٤] لأن الأزواج من النبات أعم من الزرع وكثير منه يصلح للإنسان في أول ظهوره مع أن الخطاب لهم فناسب أن يقدموا وإنما ختم الآية بقوله (أَفَلا يُبْصِرُونَ) تأكيدا لقوله في أول الآية (أَوَلَمْ يَرَوْا) ثم حكى نوع جهالة أخرى عنهم وهو استعجالهم العذاب. قال المفسرون : كان المسلمون يقولون إن الله سيفتح لنا على المشركين أي ينصرنا عليهم ويفتح بيننا وبينهم أي يفصل ، فاستعجل المشركون ذلك. ويوم الفتح يوم القيامة فحينئذ تنفتح أبواب الأمور المبهمة أو يوم بدر أو يوم فتح مكة قاله مجاهد والحسن. فإن قلت : كيف ينطبق قوله (قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ) إلخ جوابا عن سؤالهم عن وقت الفتح؟ فالجواب أنهم سألوا ذلك على وجه التكذيب والاستهزاء فقيل لهم : لا تستهزؤا فكأنا بكم وقد حصلتم في ذلك اليوم وآمنتم فلم ينفعكم الإيمان واستنظرتم فلم تنظروا. ومن فسر يوم الفتح بيوم بدر أو بيوم فتح مكة فالمراد أن المقتولين منهم لا ينفعهم إيمانهم في حال القتل وإلا فقد نفع الإيمان الطلقاء يوم فتح مكة وناسا يوم بدر. ثم أمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإعراض عنهم وانتظار النصرة عليهم حين علم أنه لا طريق معهم إلا القتال نظيره قوله (قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ) [الطور : ٣١].

التأويل : الألف المحبون لقربي والعارفون بتمجيدي فلا يصبرون عني ولا يستأنسون بغيري. اللام الأحباء لي مدخر لقائي فلا أبالي أقاموا على وثاقي أم قصروا في وفائي. الميم ترك أوليائي مرادهم لمرادي فلذلك اخترتهم على جميع عبادي (تَنْزِيلُ الْكِتابِ) أعز الأشياء على الأحباب كتاب الأحباب أنزله (رَبِّ الْعالَمِينَ) لأهل الظاهر على ظاهرهم ولأهل الباطن في باطنهم فاستناروا بنوره وتكلموا بالحق عن الحق للحق فلم يفهمه أهل الغرة والغفلة فقالوا (افْتَراهُ). خلق سموات الأرواح وأرض الأشباح وما بينهما من النفس والقلب والسر في ستة أجناس هي : الجماد والمعدن والنبات والحيوان والشيطان والملك (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) الخفي وهو لطيفة ربانية قابلة للفيض الرباني بلا واسطة (فَلا تَتَذَكَّرُونَ) كيف خلقكم في أطوار مختلفة (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) من سماء الروح إلى أرض النفس البدن (ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ) النفس المخاطبة بخطاب (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ) [الفجر : ٢٨] في يوم طلعت فيه شمس صدق الطلب ، وأشرقت الأرض بنور جذبات الحق (كانَ مِقْدارُهُ) في العروج بالجذبة كألف سنة مما تعدون من أيامكم في السير من غير جذبة كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «جذبة من جذبات الحق توازي عمل الثقلين» (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ) وخمره بيده في أربعين

٤٤١

صباحا فأودع في كل صباح خاصية نوع من أنواع عالم الشهادة (ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ) سلها من أجناس عالم الشهادة. (ثُمَّ سَوَّاهُ) شخص إنسان جديد المرآة (وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ) فصار مرآة قابلة لإراءة صفات جماله وجلاله. ثم تجلى فيها بتجلية صفة السمعية والبصرية والعالمية التي مرآتها السمع والأبصار والأفئدة (ضَلَلْنا) في أرض البشرية (يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ) وهو المحبة الإلهية بقبض الأرواح من صفات الإنسانية ويميتها عن محبوباتها بجذبة (ارْجِعِي) [الفجر : ٢٨] (ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ) بالتوجه إلى حضيض عالم الطبيعة كالأنعام بعد أن كانوا رافعي الرؤوس يوم الميثاق. (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ) همتهم عن مضاجع الدارين (جَنَّاتُ الْمَأْوى) التي هي مأوى الأبرار تكون نزلا للمقربين السائرين إلى الله (كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) لأنه لم يكن لكم به شعور في الدنيا لأنكم كنتم في يوم الغفلة والاشتغال بالمحسوسات (الْعَذابِ الْأَدْنى) إذا وقعت للسالك فترة ووقفة لعجب تداخله أو لملالة وسآمة ابتلاه الله ببلاء في نفسه أو ماله أو مصيبة في أهاليه وأقربائه وأحبابه لعله ينتبه من نوم الغفلة ويدارك أيام العطلة قبل أن يذيقه العذاب الأكبر في الخذلان والهجران فلا تك في مرية من لقائه أي من أنه يرى الرب ببركة متابعتك حين قال : اللهم اجعلني من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن الرؤية مخصوصة بك وبتبعتك لأمتك. ويحتمل أن يكون الخطاب في فلاتك لموسى القلب والضمير في (لِقائِهِ) لله. وجعلنا موسى القلب هدى لبني إسرائيل صفات القلب (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً) هم السر الخفي (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ) الآية. لأنهم عنده أعز من أن يجعل حكمهم إلى أحد من المخلوقين ، ولأنه أعلم بحالهم من غيرهم ولئلا يطلع على أحوالهم غيره لأنه خلقهم للمحبة والرحمة فينظر في شأنهم بنظر المحبة والرضا ، لأنه عفوّ يفيض العفو والجود فتحيا به القلوب الميتة فيسقي حدائق وصلهم بعد جفاف عودها وزوال المأنوس من معهودها (فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً) من الواردات التي تصلح لتربية النفوس وهي الأنعام ، ومن المشاهدات التي تصلح لتغذية القلوب. ويقول المنكرون لهذه الطائفة (مَتى هذَا الْفَتْحُ) أي الفتوح التي تدعونها قل لا ينفعكم ذلك إذ لم تقتدوا بهم ولم تهتدوا بهديهم (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) أيها الطالب بالإقبال علينا وبالله التوفيق.

٤٤٢

(سورة الأحزاب مدنية حروفها خمسة آلاف وسبعمائة وستة وتسعون

كلمها ألف ومائتان وثمانون آياتها ثلاث وسبعون)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٢) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٣) ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (٤) ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥) النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٦) وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٧) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٩) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا (١٠) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (١١) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما

٤٤٣

هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (١٣) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (١٤) وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً (١٥) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٦) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧) قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٨) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (١٩) يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (٢٠))

القراآت : (بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) على الغيبة والضمير للمنافقين : أبو عمرو (اللَّائِي) بهمزة بعدها ياء : حمزة وعلي وخلف وعاصم وابن عامر. بهمزة مكسورة فقط : سهل ويعقوب ونافع غير ورش من طريق النجاري وابن مجاهد وابن عون عن قنبل اللاي بياء مكسورة فقط : أبو عمرو وورش من طريق النجاري ويزيد وسائر الروايات عن ابن كثير وكذلك في «المجادلة» و «الطلاق» (تُظاهِرُونَ) من المظاهرة عاصم (تُظاهِرُونَ) بحذف إحدى تاءي الفاعل : حمزة وعلي وخلف. مثله ولكن بإدغام التاء في الظاء : ابن عامر الباقون تظهرون بتشديد الظاء والهاء بما يعملون بصيرا على الغيبة : أبو عمرو وعباس مخير (وَإِذْ زاغَتِ) مدغما : أبو عمرو وعلي وهشام وحمزة في رواية ابن سعدان وخلاد وابن عمرو و (زاغَتِ) ممالة : نصير وحمزة في رواية خلاد ورجاء (الظُّنُونَا) و (الرَّسُولَا) و (السَّبِيلَا) في الحالين : أبو عمرو ونافع وابن عامر وعباس والخراز وأبو بكر وحماد والمفضل. وقرأ أبو عمرو غير عباس وحمزة ويعقوب بغير ألف في الحالين. الباقون : بالألف في الوقوف وبغير ألف في الوصل (لا مُقامَ) بضم الميم : حفص الآخرون : بفتحها. لأتوها مقصورا من الإتيان : أبو جعفر ونافع وابن كثير. الآخرون : بالمد من الإيتاء والإعطاء ويسائلون بإدغام التاء في السين من التفاعل : يعقوب الباقون (يَسْئَلُونَ) ثلاثيا.

الوقوف : (وَالْمُنافِقِينَ) ط (حَكِيماً) ه (رَبِّكَ) ط (خَبِيراً) ه (عَلَى اللهِ) ط (وَكِيلاً) ط ه (فِي جَوْفِهِ) ج فصلا بين بيان الحالين المختلفين مع اتفاق الجملتين

٤٤٤

(أُمَّهاتِكُمْ) ج لذلك (أَبْناءَكُمْ) ط (بِأَفْواهِكُمْ) ط (السَّبِيلَ) ه (عِنْدَ اللهِ) ج للشرط مع العطف (وَمَوالِيكُمْ) ط (أَخْطَأْتُمْ بِهِ) لا لأن التقدير ولكن فيما تعمدت قلوبكم وكذا إن كان خبر مبتدأ محذوف أي ولكن ما تعمدت قلوبكم فيه الجناح وذلك للاستدراك (رَحِيماً) ه ط (أُمَّهاتُهُمْ) ط (مَعْرُوفاً) ه (مَسْطُوراً) ه (عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) ص للعطف (غَلِيظاً) ه (صِدْقِهِمْ) ج لأن الماضي لا ينعطف على المستقبل ولكن التقدير : وقد أعاد (أَلِيماً) ه (تَرَوْها) ط (بَصِيراً) ه ج لاحتمال أن يكون المراد واذكر إذ جاؤكم ولا سيما على قراءة يعملون على الغيبة (الظُّنُونَا) ط (شَدِيداً) ه (غُرُوراً) ه (فَارْجِعُوا) ج لظاهر الواو وإن كانت للاستئناف (بِعَوْرَةٍ) ط بناء على أن ما بعده ابتداء إخبار من الله ، ومن وقف على (عَوْرَةٌ) وجعل ابتداء الإخبار من هناك لم يقف (فِراراً) ه (يَسِيراً) ه (الْأَدْبارَ) ط (مَسْؤُلاً) ه (قَلِيلاً) ه (رَحْمَةً) ط (وَلا نَصِيراً) ه (إِلَيْنا) ج لاحتمال كون ما بعده استئنافا أو حالا (قَلِيلاً) لا لأن ما بعده حال (عَلَيْكُمْ) ج لعطف الجملتين المختلفتين (الْمَوْتِ) ج فصلا بين تناقض الحالين (الْخَيْرِ) ط (أَعْمالَهُمْ) ط (يَسِيراً) ه (لَمْ يَذْهَبُوا) ج (أَنْبائِكُمْ) ط (قَلِيلاً) ه.

التفسير : لما أمره في آخر السورة المتقدمة بانتظار الفرج والنصر أمره في أول هذه السورة بأن لا يتقي غير الله ولا يطيع سواه. قال جار الله عن زر قال : قال أبي بن كعب : كم تعدون سورة الأحزاب؟ قلت : ثلاثا وسبعين آية. قال : فو الذي يحلف به أبي بن كعب إن كانت لتعدل سورة البقرة أو أطول ، ولقد قرأنا منها آية الرجم «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما» إلى آخره. أراد أبي بن كعب أنها من جملة ما نسخ من القرآن. وأما ما يحكى أن تلك الزيادة كانت في صحيفة في بيت عائشة فأكلتها الداجن فمن تأليفات المبتدعة. ومن تشريفات الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه نودي في جميع القرآن بالنبي أو الرسول دون اسمه كما جاء (يا آدَمُ) [البقرة : ٣٥] (يا مُوسى) [طه : ١١] (يا عِيسى) [آل عمران : ٥٥] (يا داوُدُ) [ص : ٢٦] وإنما جاء في الأخبار (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ) [الفتح : ٢٩] تعليما للناس وتلقينا لهم أنه رسول وجاء (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ) [الأحزاب : ٤٠] (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) [آل عمران : ١٤٤] (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ) [محمد : ٢] لأن المقام مقام تعيين وتشخيص وإزالة اشتباه مع قصد أن لا يكون القرآن خاليا عن بركة اسمه العلم وحيث لم يقصد هذا المعنى ذكره بنحو ما ذكره في النداء كقوله (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ) [التوبة : ١٢٨] (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ) [الأحزاب : ٢١] والمراد بقوله (اتَّقِ اللهَ)

٤٤٥

واظب على ما أنت عليه من التقوى ولو أريد الازدياد جاز لأن التقوى باب لا يبلغ آخره ولا يأمن أحد أن يصدر عنه ما لا يوافق التقوى ولا يطابق الدعوى ولهذا جاء (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَ) [الكهف : ١١٠] يعني إنما يرفع عني الحجاب فينكشف لي الوحي ، وإذا أرخى لدي الستر فإني كهيئتكم. يروى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما هاجر إلى المدينة وكان يحب إسلام يهود قريظة والنضير وغيرهم وقد تابعه ناس منهم على النفاق كان يلين لهم جانبه ويكرم صغيرهم وكبيرهم فنزلت. وروي أن أبا سفيان بن حرب وأشياعه قدموا المدينة أيام المصالحة فقالوا : يا رسول الله ارفض ذكر آلهتنا وندعك وربك ، فشق ذلك على المؤمنين فهموا بقتلهم فنزلت. أي اتق الله في نقض العهد. (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ) من أهل مكة (وَالْمُنافِقِينَ) من أهل المدينة فيما طلبوا إليك وكانوا يقولون له أن يعطوه شطر أموالهم إن رجع عن دينه. (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً) بالصواب (حَكِيماً) فيما أمرك به من عدم اتباع آرائهم وأهوائهم ، وحين نهاه عن اتباع الغي أمره باتباع ما هو رشد وصلاح وهو القرآن ، وبأن يثق بالله ويفوّض إليه أموره فلا يخاف غيره ولا يرجو سواه. ولما أمر رسوله بما أمر من اتقاء الله وحده وقد ابتدر منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حكاية زينب زوجة دعيه زيد ما ابتدر قال على سبيل المثل (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ) كأنه قال : يا أيها النبي اتق الله حق تقاته وهو أن لا يكون في قلبك تقوى غير الله فإن المرء ليس له قلبان حتى يتقي بأحدهما الله وبالآخر غيره كما جاء في قصة زيد (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) ثم أراد أن يدفع عنه مقالة الناس بأنه تعالى لم يجعل دعي المرء ابنه فقدم على ذلك مقدمة وهي قوله (وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ) إلى آخرها أي إنكم إذا قلتم لأزواجكم : أنت عليّ كظهر أمي لا تصير أما بإجماع الكل ، أما في الإسلام فإنه ظهار لا يحرم الوطء كما سيجيء في سورة المجادلة. وأما في الجاهلية فلأنه كان طلاقا حتى كان يجوز للزوج أن يتزوج بها ثانيا. فكذلك قول القائل للدعيّ إنه ابني لا يوجب كونه ابنا فلا تصير زوجته زوجة الابن ، فلم يكن لأحد أن يقول في ذلك شيئا ، فلم يكن لخوفك من الناس وجه ولو كان أمرا مخوفا ما كان يجوز أن تخاف غير الله إذ ليس لك قلبان في الجوف. والفائدة في ذكر هذا القيد كالفائدة في قوله (الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج : ٤٦] من زيادة التصوير للتأكيد. ومعنى ظاهر من امرأته قال لها : أنت علي كظهر أمي. كأنه قال : تباعدي مني بجهة الظهار. وعدى بـ «من» لتضمين معنى التباعد. وإنما كنوا عن البطن بالظهر لئلا يذكروا البطن الذي يقارب الفرج فكنوا عنه بالظهر الذي يلازمه لأنه عموده وبه قوامه. وقيل : إن إتيان المرأة في قبلها من جانب ظهرها كان محذورا عندهم زعما منهم بأن الولد حينئذ يجيء أحول ، فلقصد التغليظ شبهها المطلق منهم بالظهر ، ثم لم يقنع بذلك

٤٤٦

حتى جعله ظهر أمه. والدعي «فعيل» بمعنى «مفعول» وهو المدعو ولد أشبه بفعيل الذي هو بمعنى «فاعل» كتقي وأتقياء فجمع على «أفعلاء».

واعلم أن زيد بن حارثة كان رجلا من قبيلة كلب سبي صغيرا فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة ، فلما تزوجها رسول الله وهبته له وطلبه أبوه وعمه فخير فاختار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأعتقه وكانوا يقولون زيد بن محمد فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقوله (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ) [الأحزاب : ٤٠] وقيل : كان أبو معمر رجلا من أحفظ العرب وكان يقال له ذو القلبين. وقيل : هو جميل الفهري كان يقول : إن لي قلبين أفهم بأحدهما أكثر مما يفهم محمد ، فأكذب الله قولهما وضربه مثلا في الظهار والتبني. وقيل : سها في صلاته فقالت اليهود وأهل النفاق : لمحمد قلبان ، قلب مع أصحابه وقلب معكم. وعن الحسن : نزلت فيمن يقول : نفس تأمرني ونفس تنهاني ومعنى التنكير في (لِرَجُلٍ) وزيادة من الاستغراقية التأكيد كأنه قيل : ما جعل الله لنوع الرجال ولا لواحد منهم قلبين البتة (ذلِكُمْ) النسب (قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ) إذ لا أصل شرعا لقول القائل : هذا ابني. وذلك إذا كان معروف النسب حرا ، أما إذا كان مجهول النسب فإن كان حرا ثبت نسبه من المتبني ظاهرا إن أمكن ذلك بحسب السن ، وإن كان عبدا له عتق وثبت النسب. وإن كان العبد معروف النسب عتق ولم يثبت النسب. ثم بين ما هو الحق والهدى عند الله فقال (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ) أي انسبوهم إليهم (فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ) فهم إخوانكم في الدين ومواليكم فقولوا : هذا أخي أو مولاي يعني الولاية في الدين. ثم رفع الجناح إذا صدر القول المذكور خطأ على سبيل سبق اللسان وكذا ما فعلوه من ذلك قبل ورود النهي. ويجوز أن يراد العفو عن الخطأ على طريق العموم فيتناول لعمومه خطأ النبي وعمده (وَكانَ اللهُ غَفُوراً) للخاطيء (رَحِيماً) للعامل ولا سيما إذا تاب. ثم إنه كان لقائل أن يقول : هب أن الدعي لا يسمى ابنا ، أما إذا كان لدعيه شيء حسن فكيف يليق بالمروءة أن تطمح عينه إليه وخاصة إذا كان زوجته فلذلك قال في جوابه (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) والمعقول فيه أنه رأس الناس ورئيسهم فدفع حاجته والاعتناء بشأنه أهم كما أن رعاية العضو الرئيس وحفظ صحته وإزالة مرضه أولى وإلى هذا أشار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله «ابدأ بنفسك ثم بمن تعول» (١) ويعلم من إطلاق الآية أنه أولى بهم من أنفسهم في كل شيء من أمور الدنيا والدين. وقيل : إن أولى بمعنى أرأف وأعطف كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب الزكاة حديث ٩٥ ، ٩٧. أبو داود في كتاب الزكاة باب ٣٩ ، ٤٠. أحمد في مسنده (٢ / ٩٤).

٤٤٧

«ما من مؤمن إلا أنا أولى به في الدنيا والآخرة اقرؤا إن شئتم النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم فأيما مؤمن هلك وترك مالا فلترثه عصبته من كانوا وان ترك دينا أو ضياعا أي عيالا فإليّ» (١) وكما رفع قدره بتحليل أزواج غيره له إذا تعلق قلبه بإحداهن رفع شأنه بتحريم أزواجه على أمته ولو بعد وفاته فقال (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) أي في هذا الحكم فإنهن فيما وراء ذلك كالأجنبيات ولهذا لم يتعد التحريم إلى بناتهن. ومن كمال عناية الله سبحانه بأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن لم يقل وهو أب لهم وإن جاءت هذه الزيادة في قراءة ابن مسعود وإلا حرم زوجات المؤمنين عليه أبدا ، إلا أن يراد الأبوة والشفقة في الدين كما قال مجاهد : كل نبي فهو أبو أمته. ولذلك صار المؤمنون أخوة. قال المفسرون : كان المسلمون في صدر الإسلام يتوارثون بالولاية في الدين وبالهجرة لا بالقرابة فنسخه الله بقوله (وَأُولُوا الْأَرْحامِ) الآية. وجعل التوارث بحق القرابة ومعنى (فِي كِتابِ اللهِ) في اللوح أو في القرآن وهو هذه الآية وآية المواريث وقد سبق نظيره في آخر «الأنفال». وقوله (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) إما ان يتعلق بـ (أُولُوا الْأَرْحامِ) أي الأقارب من هؤلاء بعضهم أولى بأن يرث بعضا من الأجانب ، وإما أن يتعلق بـ (أَوْلى) أي أولو الأرحام بحق القرابة أولى بالميراث من المؤمنين بحق الولاية الدينية ومن المهاجرين بحق الهجرة. ثم أشار إلى الوصية بقوله (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا) أي إلا أن يسدوا ويوصلوا إلى أوليائهم في الدين وهم المؤمنون والمهاجرون معروفا برا بطريق التوصية. والحاصل أن الأقارب أحق من الأجانب في كل نفع من ميراث وهبة وهدية وصدقة وغير ذلك إلا في الوصية فإنه لا وصية لوارث. قال أهل النظم : كأنه سبحانه قال : بينكم هذا التوارث والنبي لا توارث بينه وبين أقاربه فلذلك جعلنا له بدل هذا أنه أولى في حياته بما في أيديكم ، أو لعله أراد دليلا على قوله (أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ) فذكر أن أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض ، ثم لو أراد أحد برا مع صديقه صار ذلك الصديق أولى من قريبه كأنه بالوصية قطع الإرث وقال : هذا مالي لا ينتقل مني إلا إلى من أريده ، فالله تعالى كذلك جعل لصديقه من الدنيا ما أراده. ثم ما يفضل منه يكون لغيره (كانَ ذلِكَ) الذي ذكر في الآيتين (فِي الْكِتابِ) وهو القرآن أو اللوح (مَسْطُوراً) والجملة مستأنفة كالخاتمة للأحكام المذكورة.

ثم أكد الأمر بالاتقاء بقوله (وَإِذْ أَخَذْنا) أي اذكر وقت أخذنا في الأزل (مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ) بتبليغ الرسالة والدعاء إلى الدين القويم من غير تفريط وتوان. وقد خصص بالذكر

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الاستقراض باب ١١. أحمد في مسنده (٢ / ٣٣٤).

٤٤٨

خمسة لفضلهم وقدم نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأفضليته. وإنما قدم نوحا في قوله (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) [الشورى : ١٣] لأن المقصود هنالك وصف دين الإسلام بالأصالة والاستقامة فكأنه قال : شرع لكم من الدين الأصلي الذي بعث عليه نوح في العهد القديم ، ومحمد خاتم الأنبياء في العهد الحديث ، وبعث عليه من توسط بينهما من الأنبياء المشاهير. وإنما نسب الدين القديم إلى نوح لا إلى آدم لأن نوحا كان أصلا ثانيا للناس بعد الطوفان ، وخلق آدم كان كالعمارة ونبوته كانت إرشادا للأولاد ولهذا لم يكن في زمانه إهلاك قوم ولا تعذيب كما في زمن نوح والله أعلم. قال أهل البيان : أراد بالميثاق الغليظ ذلك الميثاق بعينه أي وأخذنا منهم بذلك الميثاق ميثاقا غليظا أي عظيما وهو مستعار من وصف الأجرام. وقال آخرون : هو سؤالهم عما فعلوا في الإرسال كما قال (وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) [الأعراف : ٦] وهذا لأن الملك إذا أرسل رسولا وأمره بشيء وقبله كان ميثاقا فإذا أعلمه بأنه يسأل عن حاله في أفعاله وأقواله يكون تغليظا في الميثاق عليه حتى لا يزيد ولا ينقص في الرسالة ، وعلى هذا يحق أن يقال : قوله في سورة النساء (وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) [الآية : ٢١] هو الإخبار بأنهم مسؤولون عنهن كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته» (١) ثم بين الغاية من إرسال الرسل فقال (لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ) الآية. وفيه أن عاقبة المكلفين إما حساب وإما عذاب لأن الصادق محاسب والكاذب معاقب كما قال علي رضي‌الله‌عنه : حلالها حساب وحرامها عقاب. فالصادقون على هذا التفسير هم الذين صدقوا عهدهم يوم الميثاق حين قالوا (بَلى) في جواب (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) [الأعراف : ١٧٢] ثم أقاموا على ذلك في عالم الشهادة ، أو هم المصدقون للأنبياء فإن من قال للصادق صدقت كان صادقا. ووجه آخر وهو أن يراد بهم الأنبياء فيكون كقوله (وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) [الأعراف : ٦] وكقوله (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ) [المائدة : ١٠٩] وفائدة مسألة الرسل تبكيت الكافرين كما مر. قال جار الله : قوله (وَأَعَدَّ) معطوف على أخذنا كأنه قال : أكد على الأنبياء الدعوة إلى دينه لأجل إثابة المؤمنين وأعد أو على ما دل ليسأل كأنه قيل : فأثاب للمؤمنين وأعد للكافرين. وفيه وجه آخر عرفته في الوقوف. ثم أكد الأمر بالاتقاء من الله وحده مرة أخرى فقال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا) الآية. وذلك أن في وقعة الأحزاب اشتد الأمر على الأصحاب لاجتماع المشركين بأسرهم واليهود بأجمعهم ، فأمنهم الله وهزم عدوهم فينبغي أن لا يخاف العبد غير الله القدير

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الجمعة باب ١١. مسلم في كتاب الإمارة حديث ٢٠ أبو داود في كتاب الإمارة باب ١ ، ١٣. الترمذي في كتاب الجهاد باب ٢٧. أحمد في مسنده (٢ / ٤٥ ، ٥٤).

٤٤٩

البصير. وذكروا في القصة أن قريشا كانت قد أقبلت في عشرة آلاف من أحزاب بني كنانة وأهل تهامة وقائدهم أبو سفيان وقد خرج غطفان في ألف ومن تابعهم من نجد وقائدهم عيينة بن حصن وعامر بن الطفيل في هوازن وضامتهم اليهود من قريظة والنضير. وحين سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإقبالهم ضرب الخندق على المدينة أشار عليه بذلك سلمان الفارسي ، ثم خرج في ثلاثة آلاف من المسلمين فضرب معسكره والخندق بينه وبين القوم ، وأمر بالنساء أن يرفعوا في الآطام واشتد الخوف وظن المسلمون كل ظن ونجم النفاق من المنافقين حتى قال معتب بن قشير : كان محمد يعدنا كنوز كسرى وقيصر ولا نقدر أن نذهب إلى الغائط. ومضى على الفريقين قريب من شهر لا حرب بينهم إلا الترامي بالنبل والحجارة حتى أنزل الله النصر ، وذلك بأن أرسل على أولئك الجنود المتحزبة ريح الصبا في ليلة باردة شاتية فسفت التراب في وجوههم (وَ) أرسل (جُنُوداً لَمْ تَرَوْها) وهم الملائكة وكانوا ألفا فقلعوا الأوتاد وقطعوا الأطناب وأطفأوا النيران وأكفئوا القدور وتفرقت الخيول وكثرت الملائكة في جوانب عسكرهم وقذف الله في قلوبهم الرعب فانهزموا. ومعنى (مِنْ فَوْقِكُمْ) من أعلى الوادي من قبل المشرق وهم بنو غطفان (وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) من أسفل الوادي من قبل المغرب وهم قريش تحزبوا وقالوا : سنكون جملة واحدة حتى نستأصل محمدا. ومعنى زيغ الأبصار ميلها عن سننها واستوائها حيرة ، أو عدولها عن كل شيء الا عن العدو فزعا وروعا. والحنجرة منتهى الحلقوم ، وبلوغ القلوب الحناجر إما أن يكون مثلا لاضطراب القلوب وقلقها وإن لم تبلغها في الحقيقة ، وإما أن يكون حقيقة لأن القلب عند الخوف يجتمع فيتقلص ويلتصق بالحنجرة وقد يفضي إلى أن يسد مخرج النفس فيموت وإنما جمع الظنون مع أن الظن مصدر لأن المراد أنواع مختلفة ، فظن المؤمنون الابتلاء والفتنة فخافوا الزلل وضعف الاحتمال ، وظن المنافقون وضعاف اليقين الذين في قلوبهم مرض وهم على حرف ما حكى الله عنهم وهو قوله (ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً) كما حكينا عن معتب. ومن فوائد جمع الظن أن يعلم قطعا أن فيهم من أخطأ الظن فإن الظنون المختلفة لا تكون كلها صادقة. فأما أن تكون كلها كاذبة أو بعضها فقط والمقام مقام تقرير نتائج الخوف.

(وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ) كعبد الله بن أبي وأصحابه ويثرب اسم المدينة أو أرض وقعت المدينة في ناحية منها (لا مُقامَ لَكُمْ) أي لاقرار لكم ولا مكان هاهنا تقومون أو تقيمون فيه على القراءتين ، فارجعوا إلى المدينة واهربوا من عسكر رسول الله ، أو ارجعوا كفارا واتركوا دين محمد وإلا فليست لكم يثرب بمكان ، ثم إن السامعين عزموا على الرجوع فاستأذنوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتعللوا بأن بيوتنا عورة أي ذات خلل لا يأمن أصحابها بها السراق على

٤٥٠

متاعهم ، أو أنها معرضة للعدو فأكذبهم الله تعالى بقوله (وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ) ثم أظهر ما تكن صدورهم فقال (إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً) ثم بين مصداق ذلك بقوله (وَلَوْ دُخِلَتْ) أي المدينة عليهم من أقطارها أو دخلت عليهم بيوتهم من جوانبها وأكنافها (ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ) أي الارتداد والرجوع إلى الكفر وقتال المسلمين (لَآتَوْها) والحاصل أنهم يتعللون بأعوار بيوتهم ليفروا عن نصرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولو دخلت عليهم هؤلاء العساكر المتحزبة التي يفرون منها مدينتهم وبيوتهم من نواحيها كلها لأجل النهب والسبي ثم عرض عليهم الكفر ويقال لهم كونوا على المسلمين لتسارعوا إليه وما تعللوا بشيء. ويمكن أن يراد أن ذلك الفرار والرجوع ليس لأجل حفظ البيوت لأن من يفعل فعلا لغرض فإذا فاته الغرض لا يفعله كمن يبذل المال لكيلا يؤخذ منه بيته فإذا أخذ منه البيت لا يبذله ، فأكذبهم الله تعالى بأن الأحزاب لو دخلت بيوتهم وأخذوها منهم لرجعوا عن نصرة المسلمين فتبين أن رجوعهم عنك ليس إلا لكفرهم ومقتهم الإسلام. والضمير في قوله (وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً) يرجع إلى الفتنة أي لم يلبثوا بإتيان الفتنة أو بإعطائها إلا زمانا يسيرا ريثما يكون السؤال والجواب أو لم يقيموها إلا قليلا ثم تزول وتكون العاقبة للمتقين. ويحتمل عود الضمير إلى المدينة أي وما لبثوا بالمدينة بعد ارتدادهم إلا قليلا فإن الله يهلكهم. قوله (وَلَقَدْ كانُوا) الآية. عن ابن عباس : عاهدوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة العقبة أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم. وقيل : هم قوم غابوا عن بدر فقالوا : لئن أشهدنا الله قتالا لنقاتلن. وعن محمد بن اسحق : عاهدوا يوم أحد أن لا يفروا بعد أن نزل فيهم ما نزل. ثم ذكر أن عهد الله مسؤول عنه وأن ما قضى الله وقدر من الموت حتف الأنف أو من القتل فهو كائن والفرار منه غير نافع ، ولئن فرض أن الفرار منه فتمتعتم بالتأخير لم يكن ذلك التمتع في مراتع الدنيا إلا زمانا قليلا. عن بعض المروانية أنه مر بحائط مائل فأسرع فتليت له هذه الآية فقال : ذلك القليل نطلب. ثم أكد التقرير المذكور بقوله (قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ) الآية. قال جار الله : لا عصمة إلا من السوء فتقدير الكلام : من يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو من يصيبكم بسوء إن أراد بكم رحمة فاختصر الكلام كقوله متقلدا سيفا ورمحا. أي ومعتقلا رمحا. أو حمل الثاني على الأول لما في العصمة من معنى المنع. والمعوقون الذين يمنعون الناس من نصرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم المنافقون واليهود (هَلُمَّ إِلَيْنا) معناه قربوا أنفسكم إلينا وقد مر في «الأنعام» في قوله (قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ) [الآية : ١٥] وقوله (وَلا يَأْتُونَ) معطوف على (الْقائِلِينَ) لأنه في معنى الذين يقولون. وقوله (إِلَّا قَلِيلاً) أي إلا إتيانا قليلا كقوله (ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً) لقلة الرغبة. وعوز الجد والأشحة جمع شحيح قيل : معناه أضناء بكم أي

٤٥١

يظهرون الإشفاق على المسلمين قبل شدة القتال ، فإذا جاء البأس ارتعدت فرائصهم وتدور أعينهم كدوران عين من يغشى عليه من سكرات الموت. وقيل : أراد أنهم يبخلون بأموالهم وأنفسهم فلا يبذلونهما في سبيل الله (فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ) وجمعت الغنائم (سَلَقُوكُمْ) أي بسطوا إليكم ألسنتهم قائلين وفروا قسمتنا فإنا قد شاهدناكم وقاتلنا معكم وبنا نصرتم وبمكاننا غلبتم عدوكم ، فهم عند البأس أجبن قوم وأخذلهم للحق ، وأما عند حيازة الغنيمة فأشحهم وأوقعهم والحداد جمع حديد ، وكرر أشحة لأن الأول مطلق والثاني مقيد بالخير وهو المال والثواب أو الدين أو الكلام الجميل. (أُولئِكَ) المنافقون (لَمْ يُؤْمِنُوا) حقيقة وإن آمنوا في الظاهر (فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ) التي لها صورة الصلاح بأن أعلم المسلمين أحوال باطنهم (وَكانَ ذلِكَ) الذي ذكر من أعمال أهل النفاق (يَسِيراً) على الله لا وزن لها عنده أو وكان ذلك الإحباط عليه سهلا. قال في الكشاف : لأن أعمالهم حقيقة بالإحباط تدعو إليه الدواعي ولا يصرف عنه صارف. ويمكن أن يقال : إعدام الجواهر هين على الله فإعدام الإعراض ولا سيما بمعنى عدم اعتبار نتائجها أولى بأن يكون هينا. ثم قرر طرفا آخر من جبنهم وهو أنهم (يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا) وقد ذهبوا فانصرف المنافقون إلى المدينة منهزمين بناء على هذا الحسبان. ومن جملة جبنهم وضعف احتمالهم أنه (إِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ) كرة ثانية تمنوا (أَنَّهُمْ بادُونَ) أي خارجون إلى اليد وحاصلون فيما بين الأعراب حذرا من عيان القتال فيكون حالهم إذ ذاك أنهم يسئلون عن أخباركم قانعين من العيان بالأثر ومن الحضور بالخبر (وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ) ولم ينصرفوا إلى المدينة وكان قتال لم يقاتلوا (إِلَّا قَلِيلاً) إبداء للعذر على سبيل الرياء والضرورة.

التأويل : «اتق الله» من التكوين وكان عليه‌السلام متقيا من الأزل إلى الأبد ، وكذا الكلام فيما يتلوه من النواهي والأوامر (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) لأن القلب صدف درة المحبة ومحبة الله لا تجتمع مع محبة الدنيا والهوى وغيرهما ، فالقلب واحد كما أن المحبة واحدة والمحبوب واحد (وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ) و (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) فيه أن الحقائق لا تنقلب لا عقلا ولا طبعا ولا شرعا (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ) من معرفة الأنساب فإن النسب الحقيقي ما ينسب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه النسب الباقي كما قال «كل حسب ونسب ينقطع إلا حسبي ونسبي» فحسبه الفقر ونسبه النبوة (وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) بقطع الرحم عن النبوة بترك سنته وسيرته (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) لأنهم لا يقتدرون على توليد أنفسهم في النشأة الثانية كما لم يقدروا على توليد أنفسهم في النشأة الأولى ، وكان أبوهم أحق بهم من أنفسهم في توليدهم من صلبه وأزواجه وهن

٤٥٢

قلوبهم أمهاتهم لأنه يتصرف في قلوبهم تصرف الذكور في الإناث بشرط كمال التسليم ليقع من صلب النبوة نطفة الولاية في أرحام القلوب ، وإذا حملوا النطفة صانوها عن الآفات لئلا تسقط بأدنى رائحة من روائح حب الدنيا وشهواتها فيرتدوا على أعقابهم. وبعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سائر أقارب الدين بعضهم أولى ببعض لأجل التربية ومن المؤمنين بالنشأة الأخرى والمهاجرين عن أوطان البشرية إلا إذا تزكت النفس بالأخلاق الحميدة وصارت من الأولياء بعد أن كانت من الأعداء فيعمل معها معروفا برفق من الإزهاق (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ) في الأزل (وَمِنْكَ) يا محمد أولا بالحبيبية (وَمِنْ نُوحٍ) بالدعوة ومن إبراهيم بالخلة ومن موسى بالمكالمة ومن عيسى بن مريم بالعبدية ، وغلظنا الميثاق بالتأييد والتوثيق (لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ) سؤال تشريف لا سؤال تعنيف. والصدق أن لا يكون في أحوالك شوب ولا في أعمالك عيب ، ولا في اعتقادك ريب ، ومن أماراته وجود الإخلاص من غير ملاحظة المخلوق وتصفية الأحوال من غير مداخلة إعجاب ، وسلامة القول من المعاريض ، والتباعد عن التلبيس فيما بين الناس ، وإدامة التبري من الحول والقوة ، بل الخروج من الوجود الحقيقي (إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ) الشياطين وصفات النفس الدنيا وزينتها (مِنْ فَوْقِكُمْ) وهي الآفات السماوية (وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) وهي المتولدات البشرية. أو (مِنْ فَوْقِكُمْ) وهي الدواعي النفسانية في الدماغ ، (وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) هي الدواعي الشهوانية (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً) من نكبات قهرنا (وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها) من حفظنا وعصمتنا و (عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ) الشروع في الطلب أنهم لا يولون أدبارهم عند الجهاد مع الشيطان والنفس لإخوانهم وهم الحواس والجوارح كونوا أتباعا لنا والله أعلم.

تم الجزء الحادي والعشرون ويليه الجزء الثاني والعشرون وأوله : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي

رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ...)

٤٥٣

بسم الله الرحمن الرحيم

الجزء الثاني والعشرون من أجزاء القرآن الكريم

(لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً (٢١) وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (٢٢) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (٢٣) لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٤) وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (٢٥) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (٢٦) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢٧) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٢٨) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (٢٩) يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (٣٠) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (٣١) يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٣٢) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (٣٣) وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (٣٤) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (٣٥) وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى

٤٥٤

اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (٣٦) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً (٣٧) ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً (٣٨) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللهَ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً (٣٩) ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٤٠))

القراآت : (أُسْوَةٌ) بضم الهمزة حيث كان : عاصم وعباس. الآخرون : بكسرها نضعف بالنون وكسر العين العذاب بالنصب : ابن كثير وابن عامر ، وقرأ أبو عمرو ويزيد ويعقوب بالياء المضمومة والعين مفتوح وبرفع العذاب. الآخرون : مثله ولكن بالألف من المضاعفة ويعمل صالحا يؤتها على التذكير والغيبة : حمزة وعلي وخلف وافق المفضل في ويعمل الباقون : بتأنيث الأول وبالنون في الثاني. (وَقَرْنَ) بفتح القاف : أبو جعفر ونافع وعاصم غير هبيرة. الباقون : بكسرها. (وَلا تَبَرَّجْنَ) (أَنْ تَبَدَّلَ) بتشديد التاءين : البزي وابن فليح أن يكون على التذكير : عاصم وحمزة وعلي وخلف وهشام. (وَخاتَمَ) بفتح التاء بمعنى الطابع : عاصم. الباقون : بكسرها.

الوقوف : (كَثِيراً) ه لإبتداء القصة (الْأَحْزابَ) لا لأن (قالُوا) جواب «لما» (رَسُولُهُ) الثاني ز لاحتمال الاستئناف والحال أوجه (وَتَسْلِيماً) ط (عَلَيْهِ) ج لابتداء التفصيل مع الفاء (يَنْتَظِرُ) لا لاحتمال الحال وجانب الابتداء بالنفي أرجح (تَبْدِيلاً) ه لا إلا عند أبي حاتم (عَلَيْهِمْ) ط (رَحِيماً) ه لا للآية لاحتمال كون ما بعده صفة أو استئنافا شجرها ط مع الله ط يعدلون ه (حاجِزاً) ط مع الله ط لا يعلمون ه ط خلفاء الأرض ه ط مع الله ط ما تذكرون ه ط رحمته ط مع الله ط يشركون ط والأرض ط مع الله ط صادقين ه (إِلَّا اللهَ) ط يبعثون ه عمون ه.

التفسير : لما فرغ من توبيخ المنافقين حث جمع المكلفين على مواساة الرسول وموازرته كما واساهم بنفسه في الصبر على الجهاد والثبات في مداحض الأقدام. والأسوة القدوة وهو المؤتسى به أي المقتدى به ، فالمراد أنه في نفسه قدوة كما تقول في البيضة

٤٥٥

عشرون منا حديدا أي هي في نفسها هذا المبلغ من الحديد. والمراد أن فيه خصلة هي المواساة بنفسه فمن حقها أن يؤتسى بها وتتبع. قال في الكشاف : قوله (لِمَنْ كانَ) بدل من قوله (لَكُمْ) وضعف بأن بدل الكل لا يقع من ضمير المخاطب فالأظهر أنه صفة الأسوة. والرجاء بمعنى الأمل أو الخوف. وقوله (يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) كقولك : رجوت زيدا وفضله أي رجوت فضل زيد ، أو أريد يرجو أيام الله واليوم الآخر خصوصا. وقوله (وَذَكَرَ) معطوف على (كانَ) وفيه أن المقتدي برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الذي واظب على ذكر الله وعمل ما يصلح لزاد المعاد. ثم حكى أن ما ظهر من المؤمنين وقت لقاء الأحزاب خلاف حال المنافقين. وقوله (هذا) إشارة إلى الخطب أو البلاء. عن ابن عباس : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأصحابه : إن الأحزاب سائرون إليكم تسعا أو عشرا أي في آخر تسع ليال أو عشر ، فلما رأوهم قد أقبلوا للميعاد قالوا : هذا ما وعدنا الله ورسوله وقد وقع. (وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ) في كل ما وعد (وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً) بمواعيده إلا فساد همهم بقتل نبيهم. وقد عدّ في الكشاف أسماءهم منهم قدار بن سالف عاقر الناقة ، وكانوا مفسدين لا يخلطون الإفساد بشيء من الإصلاح ومن جملة (وَتَسْلِيماً) لقضائه. وقيل : هذا إشارة إلى ما أيقنوا من أن عند الفزع الشديد يكون النصر والجنة كما قال (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا) [البقرة : ٢١٤] إلى آخره. كان رجال من الصحابة نذروا أنهم إذا لقوا حربا ثبتوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى يستشهدوا ، فمدحهم الله تعالى بأنهم صدقوا ما عاهدوا أي صدقوا الله فيما عاهدوه عليه. ويجوز أن يجعل المعاهد عليه مصدوقا على المجاز كأنهم قالوا للمعاهد عليه : سنفي بك فإذا وفوا به صدقوه (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ) أي نذره فقاتل حتى قتل كحمزة ومصعب ، وقد يقع قضاء النحب عبارة عن الموت لأن كل حي لا بد له من أن يموت فكأنه نذر لازم في رقبته. (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ) الشهادة كعثمان وطلحة (وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) ما غير كل من الفريقين عهده. وفيه تعريض بمن بدلوا من أهل النفاق ومرضى القلب فكأنه قال : صدق المؤمنون ونكث المنافقون ، فكان عاقبة الصادقين الجزاء بالخير بواسطة صدقهم ، وعاقبة أصحاب النفاق التعذيب إن شاء الله إلا أن يتوبوا. وإنما استثنى لأنه آمن منهم بعد ذلك ناس وإلى هذا أشار بقوله (إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) حيث رحمهم ورزقهم الإيمان ، ويجوز أن يراد يعذب المنافقين مع أنه كان غفورا رحيما لكثرة ذنبهم وقوة جرمهم ولو كان دون ذلك لغفر لهم (وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) وهم الأحزاب ملتبسين

٤٥٦

(بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً) أي غير ظافرين بشيء من مطالبهم التي هي عندهم خير من كسر أو أسر أو غنيمة. (وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ) بواسطة ريح الصبا وبإرسال الملائكة كما قصصنا (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ) ظاهروا الأحزاب (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ) والصيصية ما تحصن به ومنه يقال لقرن الثور والظبي ولشوكة الديك التي في ساقه صيصية لأن كلا منها سبب التحصن به. روي أن جبرائيل عليه‌السلام أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صبيحة الليلة التي انهزم فيها الأحزاب على فرسه الحيزوم والغبار على وجه الفرس وعلى السرج فقال : ما هذا يا جبرائيل؟ فقال : من متابعة قريش : فجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يمسح الغبار عن وجه الفرس وعن سرجه فقال : يا رسول الله إن الملائكة لم تضع السلاح إن الله يأمرك بالمسير إلى بني قريظة وأنا عائد إليهم فإن الله داقهم دق البيض على الصفا ، وإنهم لكم طعمة. فأذن في الناس ان من كان سامعا مطيعا فلا يصلي العصر إلا في بني قريظة ، فما صلى كثير من الناس العصر إلا هناك بعد العشاء الآخرة فحاصرهم خمسا وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : تنزلون على حكمي. فأبوا فقال : على حكم سعد بن معاذ فرضوا به ، فقال سعد : حكمت فيهم أن تقتل مقاتلهم وتسبى ذراريهم ونساؤهم ، فكبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة ثم أنزلهم وخندق في سوق المدينة خندقا فقدمهم وضرب أعناقهم وهم ثمانمائة إلى تسعمائة. وقيل كانوا ستمائة مقاتل وسبعمائة أسير. وإنما قدم مفعول (تَقْتُلُونَ) لأن القتل وقع على الرجال وكانوا مشهورين ، وكان الاعتناء بحالهم أشد ولم يكن في المأسورين هذا الاعتناء بل بقاؤهم هناك بالأسر أشد لأنه لو قال و «فريقا تأسرون» فإذا سمع السامع قوله «وفريقا» ربما ظن أنه يقال بعده يطلقون أو لا يقدرون على أسرهم ولمثل هذا قدم قوله (وَأَنْزَلَ) على قوله (وَقَذَفَ) وإن كان قذف الرعب قبل الإنزال وذلك أن الاهتمام والفرح بذكر الإنزال أكثر.

(وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ) التي استوليتم عليها ونزلتم فيها أولا (وَدِيارَهُمْ) التي كانت في القلاع فسلموها إليكم (وَأَمْوالَهُمْ) التي كانت في تلك الديار (وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها) قيل : هي القلاع أنفسها. وعن مقاتل : هي خيبر. وعن قتادة : كنا نحدّث أنها مكة. وعن الحسن : فارس والروم. وعن عكرمة : كل أرض تفتح إلى يوم القيامة. وعن بعضهم : أراد نساؤهم وهو غريب. ثم أكد الوعد بفتح البلاد بقوله (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) قال أهل النظم : إن مكارم الأخلاق ترجع أصولها إلى أمرين : التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله وإليها الإشارة بقوله عليه‌السلام «الصلاة وما ملكت أيمانكم» (١) ولما أرشد نبيه إلى القسم

__________________

(١) رواه ابن ماجة في كتاب الوصايا باب ١. أحمد في مسنده (١ / ٧٨) (٣ / ١١٧).

٤٥٧

الأول بقوله (اتَّقِ اللهَ) أرشده إلى القسم الآخر وبدأ بالزوجات لأنه أولى الناس بالشفقة ولهذا قدّمهنّ في النفقة. لنبن تفسير الآية على مسائل منها : أن التخيير هل كان واجبا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أم لا؟ فنقول : التخيير قولا كان واجبا بالاتفاق لأنه إبلاغ الرسالة ، وأما التخيير معنى فمبني على أن الأمر للوجوب أم لا. ومنها أن واحدة منهن لو اختارت الفراق هل كان يعتبر اختيارها فراقا؟ والظاهر أنه لا يعتبر فراقا وإنما تبين المختارة نفسها بإبانة من جهة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقوله (فَتَعالَيْنَ) وعلى هذا التقرير فهل كان يجب على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الطلاق أم لا؟ الظاهر الوجوب ، لأن خلف الوعد منه غير جائز بخلاف الحال فينا فإنه لا يلزمنا الوفاء بالوعد شرعا. ومنها أن المختارة بعد البينونة هل كانت تحرم على غيره الظاهر نعم ليكون التخيير ممكنا لها من التمتع بزينة الدنيا. ومنها أن المختارة لله ورسوله هل يحرم طلاقها؟ الظاهر نعم بمعنى أنه لو أتى بالطلاق لعوتب. وفي تقديم اختيار الدنيا إشارة إلى أنه كان لا يلتفت إليهن كما ينبغي اشتغالا بعبادة ربه. وكيفية المتعة وكميتها ذكرناهما في سورة البقرة. والسراح الجميل كقوله (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) [الآية : ٢٢٩] وفي ذكر الله والدار الآخرة مع ذكر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي قوله (لِلْمُحْسِناتِ) إشارات إلى أن اختيار الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم سبب مرضاة الله وواسطة حيازة سعادات الآخرة ، وأنه يوجب وصفهن بالإحسان. والمراد بالأجر العظيم كبره بالذات وحسنه بالصفات ودوامه بحسب الأوقات ، فان العظيم لا يطلق إلا على الجسم الطويل العريض العميق الذاهب في الجهات في الامتدادات الثلاثة ، وأجر الدنيا في ذاته قليل ، وفي صفاته غير خال عن جهات القبح كما في قوله من الضرر والثقل ، وكذلك في مشروبه وغيرهما من اللذات ومع ذلك فهو منغص بالانقطاع والزوال. ويروى أنه حين نزلت الآية بدأ بعائشة وكانت أحبهن إليه فخيرها وقرأ عليها القرآن فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة فرؤي الفرح في وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم اختار جميعهن اختيارها فشكر ذلك لهنّ الله فأنزل (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ) [الأحزاب : ٥٢]وروى أنه قال لعائشة إني ذاكر لك أمرا ولا عليك أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك ثم قرأ عليها القرآن فقالت : أفي هذا أستأمر أبوي فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة ثم قالت : لا تخبر أزواجك أني اخترتك فقال : إنما بعثني الله مبلغا ولم يبعثني متعنتا أما حكم التخيير في الطلاق فإذا قال لها : اختاري. فقالت : اخترت نفسي. أو قال : اختاري نفسك فقالت : اخترت. لا بد من ذكر النفس في أحد الجانبين. وقعت طلقة بائنة عند أبي حنيفة وأصحابه إذا كان في المجلس أو لم يشتغل بما يدل على الإعراض. واعتبر الشافعي اختيارها على الفور وهي عنده طلقة رجعية وهو مذهب عمر وابن

٤٥٨

مسعود. وعن الحسن وقتادة والزهري : أمرها بيدها في ذلك المجلس وفي غيره. وإذا اختارت زوجها لم يقع شيء بالاتفاق لأن عائشة اختارت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يعد ذلك طلاقا. وعن علي رضي‌الله‌عنه مثله في رواية ، وفي أخرى أنه عد ذلك واحدة رجعية إذا اختارته ، وإذا اختارت نفسها فواحدة بائنة. وحين خيرهن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واخترن الله ورسوله أدبهن الله وهدّدهن على الفاحشة التي هي أصعب على الزوج من كل ما تأتي به زوجته ، وأوعدهن بتخفيف العذاب لأن الزنا في نفسه قبيح ومن زوجة النبي أقبح ازدراء بمنصبه ، ولأنها تكون قد اختارت حينئذ غير النبي فلا يكون النبي عندها أولى من الغير ولا من نفسها ، وفيه إشارة إلى شرفهن فإن الحرة لشرفها كان عذابها ضعف عذاب الأمة. وأيضا نسبة النبي إلى غيره من الرجال نسبة السادة إلى العبيد لكونه أولى بهم من أنفسهم ، فكذلك زوجاته اللواتي هن أمهات المؤمنين.

وليس في قوله (مَنْ يَأْتِ) دلالة على أن الإتيان بالفاحشة منهن ممكن الوقوع فإن الله تعالى صان أزواج الأنبياء من الفاحشة ولكنه في قوة قوله (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر : ٦٥] (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ) [البقرة : ١٢٠] وقوله (مِنْكُنَ) للبيان لا للتبعيض لدخول الكل تحت الإرادة. وقيل : الفاحشة أريد بها كل الكبائر. وقيل : هي عصيانهن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونشوزهن وطلبهن منه ما يشق عليه. وفي قوله (وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) إشارة إلى أن كونهن نساء النبي لا يغني عنهن شيئا ، كيف وإنه سبب مضاعفة العذاب؟ وحين بين مضاعفة عقابهن ذكر زيادة ثوابهن في مقابلة ذلك. والقنوت الطاعة ، ووصف الرزق بالكرم لأن رزق الدنيا لا يأتي بنفسه في العادة وإنما هو مسخر للغير يمسكه ويرسله إلى الأغيار ، ورزق الآخرة بخلاف ذلك. ثم صرح بفضيلة نساء النبي بأنهن لسن كأحد من النساء كقولك : ليس فلان كآحاد الناس أي ليس فيه مجرد كونه إنسانا بل فيه وصف أخص يوجد فيه ولا يوجد في أكثرهم كالعلم أو العقل أو النسب أو الحسب. قال جار الله : أحد في الأصل بمعنى وحد وهو الواحد ، ثم وضع في النفي العام مستويا فيه المذكر والمؤنث. والواحد وما وراءه. والمعنى ، إذا استقريت أمة النساء جماعة جماعة لم توجد منهن من جماعة واحدة تساويكن في الفضل. وقوله (إِنِ اتَّقَيْتُنَ) احتمل أن يتعلق بما قبله وهو ظاهر ، واحتمل أن يتعلق بما بعده أي إن كنتن متقيات فلا تجبن بقولكن خاضعا لينا مثل كلام المريبات (فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) أي ريبة وفجور. وحين منعهن من الفاحشة ومن مقدماتها ومما يجرّ إليها أشار إلى أن ذلك ليس أمرا بالإيذاء والتكبر على الناس بل القول المعروف عند الحاجة هو المأمور به لا غير. ثم أمرهن بلزوم بيوتهن بقوله (وَقَرْنَ)

٤٥٩

بفتح القاف أمر من القرار بإسقاط أحد حرفي التضعيف كقوله (فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) [الواقعة : ٦٥] وأصله «اقررن». من قرأ بكسرها فهو أمر من قر يقر قرارا أو من قر يقر بكسر القاف. وقيل : المفتوح من قولك قار يقار إذا اجتمع. والتبرج إظهار الزينة كما مر في قوله (غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ) [النور : ٦٠] وذلك في سورة النور. والجاهلية الأولى هي القديمة التي كانت في أول زمن إبراهيم عليه‌السلام ، أو ما بين آدم ونوح ، أو بين إدريس ونوح ، أو في زمن داود وسليمان. والجاهلية الأخرى ما بين عيسى ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقيل : الأولى جاهلية الكفر ، والأخرى الفسق والابتداع في الإسلام. وقيل : إن هذه أولى ليست لها أخرى بل معناه تبرج الجاهلية القديمة ، وكانت المرأة تلبس درعا من اللؤلؤ فتمشي وسط الطريق تعرض نفسها على الرجال. ثم أمرهن أمرا خاصا بالصلاة والزكاة ثم عاما في جميع الطاعات ، ثم علل جميع ذلك بقوله (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ) فاستعار للذنوب الرجس ، وللتقوى الطهر. وإنما أكد إزالة الرجس بالتطهير لأن الرجس قد يزول ولم يطهر المحل بعد و (أَهْلَ الْبَيْتِ) نصب على النداء أو على المدح وقد مر في آية المباهلة أنهم أهل العباء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه أصل ، وفاطمة رضي‌الله‌عنهما والحسن والحسين رضي‌الله‌عنهما بالاتفاق. والصحيح أن عليا رضي‌الله‌عنه منهم لمعاشرته بنت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وملازمته إياه. وورود الآية في شأن أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يغلب على الظن دخولهن فيهن ، والتذكير للتغليب. فإن الرجال وهم النبي وعلي وأبناؤهم غلبوا على فاطمة وحدها أو مع أمهات المؤمنين. ثم أكد التكاليف المذكورة بأن بيوتهن مهابط الوحي ومنازل الحكم والشرائع الصادرة من مشرع النبوة ومعدن الرسالة. ثم ختم الآية بقوله (إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً) إيذانا بأن تلك الأوامر والنواهي لطف منه في شأنهن وهو أعلم بالمصطفين من عبيده المخصوصين بتأييده. يروى أن أم سلمة أو كل أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قلن : يا رسول الله ذكر الله الرجال في القرآن ولم يذكر النساء فنحن نخاف أن لا يقبل منا طاعة فنزلت (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ) وذكر لهن عشر مراتب : الأولى التسليم والانقياد لأمر الله ، والثانية الإيمان بكل ما يجب أن يصدّق به فإن المكلف يقول أولا كل ما يقول الشارع فأنا أقبله فهذا إسلام ، فإذا قال له شيئا وقبله صدق مقالته وصحح اعتقاده. ثم إن اعتقاده يدعوه إلى الفعل الحسن والعمل الصالح فيقنت ويعبد وهو المرتبة الثالثة ، ثم إذا آمن وعمل صالحا كمل غيره ويأمر بالمعروف وينصح أخاه فيصدق في كلامه عند النصيحة وهو المراد بقوله (وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ) ثم إن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر يصيبه أذى فيصبر عليه كما قال في قصة لقمان (وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ) [الآية : ١٧] أي بسببه. ثم إنه إذا كمل في نفسه وكمل غيره قد يفتخر بنفسه

٤٦٠