تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٥

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٥

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٩

سورة لقمان مكية إلا ثلاث آيات

(وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ) إلخ

حروفها ألفان ومائة وعشرة كلمها خمسمائة وثمانية وأربعون آياتها أربع وثلاثون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (٢) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (٣) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٦) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (٨) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩) خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (١٠) هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١١) وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (١٢) وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (١٣) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (١٤) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٥) يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (١٦) يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٧) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (١٨) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (١٩))

٤٢١

القراآت : ورحمة بالرفع. حمزة وأبو عون عن قنبل ليضل بفتح الياء : ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب و (يَتَّخِذَها) بالنصب : يعقوب وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد (يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ) بسكون الياء : البزي والقواس. وقرأ حفص والمفضل بفتح الياء وكذا في قوله (يا بُنَيَّ أَقِمِ) الباقون : بكسر الياء. مثقال بالرفع : أبو جعفر ونافع نصاعر بالألف : أبو عمرو ونافع وحمزة وعلي وخلف. الآخرون. بالتشديد.

الوقوف : (الم) ه كوفي (الْحَكِيمِ) ه وقف لمن قرأ (وَرَحْمَةً) بالرفع على تقدير هو هدى. ومن قرأ بالنصب على الحال والعامل معنى الإشارة في (تِلْكَ) فلا وقف (لِلْمُحْسِنِينَ) ه لا (يُوقِنُونَ) ه ط (الْمُفْلِحُونَ) ه (بِغَيْرِ عِلْمٍ) ط قد يوقف لمن قرأ (وَيَتَّخِذَها) بالرفع والوصل أحسن لأنه وإن لم يكن معطوفا على (لِيُضِلَ) فهو معطوف على (يَشْتَرِي هُزُواً) ط (مُهِينٌ) ط (وَقْراً) ط لانقطاع النظم مع اتصال الفاء (أَلِيمٍ) ه (النَّعِيمِ) ه لا للحال والعامل معنى الفعل في لهم (فِيها) ط لأن التقدير وعد الله وعدا (حَقًّا) ط (الْحَكِيمُ) ه (دابَّةٍ) ه للعدول (كَرِيمٍ) ه (دُونِهِ) ط (مُبِينٍ) ه (لِلَّهِ) ط (لِنَفْسِهِ) ج (حَمِيدٌ) ه (بِاللهِ) ط وقد يوقف على (لا تُشْرِكْ) على جعل الباء للقسم وهو تكلف (عَظِيمٌ) ه (بِوالِدَيْهِ) ج لانقطاع النظم مع تعلق (أَنِ اشْكُرْ) بـ (وَصَّيْنَا وَلِوالِدَيْكَ) ط (الْمَصِيرُ) ه (مَعْرُوفاً) ز للعدول عن بعض المأمور إلى الكل مع اتفاق الجملتين (إِلَيَ) ج لأن «ثم» لترتيب الأخبار (تَعْمَلُونَ) ه (اللهُ) ط (خَبِيرٌ) ه (أَصابَكَ) ط (الْأُمُورِ) ه ج للآية ووقوع العارض مع عطف المتفقتين (مَرَحاً) ط (فَخُورٍ) ج لما ذكر (مِنْ صَوْتِكَ) ه ط (الْحَمِيرِ) ه.

التفسير : لما قال في آخر السورة المتقدمة (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) [الزمر : ٢٧] وكان فيه إشارة إلى إعجاز القرآن ، ودل ما بعده إلى تمام السورة على أنهم مصرون على كفرهم ، أكد تلك المعاني في أول هذه السورة. وتفسيره إلى (الْمُفْلِحُونَ) كما في أول البقرة. إلا قوله (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) فإنه مذكور في أول «يونس». وحيث زاد هاهنا (وَرَحْمَةً) قال (لِلْمُحْسِنِينَ) فإن الإحسان مرتبة فوق التقوى لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه» (١) ولقوله سبحانه (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب تفسير سورة ٣١ باب ٢. مسلم في كتاب الإيمان حديث ٥٧. أبو داود في كتاب السنة باب ١٦. الترمذي في كتاب الإيمان باب ٤. ابن ماجة في كتاب المقدمة باب ٩. أحمد في مسنده (١ / ٢٧ ، ٥١) (٢ / ١٠٧).

٤٢٢

هُمْ مُحْسِنُونَ) [النحل : ١٢٨] (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) [يونس : ٢٦] ومما يؤيد ما قلنا أنه لم يقل هنا (يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) [البقرة : ٣] لئلا يلزم شبه التكرار ، فإن الإحسان لا مزيد عليه في باب العقائد. ثم بين حال المعرضين عن الحق بقوله (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) الإضافة بمعنى «من» أي الحديث الذي هو لهو ومنكر. وجوز في الكشاف أن تكون «من» للتبعيض أي يشتري بعض الحديث الذي هو اللهو منه وفيه نظر ، لأنه يصح هذا التأويل في قولنا «خاتم فضة» وليس بمشهور. قال المفسرون : نزلت في النضر بن الحرث وكان يتجر إلى فارس فيشتري كتب الأعاجم فيحدث بها قريشا. وقيل : كان يشتري المغنيات فلا يظفر بأحد يريد الإسلام إلا انطلق به إلى قينته فيقول : أطعميه واسقيه وغنيه ويقول : هذا خير مما يدعوك محمد إليه من الصلاة والصيام وأن تقاتل بين يديه. فعلى هذا معنى (لِيُضِلَ) بضم الياء ظاهر ، ومن قرأ بالفتح فمعناه الثبات على الضلال أو الإضلال نوع من الضلال. وقوله (بِغَيْرِ عِلْمٍ) متعلق بـ (يَشْتَرِي) كقوله (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) [البقرة : ١٦] أي للتجارة قاله في الكشاف وغيره. ولا يبعد عندي تعلقه بقوله (لِيُضِلَ) كما قال (وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) [النحل : ٢٥] قال المحققون : ترك الحكمة والاشتغال بحديث آخر قبيح ، وإذا كان الحديث لهوا لا فائدة فيه كان أقبح. وقد يسوغه بعض الناس بطريق الإحماض كما ينقل عن ابن عباس أنه قال أحمضوا. وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «روّحوا القلوب ساعة فساعة» والعوام يفهمون منه الترويح بالمطايبة وإن كان الخواص يحملونه على الاشتغال بجانب الحق كقوله «يا بلال روّحنا» ثم إنه إذا لم يقصد به الإحماض بل يقصد به الإضلال لم يكن عليه مزيد في القبح ولا سيما إذا كان مع اشتغاله بلهو الحديث مستكبرا عن آيات الله التي هي محض الحكمة كما قال (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً) ومحل (كَأَنْ لَمْ) (يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً) نصب على الحال قال جار الله : الأولى حال من ضمير (مُسْتَكْبِراً) والثانية من (لَمْ يَسْمَعْها) قلت : هذا بناء على تجويز الحال المتداخلة وإلا فمن الجائز أن يكون كل منهما و (مُسْتَكْبِراً) حالا من فاعل (وَلَّى) أي مستكبرا مشابها لمن لم يسمعها مشابها لمن في أذنيه وقر. وجوز أن يكونا مستأنفين وتقدير كأن المخففة كأنه والضمير للشأن ، قال أهل البرهان : هذه الآية والتي في الجاثية نزلتا باتفاق المفسرين في النضر إلا أنه بالغ هاهنا في ذمه لتركه استماع القرآن فقال بعد قوله (كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً) أي صمما لا يقرع مسامعه صوت ، فإن عدم السماع أعم من أن يكون بوقر الأذن أو بنحو غفلة. وترك الجملة الثانية في «الجاثية» لأنه لم يبن الكلام هنالك على المبالغة بدليل قوله (وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً) [الجاثية : ٩] والعلم لا يحصل إلا بالسماع أو ما يقوم مقامه من خط وغيره. وحين بين

٤٢٣

وعيد أعداء الدين بين حال أولياء الله بقوله (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) الآية. وقد مر مثله مرارا وفي قوله (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) إشارة إلى أنه لا غالب ولا مناوىء ، يعطي النعيم من شاء والبؤس من شاء حسب ما تقتضيه حكمته وعدله. ثم بين عزته وحكمته بقوله (خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ) وقد مر في أول «الرعد». وقوله (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ) مذكور في أول «النحل» و (مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) ذكر في أول الشعراء. (هذا) الذي ذكر من السموات بكيفياتها والأرض بهيآتها بسائطها ومركباتها (خَلْقُ اللهِ) أي مخلوقه (فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) وهم الآلهة بزعمهم. وهذا أمر تعجيز وتبكيت فلهذا سجل عليهم بالضلال المبين. ثم بين فساد اعتقاد أهل الشرك بأنه مخالف أيضا لعقيدة الحكماء الذين يعولون على المعقول الصرف منهم لقمان بن باعوراء ابن أخت أيوب أو ابن خالته أو من أولاد آزر ، عاش ألف سنة وأدرك داود عليه‌السلام وأخذ منه العلم ، وكان يفتي قبل مبعث داود عليه‌السلام ، فلما بعث قطع الفتوى فقيل له؟ فقال : ألا أكتفي إذا كفيت وأكثر الأقاويل أنه كان حكيما. عن ابن عباس : لقمان لم يكن نبيا ولا ملكا ولكن كان راعيا أسود فرزقه الله العتق ورضي الله قوله «ووصيته» وحكاها في القرآن. وقيل : خير بين النبوة والحكمة فاختار الحكمة. وقال عكرمة والشعبي : كان نبيا. روي أنه دخل على داود عليه‌السلام وهو يسرد وقد لين الله له الحديد ، فأراد أن يسأله فأدركته الحكمة فسكت ، فلما أتمها لبسها وقال : نعم لبوس الحرب أنت. فقال : الصمت حكمة وقليل فاعله. فقال له داود عليه‌السلام : بحق ما سميت حكيما. وروي أن مولاه أمره بذبح شاة وبأن يخرج منها أطيب مضغتين فأخرج اللسان والقلب ، ثم أمره بمثل ذلك بعد أيام وأن يخرج أخبث مضغتين فأخرج اللسان والقلب أيضا فسأله عن ذلك فقال : هما أطيب ما فيها إذا طابا ، وأخبث ما فيها إذا خبثا.

ثم فسر الحكمة بقوله (أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ) لأن إيتاء الحكمة في معنى القول. قال العلماء : هذا أمر تكوين أي جعلناه شاكرا فإن أمر التكليف يستوي فيه الجاهل والحكيم ، وفيه تنبيه على أن شكر المعبود الحق رأس كل العبادة وسنام الحكمة وفائدته ترجع إلى العبد لا إلى المعبود فإنه غني عن شكر الشاكرين مستحق للحمد وإن لم يكن على وجه الأرض حامد. وحين بين كماله شرع في تكميله وذلك لابنه المسمى أنعم أو أشكم. قيل : كان ابنه وامرأته كافرين فما زال يعظهما حتى أسلما. ووجه كون الشرك ظلما عظيما أنه وضع فيه أخس الأشياء ـ وهو الفقير المطلق ـ موضع أشرف الأشياء ـ وهو الغني المطلق ـ ثم وصى الله سبحانه الإنسان بشكر إنعام الوالدين وبطاعتهما وإن كانا كافرين إلا أن يدعواه إلى الإشراك بالله. وهذه جملة معترضة نيط باعتراضها غرضان : أحدهما أن طاعة الأبوين تالية

٤٢٤

لعبادة الله ، والثاني تأكيد كون الشرك أمرا فظيعا منكرا حتى إنه يلزم فيه مخالفة من يجب طاعته. وقوله (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً) أي حال كونها تهن وهنا (عَلى وَهْنٍ) أي ضعفا على ضعف ، لأن الحمل كلما زاد وعظم ازدادت ثقلا وضعفا ، اعتراض في اعتراض تحريضا على رعاية حق الوالدة خصوصا. روى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أنه قال : قلت : يا رسول الله من أبر؟ قال : أمك ثم أمك ثم أباك. وقوله (وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ) توقيت للفطام كما مر في «البقرة» في قوله (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) [البقرة : ٢٣٣] وفيه تنبيه آخر على ما كابدته الأم من المشاق. ومعنى (مَعْرُوفاً) صحابا أو مصاحبا معروفا على ما يقتضيه العرف والشرع. وفي قوله (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَ) إشارة أخرى إلى أنهما لو لم يكونا منيبين إلى الرب لم يتبع سبيلهما في الدين وإن لزم طاعتهما في الدنيا وفي باب حسن العشرة والصحبة. واتفق المفسرون على أن هذه الآية ونظيرتها التي في «العنكبوت» وفي «الأحقاف» نزلت في سعد بن أبي وقاص وفي أمه حمنة بنت أبي سفيان ، وذلك أنه حين أسلم قالت : يا سعد ، بلغني أنك قد صبأت ، فو الله لا يظلني سقف بيت وإن الطعام والشراب عليّ حرام حتى تكفر بمحمد ـ وكان أحب ولدها إليها «فأبى سعد وبقيت ثلاثة أيام كذلك فجاء سعد إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشكا إليه فنزلت هذه الآيات ، فأمره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يتراضاها بالإحسان وإنما لم يذكر في هذه السورة قوله (حُسْناً) لأن قوله (أَنِ اشْكُرْ) قام مقامه ، وإنما قال هاهنا (وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ) لأنه أراد وإن حملاك على الإشراك ، وقال في العنكبوت (لِتُشْرِكَ) [العنكبوت : ٨] موافقة لما قبله فإنما يجاهد لنفسه مع أن مبني الكلام هناك الاختصار. وحين وصف نفسه بكماله في خاتمة الآية بقوله (فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أتبعه ما يناسبه من وصايا لقمان وهو قوله (يا بُنَيَّ إِنَّها) أي القصة (إِنْ تَكُ) أي الحبة من الإساءة أو الإحسان في الصغر كحبة الخردل ويجوز أن يقال : الحبة إن تك كحبة الخردل. ومن قرأ (مِثْقالَ) بالرفع تعين أن يكون الضمير في (إِنَّها) للقصة وتأنيث (تَكُ) لإضافة المثقال إلى الحبة. وروي أن ابن لقمان قال له : أرأيت الحبة تكون في مقل البحر أي في مغاصه يعلمها الله؟ إن الله يعلم أصغر الأشياء في أخفى الأمكنة لأن الحبة في الصخرة أخفى منها في الماء.

سؤال : الصخرة لا بد أن تكون في السموات أو في الأرض فما الفائدة في ذكرها؟ الجواب على قول الظاهريين من المفسرين ظاهر لأنهم قالوا : الصخرة هي التي عليها الثور وهي لا في الأرض ولا في السماء. وقال أهل الأدب : فيه إضمار والمراد في صخرة أو في موضع آخر من السموات والأرض ومثله قول جار الله ، أراد فكانت مع صغرها في أخفى

٤٢٥

موضع وأحرزه كجوف الصخرة أو حيث كانت في العالم العلوي أو السفلي ، وقال أهل التحقيق : إن خفاء الشيء يكون إما لغاية صغره ، وإما لاحتجابه ، وإما لكونه بعيدا ، وإما لكونه في ظلمة. فأشار إلى الأول بقوله (مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ) وإلى الثاني بقوله (فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ) وإلى الثالث بقوله (أَوْ فِي السَّماواتِ) وإلى الرابع بقوله (أَوْ فِي الْأَرْضِ) وقوله (يَأْتِ بِهَا اللهُ) أبلغ من قول القائل «يعلمه الله» ففيه مع العلم بمكانه إظهار القدرة على الإتيان به (إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ) نافذ القدرة (خَبِيرٌ) ببواطن الأمور ، وحين منع ابنه من الشرك وخوفه بعلم الله وقدرته أمره بمكارم الأخلاق والعادات وأولها الصلاة ، وفيها تعظيم المعبود الحق ، وبعدها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فبهما تتم الشفقة على خلق الله. وقوله (وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ) من أذيات الخلق في البأس ، أو هو مطلق في كل ما يصيبه من المصائب والمكاره (إِنَّ ذلِكَ) المذكور (مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) أي من معزوماتها من عزم الأمر بالنصب إذا قطعه قطع إيجاب وإلزام ، ومنه العزيمة خلاف الرخصة ، أو من عزم الأمر بالرفع أي جد وقد مر في آخر «آل عمران». وحين أمره بأن يكون كاملا في نفسه مكملا لغيره وكان يخشى عليه أن يتكبر على الغير بسبب كونه مكملا له أو يتبختر في النفس بسبب كونه كاملا في نفسه قال (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ) يقال : أصعر خدّه وصعره وصاعره من الصعر بفتحتين وهو داء يصيب البعير يلوي منه عنقه. والمعنى : أقبل على الناس بكل وجهك تواضعا لا بشق الوجه كعادة المتكبرين. ومعنى (لا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً) مذكور في سورة «سبحان الذي» والمختال والفخور مذكوران في سورة النساء. فالمختال هو الماشي لأجل الفرح والنشاط لا لمصلحة دينية أو دنيوية ، والفخور هو المصعر خده ، بين أن الله لا يحبهما فيلزم الاجتناب عن الاتصاف بصفتهما. ثم أمره عند الاحتياج إلى المشي لضرورة بالمشي القصد أي الوسط بين السرعة والإبطاء على قياس سائر الأخلاق والآداب فخير الأمور أوساطها ، ومثله غض الصوت حين التكلم. قال أهل البيان : في تشبيه الرافعين أصواتهم بالحمير التي هي مثل في البلادة حتى استهجن التلفظ باسمها في أغلب الأمر ، وفي تمثيل أصواتهم بالنهاق ثم إخلاء الكلام عن أداة التشبيه وإخراجه مخرج الاستعارة ، تنبيه على أن الإفراط في رفع الصوت من غير ضرورة ولا فائدة مكروه عند الله جدا ، واشتقاق أنكر من النكر ليكون على القياس لا من المنكر والحمير جمع الحمار ، وإنما لم يقل أصوات الحمير لأن المراد أن كل جنس من الحيوان الناطق وغير الناطق له صوت ، وإن أنكر أصوات هذه الأجناس صوت أفراد هذا الجنس. قال بعض العقلاء : من نكر صوت هذا الحيوان أنه لو مات تحت الحمل لا يصيح ولو قتل لا يصيح وفي أوقات عدم الحاجة يصيح وينهق ، وأما سائر الحيوانات فلا يصيح إلا لحاجة قالوا : ومن فوائد عطف الأمر بغض

٤٢٦

الصوت على الأمر بالقصد في المشي ، أن الحيوان يتوصل إلى مطلوبه بالمشي فإن عجز عن ذلك فبالتصويت والنداء كالغنم تطلب السخلة ، ومنها أن الإنسان له عقيدة ولسان وجوارح يتحرك بها كسائر الحيوانات فأشار إلى الأولى بقوله (إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ) أي أصلح ضميرك فإن الله خبير ، وأشار إلى التوسط في أفعال الجوارح بقوله (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) وإلى التوسط في الأقوال بقوله (اغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ) أو نقول : أشار بقوله (أَقِمِ الصَّلاةَ) إلى الأوصاف الملكية التي يجب أن تكون في الإنسان ، وبقوله (وَأْمُرْ) إلى قوله (مَرَحاً) إلى الأوصاف الفاضلة الإنسانية ، وبقوله (وَاقْصِدْ وَاغْضُضْ) إلى الأوصاف التي يشارك فيها الإنسان سائر الحيوان والله تعالى أعلم.

التأويل : (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) هي للعوام مقادير معينة من المال كربع العشر من عشرين ، وللخواص إخراج كل المال في سبيل الله ، ولأخص الخواص بذل الوجود لنيل المقصود (لَهْوَ الْحَدِيثِ) قال الجنيد : السماع على أهل النفوس حرام لبقاء نفوسهم ، وعلى أهل القلوب مباح لوفور علومهم وصفاء قلوبهم ، وعلى أصحابنا واجب لفناء حظوظهم. (وَإِذْ قالَ لُقْمانُ) القلب (لِابْنِهِ) السر المتولد من ازدواج الروح والقلب (وَهُوَ يَعِظُهُ) أن لا يتصف بصفات النفس العابدة للشيطان والهوى والدنيا (فِي عامَيْنِ) يريد فطامه عن مألوفات الدارين (وَإِنْ جاهَداكَ) فيه أن السر لا ينبغي له أن يلتفت إلى الروح أو القلب إذا اشتغلا بغير الله في أوقات الفترات ، فإن الروح قد يميل إلى مجانسه من الروحانيات ، والقلب يميل تارة إلى الروح ، وأخرى إلى النفس ولكنه يرجى الصلاة بعد الفترة ، وأما السر فإذا زال عن طبيعته وهو الإخلاص في التوحيد فإصلاح حاله ممكن بعيد. (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَ) وهو الخفي. (إِنَّها إِنْ تَكُ) يعني القسمة الأزلية من السعادة وضدها (لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) قالوا : هو الصوفي يتكلم قبل أوانه.

(أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٢٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٢١) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٢٢) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٣) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (٢٤) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٥) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٦) وَلَوْ أَنَّ ما فِي

٤٢٧

الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٧) ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٢٨) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٩) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٣٠) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣١) وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (٣٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (٣٣) إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (٣٤))

القراآت : (نِعَمَهُ) على الجمع : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وسهل وحفص والبحر بالنصب : أبو عمرو ويعقوب عطفا على اسم «أن» الآخرون : بالرفع حملا على محل «أن» ومعمولها (وَأَنَّ ما يَدْعُونَ) على الغيبة : أبو عمرو وحمزة وعلي وخلف وحفص وسهل ويعقوب (وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) التشديد : أبو جعفر ونافع وابن كثير وابن عامر وعاصم.

الوقوف : (وَباطِنَةً) ط (مُنِيرٍ) ه (آباءَنا) ط (السَّعِيرِ) ه (الْوُثْقى) ط (الْأُمُورِ) ه (كُفْرُهُ) ه (عَمِلُوا) ط (الصُّدُورِ) ه (غَلِيظٍ) ه (لَيَقُولُنَّ اللهُ) ط (لِلَّهِ) ط (لا يَعْلَمُونَ) ه (وَالْأَرْضِ) ط (الْحَمِيدُ) ه (كَلِماتُ اللهِ) ط (حَكِيمٌ) ه (واحِدَةٍ) ط (بَصِيرٌ) ه (وَالْقَمَرَ) ز لأن قوله (كُلٌ) مبتدأ مع عطف «أن» على «أن» الأولى (خَبِيرٌ) ه (الْباطِلُ) لا (الْكَبِيرُ) ه (مِنْ آياتِهِ) ط (شَكُورٍ) ه (الدِّينَ) ج (مُقْتَصِدٌ) ط (كَفُورٍ) ه (عَنْ وَلَدِهِ) لا لعطف الجملتين المختلفتين لفظا مع صدق الاتصال معنى (شَيْئاً) ط (الدُّنْيا) قف للفصل بين الموعظتين (الْغَرُورُ) ه (السَّاعَةِ) ج لاختلاف الجملتين (الْغَيْثَ) ج وإن اتفقت الجملتان للتفصيل بين عيب وغيب (الْأَرْحامِ) ط لابتداء الجملة المنفية التي فيها استفهام (غَداً) ط لابتداء نفي آخر مع تكرار نفس دون الاكتفاء بضميرها (تَمُوتُ) ط (خَبِيرٌ) ه.

التفسير : لما ذكر أن معرفة الصانع غير مختصة بالنبوة ولكنها توافق الحكمة أيضا ،

٤٢٨

ولو كانت تعبدا محضا للزم قبوله ، كيف وإنها توافق المعقول ، أعاد الاستدلال بالأمور المشاهدة الآفاقية والأنفسية. ومعنى (سَخَّرَ لَكُمْ) لأجلكم كما مر في سورة إبراهيم من قوله (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ) [إبراهيم : ٣٣] الآية ومعنى (أَسْبَغَ) أتم ، والنعم الظاهرة كل ما يوجد للحس الظاهر إليه سبيل ومن جملتها الحواس أنفسها. والباطنة ما لا يدرك إلا بالحس الباطن أو بالعقل أو لا يعلم أصلا. ومن المفسرين من يخص ، فعن مجاهد : الظاهرة ظهور الإسلام والنصر على الأعداء ظاهرا ، والباطنة إمداد الملائكة. وعن الضحاك : الظاهرة حسن الصورة وامتداد القامة وتسوية الأعضاء والباطنة المعرفة والعلم. وقيل : النفس. ثم ذكر أن بعض الناس يجادلون في الله بعد ظهور الدلائل على وحدانيته وقد مر في أول «الحج». ثم ذكر أنه لا مستند له في ذلك إلا التقليد ، ثم وبخه على جهله وتقليده بأنه يتبع سبيل الشيطان ولو دعاه إلى النار قائلا (أَوَلَوْ كانَ) إلخ. ومعناه أيتبعونهم ولو كان كذا؟ ثم أراد أن يفصل حال المؤمن والكافر بعض التفصيل فقال (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ) وهو نظير قوله في «البقرة» (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) [الآية : ١١٢] والفرق أن معناه مع «إلى» يرجع إلى التفويض والتسليم ، ومع اللام يؤل إلى الإخلاص والإذعان والاستمساك بالعروة الوثقى تمثيل كما مر في آية الكرسي. وقوله يمتعهم الآية. كقوله في البقرة (وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ) [الآية : ١٢٦] وغلظ العذاب شدته. ثم بين أنهم معترفون بالمعبود الحق إلا أنهم يشركون به وقد مر في آخر «العنكبوت» مثله إلا أنه قال في آخره (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) وذلك أنه زاد هناك قوله (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) [الرعد : ٢] فبالغ ، فإن نفي العقل أبلغ من نفي العلم إذ كل عالم عاقل ولا ينعكس. ثم ذكر أن الملك كله له وهو غني على الإطلاق حميد بالاستحقاق. وحين بين غاية قدرته أراد أن يبين أنه لا نهاية لعلمه فقال (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ) الآية. عن ابن عباس : أنها نزلت جوابا لليهود وأن التوراة فيها كل الحكمة. وقيل : هي جواب قول المشركين أن الوحي سينفد. وتقدير الآية على قراءة الرفع : لو ثبت كون الأشجار أقلاما وثبت البحر ممدودا بسبعة أبحر. ويجوز أن تكون الجملة حالا واللام في البحر للجنس. وجعل جنس البحار ممدودا بالسبعة للتكثير لا للتقدير ، فإن كثيرا من الأشياء عددها سبعة كالسيارات السبعة والأقاليم السبعة وأيام الأسبوع ومثله قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «المؤمن يأكل في معا واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء» (١) أراد الأكل الكثير. وقال في الكشاف جعل البحر الأعظم بمنزلة الدواة ، وجعل

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الأطعمة باب ١٢. مسلم في كتاب الأشربة حديث ١٨٢ ـ ١٨٦. الترمذي في كتاب الأطعمة باب ٢٠ ابن ماجة في كتاب الأطعمة باب ٣. الدارمي في كتاب الأطعمة باب ١٣. الموطأ في كتاب صفة النبي حديث ٩ ، ١٠. أحمد في مسنده (٢ / ٢١ ، ٤٣) (٤ / ٣٣٦).

٤٢٩

الأبحر السبعة مملوأة مدادا ، فهي تصب فيه مدادها أبدا صبا لا ينقطع. قلت : جعله الأبحر سبعة تقديرا ينافي قوله «أبدا لا ينقطع» وإنما لم يجعل للأقلام مدادا لأن نقصان المداد بالكتابة أظهر من نقصان القلم. وإنما لم يقل «كلم الله» على جمع الكثرة للمبالغة إذ يفهم منه أن كلماته لا تفي بكتبتها البحار فكيف بكلمة؟ وقيل : أراد بكلماته عجائب مصنوعاته الموجودة بكلمة «كن» وقد مر نظير هذه الآية في آخر الكهف. ثم بين أنه لا يصعب على قدرته كثرة الإيجاد والإعدام فإن تعلق قدرته بمقدور واحد كتعلقها بمقدورات غير محصورة لأن اقتداره لا يتوقف على آلة وعدة وإنما ذلك له ذاتي يكفي فيه الإرادة. ثم أكد ذلك بأن سمعه يتعلق في زمان واحد بكل المسموعات ، وكذا بصره بكل المبصرات من غير أن يشغله شيء عن شيء. ثم أعاد طرفا من دلائل قدرته مع تذكير بعض نعمه قائلا (أَلَمْ تَرَ) وقد مر نظيره في «الحج» إلى قوله (الْكَبِيرُ) وقوله هاهنا (يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) وقوله في «فاطر» و «الزمر» (لِأَجَلٍ مُسَمًّى) [الزمر : ٥ ، فاطر : ١٣] يؤل إلى معنى واحد وإن كان الطريق مغايرا ، لأن الأول معناه انتهاؤهما إلى وقت معلوم وهو للشمس آخر السنة وللقمر آخر الشهر. وعن الحسن : هو يوم القيامة لأن جريهما لا ينقطع إلا وقتئذ. والثاني معناه اختصاص الجري بإدراك أجل معلوم كما وصفنا. ووجه اختصاص هذا المقام بإلى وغيره باللام ، أن هذه الآية صدّرت بالتعجيب فناسب التطويل. والمشار إليه بذلك هو ما وصف من عجيب قدرته أو أراد أن الموحى من هذه الآيات بسبب بيان أن الله هو الحق. قال بعضهم (الْعَلِيُ) إشارة إلى كونه تماما وهو أنه حصل له كما ينبغي أن يكون له. و (الْكَبِيرُ) إشارة إلى كونه فوق التمام وهو أنه يحصل لغيره ما يحتاج إليه. ثم أكد الآية السماوية بالآية الأرضية. ومعنى (بِنِعْمَتِهِ) بإحسانه ورحمته أو بالريح الطبية التي هي بأمر الله (إِنَّ فِي ذلِكَ) الإجراء (لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ) على الضراء (شَكُورٍ) في السراء. ووجه المناسبة أن كلتا الحالتين قد يقع لراكب البحر أو صبار على النواحي والتروك شكور في الأفعال والأوامر ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الإيمان نصفان : نصف صبر ونصف شكر». ثم ذكر أن بعض الناس لا يخلص لله إلا عند الشدائد ، وإنما وحد الموج وجمع الظلل وهي كل ما أظلك من جبل أو سحاب ، لأن الموج الواحد يرى له صعود ونزول كالجبال المتلاصقة. وإنما قال هاهنا.

(فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) وقد قال فيما قبل (إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) [العنكبوت : ٦٥] لأنه ذكر هاهنا الموج وعظمته ولا محالة يبقى لمثله أثر في الخيال فيخفض شيئا من غلو الكفر والظلم وينزجر بعض الانزجار ، ويلزمه أن يكون متوسطا في الإخلاص أيضا لا غاليا فيه ، وقل مؤمن قد ثبت على ما عاهد عليه الله في البحر. والختر أشد الغدر ومنه قولهم «لا تمد لنا شبرا من غدر إلا

٤٣٠

مددنا لك باعا من ختر». والختار في مقابلة الصبار لأن الختر لا يصدر إلا من عدم الصبر وقلة الاعتماد على الله في دفع المكروه. والكفور طباق الشكور. وحين بيّن الدلائل وعظ بالتقوى وخوف من هول يوم القيامة. ومعنى (لا يَجْزِي) لا يقضي كما مر في أول «البقرة». وذكر شخصين في غاية الشفقة والمحبة وهما الوالد والولد ليلزم منه عدم الانتفاع بغيرهما بالأولى ، وفيه إشارة إلى ما جرت به العادة من أن الأب يتحمل الآلام عن ابنه ما أمكن ، والولد يتحمل الإهانة عن الأب ما أمكن ، فكأنه قال : لا يجزى فيه (والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ) شيئا من الآلام (وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً) من أسباب الإهانة. قال جار الله : إنما أوردت الجملة الثانية اسمية لأجل التوكيد. وذلك أن الخطاب للمؤمنين فأراد حسم أطماعهم أن يشفعوا لآبائهم الكفرة وفي توسيط «هو» مزيد تأكيد. وفي لفظ (الْمَوْلُودِ) دون أن يقول «ولا ولد» تأكيد آخر ، لأن الولد يقع على ولد الولد أيضا بخلاف المولود فإنه لمن ولد منك فكأنه قيل : إن الواحد منهم لو شفع للأب الأدنى الذي ولد منه لم تقبل شفاعته فضلا أن يشفع لمن فوقه. وقيل : إنما أوردت الثانية اسمية لأن الابن من شأنه أن يكون جازيا عن والده لما عليه من الحقوق والوالد يجزي شفقة لا وجوبا (إِنَّ وَعْدَ اللهِ) بمجيء ذلك اليوم (حَقٌ) أو وعده بعدم جزاء الوالد عن الولد وبالعكس حق. و (الْغَرُورُ) بناء مبالغة وهو الشيطان أي لا ينبغي أن تغرنكم الدنيا بنفسها ويزينها في أعينكم غار من الشيطان أو النفس الأمارة. روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «مفاتيح الغيب خمس» وتلا قوله (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) (١) إلى آخرها. وعن المنصور ، أنه همه معرفة مدة عمره فرأى في منامه كأن خيالا أخرج يده من البحر وأشار إليه بالأصابع الخمس. فاستفتى العلماء في ذلك فتأولوها بخمس سنين وبخمسة أشهر وبغير ذلك حتى قال أبو حنيفة : تأويلها أن مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله ، وأن ما طلبت معرفته لا سبيل لك إليه. قال في التفسير الكبير : ليس مقصود الآية أنه تعالى مختص بمعرفة هذه الأمور فقط فإنه يعلم الجوهر الفرد أين هو وكيف هو من أول يوم خلق العالم إلى يوم النشور ، وإنما المراد أنه تعالى حذر الناس من يوم القيامة. كان لقائل أن يقول : متى الساعة؟ فذكر أن هذا العلم لا يحصل لغيره ولكن هو كائن لدليلين ذكرهما مرارا وهو إنزال الغيث المستلزم لإحياء الأرض وخلق الأجنة في الأرحام ، فإن القادر على الإبداء قادر على الإعادة بالأولى. ثم إنه كأنه قال : أيها السائل إن لك شيئا أهم منها لا تعلمه فإنك لا تعلم معاشك ومعادك فلا تعلم (ما ذا تَكْسِبُ غَداً) مع أنه فعلك وزمانك ولا

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب تفسير سورة ٦ باب ١. مسلم في كتاب الإيمان حديث ٥ ، ٧. النسائي في كتاب الإيمان باب ٦. أحمد في مسنده (٢ / ٢٤ ، ٥٢) (٤ / ١٣).

٤٣١

تعلم أين تموت مع أنه شغلك ومكانك فكيف تعلم قيام الساعة؟ والسر في إخفاء الساعة وإخفاء وقت الموت بل مكانه هو أنه ينافي التكليف كما مر في أول «طه» ، ولو علم المكلف مكان موته لأمن الموت إذا كان في غيره. والسر في إخفاء الكسب في غير الوقت الحاضر هو أن يكون المكلف أبدا مشغول السر بالله معتمدا عليه في أسباب الرزق وغيره. روي أن ملك الموت مر على سليمان عليه‌السلام فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه. فقال الرجل : من هذا؟ قال : ملك الموت. فقال : كأنه يريدني. وسأل سليمان أن يحمله على الريح إلى بلاد الهند ففعل. ثم قال ملك الموت لسليمان : كان نظري إليه تعجبا منه لأني أمرت أن أقبض روحه بالهند وهو عندك. قال جار الله : جعل العلم لله والدراية للعبد لما في الدراية من معنى الختل والحيلة كأنه قال : إنها لا تعرف وإن أعلمت حيلها وقرىء بأية أرض والأفصح عدم تأنيثه.

التأويل : (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً) هي تسخير ما في السموات وما في الأرض من الأجسام العلوية والسفلية ، البسيطة والمركبة. وباطنة هي تسخير ما في سموات القلوب من الصدق والإخلاص والتوكل والشكر وسائر المقامات القلبية والروحانية بأن يسر العيون عليها بالسكون المتدارك بالجذبة والانتفاع بمنافعها والاجتناب عن مضارها. وتسخير ما في أرض النفوس من أضداد الأخلاق المذكورة بتبديلها بالحميدة والتمتع بخواصها والتحرز عن آفاتها. (ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ) لفساد استعدادهم (تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ) سلامتهم في الظاهر معلومة ، وأما في الباطن فنجاتهم بسفائن العصمة من بحار القدرة أو بسفينة الشريعة بملابسة الطريقة في بحر الحقيقة لإراءة آيات شواهد الحق ، وإذا تلاطمت عليهم أمواج بحار التقدير تمنوا أن تلفظهم نفحات الألطاف إلى سواحل الأعطاف.

٤٣٢

(سورة ألم السجدة حروفها ألف وخمسمائة وثمانية عشر

كلماتها ثلاثمائة وثمانون آياتها ثلاثون مكية

إلا قوله (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً) إلى ثلاث آيات)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣) اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٤) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٥) ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (٧) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٨) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٩) وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (١٠) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١١) وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (١٢) وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٣) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٤) إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (١٥) تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (١٦) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٧) أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (١٨) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا

٤٣٣

الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٩) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٠) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢١) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (٢٢) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٢٣) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (٢٤) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٢٥) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (٢٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (٢٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٨) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٢٩) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (٣٠))

القراآت : (خَلَقَهُ) بفتح اللام : عاصم وحمزة وعلي وخلف ونافع وسهل. الآخرون : بالسكون على البدل من كل شيء. وعلى الأول يكون وصفا له (أَإِذا أَإِنَّا) كما في «الرعد» (ما أُخْفِيَ) بسكون الياء على أنه فعل مضارع متكلم : حمزة. الباقون : بفتحها على أنه فعل ماض مجهول (لَمَّا صَبَرُوا) بكسر اللام وتخفيف الميم : حمزة وعلي ورويس. الباقون : بفتح اللام وتشديد الميم أولم نهد بالنون : يزيد عن يعقوب.

الوقوف : (الم) ه كوفي (الْعالَمِينَ) ه ط لأن «أم» استفهام تقريع غير عاطفة بل هي منقطعة (افْتَراهُ) ج لعطف الجملتين المختلفتين (يَهْتَدُونَ) ه (الْعَرْشِ) ط (شَفِيعٍ) ه (تَتَذَكَّرُونَ) ه ط (تَعُدُّونَ) ه (الرَّحِيمُ) ط (مِنْ طِينٍ) ه ج لأن «ثم» لترتيب الأخبار (مَهِينٍ) ه ج لذلك (وَالْأَفْئِدَةَ) ط (تَشْكُرُونَ) ه (جَدِيدٍ) ه (كافِرُونَ) ه (تُرْجَعُونَ) ه (عِنْدَ رَبِّهِمْ) ط لحق القول المحذوف (مُوقِنُونَ) ه (أَجْمَعِينَ) ه (هذا) ج للابتداء بان مع تكرار (وَذُوقُوا تَعْمَلُونَ) ه (لا يَسْتَكْبِرُونَ) ه (وَطَمَعاً) ز لانقطاع النظم بتقديم المفعول (يُنْفِقُونَ) ه (أَعْيُنٍ) ج لأن (جَزاءً) يحتمل أن يكون مفعولا له وأن يكون مصدرا لفعل محذوف (يَعْمَلُونَ) ه (فاسِقاً) ط لانتهاء الاستفهام إلى الأخبار (لا يَسْتَوُونَ) ه (الْمَأْوى) ز لمثل ما مر في (جَزاءً يَعْمَلُونَ) ه (النَّارُ) ط (تُكَذِّبُونَ) ه (يَرْجِعُونَ) ه (عَنْها) ط (مُنْتَقِمُونَ) ه (إِسْرائِيلَ) ه ج وإن اتفقت الجملتان للعدول عن ضمير المفعول الأول وهو واحد إلى ضمير الجمع في الثانية (صَبَرُوا) ط لمن شدد

٤٣٤

(يُوقِنُونَ) ه (يَخْتَلِفُونَ) ه (مَساكِنِهِمْ) ط (لَآياتٍ) ط (يَسْمَعُونَ) ه (وَأَنْفُسُهُمْ) ط (يُبْصِرُونَ) ه (صادِقِينَ) ه (يُنْظَرُونَ) ه (مُنْتَظِرُونَ) ه.

التفسير : لما ذكر في السورة المتقدمة دلائل الوحدانية ودلائل الحشر وهما الطرفان ، بدأ في هذه السورة ببيان الأمر الأوسط وهو الرسالة المصححة ببرهان القرآن. وإعرابه قريب من قوله (الم ذلِكَ الْكِتابُ) [البقرة : ١ ـ ٢] وميل جار الله إلى قوله (تَنْزِيلُ الْكِتابِ) مبتدأ خبره (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) ولا ريب فيه اعتراض لا محل له والضمير في (فِيهِ) راجع إلى مضمون الجملة أي لا ريب في كونه منزلا من عنده. ويمكن أن يقال : في وجه النظم لما عرّف في أول السورة المتقدمة أن القرآن هدى ورحمة قال هاهنا : إنه من رب العالمين ، وذلك أن من عثر على كتاب سأل أولا أنه في أي علم. فإذا قيل : إنه في الفقه أو التفسير. سأل : إنه تصنيف أي شخص؟ ففي تخصيص رب العالمين بالمقام إشارة إلى أن كتاب رب العالمين لا بد أن يكون فيه عجائب للعالمين فترغب النفس في مطالعته. ثم أضرب عما ذكر قائلا (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) وهو تعجيب من قولهم لظهور أمر القرآن في تعجيز بلغائهم عن مثل سورة الكوثر. ثم أضرب عن الإنكار إلى إثبات أنه الحق من ربك. ومعنى (لِتُنْذِرَ قَوْماً) قد مر في «القصص» ويندرج فيهم أهل الكتاب إذ يصدق عليهم أنه لم يأتهم نذير بعد ضلالهم سوى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولو لم يندرجوا لم يضرّ فإن تخصيص قوم بالذكر لا يدل على نفي من عداهم كقوله (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) [الشعراء : ٢١٤] وحين بين الرسالة بين ما على الرسول من الدعاء إلى التوحيد فقال (اللهُ) مبتدأ خبره ما يتلوه وقد مر نظائره. وقوله (ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) إثبات للولاية والشفاعة أي النصرة من عنده ونفي لهما من غيره ، وفيه تجهيل لعبدة الأصنام الزاعمين أنها شفعاؤهم بعد اعترافهم بأن خالق الكل هو الله سبحانه. ولما بين الخلق شرع في الأمر فقال (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) أي المأمور به من الطاعات والأعمال الصالحة ينزله مدبرا من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه ذلك العمل في يوم طويل ، وهو كناية عن قلة الإخلاص لأنه لا يوصف بالصعود ولا يقوى على العروج إلا العمل الخالص ، يؤيد هذا التفسير قوله فيما بعد (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) أو يدبر أمر الدنيا كلها من السماء إلى الأرض لكل يوم من أيام الله وهو ألف سنة ، ثم يصعد إليه مكتوبا في الصحف في كل جزء من أجزاء ذلك اليوم إلخ. ثم يدبر الأمر ليوم آخر مثله وهلم جرا. أو ينزل الوحي مع جبرائيل ثم يرجع إليه ما كان من قبول الوحي. ورده مع جبرائيل أيضا وتقدير الزمان بألف سنة لأن ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام وأن الملك يقطعها في يوم واحد من أيامنا. وقيل : إنه إشارة إلى نفوذ الأمر ، فإن نفاذ الأمر كلما

٤٣٥

كان في مدة أكثر كان حاله أعلى أي يدبر الأمر في زمان يوم منه ألف سنة منه ، فكم يكون شهر منه وكم يكون سنة منه وكم يكون دهر منه؟ فلا فرق على هذا بين ألف سنة وبين خمسين ألف سنة كما في «المعارج». وقيل : إن هذه عبارة عن الشدة واستطالة أهلها إياها كالعادة في استطالة أيام الشدة والحزن واستقصار أيام الراحة والسرور. وخصت السورة بقوله (أَلْفَ سَنَةٍ) موافقة لما قبله وهو قوله (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) وتلك الأيام من جنس هذا اليوم. وخصت سورة المعارج بقوله (خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) [الآية : ٤] لأن فيها ذكر القيامة وأهوالها فكان هو اللائق بها. وعن عكرمة : إن اليوم في المعارج عبارة عن أول أيام الدنيا إلى انقضائها وأنها خمسون ألف سنة لا يدري أحدكم كم مضى وكم بقي إلا الله عزوجل. وبالجملة فالآية المتقدمة تدل على عظمة عالم الخلق وسعة مكانه ، والآية الثانية تدل على عظمة عالم الأمر وامتداد زمانه. ثم بين أنه مع غاية عظمة ملكه وملكوته عليم بأمر العالمين فقال (ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) وفي قوله (الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) إشارة إلى صفتي القهر واللطف اللتين ينبغي أن تكونا لكل ملك ، وإنما أخر (الرَّحِيمُ) مع أن رحمته سبقت غضبه ليوصله بقوله (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) نظيره (الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ) [طه : ٥٠] وقد مر في «طه». وعطف عليه تخصيصا بعد تعميم خلق الإنسان وهو آدم بدليل قوله (ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ) أي ذريته لأنها تنسل أي تنفصل ، والسلالة الخلاصة كما ذكرنا في أول «المؤمنين» ، وقوله (مِنْ ماءٍ) بدل من سلالة والمهين الحقير. ومعنى (سَوَّاهُ) قوّمه وأداره في الأطوار إلى حيث صلح لنفخ الروح فيه ، ثم عدل من الغيبة إلى الخطاب في قوله (وَجَعَلَ لَكُمُ) تنبيها على جسامة نعم هذه الجوارح وتوبيخا على قلة الشكر عليها. ثم بين عدم شكرهم بإنكارهم المعاد بعد مشاهدة الفطرة الأولى وليست الثانية بأصعب منها. والواو للعطف على ما سبق كأنهم قالوا : إن محمدا مفتر وقالوا : الله ليس بواحد (وَقالُوا أَإِذا) يعني أنهم وأسلافهم زعموا أن الحشر غير ممكن.

ومعنى (ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ) غبنا فيها إما بالدفن أو بتفرق الأجزاء وتلاشيها. والعامل في (أَإِذا) ما يدل عليه قوله (أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) وهو نبعث أو يجدد خلقنا. ثم صرح بإثبات كفرهم على الإطلاق واللقاء لقاء الجزاء الشامل لجميع أحوال الآخرة. ثم رد عليهم قولهم بالفوت بأنه يتوفاهم ملك الموت الموكل بقبض الأرواح ثم يرجعون إلى حكم الله وحده. ثم بين ما يكون من حالهم عند الرجوع بقوله (وَلَوْ تَرى) أنت يا محمد أوكل من له أهلية الخطاب (إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) خجلا وندامة قائلين (رَبَّنا أَبْصَرْنا) ما كنا شاكين في وقوعه (وَسَمِعْنا) منك تصديق رسلك وجواب «لو» محذوف

٤٣٦

وهو لرأيت أمرا فظيعا ، وجوزوا أن يكون «لو» للتمني كأنه جعل لنبيه تمني أن يراهم على تلك الصفة الفظيعة من الذل والهوان ليشمت بهم. ثم إنه سبحانه ألزمهم وألجمهم بقوله (وَلَوْ شِئْنا) الآية. وفيه أنه لو ردهم إلى الدنيا لم يهتدوا لأنهم خلقوا لجهنم القهر وقد مر نظيره في آخر «هود». ثم أكد إهانتهم بقوله (فَذُوقُوا) وانتصب (هذا) على أنه مفعول (فَذُوقُوا) وقوله (لِقاءَ) مفعول (نَسِيتُمْ) أي ذوقوا هذا العذاب بما نسيتم لقاء يومكم وذهلتم عنه بعد وضوح الدلائل أو تركتم الفكر فيه ، ويجوز أن يكون (هذا) صفة (يَوْمِكُمْ) ومفعول (ذُوقُوا) محذوف وهو العذاب و (لِقاءَ) مفعول (نَسِيتُمْ) أو هو مفعول (فَذُوقُوا) على حذف المضاف أي تبعة لقاء يومكم ويكون (نَسِيتُمْ) متروك المفعول أو محذوفه وهو الفكر في العاقبة. وقوله (إِنَّا نَسِيناكُمْ) من باب المقابلة والمراد تركهم من الرحمة نظيره (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ) [التوبة : ٦٧] وقوله (عَذابَ الْخُلْدِ) من باب إضافة الموصوف إلى الصفة في الظاهر نحو : رجل صدق. أمرهم على سبيل الإهانة بذوق عذاب الخزي والخجل ، ثم بذوق العذاب الخلد أعاذنا الله منه بفضله العميم ، ثم ذكر أن كما الإيمان بآيات الله من شأن الخلص من عباده الساجدين لله شكرا وتواضعا حين وعظوا بآيات ربهم منزهين له عما لا يليق بجنابه وجلاله متلبسين بحمده غير مستكبرين عن عبادته (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ) ترتفع وتتنحى عن مواضع النوم داعين ربهم أو عابدين له (خَوْفاً) من أليم عقابه (وَطَمَعاً) في عظيم ثوابه ، وفسره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقيام الليل وهو التهجد. قال : «إذا جمع الله الأولين والآخرين جاء مناد ينادي بصوت يسمع الخلائق كلهم سيعلم أهل الجمع اليوم من أولى بالكرم ثم يرجع ينادي ليقم الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع فيقومون وهم قليل ثم يرجع فينادي ليقم الذين كانوا يحمدون الله في البأساء والضراء فيقومون وهم قليل فيسرحون إلى الجنة ثم يحاسب سائر الناس.» (١) عن علي رضي‌الله‌عنه :

جنبي تجافى عن الوساد

خوفا من النار والمعاد

من خاف من سكرة المنايا

لم يدر ما لذة الرقاد

قد بلغ الزرع منتهاه

لا بد للزرع من حصاد

عن أنس بن مالك : كان أناس من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلون من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء الآخرة فنزلت فيهم. وقيل : هم الذين يصلون صلاة العتمة لا ينامون عنها.

__________________

(١) رواه أحمد في مسنده (٣ / ٦٨ ، ٧٦).

٤٣٧

و «ما» في قوله (ما أُخْفِيَ) موصولة ويجوز أن تكون استفهامية بمعنى أي شيء ، والمعنى لا تعلم نفس من النفوس لا ملك مقرب ولا نبي مرسل أي نوع عظيم من الثواب ادخر الله لأولئك مما تقرّ به عيونهم حتى لا تطمح إلى غيره ولا تطلب الفرح بما عداه. عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يقول الله تعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر بله ما أطلعتم عليه اقرؤا إن شئتم فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين» (١) وعن الحسن : أخفى القوم أعمالا في الدنيا فأخفى الله لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت. قال المحققون : إنه يصدر من العبد أعمال صالحة وقد صدر عن الرب أشياء سابقة من الخلق والتربية وغيرهما ، وأشياء لاحقة من الثواب والإكرام ، فلله تعالى أن يقول : أنا أحسنت أولا ، والعبد أحسن في مقابلته ، فالثواب تفضل من غير عوض. وله أن يقول : الذي فعلته أولا تفضل فإذا أتى العبد بالعمل الصالح جزيته خيرا لأن جزاء الإحسان إحسان ، وهذا الاعتبار الثاني أليق بالكرم ليذيق العبد لذة الأجر والكسب ، والاعتبار الأول أليق بالعبودية حتى يرى الفضل لله في جانب الأبد فإذن لا تنقطع المعاملة بين الله وبين العبد أبدا ، وتكون العبادة لهم في الآخرة بمنزلة التنفس للملائكة. يروى أنه شجر بين علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه والوليد بن عقبة بن أبي معيط يوم بدر كلام فقال له الوليد : اسكت فإنك صبي. فقال له علي : اسكت فإنك فاسق. فأنزل الله تعالى فيهما خاصة وفي أمثالهما من الفريقين عامة (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً) إلى آخر ثلاث آيات أو أربع. ومن أول الآية محمول على اللفظ وفي قوله (لا يَسْتَوُونَ) محمول على المعنى. ثم فصل عدم استوائهما بقوله (أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا) و (جَنَّاتُ الْمَأْوى) نوع من الجنان تأوي إليها أرواح الشهداء على قول ابن عباس. وقال بعضهم : هي عن يمين العرش. وفي لام التمليك في (فَلَهُمْ) مزيد تشريف وإيذان بأنهم لا يخرجون منها كما لا يخرج المالك من ملكه ولهذا لو قيل : هذه الدار لزيد يفهم منه الملكية بخلاف ما لو قيل : اسكن هذه الدار. فإنه يحمل على الإعارة وإنه تعالى قال لأبينا آدم (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) [البقرة : ٣٥] لأنه كان في علمه أنه يخرج منها. وإنما قيل هاهنا (عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ) وفي «سبأ» (عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها) [الآية : ٤٢] لأن النار في هذه السورة وقعت موقع الكناية لتقدم ذكرها ، الكنايات لا توصف فوصف العذاب. وفي «سبأ» لم يتقدم ذكر النار فحسن وصف النار.

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب التوحيد باب ٣٥. مسلم في كتاب الإيمان حديث ٣١٢ الترمذي في كتاب الجنة باب ١٥. ابن ماجة في كتاب الزهد باب ٢٩. الدارمي في كتاب الرقاق باب ٩٨. أحمد في مسنده (٢ / ٣١٣).

٤٣٨

وتكذيبهم العذاب هو أنهم كانوا يقولون في الدنيا إنه لا عذاب في الآخرة ، ويحتمل أن يراد بالتكذيب أنهم يقولون في الآخرة أول ما تأخذهم النار أنه لا عذاب فوق ما نحن فيه ، فإذا زاد الله لهم ألما على ألم وهو قوله (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها) صاروا كاذبين فيما زعموا أنه لا عذاب أزيد مما هم فيه ، وعلى هذا يمكن أن يراد بالخروج منها والإعادة فيها هو أن أبدانهم تألف النار وتتعودها فيقل الإحساس بها فيعيد الله عليهم إحساسهم الأول فيزيد تألمهم ، ومن هنا قالت الحكماء : إن الإحساس بحرارة حمى الدق أقل من الإحساس بحرارة الحمى البلغمية مع أن نسبة الدق إلى الثانية نسبة النار إلى الماء المسخن ، ونظيره أن الإنسان يضع يده في الماء البارد فيتألم أولا ، ثم إذا صبر زمانا طويلا زال ذلك الألم وذلك لبطلان حسه. ثم حتم على نفسه أنه يذيقهم عذاب الدنيا من القتل والأسر والقحط قبل أن يصلوا إلى عذاب الآخرة. وعن مجاهد : أن الأدنى هو عذاب القبر. وإنما لم يقل الأصغر في مقابلة الأكبر ، أو الأبعد الأقصى في مقابلة الأدنى ، لأن الغرض هو التخويف والتهديد وذلك إنما يحصل بالقرب لا بالصغر والكبر ولا بالبعد. ومعنى قوله (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) والترجي على الله محال لنذيقهم إذاقة الراجين رجوعهم عن الكفر والمعاصي كقوله (إِنَّا نَسِيناكُمْ) أي تركناكم كما يترك الناسي حيث لا يلتفت إليه أصلا أي نذيقهم على الوجه الذي يفعل الراجي من التدريج ، أو نذيقهم إذاقة يقول القائل : لعلهم يرجعون بسببه. قال في التفسير الكبير : إن الرجاء في أكثر الأمر يستعمل فيما لا تكون عاقبته معلومة ، فتوهم الأكثرون أنه لا يجوز إطلاقه في حق الله تعالى وليس كذلك ، فإن الجزم بالعاقبة إنما يحصل في حقه بدليل منفصل لا من نفس الفعل فإن التعذيب لا يلزم منه الرجوع لزوما بينا. قلت : هذا يرجع إلى التأويل الأول ، فإن الكلام في تعذيب الله هل هو يستدعي الرجوع على سبيل الرجاء أم لا ، وكون مطلق التعذيب مستدعيا لذلك لا يكفي للسائل. وقالت المعتزلة : لعل من الله إرادة وإرادة الله فعل المختار لا تقدح في اقتدار الله إذا لم يختر المختار مراد الله كما أنهم لم يختاروا التوبة والرجوع عن الكفر وإلا لم يكونوا ذائقين العذاب الأكبر. وإنما يقدح في اقتداره إذا تعلقت في إرادته بفعل نفسه أو بفعل المضطر المقسور ثم لا يوجد ذلك الفعل. وجوّز في الكشاف أن يراد : لعلهم يريدون الرجوع إلى الدنيا ويطلبونه كقوله (فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً) سميت إرادة الرجوع رجوعا كما سميت إرادة القيام قياما في قوله (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) [المائدة : ٦] ثم بين أنهم إذا ذكروا بالدلائل من النعم أولا والنقم ثانيا وهو العذاب الأدنى ثم لم يؤمنوا فلا أحد أظلم منهم. ومعنى (ثُمَ) أنه ذكر مرات ثم بالآخرة (أَعْرَضَ عَنْها) والفاء في سورة الكهف تدل على

٤٣٩

الإعراض عقيب التذكير وقد سبق. وقال أهل المعاني : «ثم» هاهنا تدل على أن الإعراض بعد التذكير مستبعد في العقول. قال المحققون : الذي لا يحتاج في معرفة الله إلّا إلى الله عدل كقوله (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [فصلت : ٥٣] كما قال بعضهم : ما رأيت شيئا إلا ورأيت الله قبله. والذي يحتاج في ذلك إلى دلائل الآفاق والأنفس متوسط ، والذي يقر عند الشدة ويجحد عند الرحمة ظالم كقوله (وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) [الروم : ٣٣] والذي يبقى على الجحود والإعراض وإن عذب فلا أظلم منه. وحين جعله أظلم كان ظالم توعد المجرمين عامة بالانتقام منهم ليدل على إصابة الأظلم منهم النصيب الأوفر من الانتقام. ولو قال «إنا منهم منتقمون» لم يكن بهذه الحيثية في الإفادة. ثم عاد إلى تأكيد أصل الرسالة مع تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) قال جار الله : اللام للجنس ليشمل التوراة والفرقان. والضمير في (لِقائِهِ) للكتاب أي آتينا موسى مثل ما آتيناك ولقيناه مثل ما لقيناك من الوحي ، فلا تك في شك من أنك لقيت مثله. واللقاء بمعنى التلقين والإعطاء كقوله (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ) [النمل : ٦] وقيل : الضمير في (لِقائِهِ) لموسى أي من لقائك موسى ليلة المعراج أو يوم القيامة ، أو من لقاء موسى الكتاب وهو تلقيه له بالرضا والقبول. والضمير في (جَعَلْنا) للكتاب على أنه منزل على موسى. واستدل به على أن الله تعالى جعل التوراة هدى لبني إسرائيل خاصة ولم يتعبد بما فيها ولد إسماعيل. ثم حكى أن منهم من اهتدى حتى صار من أئمة الهدى وذلك حين صبروا أو لصبرهم على متاعب التكليف ومشاق الدعاء إلى الدين بعيد إيقانهم به. وفيه أن الله تعالى سيجعل الكتاب المنزل على نبينا أيضا سبب الاهتداء والهداية وكان كما أخبر. ومثله إخبار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل» ولا يخفى أن «من» التبعيضية في قوله (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ) كانت تدل على أن بعضهم ليسوا أئمة الهدى ، وفيه رمز إلى أن بعضهم كانوا أئمة الضلال فلذلك قال (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ) الآية. وفيه إشارة إلى أنه سبحانه سيميز المحق في كل دين من المبطل. ثم أعاد أصل التوحيد مقرونا بالوعيد قائلا (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ) وقد مر نظيره في آخر «طه» وإنما قال في آخر الآية (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) على الجمع ليناسب القرون والمساكن. وإنما قال (أَفَلا يَسْمَعُونَ) لأنه تقدم ذكر الكتاب وهو مسموع ، وفيه إشارة إلى أنه لاحظ لهم منه إلا السماع. وحين ذكر الإهلاك والتخريب أتبعه ذكر الإحياء والعمارة. ومعنى (نَسُوقُ الْماءَ) نسوق السحاب وفيه المطر (إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ) وهي التي جز نباتها أي قطع إما لعدم الماء وإما لأنه رعي وأزيل. قال جار الله : ولا يقال للتي لا تنبت كالسباخ جرز بدلالة قوله (فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً) وعن ابن عباس أنها أرض اليمن ،

٤٤٠