تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٥

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٥

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٩

سورة الحج مكية إلا قوله هذان خصمان إلى صراط الحميد

حروفها خمسة آلاف ومائة وخمسة وسبعون

كلمها ألف ومائتان وإحدى وتسعون آياتها ثمان وسبعون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ (٢) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (٣) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٤) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٧) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٨) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (٩) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٠) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١١) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٢) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (١٣) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (١٤) مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما

٦١

يَغِيظُ (١٥) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (١٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١٧) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (١٨) هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (١٩) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (٢٠) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (٢١) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٢٢))

القراآت : (سُكارى) في الحرفين على تأويل الجماعة : حمزة وعلي وخلف (وَنُقِرُّ ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ) بالنصب فيهما : المفضل وربأت بالهمزة حيث كان. يزيد ليضن بفتح الياء : ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب خاسر الدنيا اسم فاعل منصوبا على الحالية. روح وزيد ثم ليقطع ثم ليقضوا بكسر اللام فيهما : أبو عمرو وسهل ويعقوب وابن عامر وورش وافق القواس في (لْيَقْضُوا) وزاد ابن عامر (وَلْيُوفُوا وَلْيَطَّوَّفُوا) وقرأ الأعشى (وَلْيُوفُوا) بالتشديد ، وقرأ أبو بكر وحماد (وَلْيُوفُوا) بالتشديد وسكون اللام. الباقون بالتخفيف والسكون هذان بتشديد النون : ابن كثير.

الوقوف : (رَبَّكُمْ) ج على تقدير فإن (عَظِيمٌ) ه (شَدِيدٌ) ه (مَرِيدٍ) ه لا لأن ما بعده صفة (السَّعِيرِ) ه (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ) ط لأن التقدير ونحن نقر ومن قرأ بالنصب لم يقف (أَشُدَّكُمْ) ج لانقطاع النظم في اتحاد المعنى (شَيْئاً) ط (بَهِيجٍ) ه (قَدِيرٌ) ه لا للعطف (فِيها) لا (الْقُبُورِ) ه (مُنِيرٍ) ه لا لأن ما بعده حال (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) ط (الْحَرِيقِ) ه (لِلْعَبِيدِ) ه (حَرْفٍ) ج للشرط مع الفاء (بِهِ) لا للعطف مع الفاء مع الاستقلال (عَلى وَجْهِهِ) ق إلا لمن قرأ خاسر الدنيا ط (وَالْآخِرَةَ) ط (الْمُبِينُ) ه من ينفعه ط (الْبَعِيدُ) ه (مِنْ نَفْعِهِ) ط (الْعَشِيرُ) ه (الْأَنْهارُ) ط (ما يُرِيدُ) ه (ما يَغِيظُ) ه (بَيِّناتٍ) ط (مَنْ يُرِيدُ) ه (يَوْمَ الْقِيامَةِ) ط (شَهِيدٌ) ه (مِنَ النَّاسِ) ط وقيل : يوصل ويوقف على (الْعَذابُ) ط (مُكْرِمٍ) ط (ما يَشاءُ) ه (فِي رَبِّهِمْ) ز لعطف الجملتين المتفقتين مع أن ما بعده ابتداء بيان حال الفريقين أحدهما (فَالَّذِينَ كَفَرُوا) والثاني (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ مِنْ نارٍ) ج ه (الْحَمِيمُ) ج ه لأن ما بعده يصلح استئنافا وحالا أو وصفا على أن

٦٢

اللام للجنس كما في قوله : ولقد أمر على اللئيم يسبني. (وَالْجُلُودُ) ه ط (حَدِيدٍ) ه (الْحَرِيقِ) ه.

التفسير : إنه قد أنجز الكلام من خاتمة السورة المتقدمة إلى حديث الإعادة وما قبلها أو بعدها كوراثة المؤمنين الأرض وما معها كطي السماء ، فلا جرم بدأ الله سبحانه في هذه السورة بذكر القيامة وأهوالها حثا على التقوى التي هي خير زاد إلى المعاد ويدخل في التقوى فعل الواجبات وترك المنكرات ، ولا يكاد يدخل فيها النوافل لأن المكلف لا يخاف بتركها العذاب وإنما يرجو بفعلها الثواب. ويمكن أن يقال : إن ترك النوافل قد يفضي إلى إخلال بالواجب فلهذا لا يكاد المتقي يتركها. يروى أن هاتين الآيتين نزلتا ليلا في غزوة بني المصطلق فنادى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاجتمع الناس حوله فقرأهما عليهم فلم ير أكثر باكيا من تلك الليلة ، فلما أصبحوا لم يحطوا السروج عن الدواب ولم يضربوا الخيام وقت النزول ، ولم يطبخوا قدرا وكانوا من بين حزين وباك ومتفكر وهذه الزلزلة وهي المذكورة في قوله (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها) [الزلزلة : ١] ومعناها شدة التحريك ، وتضعيف الحروف دليل على تضعيف المعنى كأنه ضوعف زلل الأشياء عن مقارها ومراكزها. والإضافة إضافة المصدر إلى الفاعل على المجاز الحكمي العائد إلى الإسناد في قولك «زلزلت الساعة الأرض» أو إلى المفعول فيه على الاتساع فلا مجاز في الحكم لأن المراد حينئذ هو أن فاعلها الله في القيامة قاله الحسن. وعن الشعبي هي طلوع الشمس من مغربها فتكون الإضافة بمعنى اللام كقولك «أشراط الساعة» قالت المعتزلة : في الآية دلالة على أن المعدوم شيء لأن الله تعالى سمى زلزلة الساعة شيئا مع أنها معدومة. أجابت الأشاعرة بأن المراد هو أنها إذا وجدت كانت شيئا عظيما. وانتصب (يَوْمَ تَرَوْنَها) أي الزلزلة بقوله (تَذْهَلُ) أي تغفل عن دهشة (كُلُّ مُرْضِعَةٍ) وهي التي ترضع بالفعل مباشرة للإرضاع وإنما يقال لها المرضع من غيرها إذا أريد معنى أعم وهو أنه من شأنها الإرضاع بالقوة أو بالفعل كحائض وطالق. وفي هذا تصوير لهول الزلزلة كأنه بلغ مبلغا لو ألقمت المرضعة الرضيع ثديها نزعته عن فيه لما يلحقها من الخوف. و «ما» في (عَمَّا أَرْضَعَتْ) مصدرية أو موصولة أي عن إرضاعها أو عن الذي أرضعته وهو الطفل. عن الحسن : تذهل المرضعة عن ولدها لغير فطام وتضع الحامل ما في بطنها لغير تمام. وإنما قال (كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ) دون كل حامل ليكون نصا في موضع الجنين فإن الحمل بالفتح هو ما كان في بطن أو على رأس شجرة ، والثاني خارج بدليل العقل فبقي الأول. قال القفال : ذهول المرضعة ووضع ذات الحمل حملها يحتمل أن يكون على جهة التمثيل كقوله (يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً) [المزمل : ١٧] (وَتَرَى النَّاسَ)

٦٣

أفرد بعد أن جمع لأن الزلزلة تراها الناس جميعا ، وأما السكر الشامل للناس فإنه يراه من له أهلية الخطاب بالرؤية وقتئذ ولعله ليس إلا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوله (سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى) أثبت السكر أولا على وجه التشبيه فإن الخوف مدهش كالمسكر ، ونفاه ثانيا على التحقيق إذ لم يشربوا خمرا وهذه أمارة كل مجاز. روى أبو سعيد الخدري أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يقول الله عزوجل يوم القيامة : يا آدم فيقول : لبيك وسعديك. فينادي بصوت إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار. قال : يا رب وما بعث النار؟ قال : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون ، فحينئذ تضع الحامل حملها ويشيب الوليد وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد. فشق ذلك على الناس حتى تغيرت وجوههم فقالوا : يا رسول الله أينا ذلك الرجل؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعون ومنكم واحد ، أنتم في الناس كالشعرة السوداء في جنب الثور الأبيض أو كالشعرة البيضاء في جنب الثور الأسود.» (١) واختلفوا في أن شدة ذلك اليوم تحصل لكل واحد أو لأهل النار خاصة فقيل : إن الفزع الأكبر يعم وغيره يختص بأهل النار وإن أهل الجنة يحشرون وهم آمنون. وقيل : تحصل للكل ولا اعتراض لأحد على الله.

ثم أراد أن يحتج على منكري البعث فقدم لذلك مقدمة تشمل أهل الجدال كلهم فقال (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ) نظيره (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ) [البقرة : ٨] وقد مر إعرابه في أول البقرة. ومعنى (فِي اللهِ) في شأن الله وفيما يجوز عليه وما لا يجوز من الصفات والأفعال ويفهم من قوله (بِغَيْرِ عِلْمٍ) أن المعارف كلها ليست ضرورية وأن المذموم من الجدال هو هذا القسم ، وأما الجدال الصادر عن العلم والتحقيق فمحمود مأمور به في قوله (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل : ١٢٥] والشيطان المريد العاتي سمي بذلك لخلوه عن كل خير وقد مر في قوله (مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ) [التوبة : ١٠١] والمراد إبليس وجنوده أو رؤساء الكفار الذين يدعون أشياعهم إلى الكفر. عن ابن عباس نزلت في النضر بن الحرث وكان مجادلا يقول الملائكة بنات الله والقرآن أساطير الأولين والله غير قادر على إحياء من بلي وصار ترابا. ومعنى (كُتِبَ عَلَيْهِ) قضي على ذلك الشيطان أو علم من حاله وظهر وتبين ، والأول يليق بأصول الأشاعرة ، والثاني بأصول الاعتزال. وقيل : المراد كتب على من يتبع الشيطان ، ولا يخلو عن تعسف أنه من تولى الشيطان أي جعله وليا له أضله عن طريق الجنة

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الأنبياء باب ٧. مسلم في كتاب الإيمان حديث ٣٧٩. الترمذي في كتاب تفسير سورة ٢٢ باب ١ ، ٢. أحمد في مسنده (١ / ٣٨٨) (٢ / ١٦٦) (٣ / ٣٢ ، ٣٣).

٦٤

وهداه إلى النار ، قال صاحب الكشاف إن الأول فاعل (كُتِبَ) والثاني عطف عليه. وفيه نظر لأن «من» يبقى بلا جواب إن جعلت شرطية وبلا خبر إن جعلت موصولة. والصحيح أن قوله (فَأَنَّهُ) مبتدأ أو خبر محذوف صاحبه والتقدير من تولاه فشأنه أنه يضله أو أنه يضله ثابت اللهم إلا إذا جعلت «من» موصوفة تقديره كتب على من يتبع الشيطان أنه شخص تولى الشيطان فأنه كذا أي كتب عليه ذلك ، وحين نبه عموما على فساد طريقة المجادلين بغير علم خصص المقصود من ذلك ، والمعنى إن ارتبتم في البعث فمعكم ما يزيل ريبكم وهو أن تنظروا في بدء خلقكم ، فبين التراب والنطفة والماء الصافي كماء الفحل لأنه ينطف نطفانا أي يسيل سيلا تاما مباينة ، وكذا بين النطفة والعلقة وهي قطعة الدم الجامد لأنها إذ ذاك تعلق بالرحم ، وكذا بين العلقة والمضغة وهي قدر ما يمضغ من اللحم ، ولا ريب أن القادر على تقليب الإنسان في هذه الأطوار المتباينة ابتداء قادر على إعادته إلى أحد هذه الأطوار بل هذه أدخل في القدرة وأهون في القياس. قال الجوهري : المخلقة التامة الخلق. وقال قتادة والضحاك : أراد إنه يخلق المضغ متفاوتة منها ما هو كامل الخلقة أملس من العيوب ، ومنها ما هو على عكس ذلك فلذلك يتفاوت الناس في خلقهم وصورهم وطولهم وقصرهم وتمامهم ونقصهم. وقال مجاهد : المخلقة الولد يخرج حيا ، وغير المخلقة السقط لأنه لم يتوارد عليها خلق بعد خلق وقيل : المخلقة المصورة وغير المخلقة ضدها وهو الذي يبقى لحما من غير تخطيط وشكل ، ويناسبه ما روى علقمة عن عبد الله قال : إذا وقعت النطفة في الرحم بعث الله ملكا فقال : يا رب مخلقة أو غير مخلقة؟ فإن قال غير مخلقة مجتها الأرحام دما ، وإن قال مخلقة قال : يا رب فما صفتها أذكر أم أنثى ما رزقها وأجلها أشقي أم سعيد؟ فيقول سبحانه : انطلق إلى الكتاب فاستنسخ منه هذه النطفة فينطلق الملك فينسخها فلا يزال معه حتى يأتي اخر صفتها. وقوله (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ) غاية لقوله (خَلَقْناكُمْ) أي إنما نقلناكم من حال إلى حال ومن طور إلى طور لنبين لكم بهذا التدريج قدرتنا وحكمتنا. وفي ورود الفعل غير معدي إلى المبين إشعار بأن ذلك المبين مما لا يكتنه كنهه ولا يحيط به الوصف ، وقيل : أراد إن كنتم في ريب من البعث فإنا نخبركم أنا خلقناكم من كذا وكذا لنبيّن لكم ما يزيل ريبكم في أمر بعثكم ، فإن القادر على هذه الأشياء كيف يعجز عن الإعادة؟ ولما بين كيفية خلق الإنسان بالتدريج إلى أن تتكامل أعضاؤه أراد أن يبين أن من الأبدان ما تمجه الأرحام ، ومنها ما تنطوي هي عليه إلى كمال النضج والتربية ، فأسقط القسم الأول اكتفاء بالثاني فاستأنف قائلا (وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ) أن نقره من ذلك (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) هو كمال ستة أشهر إلى أربع سنين غايتها عرفت بالاستقراء (ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ) أي كل واحد منكم طفلا ، أو الغرض الدلالة على الجنس فاكتفي بالواحد ، (ثُمَ) نربيكم شيئا بعد شىء

٦٥

(لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) ومن قرأ (وَنُقِرُّ) بالنصب فمعناه خلقناكم مدرجين هذا التدريج لغايتين : إحداهما أن نبين قدرتنا ، والثانية أن نقر في الأرحام من نقر حتى تولدوا وتنسلوا وتبلغوا حد التكليف. والأشد كمال القوة والتمييز كأنه شدة في غير شيء واحد فلذلك بني على لفظ الجمع قوله (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) وقد مر في «النحل» شبيهه فليرجع إليه.

ثم أكد أمر البعث بالاستدلال من حال النبات أيضا فقال (وَتَرَى) أي تشاهد أيها المستحق للخطا (الْأَرْضَ) حال كونها (هامِدَةً) ميتة يابسة لا نبات بها ، والتركيب يدل على ذهاب ما به قوام الشيء ورواؤه من ذلك. همدت النار همودا طفئت وذهبت بكليتها وهمد الثوب همودا بلي (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ) تحركت ولا يكاد يستعمل الاهتزاز إلا في حركة تصدر عن سرور ونشاط (وَرَبَتْ) انتفخت وزادت كما مر في قوله (زَبَداً رابِياً) [الرعد : ١٧] وذلك في «الرعد» والمراد كمال تهيؤ الأرض لظهور النبات منها. ومن قرأ بالهمزة فمعناه ارتفعت من قولهم «ربأ القوم» إذا كان لهم طليعة فوق شرف. ثم أشار إلى كمال حاله في الظهور بقوله (وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ) أي بعضا من كل صنف. (بَهِيجٍ) والبهجة النضارة وحسن الحال ولهذا قال المبرد : هو الشيء المشرق الجميل. وإسناد الإنبات إلى الأرض مجاز لأن المنبت بالحقيقة هو الله (ذلِكَ) الذي ذكرنا من خلق بني آدم وإحياء الأرض مع ما في تضاعيف ذلك من عجائب الصنع وغرائب الإبداع حاصل (ب) أمور خمسة : الأول (بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) الثابت الذي لا يزول ملكه وملكه لا حق في الحقيقة إلا هو فما سواه يكون مستندا إلى خلقه وتكوينه لا محالة. الثاني أنه من شأنه إحياء الموتى. الثالث (أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وهذا كالبيان لما تقدمه فإن القادر على كل شيء ممكن قادر لا محالة على إحياء الموتى لأنه من جملة الممكنات وبيان إمكانه ظاهر. فإن كل ما جاز على شيء في وقت ما جاز عليه في سائر الأوقات إذ لو امتنع فإما لغيره فالأصل عدمه ، وإما لذاته وهذا يقتضي أن لا يتصف به أولا فإن ما بالذات لا يزول بالغير. الرابع والخامس قوله (وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) قال في الكشاف : معناه أنه حكيم لا يخلف ميعاده ، وقد وعد الساعة والبعث فلا بد أن يفي بما وعد. قلت : إن هذا التفسير غير واف فلقائل أن يقول : فحاصل الآيات يرجع إلى قولنا (إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ) بالتدريج وأحيينا الأرض بسبب أنا وعدنا الساعة ووعدنا صادق. وهذا كلام غير منتظم في الظاهر كما ترى ، ولو صح هذا لاستغنى عن التطويل بأن يقال مثلا : لا تشكوا في أمر البعث فإنه كائن لا محالة. والذي يسنح لي في تفسيره أنه سبحانه أزال الشك في أمر البعث بقوله (إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ) فمزيل

٦٦

ريبكم هذان الاستدلالان ، ثم لما كان لسائل أن يسأل لم خلق الإنسان وما يترتب عليه معاشه؟ فأجيب بأن لهذا الشأن وهو خلق الإنسان أسبابا فاعلية وأسبابا غائية ، أما الأولى فهي أنه تعالى واجب الوجود الحق وأنه قادر على كل مقدور لا سيما إحياء الموتى الذي استدللنا عليه لأنه أهون ، وأن قدرته لا تظهر إلا إذا تعلقت بالمقدور ، فكمال القدرة بالفعل هو أن يتعلق بكل مقدور يصح في القسمة العقلية ، وهذا النوع من المقدور كان ثابتا في القسمة لأنه واسطة بين العالم العلوي والعالم السفلي وله تعلق بالطرفين وانجذاب إلى القبيلين فوجب في الحكمة والقدرة إيجاده ثم إيجاد ما يتوقف عليه بقاؤه واستكماله. وأما علته الغائية فهي أن داره الأولى كانت دار تكليف وقد هيأنا له دارا أخرى لأجل الجزاء وذلك لا يحصل إلا بالبعث والنشور. ولعل هذا الموضع مما لم يفسره على هذا الوجه غيري أرجو أن يكون صوابا والله تعالى أعلم بمراده.

قوله (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ) عن ابن عباس أنه أبو جهل. وقيل : هو النضر أيضا وكرر للتأكيد كما كرر سائر الأقاصيص ، وقال أبو مسلم : الأول في المقلدين فإنهم قد يجادلون تصويبا لتقليدهم. وهذا في المقلدين المتبوعين بدليل قوله (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) قال العلماء : أراد بالعلم العلم الضروري وبالهدي النظري من العلم لأنه يهدي إلى المعرفة وبالكتاب المنير العلم السمعي المتعلق بالوحي. قال بعض أهل اللغة : العطف المنكب. وقال الجوهري : عطفا الرجل جانباه من لدن رأسه إلى وركه ويقال : «فلان ثنى عطفه عني» أي أعرض. وقيل : هو عبارة عن الكبر والخيلاء كلي الجيد. قال جار الله : لما أدى جداله إلى الضلال جعل كأنه غرضه ، ولما كان الهدى معرضا له فتركه وأعرض عنه بالباطل جعل كالخارج بالجدال ، وفسر الخزي هاهنا بما أصابه يوم بدر. (ذلِكَ) الذي مني به شيء من خزي الدنيا وعذاب الآخرة بما قدمت يداه وباقي مباحث الآية قد سلف في آخر «آل عمران». ثم أخبر عن شقاق أهل النفاق بقوله (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) أي على طرف من الدين لا في وسطه فهذا مثل لكونه مضطربا في أمر الدين غير ثابت القدم كالذي يكون على طرف العسكر ينهزم بأدنى سبب ، وباقي الآية تفصيل لهذا الإجمال. قال الكلبي : نزلت في أعاريب قدموا المدينة فكان أحدهم إذا صح بدنه ونتجت فرسه مهرا سريا وولدت امرأته غلاما وكثر ماله وماشيته قال : ما أصبت منذ دخلت في ديني هذا إلا خيرا واطمأن به وقر. وإن كان الأمر بخلافه قال : ما أصبت إلا شرا وانقلب عن دينه الذي أظهره بلسانه وفر. وهذا قول ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد وقتادة. وقيل : نزلت في المؤلفة قلوبهم منهم الأقرع بن حابس والعباس بن مرداس. وعن أبي سعيد الخدري أن

٦٧

رجلا من اليهود أسلم فأصابته مصائب كذهاب البصر والمال والولد فتشاءم بالإسلام فأتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أقلني. فقال : إن الإسلام يسبك كما تسبك النار خبث الحديد والذهب والفضة والإسلام لا يقال ونزلت الآية. والفتنة هاهنا مخصوصة بالابتلاء بالشرور والآلام لوقوعها في مقابلة الخير وهذا على الاستعمال الغالب وإلا فالخير أيضا قد يكون سببا للابتلاء كقوله (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) [الأنبياء : ٣٥] ثم حكى حاله في الدارين بقوله (خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ) أما خسران الدنيا بعد أن أصابه ما أصاب ففقدان العزة والكرامة والغنيمة وأهلية الشهادة والإمامة والقضاء ، وكون عرضه وماله ودمه مصونة ، وأما الآخرة فحرمان الثواب وحصول العقاب أبد الآباد ، ولا خسران أبين من هذا نعوذ بالله منه. وفي قوله (يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ) الآية. دلالة على أن المذكورة قبلها إنما نزلت في أهل النفاق من المشركين لا من اليهود فإنهم لا يعبدون الأصنام نعم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله. قوله (يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ) الآية. فيه بحث لفظي وبحث معنوي. أما الأول فهو أن (يَدْعُوا) بمعنى «يقول» والجملة بعده محكية ، و «من» موصولة أو موصوفة وعلى التقديرين هو مع تمامه مبتدأ ما بعده وهو (لَبِئْسَ الْمَوْلى) خبره واللام الثانية في الخبر لتأكيد اللام الأولى ، وهذا حسن بخلاف قوله «أم الحليس لعجوز» فإنه أدخل لام الابتداء في الخبر على سبيل الاستقلال ويجوز أن يكون (يَدْعُوا) تكرارا للأول وما بعده جملة مستأنفة على الوجه المذكور. وفي حرف عبد الله (لَمَنْ ضَرُّهُ) بغير لام ووجهه ظاهر ، وعلى هذا يكون قوله (لَبِئْسَ الْمَوْلى) جملة مستقلة. والمولى الناصر ، والعشير المعاشر أي الصاحب. وأما البحث المعنوي. فهو أنه نفى الضرر والنفع عن الأصنام أولا ثم أثبتهما لها ثانيا حين قال (ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ) فما وجه ذلك؟ والجواب أن المقصود في الآية الثانية رؤساؤهم الذين كانوا يفزعون إليهم في الشدائد مستصوبين آراءهم ، لأن وصف المولى والعشير لا يليق إلا بالرؤساء. سلمنا أنه أراد في الموضعين الأصنام إلا أنه أثبت الضر لها مجازا لأنها سبب الضلال الذي هو سبب عذاب النار نظيره (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) [إبراهيم : ٣٦] وأثبت لها النفع بناء على معتقدهم أنها شفعاؤهم عند الله. والمراد يقول : هذا الكافر بدعاء وصراخ حين يرى استضراره بالأصنام ولا يرى أثر الشفاعة (لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ) ذلك ، أو أراد يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه ، ثم قال : لمن ضره بكونه معبودا أقرب من نفعه بكونه شفيعا لبئس المولى.

ثم لما بين حال المنافقين والمشركين أتبعها حال المؤمنين الذين معبودهم قادر على إيصال كل المنافع فقال (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ) الآية. قالت الأشاعرة : في قوله (إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما

٦٨

يُرِيدُ) دليل على أنه خالق الإيمان وفاعله لأنه يريد الإيمان من العبد بالاتفاق. أجاب الكعبي بأنه يفعل ما يريده لا ما يريد أن يفعله غيره ، ورد بأن ما يريد أعم من قولنا ما يريده من فعله وما يريد من فعل غيره. قوله سبحانه (مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ) في هذا الضمير وجهان : الأول وهو قول ابن عباس والكلبي ومقاتل والضحاك وقتادة وابن زيد والسدي واختيار الفراء والزجاج أنه يرجع إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم للعلم به لأن ذكر الإيمان يدل على الإيمان بالله ورسوله ، وعلى هذا فالظان من هو؟ قيل : كان قوم من المسلمين لشدة غيظهم على المشركين يستبطئون النصر فنزلت. وعندي في هذا القول بعد. وعن مقاتل نزلت في نفر من أسد وغطفان قالوا : نخاف أن الله لا ينصر محمدا فينقطع الذي بيننا وبين حلفائنا من اليهود والأولى العموم. وكان حساده وأعداؤه يتوقعون أن لا ينصره الله وأن الله لا يغلبه على أعدائه فمتى شاهدوا أن الله ينصره غاظهم ذلك ، والسبب الحبل ، والسماء سماء البيت ، والقطع الاختناق لأن المختنق يقطع نفسه بحبس مجاريه ، والمراد من كان يظن من حاسديه أن الله تعالى يفعل خلاف النصر والظفر وكان يغيظه نصرة الله إياه فليستفرغ جهده في إزالة ما يغيظه ، وليس ذلك إلا بأن يمد حبلا إلى سماء بيته ثم يشده في عنقه ويختنق في عنقه وليصور في نفسه أنه إن يفعل ذلك هل يذهبن كيده ما يغيظه ، سمى فعله كيدا حيث لم يقدر على غيره أو على سبيل الاستهزاء لأنه لم يكد به محسوده وإنما كاد به نفسه. والحاصل ليس في يده إلا ما ليس بمذهب لما يغيظ ، ومنهم من قال : السماء هي المظلة لأن الاختناق حينئذ أبعد عن الإمكان فيكون أصعب فيصرف الحاسد عن الغيظ إلى طاعة الله ورسوله. ومنهم من قال : مع ذلك أن القطع هو قطع المسافة أي فليصعد على الحبل إلى السماء ، والغرض تصوير مشقة من غير فائدة ، أو القطع قطع الوحي أو النصر أي فليصعد وليقطع الوحي أن ينزل عليه أو النصر أن يأتيه. الوجه الثاني أن الضمير عائد إلى «من» والنصر الرزق. قال أبو عبيدة : وقف علينا سائل من بني بكر فقال : من ينصرني نصره الله أي من يعطيني أعطاه الله. ووجه النظم من كان يظن أن لن يرزقه الله في الدنيا والآخرة فلهذا الظن يعدل عن التمسك بدين محمد وينقلب على وجهه كما مر فليبلغ غاية الجزع وهو الاختناق أو غير ذلك مما عددنا ، فإن الله لا يقلبه مرزوقا. وحين بين الأحوال وضرب الأمثال أشار إلى هذا المذكور بلفظ البعيد إما للتعظيم وإما لأن كل ما دخل في حيز الذكر وحصل في حيز كان فهو في حكم البعيد فقال (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ) أي ومثل ذلك الإنزال أنزلنا القرآن كله (آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللهَ) حرف التعليل وكذا معلله محذوف للعلم به أي ولأن الله (يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ) أنزله كذلك مبينا. قالت الأشاعرة : المراد بالهداية إما وضع الأدلة أو خلق المعرفة والأول غير جائز ، لأن الله تعالى فعل ذلك في حق كل المكلفين ، ولأن قوله (يَهْدِي مَنْ

٦٩

يُرِيدُ) يدل على أن الهداية غير واجبة عليه بل هي معلقة بمشيئته ، ووضع الأدلة واجب فتعين أن المراد خلق المعرفة. أجاب القاضي عبد الجبار بأنه أراد تكليف من يريد لأن التكليف لا يخلو من وصف ما كلف به ومن بيانه ، أو أراد يهدي إلى الجنة ، والإثابة من يريد ممن آمن وعمل صالحا ، أو يهدي به الذين يعلم منهم الإيمان أو يثبت الذين آمنوا ويزيدهم هدى ، وإلى هذين الوجهين أشار الحسن بقوله (أَنَّ اللهَ يَهْدِي) من قبل لا من لم يقبل. واعترض بأن الله سبحانه وتعالى ذكر هذا الكلام بعد بيان الأدلة والجواب عن الشبهات فلا يجوز حمله على محض التكليف ، وأما الوجوه الأخر فخلاف الظاهر مع أن ما ذكرتموه واجب عندكم على الله وقوله (مَنْ يُرِيدُ) ينافي الوجوب.

ثم أراد أن يميز بين المهدي من الفرق وبين الضال منهم فقال (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) الآية قال مقاتل : الأديان ستة : واحد لله تعالى وهو الإسلام وخمسة للشيطان قلت : فالمؤمنون واليهود والنصارى تشترك في القول بالإله والنبي وتفترق بالاعتراف بعموم نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبعدم الاعتراف به ، والصابئون قد تجعل من جنس النصارى وقد تجعل من غيرهم ، والمجوس قولهم في البابين مضطرب لأن الإله عندهم اثنان ونبيهم ليس بنبي في الحقيقة وإنما هو متنبىء ، والمشركون لا نبي لهم ولا كتاب. قال أهل البرهان : قدم النصارى على الصابئين في أوائل البقرة لأنهم أهل كتاب وعكس هاهنا لأن الصابئين مقدمة عليهم بالزمان ، وفي المائدة يحتمل الأمران أي والصابئون كذلك أو هم والنصارى (إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ) أي يقضي بين المؤمنين وغيرهم وتكرير إن في الخبر لزيادة التأكيد والفصل مطلق يحتمل الفصل في الأحوال وفي المواطن أيضا (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) فلا يجري في قضائه ظلم ولا حيف (أَلَمْ تَرَ) أي تعلم بإخبار الله والمراد أن هذه الأجسام غير ممتنعة عما يريد الله إحداثه فيها من أنواع تصرفاته وتدبيراته وهذا بين ، قال العلماء : قوله (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) ليس بمعطوف على ما قبله من المفردات لأن السجود بالمعنى المذكور يتناول كل الناس ولا يختص ببعضهم لدليل العقل ، ولأن قوله (وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) يتناول الثقلين جميعا والعطف يوهم التخصيص بالبعض. ولا يمكن أن يكون السجود بالنسبة إلى كثير من الناس بمعنى وضع الجبهة وبالنسبة إلى غيرهم بمعنى نفوذ مشيئة الله فيها لأن اللفظ المشترك لا يصح استعماله في مفهوميه معا ، فهو إذن مرفوع بفعل مضمر يدل عليه المذكور أي ويسجد له كثير من الناس بمعنى وضع الجبهة أيضا. وهو مبتدأ محذوف الخبر وهو مثاب لأن الخبر دليل عليه وهو قوله (حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) أو هو مبتدأ وخبر أي وكثير من المكلفين من الناس الذين هم الناس على الحقيقة فكأنه أخرج الذين وجب عليهم العذاب

٧٠

من جملة الناس لأنهم أشبه بالنسناس (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُ) [الأعراف : ١٧٩] أو قوله ثانيا (وَكَثِيرٌ) تكرار للأول لأجل المبالغة كأنه قيل : وكثير من الناس حق عليهم العذاب ، وباقي الآية دليل على أن الكل بقضائه وقدره والإكرام والإهانة من عنده وبسابق علمه وسابق مشيئته ، فمن أهانه في الأزل لم يكرمه أحد إلى الأبد. عن ابن عباس أن قوله (هذانِ خَصْمانِ) راجع إلى أهل الأديان الستة أي هما فوجان أو فريقان خصمان والخصم صفة وصف بها المحذوف. وإنما قيل (اخْتَصَمُوا) نظرا إلى المعنى. وقيل : إن أقل الجمع اثنان. ومعنى (فِي رَبِّهِمْ) أي في دينه وصفاته فقال المؤمنون في شأنه قولا وقال الكافرون قولا. وروي أن أهل الكتاب قالوا للمؤمنين نحن أحق بالله وأقدم منكم كتابا ونبينا قبل نبيكم. وقال المؤمنون : نحن أحق بالله منكم آمنا بالله وبمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبنبيكم وبجميع الكتب وأنتم تعرفون كتابنا ونبينا ثم تتركونه حسدا فنزلت. وعن قيس بن عبادة عن أبي ذر الغفاري أنه كان يحلف بالله أنها نزلت في ستة نفر من المسلمين : علي وحمزة وعبيدة بن الحرث ، ومن المشركين عتبة وشيبة والوليد بن عتبة. فقال علي رضي‌الله‌عنه : أنا أول من يجثو للخصومة بين يدي الله تعالى يوم القيامة. وعن عكرمة هما الجنة والنار. قالت النار : خلقني الله لعقوبته. وقالت الجنة : خلقني الله لرحمته ، فقص الله من خبرهما على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والأقرب هو الأول. وقوله (فَالَّذِينَ كَفَرُوا) فصل الخصومة المعني بقوله (إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ) وقوله (قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ) فيه أنه تعالى يقدر لهم نيرانا على مقادير جثثهم تشتمل عليهم كما تقطع الثياب الملبوسة ، أو المراد أن تلك النيران مظاهرة عليهم كالثياب المظاهرة على اللابس بعضها فوق بعض. وعن سعيد بن جبير أن قوله (مِنْ نارٍ) أي من نحاس أذيب بالنار كقوله (سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ) [إبراهيم : ٥٠] والحميم الماء الحار. عن ابن عباس : لو سقطت منه نقطة على جبال الدنيا لأذابتها. ومعنى (يُصْهَرُ) يذاب صهرت الشيء فانصهر أي أذبته فذاب فهو صهير أي يذيب أمعاءهم وأحشاءهم كما يذيب جلودهم وهو أبلغ من قوله (وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ) [محمد : ١٥] لأن تأثير الشيء من الظاهر في الباطن أبلغ من تأثيره في الباطن. قال في الكشاف : المقامع السياط وقال الجوهري : المقمعة واحدة المقامع (مِنْ حَدِيدٍ) كالمحجن يضرب على رأس الفيل. وفي الحديث «لو وضعت مقمعة منها في الأرض فاجتمع عليها الثقلان ما أقلوها» (١) والإعادة لا تكون إلا بعد الخروج ففي الآية إضمار أي (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍ) فخرجوا (أُعِيدُوا فِيها) أو المراد بالإرادة المداناة والمشارفة كقوله (يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ)

__________________

(١) رواه أحمد في مسنده (٣ / ٢٩).

٧١

[الكهف : ٧٧] وهذا أقرب كقوله (لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ) [البقرة : ١٦٢] ويؤيده ما يروى عن الحسن أن النار تضربهم بلهبها فترفعهم حتى إذا كانوا في أعلاها ضربوا بالمقامع فهو وافيها سبعين خريفا. وإنما اختصت هذه السورة بقوله (مِنْ غَمٍ) وهو الأخذ بالنفس حتى لا يجد صاحبه مخلصا لأنه بولغ هاهنا في أهوال النار بخلاف ما في السجدة وإنما أضمر هاهنا قبل قوله (وَذُوقُوا) بخلاف «السجدة». وقيل لهم ذوقوا لأنه وقع الاختصار هاهنا على (عَذابَ الْحَرِيقِ) وهناك أطنب فقيل (ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) [السجدة : ٢٠] وأيضا قد تقدم ذكر القول في تلك السورة كثيرا بخلافه هنا والله تعالى أعلم.

التأويل : (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ) هلاك الاستعداد الفطري (شَيْءٌ عَظِيمٌ تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ) هي مواد الأشياء فإن لكل شيء مادة ملكوتية ترضع رضيعها من الملك وتربيه (وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ) وهي الهيوليات (حَمْلَها) وهو الصور الكمالية التي خلقت الهيوليات لأجلها (وَتَرَى النَّاسَ سُكارى) الغفلة والعصيان وحب الدنيا والجاه والرياسة وغيرها (وَما هُمْ بِسُكارى) العشق والمحبة والمعرفة (فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ) أي كنتم ترابا ميتا فبعثنا التراب بأن خلقنا منه آدم ، ثم أمتنا منه النطفة ، ثم بعثناها بأن جعلناها علقة ثم مضغة ثم خلقا آخر لنبين لكم أمر البعث والنشور (وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ) أمهات العدم (ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) وهو وقت إيجاده بحسب تعلق الإرادة به ، وفيه دليل على أنه لا يبعد أن يكون الفاعل كاملا في فاعليته ولكن لا تتعلق إرادته بالمقدور فيبقى في حيز العدم إلى حين تعلق الإرادة به ، ومنه يظهر حدوث العالم (ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) من أطفال المكونات خارجا من رحم العدم مستعدا للتربية والكمال. (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى) عن الشهوات فيحيا بحصول الكمالات (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ) إلى أسفل سافلين الطبيعة (وَتَرَى) أرض القالب (هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا) ماء حياة المعرفة والعلم (اهْتَزَّتْ ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) في الإلهية (وَأَنَّهُ يُحْيِ) القلوب الميتة (وَأَنَّ السَّاعَةَ) قيامة العشق والخدمة للطالبين الصادقين (آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ) القلوب المحبوسة في قبور الصدور (عَذابَ الْحَرِيقِ) بنار الشهوات لكنه لا يحس بها في الدنيا لأنه نائم بنوم الغفلة فإذا مات انتبه (مَنْ كانَ يَظُنُ) فيه أن العبد يجب أن يكون حسن الظن بالله (ثُمَّ لْيَقْطَعْ) مادة تقديري في الأزل ونزول أحكامي في القدر (فَلْيَنْظُرْ هَلْ) ينقطع أم لا (هذانِ خَصْمانِ) يعني النفس الكافرة والروح المؤمنة (قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ) بتقطيع خياط القضاء على قدرهم وهي ثياب نسجت من سدى مخالفات الشرع ولحمة موافقات الطبع. (يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ) حميم الشهوات النفسانية. وفي لفظ الفوق دلالة على أنهم مغلوبون تحتها ، وفيه أن الخيالات الفاسدة

٧٢

تنصب من الدماغ إلى القلب. (يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ) من الأخلاق الحميدة الروحانية (وَالْجُلُودُ) أي يفسد أحوالهم الباطنة والظاهرة بفساد تخيلاتهم ، ولا مخلص لهم عن دركات تلك الملكات لغاية رسوخها والله أعلم بالصواب.

(إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٢٣) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (٢٤) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٥) وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (٢٦) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (٢٧) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (٢٨) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٢٩) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (٣٠) حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (٣١) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (٣٢) لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٣٣) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (٣٤) الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٥) وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٣٦) لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (٣٧) إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (٣٨) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ

٧٣

لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٤٠) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٤١))

القراآت : (وَلُؤْلُؤاً) بهمزتين منصوبا : نافع وحفص. مثله ولكن بتخفيف الأولى واوا ساكنة : أبوبكر وحماد وزيد وكذلك في سورة فاطر. وقرأ سهل ويعقوب والمفضل هاهنا بالهمزة والنصب. وفي «فاطر» بالهمز والخفض. الباقون بالهمز والخفض في السورتين (سَواءً) بالنصب : حفص وروح وزيد. الآخرون بالرفع. والبادي بالياء في الحالين : سهل ويعقوب وابن كثير وافق أبو عمرو وأبو جعفر ونافع غير قالون في الوصل. (بَوَّأْنا) مثل (أَنْشَأْنا) (بَيْتِيَ) بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وحفص وهشام. (فَتَخْطَفُهُ) بتشديد الطاء : أبو جعفر ونافع الرياح يزيد طريق المفضل (وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ) بالنصب على تقدير النون : عباس (مَنْسَكاً) ونحوه بكسر السين : حمزة وعلي وخلف لن تنال الله بتاء التأنيث : يعقوب ولكن تناله بالتأنيث أيضا زيد (يُدافِعُ) من الدفع : ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب الباقون (يُدافِعُ) من المدافعة (أُذِنَ) مبنيا للمفعول : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وسهل ويعقوب وعاصم (يُقاتَلُونَ) مبنيا للمفعول أيضا : أبو جعفر ونافع وابن عامر وحفص الآخرون مبنيا للفاعل فيهما. دفاع بألف : أبو جعفر ونافع وسهل ويعقوب (لَهُدِّمَتْ) مخففا : ابن كثير وأبو جعفر ونافع وقرأ ابن عامر وأبو عمرو وسهل وحمزة وعلي وخلف مشددا مدغما الباقون مشددا.

الوقوف : (وَلُؤْلُؤاً) ط (مِنَ الْقَوْلِ) ج للعطف مع تكرار (وَهُدُوا الْحَمِيدِ) ه (وَالْبادِ) ه ط (أَلِيمٍ) ه (السُّجُودِ) ه (عَمِيقٍ) ه لا لتعلق اللام (الْأَنْعامِ) ج للابتداء بالأمر مع الفاء (الْفَقِيرَ) ه للعطف مع العدول (الْعَتِيقِ) ه (ذلِكَ) ق قد قيل : لأن المراد ذلك على ما ذكر أو الأمر والشأن ذلك ثم يبتدأ بالشرط (عِنْدَ رَبِّهِ) ط (الزُّورِ) ه لا (مُشْرِكِينَ بِهِ) ط (سَحِيقٍ) ه (ذلِكَ) ق (الْقُلُوبِ) ه (الْعَتِيقِ) ه (الْأَنْعامِ) ط (أَسْلِمُوا) ط (الْمُخْبِتِينَ) ه لا لاتصال الوصف (الصَّلاةِ) ه (يُنْفِقُونَ) ج ه (خَيْرٌ) ق والوصل أحسن للفاء (صَوافَ) ج للشرط مع الفاء (وَالْمُعْتَرَّ) ط (تَشْكُرُونَ) ه (مِنْكُمْ) ط (هَداكُمْ) ط (الْمُحْسِنِينَ) ه (آمَنُوا) ط (كَفُورٍ) ه (ظُلِمُوا) ط (لَقَدِيرٌ) ه لا بناء على أن (الَّذِينَ) بدل من الضمير في (نَصْرِهِمْ رَبُّنَا اللهُ) ط (كَثِيراً) ه (يَنْصُرُهُ) ط (عَزِيزٌ) ه (الْمُنْكَرِ) ط (الْأُمُورِ) ه.

التفسير : لما ذكر حال أحد الخصمين في الآخرة أراد أن يذكر حال الآخر وهو

٧٤

المؤمن ولهذا ألزم التكرار ، إلا أنه يفطن بهذه الآية فائدة أخرى هي بيان أن أهل الجنة يحلون فيها وقد مر مثله في أوائل الكهف. ومن قرأ (لُؤْلُؤاً) بالنصب فعلى تقدير ويؤتون لؤلؤا لأن السوار من اللؤلؤ غريب إلا أن يكون شيئا منظوما منه. (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ) عن ابن عباس هو قولهم الحمد لله الذي صدقنا وعده يلهمهم الله ذلك (وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ) أي إلى طريق المقام المحمود وهو الجنة أو إلى صراط الله كقوله (إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) [إبراهيم : ١] وقال السدي : الطيب من القول هو القرآن. وقيل : شهادة أن لا إله إلا الله وقال حكماء الإسلام : هو كشف الغطاء عن الحقائق الروحانية والمعارف الربانية ، ثم كرر وعيد أهل الكفر ومن داناهم فقال (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ) إنما حسن عطف المستقبل على الماضي لأنه أراد به الاستمرار وأنه من شأنهم الصد وكأنه قيل : كفروا واستمروا على الصد. وقال أبو علي الفارسي. كفروا في الماضي وهم الآن يصدون. عن ابن عباس أنها نزلت في أبي سفيان بن حرب وأصحابه حين صدوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن معه عام الحديبية عن أن يحجوا ويعتمروا وينحروا الهدي. ومن قرأ (سَواءً) بالنصب فعلى أنه مفعول ثان لجعلنا أي جعلناه مستويا (الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ) ومن قرأ بالرفع فعلى أن (الْعاكِفُ) مبتدأ و (سَواءً) خبر مقدم والجملة مفعول ثان ويجوز أن يكون (لِلنَّاسِ) مفعولا ثانيا أي جعلناه متعبدا لكل من وقع عليه اسم الناس ، وقوله (سَواءً) إلى آخره الجملة بيان لذلك الجعل أي لا فرق بين الحاضر المقيم به وبين الطارئ من البدو ، واختلفوا في أن المكي والآفاقي يستويان في أي شيء. فعن ابن عباس في بعض الروايات أنهما يستويان في سكنى مكة والنزول بها للآية بناء على أن المراد بالمسجد الحرام مكة ، ولما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «مكة مباحة سبق إليها» وإلى هذا ذهب أبو حنيفة وهو قول قتادة وسعيد بن جبير أيضا ، ولأجل ذلك زعموا أن كراء دور مكة حرام. والأكثرون على أنهما مستويان في العبادة في المسجد ليس للمقيم أن يمنع البادي وبالعكس ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يا بني عبد مناف من ولي منكم من أمور الناس شيئا فلا يمنعن أحدا طاف بهذا البيت أو صلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار» (١) وعلى هذا فلا منع من بيع دور مكة وإجارتها وهو مذهب الشافعي وقد جرت المناظرة بينه وبين إسحق الحنظلي وكان إسحق لا يرخص في كراء دور مكة فاحتج الشافعي بقوله تعالى (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍ) [الحج : ٤٠] بأن عمر اشترى دار السجن فسكت إسحق

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب مسجد مكة باب ٢.

٧٥

وإنما ذهب الأولون إلى أن المراد بالمسجد الحرام هاهنا مكة كلها لأنه جعل العاكف فيه بأزاء البادي. أجاب الأكثرون بأنه أراد بالعاكف المجاور للمسجد المتمكن في كل وقت من التعبد فيه. والإلحاد العدول عن القصد كما مر في قوله (وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ) [الأعراف : ١٨٠] وقوله (بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ) حالان ومفعول (يُرِدْ) متروك ليفيد العموم أي ومن يرد فيه مرادا ما جائرا ظالما. وفائدة الحال الثانية أن العدول عن القصد قد يكون بالحق كقوله (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ) [الشورى : ٤٠] واختلفوا في الإلحاد في الحرم فعن قتادة وسعيد بن جبير وابن عباس في رواية عطاء أنه الشرك يعني من لجأ إلى حرم الله ليشرك به عذبه الله. وقال مقاتل : نزلت في عبد الله بن حنظلة حيث قتل الأنصاري وهرب إلى مكة كافرا ، فأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقتله يوم الفتح وهو العذاب الأليم. وعن مجاهد أنه الاحتكار. وقيل : المنع من عمارته. وعن عطاء : هو قول الرجل في المبايعة «لا والله» وبلى والله. ومثله ما روي عن عبد الله بن عمر أنه كان له فسطاطان أحدهما في الحل والآخر في الحرم ، فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الحل فقيل له في ذلك فقال : كنا نحدث أن من الإلحاد فيه أن يقول الرجل «لا والله» و «بلى والله». والأولى التعميم. وفيه أن الواجب على من كان فيه أن يضبط نفسه ويسلك طريق السداد والعدل في مهامه ومقاصده ، وهذا وإن كان واجبا في كل مكان إلا أن وجوبه هناك أوكد فللمكان خاصية كما للزمان ولهذا قال مجاهد : تضاعف السيئات فيه كما تضاعف الحسنات. عن ابن مسعود : أن القصد إلى الذنب يكتب هناك ذنبا وإن لم يخرج إلى الفعل. وعنه لو أن رجلا يهم بأن يعمل سيئة عند البيت أذاقه الله تعالى عذابا أليما. واعلم أن خبر إن محذوف لدلالة جواب الشرط عليه كأنه قيل : إن الذين كفروا ويصدون نذيقهم من عذاب أليم ومن يرد في الحرم بإلحاد فهو كذلك ، وحين انجر الكلام إلى ذكر المسجد الحرام أتبعه ذكر الكعبة وبعض ما يتعلق به من المناسك فقال (وَإِذْ بَوَّأْنا) أي وأذكر حين جعلنا (لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ) مباءة أي مرجعا يرجع إليه للعمارة والعبادة ، ويروى أن موضع البيت كان مطموسا فبعث الله تعالى ريحا كنست ما حوله حتى ظهر أسه القديم فبنى إبراهيم عليه وقد مر قصة ذلك في «البقرة». وقيل : بعث غمامة على قدر البيت الحرام في العرض والطول وفيها رأس يتكلم وله لسان وعينان فقال : يا إبراهيم ابن على قدري فأخذ في البناء وذهبت السحابة. وأن في (أَنْ لا تُشْرِكْ) هي المفسرة وذلك أن المقصود من التوبة هو العبادة فكأنه قيل : تعبدنا لإبراهيم قلنا له : لا تشرك وطهر وقد مر مثله في «البقرة». وإنما قال هاهنا (وَالْقائِمِينَ) لأن العاكف ذكر مرة في قوله (سَواءً الْعاكِفُ) والقائم إما بمعنى القيام في الصلاة بدليل قوله (وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) أو بمعنى المقيم

٧٦

المتوطن. والظاهر أن الخطاب في (وَأَذِّنْ) لإبراهيم أيضا أي ناد (فِي النَّاسِ) وهو أن يقول حجوا أو عليكم (بِالْحَجِ) يروى أنه صعد أبا قبيس فقال : أيها الناس حجوا بيت ربكم ، قال مجاهد : فما حج إنسان ولا يحج إلى القيامة إلا وقد سمع ذلك النداء من في أصلاب الرجال وأرحام النساء ، فمن أجاب مرة حج مرة ومن أجاب أكثر فأكثر. ولعل الفائدة في قوله (يَأْتُوكَ) هي هذه لأن الإتيان إلى مكة بسبب ندائه إتيان إليه. وأيضا هو أول من حج وغيره يقتدي به وكأنه يأتيه. وعن الحسن وهو اختيار أكثر العلماء المعتزلة أن الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنه معطوف على «أذكر» مقدرا ، ثم إنه عام لجميع الناس أو خاص بمن حج معه في حجة الوداع قولان. وقيل : إنه ابتداء فرض الحج والرجال المشاة واحده راجل. وقوله (وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ) حال آخر كأنه قيل رجالا وركبانا. والضامر البعير المهزول لطول السفر. و (يَأْتِينَ) صفة لـ (كُلِّ ضامِرٍ) لأنه في معنى الجمع. والفج الطريق الواسع وقد مر في السورة المتقدمة. والعميق البعيد ومثله معيق وبه قرأ ابن مسعود. وفي تقديم المشاة تشريف لهم. روى سعيد بن جبير بإسناده عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن الحاج الراكب له بكل خطوة تخطوها راحلته سبعون حسنة وللماشي سبعمائة من حسنات الحرم. قيل : يا رسول الله وما حسنات الحرم؟ قال : الحسنة بمائة ألف حسنة» قال جار الله : نكر المنافع لأنه أراد منافع مختصة بهذه العبادة دينية ودنيوية لا توجد في غيرها من العبادات وقد كنى عن النحر والذبح بذكر اسم الله تعالى لأن المسلمين لا ينفكون عن التسمية إذا نحروا أو ذبحوا ، وفيه تنبيه على أن التسمية من الأغراض الأصلية المعتبرة خلاف ما كان يفعله المشركون من الذبح للنصب. وفي قوله (عَلى ما رَزَقَهُمْ) إشارة إلى أن نفس القربان وتيسير ذلك العمل من نعم الله تعالى ولو قيل «لينحروا في أيام معلومات بهيمة الأنعام» لم يكن شيء من هذه الفوائد. والأيام المعلومات عند أكثر العلماء عشر ذي الحجة الأول آخرها يوم النحر لأنها معلومة عند الناس لحرصهم على أعمال الحج فيها. ثم للمنافع أوقات من العشر معروفة كيوم عرفة والمعشر الحرام ، كذلك للذبح وقت بعينه وهو يوم النحر وهذا قول مجاهد وعطاء وقتادة والحسن ورواية سعيد بن جبير عن ابن عباس واختيار الشافعي وأبي حنيفة. وعن ابن عباس في رواية أخرى أنها يوم النحر وثلاثة أيام بعدها وهو اختيار أبي مسلم وقول أبي يوسف ومحمد. وعلى الأول يكون قوله (فِي أَيَّامٍ) متعلقا بكلا الفعلين أعني (لِيَشْهَدُوا وَيَذْكُرُوا) وعلى الثاني يختص تعلقه بالثاني. ومعنى (بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) بهيمة من الأنعام لأن البهيمة تشمل كل ذات أربع في البر والبحر فبينت بالأنعام وهي الإبل والبقر والضأن والمعز ، وقد مر في أول المائدة قال مقاتل : إذا ذبحت فقل «بسم الله والله

٧٧

أكبر اللهم منك وإليك» وتستقبل القبلة. وزاد الكلبي «إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين». قال القفال : كأن المتقرب بها وبإراقة دمائها متصور بصورة من يفدي نفسه بما يعادلها فكأنه يبذل تلك الشاة بذل مهجته طلبا لمرضاة الله واعترافا بأن تقصيره كاد يستحق مهجته. أما قوله (فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ) فالبائس الذي أصابه بؤس أي شدة والفقير قد مر في آية الصدقات في «التوبة» وفي غيرها. ثم من الناس من قال : الأمران للوجوب لأن أهل الجاهلية كانوا لا يأكلون منها فأمر المسلمون بمخالفتهم. والأكثرون على أن الأكل ليس بواجب. ثم منهم من قال : يحسن أن يأكل النصف ويتصدق بالنصف رعاية للأمرين. ومنهم من قال : يأكل الثلث ويتصدق بالثلثين لما يجيء من قوله (فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ) فجعلها على ثلاثة أقسام ومنهم من قال : يأكل الثلث ويدخر الثلث ويتصدق بالثلث لما جاء في الحديث من الأمر بالادخار. والأولى وهو مذهب الشافعي أنه إن أطعم جميعها أجزأه ، وإن أكل جميعها لم يجزئه ، وإذا تصدق بأقل شيء من لحمها يكفي هذا إذا كان متطوعا. وأما الواجبات كالنذور والكفارات وجبران النقصانات مثل دم القران ودم التمتع ودم الإساءة فلا يأكل منها لا هو ولا أغنياء الرفقة ولا فقراؤها لما روي عن هشام بن عروة عن أبيه عن ناجية الخزاعي قال : قلت : يا رسول الله كيف أصنع بما عطب من البدن؟ قال : أنحرها ثم أغمس نعلها في دمها ثم خل بين الناس وبينها يأكلونها. وقال أيضا صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مثله : لا تأكل منها أنت ولا أحد من أهل رفقتك. قوله (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) لا يبعد أن يكون معطوفا على (لِيَشْهَدُوا) فإن هذه الأعمال كلها غايات للإتيان إلا أن إسكان هذه اللامات في بعض القراآت يدل على أنها لام الأمر وعلى هذا تكون هذه الأوامر الغائبة معطوفة على الأمرين الحاضرين قبلها والله أعلم. قال أبو عبيدة : لم يجيء في الشعر ما يحتج به في معنى التفث. وقال الزجاج : إن أهل اللغة لا يعرفون التفث إلا من التفسير. وقال القفال : قال نفطويه : سألت أعرابيا فصيحا ما معنى قوله (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ)؟ فقال : ما أفسر القرآن ولكنا نقول للرجل : ما أتفثك وما أدرنك! ثم زعم القفال أن هذا أولى من قول الزجاج لأن المثبت أولى من النافي. وقال المبرد : أصل التفث في كلام العرب كل قاذورة تلحق الإنسان فيجب عليه نقضها. وأجمع أهل التفسير على أن المراد هاهنا إزالة الأوساخ والزوائد كقص الشارب والأظفار ونتف الإبط وحلق العانة. فتقدير الآية ثم ليقضوا إزالة تفثهم وليوفوا نذورهم أي الأعمال التي أوجبها الحج بالشروع فيه ، أو أعمال البر التي أوجبوها على أنفسهم بالنذر فإن الرجل إذا حج أو اعتمر فقد يوجب على نفسه من الهدي وغيره ما لو لا إيجابه لم يكن الحج يقتضيه. (وَلْيَطَّوَّفُوا) هو طواف الإفاضة والزيارة

٧٨

التي هي ركن وقد شرحت حاله في البقرة في قوله (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ) [البقرة : ١٩٨] وقيل : هو طواف الوداع والصدر. سمي (بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) لأنه أول بيت وضع للناس عن الحسن ، وقال قتادة : لأنه أعتق من تسلط الجبابرة عليه وهو قول ابن عباس وابن الزبير ورووه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وعن ابن عيينة لأنه لم يملك قط. وعن مجاهد لأنه أعتق من الغرق أيام الطوفان. وقيل : معناه البيت الكريم من قولهم «عتاق الخيل والطير». والحرمة ما لا يحل هتكه وجميع التكاليف بهذه الصفة من مناسك الحج وغيرها ، ويحتمل أن يراد هاهنا ما يتعلق بالحج ، عن زيد بن أسلم أن الحرمات خمس : الكعبة الحرام والمسجد الحرام والبلد الحرام والشهر الحرام والمحرم حتى يحل. وتعظيمها العلم بوجوبها والقيام بحقوقها. وقوله (فَهُوَ خَيْرٌ) أي فالتعظيم له خير من التهاون بذلك. وقوله (عِنْدَ رَبِّهِ) إشارة إلى أن ثوابه مدخر لأجله. قوله (وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) قد مر في أول «المائدة» مثله أي إلا ما يتلى عليكم آية تحريمه وهي (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) [المائدة : ٣] أو قوله (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) [المائدة : ١] أو قوله (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) [الأنعام : ١٢١] وحين حث على تعظيم الحرمات أتبعه الأمر بما هو أعظم أنواعها وأقدم أصنافها قائلا (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ) وبينه بقوله (مِنَ الْأَوْثانِ) أي الرجس الذي هو الأوثان كقولك «عندي عشرون من الدراهم». والرجس العمل القبيح في الغاية وقد مر في آخر المائدة في تفسير قوله (رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) [الآية : ٩٠] والزور من الزور الميل والإضافة كقولهم «رجل صدق» جمع بين القول الزور وبين الشرك لأن عبادة الأوثان هي رأس الزور وملاكه. قال الأصم : وصف الأوثان بأنها رجس لأن عادتهم في القرابين أن يتعمدوا سقوط الدماء عليها ، والأقرب أنها وصفت بذلك لأن عبادتها فعلة متمادية في القبح والسماجة. وللمفسرين في قول الزور وجوه منها : أنه قولهم هذا حلال وهذا حرام. ومنها أنه شهادة الزور رفعوا هذا التفسير إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ومنها أنه الكذب والبهتان. ومنها أنه قول أهل الجاهلية في الطواف «لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك.» وقوله (حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ) حالان مؤكدان والمراد الإخلاص في التوحيد كقوله (حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [النحل : ١٢٠] وفائدة الحالين هي فائدة التولي والتبري وإنما أخر نفي الإشراك وإن كان مقدما في الرتبة إذ التخلية والتبرئة مقدمة على التحلية والتولية ليرتب عليه قوله (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ) الآية. قال جار الله : إن كان تشبيها مركبا فمعناه من أشرك بالله فقد أهلك نفسه غاية الإهلاك وذلك بأن صور حاله بصورة من خر من السماء فاختطفته أي استلبته الطير فتفرق مزعا أي قطعا من اللحم في حواصلها ، أو بحال من خر فعصفت به

٧٩

الريح حتى هوت به في بعض المطاوح السحيقة البعيدة. وإن كان مفرقا فقد شبه الإيمان في علوه بالسماء ، والذي تركه فأشرك فقد سقط منها والإهواء التي توزع أفكاره بالطير المتخطفة ، وفي المثل الآخر شبه الشيطان الذي يطرح به في وادي الضلالة بالريح التي تهوي بالأشياء في المهاوي المتلفة. وتعظيم شعائر الله وهي الهدايا كما مر في أول «المائدة» هي أن يختارها عظام الأجرام غالية الأثمان. وقد مر وصفها الشرعي في «البقرة» في قوله (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) [الآية : ١٩٦] وقد أهدى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مائة بدنة فيها جمل لأبي جهل في أنفه برة من ذهب قال في الكشاف (فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) أي فإن تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب فحذفت هذه المضافات ولا يستقيم المعنى إلا بتقديرها لأنه لا بد من راجع من الجزاء إلى من ليرتبط به. وأقول : في هذا الوجوب نظر لأنه ليس بشرعي ولا بعقلي على ما تزعم المعتزلة. أما المضاف الأول فلأنه يحتمل أن يعود الضمير إلى التعظيم بمعنى الخلة ، وأما الآخران فلأن «من» للعموم فلا يلزم أن يقدر لفظة منه ، أو فاعل التعظيم موحدين حتى لا يطابقها لفظ القلوب بل يحتمل أن يقدر لفظة منهم أو يقدر فإن تعظيمهم إياها فيرجع الكلام إلى قولنا (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ) فإن تلك الخلة منهم من تقوى القلوب أي ناشئة من تقوى قلوبهم ، فإن القلوب مراكز التقوى التي منها عيارها وعليها مدارها ولا عبرة بما يظهر من آثارها على سائر الجوارح دونها. ثم كان لسائل أن يسأل : ما بال هذه الحيوانات تذبح فيتقرب بها إلى الله تعالى؟ فلهذا قال (لَكُمْ فِيها مَنافِعُ) يعني الدنيوية من الدر وركوب الظهر وسيشير إلى الدينية بقوله (لَكُمْ فِيها خَيْرٌ) ولهذا أطلق ذلك وقيد هذه بقوله (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) وهو أوان النحر. ثم بين أن وجوب نحرها أو وقت وجوب نحرها أو مكان نحرها منته إلى البيت أو إلى ما يجاوره ويقرب منه وهو الحرم كما مر في قوله (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) [المائدة : ٩٥] ومثله قوله «بلغنا البلد» إذا شارفوه واتصل مسيرهم بحدوده. قال القفال : هذا إنما يختص بالهدايا التي بلغت مني ، فأما إذا عطبت قبل بلوغ مكة فإن محلها هو موضعها. روى أبو هريرة أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مر برجل يسوق بدنة وهو في جهد فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اركبها فقال : يا رسول الله إنها هدي. فقال : اركبها ويلك. وعن جابر أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : اركبوا الهدي بالمعروف حتى تجدوا ظهرا. وهذا هو الذي اختاره الشافعي. وعن أبي حنيفة أنه لا يجوز الانتفاع بها لأنه لا يجوز إجارتها ولو كان مالكا لمنافعها لملك عقد الإجارة عليها. وضعف بأن أم الولد لا يمكنه بيعها ويمكنه الانتفاع بها. وممن ذهب إلى هذا القول من فسر الأجل المسمى بوقت تسميتها هديا ، والمراد أن لكم أن تنتفعوا بهذه الأنعام إلى أن تسموها أضحية وهديا فإذا فعلتم ذلك فليس لكم أن تنتفعوا بها. وقد ينسب هذا القول إلى ابن عباس

٨٠