تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ١

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ١

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٩

١
٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إلى الله الكريم أرغب في إبداع غرائب القرآن ، وبفضله العميم أتأهّب لإيداع رغائب الفرقان ، فإليه منتهى الأمل والسؤال ، وهذا حين أفتتح فأقول :

الحمد لله الذي جعلنا ممن شرح صدره للإسلام فهو على نور من ربّه وجبلني ذا نفس أبيّة وهمّة عليّة لا تكاد تستأنس إلا بذكر حبه. أعاف سفساف الأمور ، وأخاف الموبقات الموجبات للثبور. أميل عن زخرف الدنيا وزبرجها ، وأكبح النفس أن تحوم حول مخرجها ومولجها.

هي النفس ما حمّلتها تتحمّل

إن أرسلت استرسلت وإن قدعت انقدعت في الأول. ولله درّ السلف الشرر العيون إلى الأماني الفارغة الفانية ، والأضاليل الملهية المنبئة عن السعادات الباقية. تاقت قلوبهم إلى الكرامات الدائمات واشتاقت أرواحهم إلى اللذّات الحقيقيات ، وتاهت ضمائرهم في بيداء عظمة الملك والملكوت وتلاشت سرائرهم في دأماء ديمومية العزة والجبروت ، فخلصوا من الناسوت ووصلوا إلى اللاهوت ، وفنوا بشهوده وبقوا بوجوده ورضى كل منهم بقضاء معبوده ، فتجلت لهم الذات واتحدت عندهم المختلفات فطابت لهم الغدوات واعتدلت لهم العشيات ، ولم تطمح أعينهم إلا إلى تحصيل لما يقرّب إلى الله زلفى وما جرت ألسنتهم إلا بذكر الحق طوبى لهم وبشرى. أسألك اللهم الاقتداء بأولئك ، والتوفيق لشكر ما أسبغت عليّ من عطائك وأتممت من نعمائك ، وأعوذ بك أن أزلّ أو أضلّ فيما آتي وأذر ، وأن أركن إلى الذين ظلموا فتمسني النار يوم العرض الأكبر. ثبّت أقدام أقلامي على الصدق ، ولا تقض أن ينطق فمي بكلام سوى الحق ، واجعلني بفضلك ممن لا ينظر إلا إليك ولا يرغب إلا فيما لديك. بريتني من غير سابقة علم مني ، وربيتني من غير حق يوجب ذلك عليك ،

٣

فإن افتخرت فيما أنعمت عليّ وقد أمرت (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) [الضحى : ١١] وإن استغفرت فمما أسرفت على نفسي وقد قلت (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً) [النساء : ١١٠].

فيا من لا يوجد في جوده شوب غرض ولا علّة ، شرفني في الآخرة بالعزّة ، واحرسني في دنياي من الذلّة ، ولا تؤاخذني بالنقصان الإمكاني ولا تعاقبني بالنسيان الإنساني حتى يكون لك الفضل في الآخرة والأولى ، والثناء في المبدأ والمحمدة في العقبى. أدعوك دعاء البائس الفقير المستعين ، وأتضرّع إليك تضرّع الذليل المهين المستكين الماثل بين يدي مولاه الآيس بالكلية عمن سواه ؛ فاسمع فإنك سميع الدعاء ؛ وأجب فإنك قادر على ما تشاء. والصلاة والسلام على عبيدك ، المخصوصين بتأييدك ، المنزهين عن الأدناس الجسميّة ، المطهرين عن الأرجاس النفسية ، الفائزين بأشرف مراتب الأنس ، الواصلين إلى أعلى مدارج الأنس ، الضاربين في أرقى معارج القدس ، ولا سيما المصطفى محمد الذي أشرق في سماء النبوة بدرا ، وأشرف على بساط الرسالة صدرا ، سيد الثقلين وسند الخافقين ، إمام المتقين ورسول رب العالمين الكائن نبيا وآدم بين الماء والطين ، المعفّر له جباه الأملاك ، المشرف بلولاك لما خلقت الأفلاك ، صلى الله عليه وعلى آله مفاتيح الجنة وأصحابه مصابيح الدحنة وسلم تسليما كثيرا.

وبعد ، فإن المفتقر إلى عفو ربه الكريم الحسن بن محمد القمي المشتهر بنظام النيسابوري نظم الله أحواله في أولاه وأخراه يقول : من المعلوم عند ذوي الأفهام أن كلام الملوك ملوك الكلام ، وبقدر البون بين الواجب الذات والممكن الذات يوجد التفاوت بين كلام الله تعالى وكلام المخلوقات. ولا سيما إذا وقع في معرض التحدي الذي يظهر النبي هنا لك من المتنبي ، وهذا شأن القرآن العظيم والفرقان الكريم الذي أخرس شقاشق المناطق ، قضّهم بقضيضهم ، وأوقر مسامع المصاقع فيما بين أوجهم وحضيضهم حتى اختاروا المقارعة بالسيوف على المعارضة بالحروف ، والمقاتلة بالأسنّة على المقاولة بالألسنة ، والملاكمة باللهاذم على المكالمة باللهازم ، ومبارزة الأقران على الإتيان بأقصر سورة من القرآن. قال الله تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) [الإسراء : ٨٨] وقال تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ) [هود : ١٣] وقال تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) [البقرة : ٢٣]. درج لهم الأمر فأوقع التحدي على القرآن جملة ثم على عشر سور ثم على سورة ، فاضطرهم التعجيز إلى إيثار الأصعب على الأسهل ؛ فتبين أن الأسهل

٤

في النظر هو الأصعب في نفس الأمر. وذلك من أذلّ دليل على حقية المنزّل وصدق المنزّل عليه وكيف لا وفيه نبأ الأولين وخبر الآخرين وحكم ما بين الخلائق أجمعين؟! قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في وصفه : «هو الفصل ليس بالهزل ، من تركه من جبّار قصمه الله ومن ابتغى الهدى في غيره أضلّه الله. هو حبل الله المتين ، وهو الذكر الحكيم ، وهو الصراط المستقيم ، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ، ولا تلتبس به الألسنة ، ولا يشبع منه العلماء ، ولا يخلق على كثرة الرد ، ولا تنقضي عجائبه. هو الذي لم ينته الجن إذ سمعته حتى قالوا : إنّا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به. من قال به صدق ، ومن عمل به أجر ، ومن حكم به عدل ، ومن ناظر به فلج ، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم».

ولقد انتصب جمّ غفير وجمع كثير من الصحابة والتابعين ثم من العلماء الراسخين والفضلاء المحققين والأئمة المتقنين في كل عصر وحين ، للخوض في تيار بحاره والكشف عن أستار أسراره والفحص عن غرائبه والاطلاع على رغائبه نقلا وعقلا وأخذا واجتهادا ، فتباينت مطامح همّاتهم ، وتباعدت مواقع نياتهم ، وتشعبت مسالك أقدامهم وتفنّنت مقاطر أقلامهم ؛ فمن بين وجيز وأوجز ومطنب وملغز ، ومن مقتصر على حل الألفاظ ، ومن ملاحظ مع ذلك حظ المعاني والبيان ونعم اللحاظ ، فشكر الله تعالى مساعيهم وصان عن إزراء القادح معاليهم. ومنهم من أعرض عن التفسير وأقبل على التأويل ، وهو عندي ركون إلى الأضاليل وسكون على شفا جرف الأباطيل إلا من عصمه الله وإنه لقليل ، ومنهم من مرج البحرين وجمع بين الأمرين. فللراغب الطالب أن يأخذ العذب الفرات ويترك الملح الأجاج ، ويلقط الدرّ الثمين ويسقط السبج والزجاج.

وإذ وفقني الله تعالى لتحريك القلم في أكثر الفنون المنقولة والمعقولة كما اشتهر بحمد الله تعالى ومنّه فيما بين أهل الزمان. وكان علم التفسير من العلوم بمنزلة الإنسان من العين والعين من الإنسان. وكان قد رزقني الله تعالى من إبان الصبا وعنفوان الشباب حفظ لفظ القرآن وفهم معنى الفرقان. وطالما طالبني بعض أجلّة الإخوان وأعزة الأخدان ممن كنت مشارا إليه عندهم بالبنان في البيان ـ والله المنان يجازيهم عن حسن ظنونهم ويوفّقنا لإسعاف سؤلهم وإنجاح مطلوبهم ـ أن أجمع كتابا في علم التفسير مشتملا على المهمات مبنيا على ما وقع إلينا من نقل الأثبات وأقوال الثقات ، من الصحابة والتابعين ثم من العلماء الراسخين والفضلاء المحققين المتقدمين والمتأخرين ـ جعل الله تعالى سعيهم مشكورا وعملهم مبرورا ـ فاستعنت بالمعبود وشرعت في المقصود ، معترفا بالعجز والقصور في هذا

٥

الفن وفي سائر الفنون ، لا كمن هو بابنه وبشعره مفتون. كيف وقد قال عز من قائل (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) [الإسراء : ٨٥] ، (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً) [النساء : ١٢٢] (وَكَفى بِاللهِ وَلِيًّا) [النساء : ٤٥] (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) [النساء : ٨١ ، ١٣٢ ، ١٧١ ؛ والأحزب ٣ ، ٤٨] ولما كان التفسير الكبير المنسوب إلى الإمام الأفضل والهمام الأمثل ، الحبر النحرير والبحر الغزير ، الجامع بين المعقول والمنقول الفائز بالفروع والأصول ، أفضل المتأخرين فخر الملة والحق والدين محمد بن عمر بن الحسين الخطيب الرازي تغمده الله برضوانه وأسكنه بحبوحة جنانه ، اسمه مطابق لمسماه وفيه من اللطائف والبحوث ما لا يحصى ، ومن الزوائد والغثوث ما لا يخفى ، فإنه قد بذل مجهوده ونثل موجوده حتى عسر كتبه على الطالبين وأعوز تحصيله على الراغبين ، فحاذيت سياق مرامه ، وأوردت حاصل كلامه ، وقربت مسالك أقدامه ، والتقطت عقود نظامه ، من غير إخلال بشيء من الفرائد أو إهمال لما يعدّ من اللطائف والفوائد ، وضممت إليه ما وجدت في الكشاف وفي سائر التفاسير من اللطائف المهمات ، أو رزقني الله تعالى من البضاعة المزجاة ، وأثبت القراآت المعتبرات والوقوف المعللات ، ثم التفسير المشتمل على المباحث اللفظيات والمعنويات ، مع إصلاح ما يجب إصلاحه وإتمام ما ينبغي إتمامه من المسائل الموردة في التفسير الكبير والاعتراضات ، ومع حل ما يوجد في الكشاف من المواضع المعضلات سوى الأبيات المعقدات ، فإن ذلك يوردها من ظن أن تصحيح القراآت وغرائب القرآن إنما يكون بالأمثال والمستشهدات ؛ كلا ، فإن القرآن حجة على غيره وليس غيره حجة عليه ، فلا علينا أن نقتصر في غرائب القرآن على تفسيرها بالألفاظ المشتهرات وعلى إيراد بعض المتجانسات التي تعرف منها أصول الاشتقاقات. وذكرت طرفا من الإشارات المقنعات والتأويلات الممكنات والحكايات المبكيات والمواعظ الرادعة عن المنهيات الباعثة على أداء الواجبات ، والتزمت إيراد لفظ القرآن الكريم أوّلا مع ترجمته على وجه بديع وطريق منيع مشتمل على إبراز المقدّرات وإظهار المضمرات وتأويل المتشابهات وتصريح الكنايات وتحقيق المجازات والاستعارات ؛ فإن هذا النوع من الترجمة مما تسكب فيه العبرات وترن (١) المترجمون هنا لك إلى العثرات ، وقلما يفطن له الناشئ الواقف على متن اللغة العربية فضلا عن

__________________

(١) هكذا في النسخة المطبوعة وفي نسخة أخرى ويزن في نسخة ثالثة وذن ولعل الصواب ويزل وليتحرر اه ـ مصححة.

٦

الدخيل القاصر في العلوم الأدبية. واجتهدت كل الاجتهاد في تسهيل سبيل الرشاد ، ووضعت الجميع على طرف التمام ليكون الكتاب كالبدر في التمام وكالشمس في إفادة الخاص والعام ، من غير تطويل يورث الملام ولا تقصير يوعر مسالك السالك ويبدد نظام الكلام ، فخير الكلام ما قل ودل ، وحسبك من الزاد ما بلغك المحل. والتكلان في الجميع على الرحمن المستعان والتوفيق مسؤول ممن بيده مفاتيح الفضل والإحسان وخزائن البر والامتنان. وهذا أوان الشروع في تفسير القرآن ، ولنقدم أمام ذلك مقدمات.

٧

المقدمة الأولى

في فضل القراءة والقارئ ، وآداب القراءة

وجواز اختلاف القراآت ، وذكر القراء المشهورين المعتبرين

عن علي بن أبي طالب أمير المؤمنين قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ القرآن فاستظهره وأحلّ حلاله وحرّم حرامه أدخله الله الجنة وشفعه في عشرة من أهل بيته كلهم قد وجبت له النار» (١) وعنه : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «خيركم من تعلّم القرآن وعلّمه» (٢). وعن ابن عباس رضي‌الله‌عنه قال : قال رجل : يا رسول الله أيّ الأعمال أحبّ إلى الله؟ قال : «الحالّ المرتحل» ، قال : وما الحالّ المرتحل؟ قال : «يضرب من أول القرآن إلى آخره كلّما حلّ ارتحل» (٣). وفي الصحيحين عن عائشة رضي‌الله‌عنها قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الماهر في القرآن مع السفرة الكرام البررة ، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاقّ ، له أجران» وعن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله تبارك وتعالى يتلون كتاب الله عزوجل ويتدارسونه بينهم ، إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفّتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده» (٤). وعن سهل بن معاذ الجهني أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ القرآن وعمل به ألبس والداه تاجا يوم القيامة ضوءه أحسن من

__________________

(١) رواه الترمذي في كتاب ثواب القرآن باب ١٣. أحمد في مسنده (١ / ١٤٨).

(٢) رواه البخاري في كتاب فضائل القرآن باب ٢١. أبو داود في كتاب الوتر باب ١٤. الترمذي في كتاب ثواب القرآن باب ١٥.

ابن ماجه في كتاب المقدمة باب ١٦. أحمد في مسنده (١ / ٥٧ ، ٥٨).

(٣) رواه الترمذي في كتاب القرآن باب ١١. الدارمي في كتاب فضائل القرآن باب ٣٣.

(٤) رواه مسلم في كتاب الذكر حديث ٣٧ ، ٣٨. أبو داود في كتاب الوتر باب ١٤.

الترمذي في كتاب القرآن باب ١٠. أحمد في مسنده (٢ / ٢٥٢).

٨

ضوء الشمس في بيوت الدنيا وكانت فيكم ، فما ظنكم بالذي عمل بهذا؟» (١) وفي الصحيحين عن ابن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنما مثل صاحب القرآن مثل صاحب الإبل المعقلة إن عاهد عليها أمسكها ، وإن أطلقها ذهبت» (٢). وفيهما عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي يتغنى بالقرآن» (٣). وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يقال لصاحب القرآن أقرأ وراق ورتّل كما كنت ترتّل في الدنيا ، فإن منزلك عند آخر آية تقرأ» (٤). وفي الصحاح كلها عن عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه قال : سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكدت أساوره في الصلاة ، فتربّصت حتى سلّم فلبيته بردائه فقلت : «من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرؤها؟ قال : أقرأنيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقلت : كذبت ، فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقرأنيها على غير ما قرأت. فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : يا رسول الله إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أرسله اقرأ يا هشام» فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هكذا أنزلت». ثم قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اقرأ يا عمر» فقرأت القراءة التي أقرأني ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هكذا أنزلت ، إن القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرأوا ما تيسر منه».

إذا تقرر ذلك فنحن نذكر في الكتاب من القراآت السبع المنسوبة إلى القراء السبعة ، والأربع المنسوبة إلى الأئمة المختارين ، ونرى أن نفصّل هاهنا أساميهم وأسامي رواتهم ليتعين ما نسب في أثناء التفسير إلى كل منهم والله ولي التوفيق.

ذكر القراء السبعة وتسمية نقلتهم من الرواة وطرقهم من الثقات :

١ ـ أبو عمرو زبان بن العلاء البصري. روى عن مجاهد بن جبر ، وسعيد بن جبير عن ابن عباس ، عن أبيّ بن كعب عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومات سنة أربع وخمسين ومائة. ورواته ثلاثة : أبو محمد يحيى بن المبارك اليزيدي ، روى عنه أبو عمر حفص بن عمر بن عبد العزيز الدوري طريق أبي الزعراء ، عبد الرحمن بن عبدوس ، وأبو الفتح عامر بن صالح الموصلي

__________________

(١) أبو داود في كتاب الوتر باب ١٤. أحمد في مسنده (٣ / ٤٤٠).

(٢) رواه البخاري في كتاب فضائل القرآن باب ٢٣. مسلم في كتاب المسافرين حديث ٢٢٦. النسائي في كتاب الافتتاح باب ٣٧. ابن ماجه في كتاب الأدب باب ٥٢. أحمد في مسنده (٢ / ٧ ، ٢٣).

(٣) رواه البخاري في كتاب التوحيد باب ٣٢. مسلم في كتاب المسافرين حديث ٢٣٢. أبو داود في كتاب الوتر باب ٢٠. الترمذي في كتاب ثواب القرآن باب ١٧.

(٤) رواه الترمذي في كتاب ثواب القرآن باب ١٨. أحمد في مسنده (٢ / ١٩٢ ، ٤٧١).

٩

المعروف بأوقية طريق أبي قبيصة حاتم بن إسحق الموصلي ، وأبو شعيب صالح بن زياد السوسي طريق أبي الحرث محمد بن أحمد الرقي ، وأبو إسحق إبراهيم بن حماد طريق أبي عيسى موسى بن عبد الله الهاشمي. وأبو نعيم شجاع بن أبي نصر الخراساني ، روى عنه أبو جعفر محمد بن غالب طريق أبي علي الحسن بن الحسين الصواف. وعباس بن فضل الأنصاري ، روى عنه أبو عمرو محمد بن رومي طريق أبي إسحق إبراهيم بن كعب الموصلي وطريق شباب بن خليفة ، وهو الأصح ، وطريق أبي إسحق أيضا عن أوقية.

٢ ـ ابن كثير هو أبو محمد عبد الله بن كثير المكي. روى عن مجاهد بن جبر عن ابن عباس عن أبي بن كعب عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتوفي سنة عشرين ومائة ، ورواته أربعة : أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبد الله بن القاسم بن نافع بن أبي بزة البزي ، وبينه وبين ابن كثير رجال لأنه يروي عن عكرمة بن سليمان بن كثير عن شبل بن عباد ، وإسماعيل بن عبد الله بن قسطنطين عن ابن كثير. وروى عن البزي أبو ربيعة محمد بن إسحق بن أعين الربعي طريق الزينبي ـ وهو الهاشمي ـ وطريق أبي بكر محمد بن الحسن المعروف بالنقاش الموصلي ، وأبو محمد الهاشمي ـ وطريق أبي بكر محمد بن الحسن المعروف بالنقاش الموصلي ، وأبو محمد إسحق بن أحمد الخزاعي المكي طريق ابن شنبوذ وطريق الهاشمي وطريق أبي بكر أحمد بن محمد الطوابيقي وطريق أبي القاسم السرنديبي وطريق أبي الحسن علي بن زوابة القزاز وطريق أبي بكر محمد بن عيسى بن بندار الجصاص ، وأبو علي الحسين بن محمد الحداد طريق الهاشمي عن البزي. عبد الله بن فليح عن رجاله عن ابن كثير ، ورجاله : محمد بن سبعون ، وداود بن شبل عن إسماعيل بن عبد الله عن ابن كثير. وروى عن ابن فليج أبو علي الحداد طريق النقاش وطريق الهاشمي وطريق الخزاعي وطريق ابن شنبوذ. أبو الحسن أحمد بن محمد بن عون القواس ، وبينه وبين ابن كثير أيضا رجال ، لأنه يروي عن أبي الاخريط وهب بن واضح عن إسماعيل بن عبد الله عن عبد الله بن عامر الأموي ومعروف بن مشكان ، وشبل بن عباد عن ابن كثير. وروى عن القواس قنبل طريق الزينبي طريق أبي ربيعة طريق أبي نجاح طريق ابن أبي عون القاضي طريق ابن شنبوذ طريق أبي القاسم السرنديبي. زمعة بن صالح عن ابن كثير طريق عبد الله بن سعوة وطريق شعيب بن مرة.

٣ ـ نافع بن أبي نعيم المدني ، قرأ على أبي جعفر القاري وعلى سبعين من التابعين على ابن عباس وأبي هريرة على أبيّ بن كعب على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتوفي سنة تسع وستين ومائة ، ورواته ثلاثة : إسماعيل بن جعفر بن كثير الأنصاري ، روى عنه أبو الزعراء وأبو بكر

١٠

الحسن بن علي بن بشار النحوي ، وأبو جعفر أحمد بن فرج الضرير. ورش ، اسمه عثمان بن سعيد المصري ، روى عنه محمد بن عبد الرحيم الأصفهاني طريق أبي الحسن محمد بن أحمد المروزي وطريق أبي القاسم هبة الله بن جعفر بن محمد بن الهيثم ، وأبو عبد الله محمد بن إسحق البخاري طريق أبي الأسد أحمد بن إبراهيم الفقيه وطريق أبي بكر محمد بن مرثد التميمي. قالون : واسمه عيسى بن مينا النحوي ، روى عنه أبو علي الحسن بن عباس الرازي طريق أبي بكر أحمد بن حماد المقري ، وأبو إبراهيم مصعب بن إبراهيم الزهري طريق أبي بكر محمد بن عبد الله بن فليح ، وأبو نشيط محمد بن هارون المروزي طريق أبي حسان محمد بن أحمد بن الأشعث الجيزي ، وأبو الحسن أحمد بن يزيد الحلواني طريق الحسن بن العباس الرازي وطريق أبي عون القاضي.

٤ ـ عبد الله بن عامر اليحصبي الشامي ، قرأ على المغيرة بن أبي شهاب المخزومي على عثمان بن عفان رضي‌الله‌عنه على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتوفي رضي‌الله‌عنه سنة ثمان عشرة ومائة وله راويان. روى عنه من رجاله أبو محمد عبد الله بن أحمد بن بشير بن ذكوان الدمشقي ، ورجاله أيوب بن تميم عن يحيى بن الحرث عن ابن عامر ، روى عنه أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد طريق الحسن بن عبد الله المقري ، وأبو بكر محمد بن الحسن النقاش الموصلي المفسر طريق الحسن بن عبد الله أيضا ، وأبو الحسن محمد بن النضر بن مرّ بن الحر الربعي المعروف بابن الأخرم عن الأخفش عن ابن ذكوان. هشام بن عمار عن رجاله عن ابن عامر ، ورجاله أيوب بن تميم وسويد بن عبد العزيز عن يحيى بن الحرث ، روى عنه البخاري عن الحلواني عن هشام طريق أبي علي الحسن بن مهران ، وأبو الحسين أحمد بن يزيد الحلواني الصفار طريق أبي عبد الله الحسين بن علي بن حماد الأزرق ، وأبو إسحق إبراهيم بن يونس الرازي طريق البخاري.

٥ ـ عاصم بن بهدلة الأسدي ، قرأ عاصم على زر بن حبيش على عبد الله بن مسعود على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقرأ أيضا على أبي عبد الرحمن عبد الله بن حبيب السلمي معلم الحسن والحسين على علي رضي‌الله‌عنه على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وتوفي سنة ثمان وعشرين ومائة ورواته أربعة : أبو عمر حفص ابن أبي داود سليمان بن المغيرة البزاز الأسدي وكان شريك أبي حنيفة. روى عنه أبو محمد هبيرة بن محمد التمار طريق الحسنون بن الهيثم طريق أحمد بن علي الخرّاز وأبو حفص عمرو بن الصباح طريق عبد الصمد بن محمد. أبو بكر شعبة بن عياش ؛ روى عنه عبد الحميد بن صالح البرجمي طريق جعفر بن غالب اليشكري ، وأبو زكريا يحيى بن آدم القرشي طريق أبي حمدون الطيب بن إسماعيل وطريق شعيب بن

١١

أيوب بن زريق الصريفيني ، وأبو يوسف يعقوب بن خليفة بن سعد بن هلال الأعشى وله راويان ، روى عنه أبو جعفر محمد بن غالب ومحمد بن حبيب الشموني. حماد بن أبي زياد طريق يحيى بن محمد العليمي الأنصاري رحمه‌الله تعالى. المفضل بن محمد الضبّي ؛ روى عنه جبلة بن مالك النضري طريق أبي زيد عمرو بن شيبة ، وأبو زيد سعيد بن أوس الأنصاري طريق محمد بن يحيى القطفي رحمه‌الله تعالى.

٦ ـ حمزة بن حبيب الزيات العجلي : قرأ على سليمان بن مهران الأعمش على يحيى بن وثاب على زر بن حبيش على علي بن أبي طالب وعثمان وابن مسعود على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتوفي سنة ست وخمسين ومائة ، ورواته أربعة : أبو إسحق إبراهيم بن زربي طريق أبي المستنير رجاء بن عيسى بن رجاء الجوهري. عبد الرحمن قلوقا طريق أبي المستنير أيضا. أبو محمد عبد الله بن صالح العجلي طريق أبي حمدون الطيب بن إسماعيل وطريق أبي إسحق إبراهيم بن نصر بن عبد العزيز المقري ويروى نصير بن عبد الله المقري وهو الأصح. سليم بن عيسى الحنفي ، روى عنه خلاد بن خالد الصيرفي طريق محمد بن شاذان الجوهري وطريق القاسم بن يزيد الوزان ، وأبو محمد خلف بن هشام البزاز طريق أبي الحسين إدريس بن عبد الكريم الحداد ، وأبو جعفر محمد بن سعدان النحوي طريق محمد بن سليمان وطريق أبي واصل أحمد بن واصل ، وأبو عمرو الدوري طريق أبي الزعراء.

٧ ـ علي بن حمزة الكسائي : قرأ على حمزة بن حبيب على يحيى بن وثاب على زر بن حبيش على عثمان وعلي وابن مسعود على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، توفي سنة تسع وثمانين ومائة رضي‌الله‌عنه وله ستة رواة : أبو عبد الرحمن قتيبة بن مهران الآزاذاني ، روى عنه أبو الفرج محمد بن أحمد بن إبراهيم المقرئ طريق أبي الفضل العباس بن الوليد بن مرداس ، وأبو بكر أحمد بن الحسين بن مهران طريق أحمد بن حدي. أبو المنذر نصر بن يوسف النحوي ؛ روى عنه محمد بن إدريس الأشعري المعروف بالديداني طريق أبي عبد الله الحسين بن علي بن حمّاد المعروف بالأزرق ؛ وأبو عبد الله محمد بن عيسى الأصفهاني طريق أبي علي الحسن بن العباس الرازي ، وأبو جعفر أحمد بن محمد بن رستم الطبري طريق بكّار بن أحمد المقري ، وأبو جعفر علي بن أبي نصير النحوي طريق الأزرق المذكور. أبو الحرث الليث بن خالد طريق أبي عبد الله محمد بن يحيى الكسائي. حمدويه بن ميمون الزجاج طريق أبي العباس أحمد بن يعقوب السمسار. أبو حمدون الطيب بن إسماعيل طريق أبي علي الحسن بن الحسين الصواف. أبو عمر حفص بن عمر بن عبد العزيز الدوري ؛ روى عنه

١٢

أبو بكر الحسن بن علي بن بشار النحوي طريق أبي الفرج محمد بن أحمد بن إبراهيم ، وأبو الزعراء طريق أبي بكر بن مجاهد ، وأبو الحسن علي بن سليم طريق أبي القاسم هبة الله بن جعفر ، وطريق إبراهيم بن أحمد الخرقي ، وأبو جعفر أحمد بن فرح الضرير طريق أبي بكر النقاش الموصلي.

ذكر الأئمة المختارين وتسمية رواتهم :

أبو جعفر يزيد بن القعقاع القاري المدني ، وقار موضع من المدينة ، ورواته اثنان : أبو موسى عيسى بن وردان الحذاء طريق قالون عيسى بن مينا النحوي ، وأبو مسلم سليمان بن مسلم الجماز الزهري طريق أبي عبد الرحمن قتيبة بن مهران. أبو محمد يعقوب بن إسحق الحضرمي توفي في ذي الحجة سنة خمس ومائتين ، وقرأ على أبي المنذر سلام بن سليمان الطويل على عاصم وأبي عمر ، ورواته ثلاثة : روح بن عبد الملك طريق أحمد بن يحيى المعدل ، أبو بكر محمد بن المتوكل اللؤلؤي الملقب برويس طريق أبي بكر محمد بن هارون وطريق أبي الحسن أحمد بن محمد بن يعقوب بن مقسم الفقيه ، أبو أحمد زيد بن أحمد بن إسحق طريق المعدل أيضا وطريق محمد بن هارون. أبو محمد خلف بن هشام بن ثعلب البزار طريق أبي الحسن إدريس بن عبد الكريم ، ونقله أبو بكر محمد بن يعقوب بن مقسم العطار ، وقرأ خلف على سليم على حمزة. أبو حاتم سهل بن محمد بن عثمان السجستاني طريق أبي علي الحسن بن تميم وطريق أبي بكر محمد بن الحسن بن دريد وطريق مسيح بن حاتم ، وقرأ سهل على يعقوب وأيوب بن المتوكل.

فهذا هو المعول عليه من القراآت وأما الشواذ فلا نتعرض منها إلا لما فيه نكتة أو غرابة وذلك في أثناء التفسير لا في خلال القراآت. والله أعلم بالصواب.

١٣

المقدمة الثانية

الاستعاذة المندوب إليها في قوله عز من قائل : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) [النحل : ٩٨] قرأها أبو عمرو ويعقوب وابن كثير غير الهاشمي وعاصم غير هبيرة : «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم» ، وروى الهاشمي عن ابن كثير : «أعوذ بالله العظيم من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم» ، وروى هبيرة عن حفص عن عاصم : «أعوذ بالله العظيم السميع العليم من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم» ، وقرأها أبو جعفر ونافع وابن عامر وحمزة وعلي الكسائي وخلف : «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم». وقد يروى عن حمزة : «أستعيذ بالله» أو «نستعيذ بالله» مخيّرا. وقرأ سهل : «أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم». ومنشأ هذه الاختلافات أنه قد جاء في سورة النحل (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ) [النحل : ٩٨] الآية وفي حم السجدة (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [فصلت : ٣٦] وروى جبير بن مطعم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين افتتح الصلاة قال : «الله أكبر كبيرا ـ ثلاث مرات ـ والحمد لله كثيرا ـ ثلاث مرات ـ وسبحان الله بكرة وأصيلا ـ ثلاث مرات ـ» ثم قال : «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه». وروى البيهقي في كتاب السنن عن أبي سعيد الخدري أنه قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا قام من الليل كبّر ثلاثا وقال : «أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم». وروى الضحاك عن ابن عباس أنّ أول ما نزل جبريل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : قل يا محمد أستعيذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. ثم قال : قل بسم الله الرحمن الرحيم ، اقرأ باسم ربك الذي خلق. ثم في المقدمة مسائل :

الأولى : الأكثرون على أن وقت الاستعاذة قبيل القراءة ، إذ المراد من قوله تعالى : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ) [النحل : ٩٨] : إذا أردت قراءة القرآن كما في قوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا) [المائدة : ٦] المراد : إذا أردتم القيام إلى الصلاة. والأخبار المذكورة أيضا تؤيد ذلك. وعن النخعي وقد يروى عن حمزة وابن سيرين أيضا ، أن وقتها بعيد القراءة نظرا إلى

١٤

ظاهر اللفظ ، ولأنه قد يدخل المرء إعجاب بسبب القراءة حيث إنها طاعة موجبة للثواب فيناسب أن يستعيذ من ذلك.

الثانية : الأكثرون على أن الاستعاذة مندوبة ، لأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يعلّم الأعرابي الاستعاذة في جملة أعمال الصلاة ، وزيف بأن الخبر غير مشتمل على بيان جملة واجبات الصلاة ، فلا يلزم من عدم ذكر الاستعاذة فيه عدم وجوبها. وعن عطاء أن الاستعاذة واجبة في كل قراءة في الصلاة وغيرها ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واظب عليها. وقال تعالى : (فَاتَّبِعُوهُ) [الأنعام : ١٥٣ و ١٥٥] (١) ولأن الأمر في «فاستعذ» للوجوب. وإنما تجب عند كل قراءة لأنه قال : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ) وذكر الحكم عقيب الوصف المناسب يدلّ على التعليل ، والحكم يتكرّر بتكرّر العلّة. ولأن الاستعاذة لدفع شر الشيطان ، ودفعه واجب ، وما لا يتمّ الواجب إلّا به فهو واجب. وعن ابن سيرين وجوبها في العمر مرة واحدة وعن مالك أنه لا يتعوّذ في المكتوبة إلا في قيام رمضان.

الثالثة : المستحبّ فيها الإسرار في الصلاة وإن كانت جهرية إلحاقا لها بما قبلها من الذكر وهو دعاء الاستفتاح ، ولأن الجهر كيفية وجودية ، والإخفاء عبارة عن عدم تلك الكيفية والأصل هو العدم ، وأنها تستحبّ في كل ركعة لما مرّ من أنّ الحكم يتكرر بتكرر العلة لكنها آكد في الأولى.

الرابعة : اعلم أن الكلام في معنى قول القائل : «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» ، يتعلق بخمسة أركان : الاستعاذة ، والمستعيذ ، والمستعاذ له ، والمستعاذ منه ، وما لأجله الاستعاذة. فههنا أبحاث :

البحث الأول : معنى العوذ الالتجاء أو الالتصاق. قال الجوهري : أطيب اللحم عوّذه وهو ما التصق منه بالعظم. أي التجئ إلى رحمة الله ، أو التصق بفضله. والباء في «بالله» للإلصاق ، كما أن «من» في «من الشيطان» للابتداء ، لأنه ابتدأ بالتبري من الشيطان والتصق برحمة الله تعالى وإعانته. واستعاذة لا تتمّ إلا بأن يعلم العبد كونه عاجزا عن جلب المنافع الدينية والدنيوية ودفع المضارّ العاجلة والآجلة ، وأن الله تعالى قادر على إيصال المنافع

__________________

(١) إن الضمير في أمر قوله تعالى (فَاتَّبِعُوهُ) عائد إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفقا لسياق كلام المؤلف. وعلى هذا تكون الآية التي أرادها المؤلف هي ١٥٨ من سورة الأعراف ، وهي قوله تعالى : (... فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ). فاقتضى التنويه.

١٥

ودفع المضار لا قدرة على ذلك لأحد سواه تعالى. ويتولد عن هذا العلم في القلب حالة هي انكسار وخضوع ، ويحصل منها في القلب أن يصير العبد مريدا لأن يصونه الله تعالى عن الآفات ويفيض عليه الخيرات ، ثم يصير بلسانه طالبا لذلك فيقول : «أعوذ بالله». فالركن الأعظم في الاستعاذة هو أن يعلم العبد أنّ الله تعالى عالم بكل المعلومات ، وإلا جاز أن لا يعلم حاله فتقع الاستعاذة عبثا ؛ وأن يعلم أنه قادر على جميع الممكنات ، وإلّا فربّما كان عاجزا عن تحصيل مراد العبد ؛ وأن يعلم أنه جواد معطاء ، وإلا لجاز أن يبخل بمقصوده ؛ وأن يعلم أنه لا يقدر أحد سوى الله على تحصيل مرامه ، وإلا لم يكن صادق الرغبة في الاستعاذة به. والحاصل أن العبد ما لم يعرف عزة الربوبية وذلّة العبودية لم تصح منه الاستعاذة. ومما يدلّ على ذلّة الإنسان وعجزه أن بعض الأكياس ربما يبقى في شبهة واحدة طول عمره ولا تنكشف له إلى أن يجيء بعده من يحلها. ولهذا وقع الاختلاف في الأديان والمذاهب ، ولو لا إعانة الله تعالى وإرشاده لم تتخلص سفينة فكره من أمواج الضلالات. وأيضا كل واحد يريد أن يحصل له الدين الحق ولا يرضى لنفسه الجهل والكفر ، ولكم من مضلّ مبطل في الدنيا ، فلا خلاص من ظلمات الشبهات إلا بإعانة رب الأرض والسموات. ولا يقع الحد الأوسط للمطالب في الذهن إلّا بهداية من بيده مفاتيح الخيرات. وأيضا البدن يشبه الجحيم وعليها تسعة عشر من الزبانية وهي : الحواس الخمس الظاهرة ، والخمس الباطنة ، والقوى الطبيعية السبع ، والشهوة ، والغضب ؛ ومجال تصرّف كلّ منها غير متناه بحسب الشخص والعدد ، ويحصل من كل منها أثر في القلب يجرّه من أوج عالم الروحانيات إلى حضيض الجسمانيات فلا خلاص للقلب عن هذه الظلمات إلا بنور الله تعالى. وأيضا كما أنه لا نهاية لمراتب الكمالات فلا نهاية لدرجات الحرص على اللذات الحسيات والخيالات ، وكما أنه لا يمكن تحصيل الكمالات التي لا نهاية لها فكذا لا يمكن إزالة مرض الحرص على اللذات فيجب الرجوع إلى واهب السعادات الحقيقات. وفي بعض الكتب الإلهية قال الله تعالى : «وعزّتي وجلالي لأقطعنّ أمل من يؤمل غيري باليأس ، وألبسنه ثوب المذلة عند الناس ، ولأجنبنه من قربي ، ولأبعدنه من وصلي ، ولأجعلنه متفكرا حيران يؤمل غيري في الشدائد ، والشدائد بيدي وأنا الحي القيوم ، ويطرق بالفكر أبواب غيري وبيدي مفاتيح الأبواب ، وهي مغلقة وبابي مفتوح لمن دعاني».

ثم الكلام في صحة الاستعاذة كالكلام في سائر الأدعية والعبادات التي جعلها الله تعالى سببا وواسطة لحصول الكمالات العاجلة والآجلة للعبد. وذلك أنه تعالى : (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) [هود : ١٠٧] خالق لما يشاء كما يشاء لا اعتراض لأحد من خلقه عليه وعلى أفعاله وعلى

١٦

النظام الذي اخترعه ، الكل منه وبه ، وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه ، إذا أمرك بالاستعاذة فاستعذ ، لأنه جعلها سببا لدفع الوساوس والهواجس. كما أنه إذا جعل الأكل والشرب سببا لدفع الجوع والعطش فإنك تأكل وتشرب ولا تقول ما الفائدة في الأكل والشرب إن كان الإشباع والإرواء من الله تعالى وإن كانا بقدرة الله تعالى. وبهذا التحقيق تسقط الاعتراضات المشهورة للجبرية والمعتزلة لأنها تحوم حول ما أشرنا إليه. ولا ينبئك على سر الاستعاذة مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك ، وبمعافاتك من عقوبتك ، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك».

البحث الثاني : المستعيذ ليس شخصا معينا بل كل مخلوق مفتقر إلى الاستعاذة به. ولهذا قال نوح : (رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) [هود : ٤٧] ، فأعطي السلام والبركات في قوله : (يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ) [هود : ٤٨] وقال يوسف : (مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ) [يوسف : ٢٣] ، فصرف عنه السوء والفحشاء ؛ وقال موسى : (إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ) [غافر : ٢٧] فأغرق الله تعالى عدوّه وأورثه أرضهم وديارهم وأموالهم ؛ وقالت امرأة عمران : (إِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) [آل عمران : ٣٦] (١) (فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً) [آل عمران : ٣٧]. وقد أمر نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) [الفلق : ١] و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) [الناس : ١] فوقي شر النفاثات في العقد وكفي شر الوسواس الخناس.

البحث الثالث : المستعاذ له إنما هو الله أو كلمات الله كما جاء في الأخبار : «أعوذ بكلمات الله التامة». أما البحث عن اسم الله فسيجيء في تفسير البسملة. وأما كلمات الله فالمراد بها المبدعات الصادرة عنه تعالى بكلمة (كُنْ) [البقرة : ٢١٧ ؛ آل عمران : ٤٧ و ٥٩ ؛ الأنعام : ٧٣ ؛ النحل : ٤٠ ؛ مريم : ٣٥ ؛ يس : ٨٢ ؛ غافر : ٦٨] من غير مادة ومدة ، فكأن الأرواح البشرية تستعيذ وتستعين بالأرواح العلوية المقدسة في دفع شرور الأرواح الخبيثة. وإنما تحسن الاستعاذة بالكلمات إذا كان قد بقي في نظره التفات إلى ما سوى الله تعالى. وأما إذا تغلغل في بحر التوحيد لم يستعذ إلا بالله ومن الله كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعوذ بك منك» ، وإذا فني عن نفسه وفني أيضا عن فناء نفسه قال : «أنت كما أثنيت على نفسك».

البحث الرابع : المستعاذ منه الشيطان ، وما لأجله الاستعاذة دفع شره. فنقول : أما

__________________

(١) تنقص «الواو» في «إني» ، فتمام الآية قوله تعالى : (وَإِنِّي أُعِيذُها) ... الآية.

تفسير غرائب القرآن / مجلد ١ / م ٢

١٧

اشتقاقه فمن ش ط ن ، ويقال شطن الدار أي بعدت ، والشيطان بعيد عن السداد والرشاد ، وقد يسمى كل متمرّد من إنس أو دابة شيطانا. قال تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِ) [الأنعام : ١١٢] وركب عمر برذونا فطفق يتبختر فجعل يضربه ولا يزداد إلا تبخترا فنزل عنه فقال : ما حملتموني إلا على شيطان. هذا أحد قولي سيبويه. وعلى هذا فـ «نونه» أصلية ، ووزنه «فيعال» ، وقد جعل سيبويه في موضع آخر النون زائدة وجعله فعلان من شاط يشيط إذا بطل. ولما كان كل متمرد كالباطل في نفسه لأنه مبطل لوجوه مصالح نفسه سمّي شيطانا. والرجيم معناه المرجوم كاللعين بمعنى الملعون. ومعنى المرجوم إما الملعون من قبل الله تعالى ، وإما لأنه تعالى أمر الملائكة برمي الشيطان بالشهب الثواقب ، ثم وصف بذلك كل شرير متمرد. وأما من ضم إلى الاستعاذة قوله : «إن الله هو السميع العليم» فوجه ذلك بعد الاقتداء بما ورد في القرآن أن العبد كأنه يقول : يا من يسمع كل مسموع ويعلم كل سرّ خفي أنت تسمع وسوسة الشيطان وتعلم غرضه فيها ، وأنت القادر على دفعها عني ، فادفعها عني بفضلك.

ولنتكلم في الجن والشياطين فنقول : من الناس من أنكرهم لوجوه :

الأول : لو كان موجودا فإن كان جسما كثيفا لوجب أن يراه كلّ من كان سليم الحس ، لكنّا لا نراه ؛ وإن كان جسما لطيفا لوجب أن يتمزّق ويتفرّق عند هبوب الريح العاصفة ، ولزم أيضا أن لا يقدر على الأعمال الشاقة التي ينسبها إليه المثبتون. والجواب أنه لم لا يجوز أن يكون جوهرا مجردا وبتقدير أن يكون جسما كثيفا فلم لا يجوز أن يصرف الله تعالى عنه أبصار الإنسان لحكمة في ذلك ، كما قال عز من قائل : (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) [الأعراف : ٢٧]. وعلى تقدير كونه جسما لطيفا فلم لا يجوز أن يكون تركيبه محكما كالأفلاك.

الوجه الثاني : قالوا : الظاهر الغالب أنهم لو كانوا في العالم لخالطوا الناس وشوهدت منهم العداوة والصداقة وليس كذلك ، وأهل التعزيم إذا تابوا من صنعتهم يكذبون أنفسهم فيما نسبوه إليهم. ومجال المنع في هذا الوجه لا يخفى لثبوت الاختلاط والعداوة والصداقة منهم بالنسبة إلى كثيرين. قال عز من قائل : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) [الأحقاف : ٢٧] ، (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ) [الجن : ١] (وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ) [سبأ : ١٢] (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) [الأنعام : ١٣٠ ؛ والرحمن : ٣٣]

١٨

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن بالمدينة جنا قد أسلموا» (١) «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم» (٢) «ما منكم أحد إلا وله شيطان». قالوا:ولا أنت يا رسول الله؟قال :«ولا أنا إلا أن الله أعانني عليه فاسلم» (٣).

الوجه الثالث : قالوا : إخبار الأنبياء عنهم لا تفيد إثباتهم ، إذ على تقدير ثبوتهم يجوز أن يقال : كل ما أتى به الأنبياء فإنما حصل بإعانة الجن فمن الجائز أن حنين الجذع كان بسبب نفوذ الجن في الجذع ، وكلّ فرع أدّى إلى إبطال الأصل فهو باطل. والجواب أن الدليل الدال على صحة نبوة الأنبياء ، كما يجيء ، يدلّ على صدق أخبارهم. ومن جملة ما أخبروا عنه وجود الجن والشياطين فصحّ وجودهم. واعلم أن كثيرا من الناس أثبتوا موجودات لا متحيزة ولا حالة في المتحيز وزعموا أنها مجردات عن شوائب الجسمانيات وهم الملائكة المقربون الذين (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) [الأنبياء : ١٩] ، ويليها مرتبة الأرواح المتعلّقة بتدبير الأجسام وأشرفها حملة العرش ، ثم الحافّون من حول العرش ، ثم ملائكة الكرسي ، ثم ملائكة السموات طبقة فطبقة ، ثم ملائكة كرة الأثير ، ثم ملائكة كرة النسيم ، ثم ملائكة كرة الزمهرير ، ثم الملائكة المسلطة على البحار ، ثم على الجبال ؛ ثم مرتبة الأرواح السفلية المتصرفة في هذه الأجسام النباتية والحيوانية. وهذه الأرواح قد تكون مشرقة خيرة وهم من قبيل الملائكة ، وقد تكون مظلمة شريرة وهم شياطين الإنس والجن. ولفظ الجن مأخوذ من الاجتنان وهو الاستتار لاستتارهم عن العيون ، ومنه المجنون لاستتار عقله ، والجنة لكونها ساترة للإنسان. وطوائف المكلفين أربعة : الملائكة والإنس والجن والشياطين. والاختلاف بين الجن والشياطين قيل بالذاتيات كما بين الإنسان والفرس ، وقيل بالعوارض ، فالجن خيارهم والشياطين أشرارهم. والمشهور أن الجن لهم قدرة على النفوذ في بواطن البشر ، لأنهم لو كانوا مجردين فلا استبعاد في كونهم متصرفين في باطن الإنسان وإن كانوا أجساما لطيفة ، فكذلك لا يبعد نفودهم في باطن الآدمي. كيف وقد ورد في القرآن : (لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ) [البقرة : ٢٧٥] ،

__________________

(١) رواه مالك في الموطأ في كتاب الاستئذان حديث ٣٣.

(٢) رواه البخاري في كتاب الأحكام باب ٢١. أبو داود في كتاب الصوم باب ٧٨.

ابن ماجه في كتاب الصيام باب ٦٥. الدارمي في كتاب الرقاق باب ٦٦. أحمد في مسنده (٣ / ١٥٦ ، ٢٨٥).

(٣) رواه مسلم في كتاب المنافقين حديث ٦٩ ، ٧٠. الترمذي في كتاب الرضاع باب ١٧. النسائي في كتاب النساء باب ٤. الدارمي في كتاب الرقاق باب ٢٥ ، ٦٦.

١٩

وفي الحديث : «إنّ الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم» (١) ولا خلاف في أن الملائكة لا يأكلون ولا يشربون ولا ينكحون ، يسبحون الليل والنهار لا يفترون ، وأما الجن والشياطين فخلاف ذلك. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في العظم : «إنه زاد إخوانكم من الجن» (٢) وفي القرآن (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي) [الكهف : ٥٠].

وأما كيفية الوسوسة فيروى أن عيسى عليه‌السلام دعا ربه أن يريه موضع الشيطان من بني آدم ، فأراه ذلك ؛ فإذا رأسه الحية واضع رأسه على قلبه فإذا ذكر الله خنس وأيس ، وإذا لم يذكره وضع رأسه على حبة قلبه. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السموات» (٣) وقال أيضا صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن للشيطان لمة بابن آدم ، وللملك لمة فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق ، وأمّا لمّة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق. فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله ، ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم» ثم قرأ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ) [البقرة : ٢٦٨] الآية ، فمن الخواطر ما هو أصل العادة ، ومنها ما هو أصل الشقاوة. وسبب اشتباه خطأ الخواطر بصوابها أحد أربعة أشياء : إما ضعف اليقين ، أو قلة العلم بصفات النفس وأخلاقها ، أو متابعة الهوى بخرم قواعد التقوى ، أو محبة الدنيا وجاهها ومالها. فمن عصم من هذه الأربعة يفرق بين لمة الملك ولمة الشيطان ، ومن ابتلى بها فلا. واتّفق المحقّقون على أن من كان أكله من الحرام لا يفرق بين الإلهام والوسوسة وفرقوا بين هواجس النفس ووسوسة الشيطان بأن النفس تطالب وتلحّ ، فلا تزال كذلك حتى تصل إلى مرادها. والشيطان إذا دعا إلى زلّة ولم يجب ، يوسوس بأخرى إذ مراده الإغواء كيف أمكن.

وحقيقة الوسوسة راجعة إلى أن الإنسان بينما هو ذاهل عن الشيء ذكره الشيطان ذلك فيحدث له ميل ، ويترتب الفعل على حصول ذلك الميل فكأن الذي أتى به الشيطان من خارج ليس إلا ذلك التذكير. وإليه الإشارة في القرآن حكاية عن إبليس (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) [إبراهيم : ٢٢] ، ولا يتسلسل هذا التذكير وإنما يقدم

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الأحكام باب ٢١. أبو داود في كتاب الصوم باب ٧٨. ابن ماجه في كتاب الصيام باب ٦٥. الدارمي في كتاب الرقاق باب ٦٦. أحمد في مسنده (٣ / ١٥٦ ، ٢٨٥).

(٢) رواه أحمد في مسنده (١ / ٤٣٦ ، ٤٥٨). الترمذي في كتاب تفسير سورة ٤٦ باب ٣.

(٣) رواه أحمد في مسنده (٢ / ٣٥٣) بلفظ : «... يحومون على بني آدم أن لا يتفكروا في ملكوت السموات والأرض».

٢٠