تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٥

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٥

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٩

جوابا في الحقيقة ولكنه كقولهم «عتابك السيف». وفيه بيان جهالتهم أنهم وضعوا الوعيد موضع الائتمار للنصيحة والإذعان للحق. ثم بين أنهم اتفقوا على تحريقه فأنجاه من النار. والقصة مذكورة في سورة الأنبياء. (إِنَّ فِي ذلِكَ) الإنجاء (لَآياتٍ) جمع الآية لعظم تلك الحالة كقوله (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً) [النحل : ١٢٠] أو لأنها مشتملة على أحوال عجيبة كالرمي من المنجنيق من غير أن لحق به ضرر ، وكما يروى أن النار صارت عليه روحا وريحانا إلى غير ذلك. وإنما قال في قصة نوح عليه‌السلام (وَجَعَلْناها آيَةً) [العنكبوت : ١٥] ولم يذكر الجعل هاهنا لأن الخلاص من مثل تلك النار آية في نفسه ، وأما السفينة فقد جعلها الله آية بأن أحدث الطوفان وصانها عن الغرق ، ويمكن أن يقال : إن الصون عن النار أعجب من الصون عن الماء فلذلك وحد الآية هناك وجمعها هاهنا. وإنما قال هناك (آيَةً لِلْعالَمِينَ) [العنكبوت : ١٥] وهاهنا (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) لأن تلك السفينة بقيت أعواما حتى مرّ عليها الناس ورأوها فحصل العلم بها لكل أحد. أو نقول : جنس السفينة حصلت بعد ذلك فما بين الناس فكانت آية للعالمين. وأما تبريد النار فلم يبق من ذلك أثر فلم يظهر لمن بعده إلا بطريق الإيمان به. وهاهنا لطيفة وهي أن الله تعالى جعل النار بردا وسلاما على إبراهيم بسبب اهتدائه في نفسه وهدايته لغيره وقال (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ) [الممتحنة : ٤] فحصل للمؤمنين بشارة بأن الله سيجعل النار على المؤمن المهتدي بردا وسلاما. ثم حكى أنه بعد أن خرج من النار عاد إلى النصيحة والدعاء لقومه إلى التوحيد والإخلاص وذلك قوله (وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ) قال جار الله : من قرأ بالنصب بغير إضافة أو بإضافة فعلى وجهين : أحدهما التعليل أي لتتوددوا بينكم وتتواصلوا لاتفاقكم وائتلافكم على عبادتها كما يتفق الناس على مذهب فيكون بينهم نسبة من ذلك. الوجه الثاني : أن يكون مفعولا ثانيا على حذف المضاف ، أو على أن المصدر بمعنى المفعول أي اتخذتم الأوثان سبب المودة بينكم واتخذتموها مودودة بينكم. ومن قرأ بالرفع بإضافة أو بغير إضافة فعلى وجهين أيضا : أن يكون خبرا لأن على أن ما موصولة والتقدير : إن التي اتخذتموها أوثانا هي سبب مودة بينكم أو مودودة بينكم. وأن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هي مودودة أو سبب مودة وعلى هذا فالوقف على (أَوْثاناً) حسن كما مر. (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) يقوم بين العبدة وكذا بينهم وبين أوثانهم التباغض والتلاعن نظيره (كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) [مريم : ٨٢] والتحقيق فيه أنهم غلبت عليهم الجسمية ولذاتها فلهذا ألفوا الأصنام ولم تقبل عقولهم موجودا منزها عن الأجسام وخواصها ، فلا جرم إذا رفعت الحجب وكشف الغطاء عن عالم الأرواح زالت نسبة الجسمية وظهرت الآلام الروحانية وعذبوا بنار الخسران والحرمان من غير شفعاء ولا أعوان ، فلذلك

٣٨١

قال (وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) وإنما لم يقل هاهنا (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) [البقرة : ١٠٧] لأن الله لا ينصر الكفار من أهل النار. وإنما جمع هاهنا لأنه أراد في الأول جنس النصير وهاهنا أراد نفي الناصرين الذين كان أهل الشرك يزعمون أنهم شفعاؤهم عند الله (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ) وكان ابن أخي إبراهيم صدقه حين رأى النار لم تحرقه. قالت العلماء : إن لوطا آمن برسالة إبراهيم حين رأى المعجزة. وأما بالوحدانية فآمن حين سمع مقالته إذ لو توقف في الإيمان إلى وقت إظهار المعجزة كان نقصا في مرتبته وقدحا في نور باطنه ، ألا ترى أن أبا بكر وعليا أسلما كما عرض النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الإسلام عليهما. (وَقالَ) إبراهيم (إِنِّي مُهاجِرٌ) من كوثى وهي من سواد الكوفة إلى حران ثم منها إلى فلسطين ولهذا قالوا : لكل نبي هجرة ولإبراهيم هجرتان. وكان معه في هجرته امرأته سارة وهاجر وهو ابن خمس وسبعين سنة وهاجر معه لوط أيضا. ومعنى (إِلى رَبِّي) أي إلى حيث أمر ربي بالهجرة إليه ومثله قوله (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي) [الصافات : ٩٩] وعبارة القرآن أدخل في الإخلاص لأن المهاجر إلى حيث أمره الملك قد يهاجر إليه مرة أخرى لغرض نفسه فيصدق أنه مهاجر إلى حيث أمره الملك ولا يصدق أنه مهاجر لأجل الملك ولرضاه. وفي قوله (إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) نوع تهديد لقومه وتصويب لما بدا له من الهجرة بأمر الله. قال في الكشاف : إنه هو العزيز الذي يمنعني من أعدائي ، الحكيم الذي لا يأمرني إلا بما هو مصلحتي.

ثم ذكر ما أنعم به عليه من الأولاد والأحفاد ، ومن جعل النبوة وجنس الكتاب الإلهي فيهم. وهو التوراة والإنجيل والزبور والفرقان ـ ولهذا اندرج ذكر إسماعيل في الآية. ولعل السر في عدم ذكر إسماعيل والتصريح بذكره أن الله تعالى جعل الزمان بعد إبراهيم قسمين : أحدهما زمن إسحاق ويعقوب وذراريهما إلى زمان الفترة ، والآخر من محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى يوم قيام الساعة وهو من ولد إسماعيل فطي ذكر إسماعيل إشارة إلى تأخر زمان دولته والله أعلم. ثم كرر ذكر النعمة بقوله (وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا) قال أهل التحقيق : إن الله تعالى بدل جميع أحوال إبراهيم عليه‌السلام بأضدادها. لما أراد القوم تعذيبه بالنار فجعلها الله عليه بردا وسلاما ، وهاجر فريدا وحيدا فوهب الله له ذريّة طيبة مباركة كما وصفنا ، وكان لا مال له فكثر ماله حتى حصل له من المواشي ما علم الله عدده فقط. يروى أنه كان له اثنا عشر ألف كلب حارس في أعناقها أطواق من ذهب. وكان خاملا حتى قال قائلهم (سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ) [الأنبياء : ٦٠] فجعل الله له لسان صدق في الآخرين. اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم. ثم بين بقوله (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) أن تلك النعمة الدنيوية ولذاتها مقرونة بفلاح الآخرة وصلاحها

٣٨٢

جعلنا الله تعالى ببركته أهلا لبعض ذلك وهو المستعان. قوله (وَلُوطاً إِذْ قالَ) إعرابه كإعراب قوله (وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ) وقد مر والظاهر أن لوطا يكون قد أمر قومه بالتوحيد والعبادة أوّلا ثم نهاهم عن الفاحشة ثانيا. إلا أن الله تعالى قد حكى عنه ما اختص به وبقومه وهو قوله (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) ويحتمل أن يكونوا موحدين إلا أنهم بسبب الإصرار على الفعلة الشنعاء وتحليلها مع وجود النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الناهي عنها صاروا في حكم الكفرة. وإذا كان الزنا فاحشة كما قال (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً) [الإسراء : ٣٢] مع أن الزنا لا يفضي إلى قطع النسل فاللواطة أولى بكونها فاحشة لتماديها في القبح ولإفضائها إلى انقطاع النسل ، ويعلم منه احتياجها إلى الزاجر كالزنا بل أولى ويعلم منه افتقارها إلى الرجم بدليل إمطار الحجارة على أهلها. ومعنى (ما سَبَقَكُمْ بِها) أنه لم يأت بمثل هذا الفعل أحد قبلهم أو لم يشتهر به ولم يبالغ فيه أحد وإن ارتكبه بعضهم في الندرة كما يقال : إن فلانا سبق البخلاء في البخل ، واللئام في اللؤم إذا زاد عليهم. ومعنى (تَقْطَعُونَ السَّبِيلَ) تقضون الشهوة بالرجال مع قطع السبيل المعتاد مع النساء. ويجوز أن يكونوا قطاع الطريق والظاهر يشعر به (وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) أي تضمون إلى قبح فعلكم قبح الإظهار. والنادي هو المجلس ما دام فيه الناس. وعن عائشة : كانوا يتجامعون. وعن ابن عباس : هو الحذف ومضغ العلك وحل الإزار والفحش في المزاح والسخرية بمن مر بهم (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ) ولم يهددوه بنحو القتل والتخويف كما في قصة إبراهيم ، لأن إبراهيم كان يقدح في آلهتهم ويشتمهم بتعديد نقائصهم (يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) [مريم : ٤٢] فجعلوا جزاءه شر الجزاء. وأما لوط فكان ينكر عليهم فعلهم فهددوه بالإخراج أوّلا (أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ) [النمل : ٥٦] واقترحوا من عذاب الله ثانيا. ويجوز أن يكون على سبيل الاستهزاء فلا جرم (قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ) كأنه أيس من توبتهم وإنابتهم ومن أن يلدوا تائبا مطيعا كما قال نوح (وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) [نوح : ٢٧] ولعلهم كانوا يفسدون الناس بحملهم على ما كانوا عليه من المعاصي والفواحش طوعا وكرها أو بابتداء الفواحش واقتداء من بعدهم بهم. والبشرى هي البشارة بالولد ، والنافلة إسحق ويعقوب ، وإضافة (مُهْلِكُوا) إضافة تخفيف لا تعريف لأنه بمعنى الاستقبال أو الحال القريب منه لا الماضي ، ولأن المقصود يتضح بذلك لا بوصف الملائكة لمطلق الإهلاك. والقرية سذوم. ثم علل الإهلاك بأن الظلم قد استمر فيهم بناء على أن كان للثبوت والاستمرار ، ويحتمل أن يكون للزمان الماضي فإن هذا القدر يكفي للتعليل والزائد عليه لا تحتاج الملائكة إلى تقريره بخلاف ما في قصة نوح (فَأَخَذَهُمُ

٣٨٣

الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ) [العنكبوت : ١٤] فإن ذلك إخبار من الله تعالى ولا يحسن من الكريم أن يعاقب على الجرم السابق إلا بعد تحقق الإصرار والاستمرار. قال بعضهم : إن تعلق (بِالْبُشْرى) بهذا الإنذار هو أنه كان في إهلاك قوم لوط إخلاء الأرض من العباد فقدمت البشارة المذكورة المتضمنة لوجود عباد صالحين حتى لا يتأسف على إهلاك قوم من أبناء جنسه. ثم إن إبراهيم لما سمع إنذار الملائكة أظهر الإشفاق على لوط والحزن له قائلا (إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ) منك (بِمَنْ فِيها) وأخبروا بحاله وحال قومه. ومعنى (مِنَ الْغابِرِينَ) من الماضين ذكرهم أو ممن يمضي زمانه ويفني أو من الباقين في المهلكين و (سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً) قد مر في «هود» وقال بعضهم : يحتمل أن يكون ضيق الذرع عبارة عن انقباض الروح فعند ذلك تجتمع أعضاء الإنسان وتقل مساحتها. فقالت الملائكة (لا تَخَفْ) علينا (وَلا تَحْزَنْ) بسب التفكر في أمرنا. وقال أهل البرهان : وإنما قيل هاهنا (وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ) بزيادة «أن» لأن «لما» تقتضي جوابا وإذا اتصل به «أن» دل على أن الجواب وقع في الحال من غير تراخ في الظاهر كما في هذه السورة وهو قوله (سِيءَ بِهِمْ) وفي هود اتصل به كلام بعد كلام فطال فلم يحسن دخول «أن» ظاهرا مع أن القصة واحدة. ثم إن الملائكة قالوا للوط (إِنَّا مُنَجُّوكَ) بلفظ اسم الفاعل وقالوا لإبراهيم عليه‌السلام (لَنُنَجِّيَنَّهُ) بلفظ الفعل لأن ذلك ابتداء الوعد وهذا أوان إنجازه فأرادوا أن ذلك الوعد حتم واقع منا كقولك : أنا ميت لضرورة وقوعه ووجوده. والرجز العذاب الذي يوقع صاحبه في القلق والاضطراب من قولهم : ارتجز وارتجس إذا اضطرب ، والمراد الحجارة. وقيل : النار. وقيل : الخسف. وعلى هذا يراد أن الأمر بالخسف والقضاء به من السماء (وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها) أي من القرية (آيَةً بَيِّنَةً) هي آثار منازلهم الخربة أو بقية الحجارة أو الماء الأسود أو قصتهم وخبرهم. وقوله (لِقَوْمٍ) يتعلق بـ (تَرَكْنا) أو بـ (بَيِّنَةً) ولزيادة قوله (بَيِّنَةً) قال (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) بخلاف قوله في قصة نوح عليه‌السلام (وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ) [العنكبوت : ١٥] لأن الآية لا تتبين إلا لذوي العقول وليس كل من في العالم بذي عقل.

ثم أجمل سائر القصص والرجاء إما على أصله أو بمعنى الخوف. وعلى الأول قال جار الله : أراد افعلوا ما ترجون به العاقبة ، فأقيم المسبب مقام السبب. أو أمروا بالرجاء والمراد اشتراط ما يسوغه من الإيمان كما يؤمر الكافر بالصلاة مثلا على إرادة الشرط وهو الإسلام. (فَكَذَّبُوهُ) إنما صح إطلاق التكذيب مع أن ما ذكره شعيب أمر ونهي ، والأمر لكونه طلبا لا يحتمل التصديق والتكذيب ، وكذا النهي لأن قول شعيب يتضمن قوله الله

٣٨٤

واحد والحشر كائن والفساد محرم وكل واحد من هذه خبر. ومعنى الرجفة والصيحة قد مر في «الأعراف» وفي «هود». وكذا إنه لم قال مع الرجفة في دارهم على التوحيد ، ومع الصيحة في ديارهم على الجمع. (وَ) أهلكنا (عاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ) ذلك الإهلاك (مِنْ) جهة (مَساكِنِهِمْ) إذا نظرتم إليها عند مروركم بها (وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) أي عقلاء متمكنين من النظر والاستدلال ، وكانوا عارفين بأخبار الرسل أن العذاب نازل بهم ولكنهم لم ينظروا في الدليل ولجوا حتى هلكوا (وَما كانُوا سابِقِينَ) أي أدركهم أمر الله فلم يفوتوه. ثم قرر أمر المذنبين بإجمال آخر يفيد أنهم عذبوا بالعناصر الأربعة ، فجعل ما منه تركيبهم سببا لعدمهم وما منه بقاؤهم سببا لفنائهم. فالحاصب حجارة محماة تقع على كل واحد منهم فتنفذ من الجانب الآخر وهو إشارة إلى التعذيب بعنصر النار وأنه لقوم لوط. والصيحة وهي تموّج شديد في الهواء لمدين وثمود. والخسف لقارون والغرق لقوم نوح وفرعون (وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) بالإهلاك (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) بالإشراك وقال بعض أهل العرفان : وما كان الله ليضعهم في غير موضعهم فإن موضعهم الكرامة ولكنهم وضعوا أنفسهم مع شرفها في عبادة الوثن الذي هو في غاية الخسة فلذلك ضرب لهم المثل بالعنكبوت ونسجه الذي هو عند الناس في غاية الوهن والضعف. فإن كان تشبيها مركبا فظاهر ، وإن كان مفرقا فالمشرك كالعنكبوت واتخاذه الصنم معبودا وملجأ كاتخاذ العنكبوت نسجه بيتا فإنه يصير سببا لهلاكه ولتنظيف البيت منه كعابد الوثن يقع في النار بسبب عبادته. وفيه أن العنكبوت كما أنه يصطاد بسبب نسجه الذباب ولكنه لا بقاء له ويتلاشى بأدنى سبب كذلك الكافر يستفيد بشركه ما هو أقل من جناح بعوضة وهو بعض متاع الدنيا ولكنه كعمله يصير آخر الأمر هباء منثورا. ثم عرض على العقول صحة المثل المضروب قائلا (وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ) بأنه لا يصلح للبقاء ولا للاستدفاء ولا للاستظلال ولا للاستكنان والنسج في نفسه إن فرض له فائدة كما أن الصنم في نفسه يمكن أن ينتفع به ولكن اتخاذ النسج بيتا لا شك أنه غير مفيد بل مضر كما مر فكذلك عبادة الصنم. ثم قال (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) فحذف الجواب ليذهب الوهم كل مذهب أي لو كانوا يعلمون أن هذا مثلهم وأمر دينهم لتابوا وندموا ، ولو كانوا يعلمون صحة هذا التشبيه وقد صح أن أوهن البيوت إذا استقريتها بيتا بيتا بيت العنكبوت. فقد تبين أن دينهم أوهن الأديان إذا استقريتها دينا دينا. وصاحب الكشاف علق هذا الشرط بما قبله وليس بذاك وقد مر في الوقوف والله أعلم.

تم الجزء العشرون ، ويليه الجزء الحادي والعشرون وأوله : (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ...)

٣٨٥

بسم الله الرحمن الرحيم

الجزء الحادي والعشرون من أجزاء القرآن الكريم

(إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤٢) وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (٤٣) خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٤٤) اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (٤٥) وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٤٦) وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (٤٧) وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (٤٨) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (٤٩) وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥١) قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٥٢) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٣) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٥٤) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٥) يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (٥٦) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٥٨) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٥٩) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٠) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٦١) اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٢)

٣٨٦

وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٦٣) وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٦٤) فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (٦٥) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٦٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ (٦٧) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٦٨) وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (٦٩))

القراآت : (ما يَدْعُونَ) بياء الغيبة : أبو عمرو وسهل ويعقوب وعاصم غير الأعشى والبرجمي. الباقون : بتاء الخطاب آية على التوحيد : ابن كثير وعاصم سوى حفص والمفضل وحمزة وعلي غير قتيبة وخلف لنفسه. (وَيَقُولُ) بالياء : نافع وعاصم وحمزة وعلي وخلف. الباقون : بالنون (يا عِبادِيَ الَّذِينَ) بسكون الياء : أبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وعلي وخلف. الباقون : بفتح الياء والوقف للجميع بالياء لا غير (أَرْضِي) بفتح الياء ابن عامر يرجعون بضم الياء التحتانية وفتح الجيم : يحيى وهشام (تُرْجَعُونَ) بفتح التاء الفوقانية وكسر الجيم. الباقون : بضم التاء الفوقانية وفتح الجيم لنثوينهم بسكون الثاء المثلثة : حمزة وعلي وخلف. والآخرون : بفتح الياء التحتانية الموحدة. وتشديد الواو (وَلِيَتَمَتَّعُوا) بسكون اللام : ابن كثير وقالون وحمزة وعلي وخلف (سُبُلَنا) بسكون الباء : أبو عمرو.

الوقوف : (مِنْ شَيْءٍ) ط (الْحَكِيمُ) ه (لِلنَّاسِ) ط لاختلاف الجملتين والعدول عن العموم إلى الخصوص (الْعالِمُونَ) ه (بِالْحَقِ) ه (لِلْمُؤْمِنِينَ) ه (الصَّلاةَ) ط (وَالْمُنْكَرِ) ط (أَكْبَرُ) ط (ما تَصْنَعُونَ) ه (مُسْلِمُونَ) ه (إِلَيْكَ الْكِتابَ) ط (يُؤْمِنُونَ بِهِ) ج فصلا بين حال الفريقين مع اتفاق الجملتين (يُؤْمِنُ بِهِ) ط (الْكافِرُونَ) ه (الْمُبْطِلُونَ) ه (الْعِلْمَ) ط (الظَّالِمُونَ) ه (مِنْ رَبِّهِ) ط (عِنْدَ اللهِ) ط (مُبِينٌ) ه (عَلَيْهِمْ) ط (يُؤْمِنُونَ) ه (شَهِيداً) ج لأن ما بعده يصلح وصفا واستئنافا (وَالْأَرْضِ بِاللهِ) لا لأن ما بعده خبر (الْخاسِرُونَ) ه (بِالْعَذابِ) ط (الْعَذابُ) ط (لا يَشْعُرُونَ) ه (بِالْعَذابِ) ط (بِالْكافِرِينَ) ه لا لأن (يَوْمَ) ظرف (لَمُحِيطَةٌ تَعْمَلُونَ) ه (فَاعْبُدُونِ) ط (تُرْجَعُونَ) ه (خالِدِينَ فِيها) ط (الْعامِلِينَ) قف بناء على أن التقدير هم الذين أو أعني الذين (يَتَوَكَّلُونَ) ه (رِزْقَهَا) ق قد قيل : والوصل أولى لأنه وصف آخر لدابة (وَإِيَّاكُمْ) ج لاحتمال الاستئناف والوصل أولى ليكون حالا متمما للمعنى (الْعَلِيمُ) ه (لَيَقُولُنَّ اللهُ)

٣٨٧

لا للاستفهام مع الفاء (يُؤْفَكُونَ) ه (وَيَقْدِرُ لَهُ) ط (عَلِيمٌ) ه (لَيَقُولُنَّ اللهُ) ط (الْحَمْدُ لِلَّهِ) ط لتمام المقول (لا يَعْقِلُونَ) ه (وَلَعِبٌ) ط (الْحَيَوانُ) ط لأن الشرط غير معلق (يَعْلَمُونَ) ه (الدِّينَ) ه (يُشْرِكُونَ) لا لتعلق لام كي ومن جعلها لام أمر تهديد وقف عليه (آتَيْناهُمْ) ط لمن قرأ (وَلِيَتَمَتَّعُوا) بالجزم على استئناف الأمر ، ومن جعل لام (لِيَكْفُرُوا) للأمر عطف هذه عليها فلم يقف. (وَلِيَتَمَتَّعُوا) لا لاستئناف التهديد (يَعْلَمُونَ) ه (مِنْ حَوْلِهِمْ) ط (يَكْفُرُونَ) ه (جاءَهُ) ط (لِلْكافِرِينَ) ه (سُبُلَنا) ط (الْمُحْسِنِينَ) ه.

التفسير : هذا توكيد للمثل المذكور وزيادة عليه حيث لم يجعل ما يدعونه شيئا هذا على تقدير كون «ما» نافية و «من» زائدة ، ويجوز أن تكون استفهاما نصبا بـ (يَدْعُونَ) أو بمعنى الذي و «من» للتبيين المراد ما يدعون من دونه من شيء فإن الله يعلمه. وهو العزيز الحكيم قادر على إعدامه وإهلاكهم لكنه حكيم يمهلهم ليكون الهلاك عن بينة والحياة عن بينة. وفيه أيضا تجهيل لهم حيث عبدوا ما هو أقل من لا شيء وتركوا عبادة القاهر القادر الحكيم. ثم إن الجهلة من قريش كانوا يسخرون من ضرب المثل بالذباب والعنكبوت ونحوهما فنزلت (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) وذلك لأن الأمثال والتشبيهات وسائل إلى المعاني المحتجبة في الأستار كما سبق في أول البقرة ، حيث ضرب المثل بالبعوضة. قال الحكيم : العلم الحدسي يعرفه العاقل ، وأما إذا كان فكريا دقيقا فإنه لا يعقله إلا العالم لافتقاره إلى مقدمات سابقة. والمثل مما يفتقر في إدراك صحته وحسن موقعه إلى أمور سابقة ولا حقة يعرف بها تناسب مورده ومضربه وفائدة إيراده فلا يعقل صحتها إلا العلماء. وحين أمر الخلق بالإيمان وأظهر الحق بالبرهان وقص قصصا فيها عبر ، وأنذر أهل الكفر بإهلاك من غبر ووصف سبيل أهل الأباطيل بالتمثيل ، قوى قلوب أهل الإيمان بأن كفرهم ينبغي أن لا يورث شكا في صحة دينكم ، وشكهم يجب أن لا يؤثر في رد يقينكم ، ففي خلق السموات والأرض بالحق بيان ظاهر وبرهان باهر وإن لم يؤمن به على وجه الأرض كافر. وإنما قال هاهنا (لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) مع قوله (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) وقوله (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) إلى قوله (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [البقرة : ١٦٤] لأن المؤمن لا يقصر نظره من الخلق على معرفة الخالق فحسب ولكنه يرتقي منه إلى نعوت الكمال والجلال فيعرف أنه خلقهما متقنا محكما وهو المراد بقوله (بِالْحَقِ) والخلق المتقن المحكم لا يصدر إلا عن العالم بالكليات والجزئيات ، وإلا عن الواجب الواحد الذات والصفات كقوله (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء : ٢٢] ثم يرتقي من مجموع هذه المقدمات إلى صحة الرسالة وحقيقة المعاد فيحصل له الإيمان بتمامه من خلق ما خلقه على أحسن نظامه. وإنما

٣٨٨

وحد الآية هاهنا لأنه إشارة إلى التوحيد وهو سبحانه واحد لا شريك له. وفي قصة إبراهيم إشارة إلى النبوة وفي النبيين صلى الله عليهم وسلم كثرة. وحيث قوى قلب المؤمنين بالتخصيص المذكور سلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله (اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ) لتعلم أن نوحا ولوطا وغيرهما بلغوا الرسالة وبالغوا في إقامة الدلالة ، ولم ينقذوا قومهم من الضلالة والجهالة ، ولهذا قال (اتْلُ) ولم يقل «اتل عليهم» لأن التلاوة بعد اليأس منهم ما كانت إلا لتسلية قلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. أو نقول : إن الكاتب الإلهي قانون كلي فيه شفاء للصدور فيجب تلاوته مرة بعد أخرى ليبلغ إلى حد التواتر وينقله قرن إلى قرن ويأخذه قوم من قوم إلى يوم النشور. وأيضا فيه من العبر والمواعظ ما يهش لها الأسماع وتطمئن إليها القلوب كالمسك يفوح لحظة فلحظة ، وكالروض يستلذه النظر ساعة فساعة. وفي الجمع بين الأمرين التلاوة وإقامة الصلاة معنيان : أحدهما زيادة تسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كأنه قيل له : إذا تلوت ولم يقبل منك فأقبل على الصلاة لأنك واسطة بين الطرفين ، فإن لم يتصل الطرف الأول وهو من الخالق إلى المخلوق ، فليتصل الطرف الآخر وهو من المخلوق إلى الخالق. والثاني أن العبادات إما اعتقادية وهي لا تتكرر بل تبقى مستمرا عليها. وإما لسانية ، وإما بدنية خارجية وأفضلها الصلاة ، فأمر بتكرار الذكر والصلاة حيازة للفضيلتين ثم علل الأمر بإقامة الصلاة فقال (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) فقال بعض المفسرين : أراد بالصلاة القرآن وفيه النهي عنهما وهو بعيد وقيل : أراد نفس الصلاة وإنما تنهى عنهما ما دام العبد في الصلاة ، وضعف بأنه ليس مدحا كاملا لأن غيرها من الأعمال الفاضلة والمباحة قد يكون كذلك كالنوم وغيره. والذي عليه المحققون أن للصلاة لطفا في ترك المعاصي فكأنها ناهية عنها وذلك إذا كانت الشروط من الخشوع وغيره مرعية. فقد روي عن ابن عباس : من لم تأمره صلاته بالمعروف ولم تنهه عن المنكر لم يزدد بصلاته من الله إلا بعدا. وروي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قيل له : إن فلانا يصلي بالنهار ويسرق بالليل. فقال : إن صلاته لتردعه وروي أن فتى من الأنصار كان يصلي معه الصلاة ثم يرتكب الفواحش ، فوصف ذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إن صلاته ستنهاه ، فلم يلبث أن تاب. وعلى كل حال فالمراعي لأوقات الصلاة لا بد أن يكون أبعد من القبائح. واللفظ لا يقتضي إلا هذا القدر وكيف لا تنهى ونحن نرى أن من لبس ثوبا فاخرا فإنه يتجنب مباشرة القاذورات ، فمن لبس لباس التقوى كيف لا يتجنب الفواحش. وأيضا الصلاة توجب القرب من الله تعالى كما قال (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) [العلق : ١٩] ومقرّب الملك المجازي يجل منصبه أن يتعاطى الأشغال الخسيسة فكيف يكون مقرب الملك الحقيقي؟ وأيضا من دخل في خدمة ملك فأعطاه منصبا له مقام خاص مرتفع فإذا دخل وجلس في صف النعال لم يتركه الملك هنالك ، فإذا صار العبد برعاية شروط الصلاة وحقوقها من

٣٨٩

أصحاب اليمين فكيف يتركه الله الكريم في أصحاب الشمال؟ وتفسير الفحشاء والمنكر مذكور مرارا ، وقال أهل التحقيق : الفحشاء التعطيل وهو إنكار وجود الصانع ، والمنكر الإشراك به وهو إثبات إله غير الله وذلك أن وجود الواجب الواحد أظهر من الشمس وإنكار الظاهر منكر ظاهر. واعلم أن الصلاة لها هيئة فأولها وقوف بين يدي الله كوقوف العبد بين يدي السلطان ، وآخرها جثو بين يدي الله كما يجثو أهل الإخلاص بين يدي السلطان. وإذا جثا في الدنيا هكذا لم يجث في الآخرة كما قال (وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا) [مريم : ٧٢] فالمصلي إذا قال «الله» نفى التعطيل وإذا قال «أكبر» نفى الشرك لأن الشريك لا يكون أكبر من الشريك الآخر فيما فيه الاشتراك ، وإذا قال (بِسْمِ اللهِ) نفى التعطيل ، وإذا قال (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) نفى الإشراك لأن الرحمن هو المعطي للوجود بالخلق والرحيم هو المفيض للبقاء بالرزق ، وهكذا (الْحَمْدُ لِلَّهِ) خلاف التعطيل ، وقوله (رَبِّ الْعالَمِينَ) خلاف التشريك وفي قوله (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) نفى التعطيل والإشراك من حيث إفادة التقديم الاختصاص بالعبادة ، وكذا قوله (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) وفي قوله (اهْدِنَا الصِّراطَ) نفي التعطيل لأن المعطل لا مقصد له. وفي قوله (الْمُسْتَقِيمَ) نفى الإشراك لأن المستقيم أقرب الطرق وهو أحد ، والمشرك يزيد في الطريق بتحصيل الوسائط. وعلى هذا إلى آخر الصلاة وهو قوله في التشهد «أشهد أن لا إله إلا الله» نفى التعطيل والإشراك ، فأول الصلاة «الله» وآخرها «الله». ثم إن الله سبحانه كأنه قال للعبد : أنت إنما وصلت إلى هذه المنزلة الرفيعة بهداية محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقل بعد ذكري : أشهد أن محمدا رسول الله ، واذكر إحسانه بالصلاة عليه. ثم إذا رجعت من معراجك وانتهيت إلى إخوانك فسلم عليهم وبلغهم سلامي كما هو دأب المسافرين (وَلَذِكْرُ اللهِ) أي الصلاة (أَكْبَرُ) من غيرها من الطاعات. وفي تسمية الصلاة بالذكر إشارة إلى أن شرف الصلاة بالذكر. وجوز في الكشاف أن يراد ولذكر الله عند الفحشاء والمنكر وذكر نهيه عنهما ووعيده عليهما أكبر فكان أولى بأن ينهى من اللطف الذي في الصلاة. وعن ابن عباس : ولذكر الله إياكم برحمته أكبر من ذكركم إياه بالطاعة. (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ) من الأعمال فيثيبكم أو يعاقبكم على حسب ذلك.

وحين بين طريقة إرشاد المسلمين ونفع من انتفع واليأس ممن امتنع ، أراد أن يبين طريقة إرشاد أهل الكتاب وهي مجادلتهم بالخصلة التي هي أحسن ، يعني مقابلة الخشونة باللين والغضب بالحلم والعجلة بالتأني. قال بعض المفسرين : أراد لا تجادلهم بالسيف وإن لم يؤمنوا إلا إذا ظلموا فنبذوا الذمة أو منعوا الجزية. وقيل : إلّا الذين أشركوا منهم بإثبات الولد لله والقول بثالث ثلاثة وقيل : إلا الذين آذوا رسول الله. والتحقيق أن أكثر أهل الكتاب جاؤا بكل حسن إلا الاعتراف بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوحدوا وآمنوا بإنزال الكتب وإرسال الرسل

٣٩٠

والمبدأ والمعاد ، فلمقابلة إحسانهم يجادلون أولا بالأحسن ، ولا تستهجن آراؤهم ولا ينسب إلى الضلال آباؤهم بل يقال لهم (آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا) إلى آخر الآية. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وكتبه ورسله ، فإن كان باطلا لم تصدقوهم ، وإن كان حقا لم تكذبوهم» (١) ثم ذكر دليلا قياسيا فقال (وَكَذلِكَ) يعني كما أنزلنا على من تقدمك أنزلنا عليك وقال جار الله : هو تحقيق لقوله (آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا) أي ومثل ذلك الإنزال أنزلناه مصدقا لسائر الكتب السماوية. (فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) هم عبد الله بن سلام وأضرابه (وَمِنْ هؤُلاءِ) أي من أهل مكة أو الأولون هم الأقدمون من أهل الكتاب ، والآخرون هم المعاصرون منهم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقيل : الأولون هم الأنبياء لأن كلهم آمنوا بكلهم ومن هؤلاء هم أهل الكتاب (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا) مع وضوحها إلا المصرون على الكفر المتوغلون فيه نحو كعب بن الأشرف وأصحابه. واعلم أن المجادل إذا ذكر مسألة خلافية كقوله : الزكاة تجب في مال الصغير. فإذا قيل له : لم؟ قال : كما تجب النفقة في ماله ولا يذكر الجامع بينهما. فإن فهم الجامع من نفسه فذاك ، وإلا قيل له : لأن كليهما مال فضل عن الحاجة. فالله سبحانه ذكر أولا التمسك بقوله (وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا) ثم ذكر الجامع بقوله (وَما كُنْتَ تَتْلُوا) الآية. وفي قوله (بِيَمِينِكَ) زيادة تصوير لما نفى عنه من كونه كاتبا. ومعنى (إِذاً لَارْتابَ) لو كان شيء من ذلك أي من التلاوة والخط لارتاب (الْمُبْطِلُونَ) من أهل الكتاب ، وارتاب الذين من شأنهم الركون إلى الأباطيل ، لأن النبي إذا كان قارئا كاتبا أمكن أن يسبق إلى الوهم أن الكلام كلامه لا كلام الله ، وإذا كان أميا فلا مجال لهذا الوهم. أو المراد أن سائر الأنبياء لم يكونوا أميين ووجب الإيمان بهم لمكان معجزتهم فهبوا أنه قارئ كاتب أليس صاحب آيات ومعجزات فإذا هم مبطلون على كل حال. ثم أكد إزالة ريبهم بقوله (بَلْ هُوَ) يعني القرآن (آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) وهو الحفاظ والقراء وسائر الكتب السماوية ، ما كانت تقرأ إلا من القراطيس ولهذا جاء في صفة هذه الأمة «صدورهم أناجيلهم» (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا) الباهرة النيرة إلا المتوغلون في الظلم. سماهم أولا كافرين لأجل مجرد الجحود ، ثم بعد بيان المعجزة سماهم ظالمين لأن الكفر إذا انضم معه الظلم كان أشنع. ويجوز أن يراد بالظلم الشرك كأنهم بغلوهم في الجحود ألحقوا بأهل الشرك حكما أو حقيقة. ولما بين الدليل من جانب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر شبهتهم وهي الفرق بين المقيس والمقيس عليه ، وذلك أن موسى أوتي تسع آيات علم بها كون الكتاب من عند الله وأنت ما أوتيت شيئا منها فأرشد الله نبيه إلى الجواب

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الشهادات باب ٢٩. كتاب تفسير سورة ٢ باب ١١. أبو داود في كتاب العلم باب ٢. أحمد في مسنده (٤ / ١٣٦).

٣٩١

وهو أن يقول (إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ) ووجهه أنه ليس من شرط الرسالة إظهار المعجزة وإنما المعجزة بعد التوقف في الرسالة ، ولهذا علم وجود رسل كشيث وإدريس وشعيب ، ولم يعلم لهم معجزة وكان في بني إسرائيل أنبياء لم تعرف نبوتهم إلا بقول موسى أو غيره ، فليس على النبي إلا النذارة. وأما إنزال الآية فإلى رحمة الله إذا شاء تخليص القوم من تصديق المتنبئ وتكذيب النبي. ثم قال (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ) الآية. والمعنى هبوا أن إنزال الآية شرط أليس القرآن المتلو الذي أخرس شقاشق فصحائهم كافيا في بيان الإعجاز؟ (إِنَّ فِي ذلِكَ) المتلو على وجه الأرضين (لَرَحْمَةً) من الله على الخلق وإلا اشتبه عليهم النبي بالمتنبئ (وَذِكْرى) ليتعظ بها الناس ما بقي الزمان. وإنما كانت هذه الرحمة من الله على الخلق والتذكرة مختصة بالمؤمنين ، لأن المعجزة للكافرين سبب لمزيد الإنكار المستلزم لإلزام الحجة والخلود في النار ، ثم ختم الدلائل بأن أمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكلام منصف وهو قوله (كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً) وقال في آخر سورة الرعد (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) [الآية : ٤٣] لأن الكلام هناك مع المشركين فاستشهد عليهم بأهل الكتاب أيضا وأما هنا فالكلام مع أهل الكتاب فاقتصر على شهادة الله ، ثم بين كون شهادة الله كافية بقوله (يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ثم هددهم بقوله (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ) وهما متلازمان لأن الإيمان بما سوى الله وهو الباطل الهالك الزائل الزاهق كفر بالله وجحود بحقه. (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) لا يستحق لهذا الاسم في الحقيقة غيرهم إذ لا غبن أفحش من اشتراء الباطل بالحق والكفر بالإيمان وإضاعة العمر في عبادة ما لا ينفعهم بل يضرهم قيل : إن ناسا من المسلمين أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكتف قد كتبوا فيها بعض ما يقول اليهود ، فلما نظر إليها ألقاها وقال : كفى بها حماقة قوم أن يرغبوا عما جاءهم به نبيهم إلى ما جاء به غير نبيهم فنزلت (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ) الآية. ويروى أن كعب بن الأشرف وأصحابه قالوا : يا محمد من يشهد لك بأنك رسول الله؟ فنزلت (قُلْ كَفى) الآية. فعلى هذا فالآية نازلة في المشركين ، وعلى ما مر فهل يتناول أهل الكتاب؟ قالوا : نعم ، لأنه صح عندهم معجزة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقطعوا بأنها ليست من عند الله بل من تلقاء محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيلزمهم أن يقولوا : إن محمدا هو الله فيكون إيمانا بالباطل وكفرا بالله. قلت : ولعل وجه التناول هو أنهم آمنوا بالمحرف من التوراة وعبدوا العجل والله أعلم. ثم إن النضر بن الحرث وغيره من كفار قريش كانوا يستعجلون بالعذاب كما مر استهزاء منهم وتكذيبا فنزلت (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى) هو الموت أو يوم بدر أو ما كتب في اللوح أنه لا يعذب هذه الأمة عذاب الاستئصال إلى يوم القيامة. وقوله (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) تأكيد للبغتة ، أو هو كلام مستقل أي إنهم لا يشعرون هذا الأمر ويظنون أن العذاب لا يأتيهم أصلا.

٣٩٢

ثم كرر قوله (يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) تعجبا منهم وتعجيبا ، فإن من توعد بأمر يسير كلطمة أو لكمة يحتمل أن يظهر من نفسه الجلادة ويقول : هات ما عندك. وأما الذي توعد بإحراق ونحوه فكيف يتجلد ويستعجل خصوصا إذا كان الموعد لا يخلف الميعاد ويقدر على كل ما أراد. وقوله (لَمُحِيطَةٌ) بمعنى الاستقبال أي ستحيط بهم يوم كذا ويجوز أن يكون بمعنى الحال حقيقة لأن المعاصي التي توجبها محيطة بهم في الدنيا ، أو مجازا لأن جهنم مآلهم ومرجعهم فكأنها الساعة محيطة بهم. والظرف على هذين الوجهين منصوب بمضمر أي (يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ) كان كيت وكيت. وإنما خص الغشيان بالفوق والتحت دون باقي الجهات ، لأن نار جهنم بذلك تتميز عن نار الدنيا لأن نار الدنيا ، لا تنزل من فوق ولا تؤثر شعلتها من تحت بل تنطفئ الشعلة تحت القدم ، وإنما لم يقل «ومن تحتهم» كما قال (مِنْ فَوْقِهِمْ) لأن نزول النار من فوق عجيب سواء كان من سمت الرأس أو من موضع آخر. وأما الاشتعال من تحت فليس بعجيب إلا حيث يحاذي الرجل. ويجوز أن يكون زيادة الأرجل تصويرا لوقوفهم في النار أو لجثوهم فيها. وقوله (ذُوقُوا ما كُنْتُمْ) أي جزاء ما كنتم تعملونه أمر إهانة ، وحين ذكر حال الكفرة من أهل الكتاب والمشركين وجمعهم في الإنذار وجعلهم من أهل النار اشتد عنادهم وزاد فسادهم وسعوا في إيذاء المؤمنين ومنعهم من عبادة الله فقال (يا عِبادِيَ) فإن كانت الإضافة للتشريف كقوله (عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ) [الدهر : ٦] فقوله (الَّذِينَ آمَنُوا) صفة موضحة. وإن كانت للتخصيص فهي صفة مميزة. ومعنى الآية أن المؤمن إذا لم يتسهل له عبادة الله في بلد على وجه الإخلاص فليهاجر عنه إلى بلد يكون فيه أفرغ بالا أو أرفع حالا وأقل عوارض نفسانية وأكمل دواعي روحانية عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من فر بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبرا من الأرض استوجب الجنة وكان رفيق إبراهيم ومحمد». واعلم أني عند الوصول إلى تفسير هذه السورة عنّ لي سفر من غير اختيار كلي فأقول متضرعا إلى الله الكريم ومستمدا من إعجاز الفرقان العظيم : اللهم إن كنت تعلم أن هذا السفر مشوب بشيء من رضاك فإن كل الرضا لا يمكنني أن أراعيه فاجعله سببا لنجح المقاصد وحصول المآرب والاشتمال على الفوائد الدنيوية والدينية والخلاص من شماتة الأعداء الدنية حتى أفرع لنشر العلوم الشرعية إنك على ما تشاء قدير وبالإسعاف والإجابة جدير. والفاء في قوله (فَإِيَّايَ) للدلالة على أنه جواب الشرط كأنه. قال : إذا كان لا مانع من عبادتي فاعبدوني ثم أريد معنى الاختصاص والإخلاص فقدم المفعول على شريطة التفسير ، وجيء بالفاء الثانية الدالة على ترتيب المقتضى على المقتضي كما يقال : هذا عالم فأكرموه كما مر في قوله (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) [البقرة : ٤٠] فصار حاصل المعنى :

٣٩٣

إن لم تخلصوا العبادة لي في أرض فاخلصوها لي في غيرها. والفائدة في الأمر بالعبادة بعد قوله (يا عِبادِيَ) الدال على العبودية إما المداومة أي يا من عبدتموني في الماضي اعبدوني في المستقبل ، أو الإخلاص في العبادة. ويجوز أن يقال : العبودية غير العبادة ، فكم من عبد لا يطيع سيده ، ثم لما أمر المؤمنين بالمهاجرة صعب عليهم ترك الأوطان ومفارقة الإخوان والخلان فقال (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) أي إن الذي تكرهون لا بد من وقوعه فالأولى أن يكون ذلك في سبيل الله (ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ) فنثيبكم على ذلك ، وفيه أن كل نفس ذائقة الموت اضطرارا فمن أراد أن لا يموت أبدا فليمت اختيارا فإن أولياء الله لا يموتون ولكن ينقلون من دار إلى دار. ثم بين أن للمؤمنين الجنان في مقابلة ما للكافرين من النيران ، وأن في الجنة غرفا تجري من تحتها الأنهار في مقابلة ما يحيط بالكافرين من النار. وبين أن ذلك أجر عملهم بقوله (نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) بإزاء ما بين جزاء عمل الكفار بقوله (ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) وقوله (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ) ألننزلنهم (مِنَ الْجَنَّةِ) عوالي ومن قرأ بالثاء المثلثة فمن الثواء يقال : ثوى في المنزل لازما وأثوى غيره متعديا إلى واحد. فانتصاب (غُرَفاً) إما بنزع الخافض ، وإما لتضمين الإثواء معنى التبوئة والإنزال ، وإما التشبيه الظرف المؤقت بالمبهم. ثم مدح (الَّذِينَ صَبَرُوا) على المكاره في الحال. (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) فيما يحتاجون إليه في الاستقبال. وكل واحد من الصبر والتوكل يحتاج إليه المسافر والمقيم ، فكما أن المهاجر يصبر على فراق الأوطان ويتوكل في سفره على الرحمن ، فالمتوطن يصبر على الأذيات والمحن ويتوكل في أموره على فضل ذي المنن. والصبر والتوكل صفتان لا تحصلان إلا مع سعة العلم بالله وبما سوى الله ، فمن علم أنه باق لا يصبر عنه ولا يتوكل في الأمور إلا عليه ، ومن علم أن ما سواه فإن هان عليه الصبر وعلم أنه لا يصلح للاعتماد عليه. ثم ذكر ما يعين على الصبر والتوكل وهو النظر في حال الدواب. وقال المفسرون : لما أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أسلم بمكة بالهجرة خافوا الفقر والضيعة فكان الرجل منهم يقول : كيف أقدم بلدة ليست لي فيها معيشة فنزلت (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا) عن الحسن أي لا تدخره وقال غيره : لا تطيق حمل الرزق (اللهُ يَرْزُقُها) بإيجاد غذائها وهدايتها إليه. ثم بتشبث ذلك الغذاء بالمغتذي بتوسط قوى أودعها فيها وهيأها لذلك. (وَإِيَّاكُمْ) بمثل ما قلنا وبزيادة الاهتداء إلى وجوه المكاسب والمعايش وترتيب الملبس والمسكن وتهيئة الأقوات وادخار الأموال وتملكها اختيارا وقهرا ، ومنه يعلم أن الاشتغال بترتيب بعض الوسائط وتدبيرها لا ينافي التوكل فقد يكون الزارع الحاصد متوكلا والراكع الساجد غير متوكل. عن ابن عيينة : ليس شيء يخبأ إلا الإنسان والنملة والفأرة وللعقعق مخابئ إلا أنه

٣٩٤

ينساها. وحكي أن البلبل يحتكر في حضنيه أي يجمع. وإذا كان أكثر الحيوان على صورة المتوكلين فالإنسان العاقل العارف بالمبدأ والمعاد ، العالم بوجوه المكاسب الذي يأتيه الرزق من جهات الإرث والعمارة والهدية ونحوها ، كيف يظاهر على الحطام الزائل أشد حرص؟! (وَهُوَ السَّمِيعُ) لدعاء طلبة الرزق (الْعَلِيمُ) بطوياتهم ومقادير حاجاتهم. ثم عجب أهل العجب من حال المشركين من أهل مكة وغيرهم لم يعبدوا الله مخلصين مع علمهم بأنه خالقهم ورازقهم ، فكيف يصرفون عن توحيد الله؟ فإن من علمت عظمته وجبت خدمته ، ولا عظمة فوق عظمة خالق الذرات وإليه أشار بخلق الأرض والسموات موجد الصفات وإليه الإشارة بتسخير الشمس والقمر ولا حقارة فوق حقارة الجماد لأنه دون النبات وهو دون الحيوان وهو دون الإنسان وهو دون سكان السموات ، فكيف يتركون عبادة أشرف الموجودات ويشتغلون بعبادة أخس المخلوقات ، وحين ذكر الخلق أتبعه ذكر الرزق وحكمة البسط والقبض في ذلك الباب. ومعنى (يَقْدِرُ) يضيق فالضمير في (لَهُ) إما للشخص المعين المبسوط له والمراد أن تعاقب الأمرين عليه بمشيئة الله وإما لمبهم غير معين كأن الضمير وضع موضع من يشاء. وفي قوله (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) إشارة إلى أنه عالم بمقادير الحاجات فإذا علم احتياج العبد إلى الرزق أوصله إليه من غير تأخير إن شاء.

ثم احتج على المشركين بوجه آخر وهو اعترافهم بأن إحياء الأرض الميتة بواسطة تنزيل ماء السماء هو من الله. ثم قال (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) وهو كلام مستقل على سبيل الاعتراض أو هو متصل بما قبله كأنه استحمد رسوله على البراءة من التناقض والتهافت خلاف أهل الشرك المعترفين بأن النعمة من الله ثم يتركون عبادته إلى عبادة الصنم الذي لا يملك نفعا ولا ضرا. وفيه أن العالم إذا لم يعمل بعلمه انخرط في سلك من لا عقل له ولهذا عقبه بقوله (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) وقال جار الله : أراد لا يعقلون ما يقولون وما فيه من الدلالة على بطلان الشرك وصحة التوحيد ، أو لا يعقلون ما تريد بقولك : «الحمد لله» ولا يفطنون لم حمدت الله عند مقالتهم. واعلم أن المشركين معترفون بأن الخلق والرزق من الله ، ولكن حب الدنيا وزينتها حملتهم على موافقة أهل الشرك والمداومة على الدين الباطل ، فصغر الله تعالى أمر الدنيا وعظم أمر الآخرة ليعلم أن رعاية جانب الآخرة أهم من رعاية صلاح الدنيا. قال أهل العلم : الإقبال على الباطل لعب ، والإعراض عن الحق لهو ، والمشتغل بالدنيا كذلك. ويمكن أن يقال : المشتغل بها لا على وجه الاستغراق بل على وجه يفرغ لبعض أمور الآخرة لاعب ، والمشغول بها بحيث ينسى الآخرة بالكلية لاه وحين كان الكلام في الأنعام بعد ذكر الآخرة وما يجري فيها من الحيرة والحسرة قدم اللعب هنالك

٣٩٥

لأن الاستغراق الكلي بالنسبة إلى أهل الآخرة أبعد فأخر الأبعد. ولما كان المذكور هاهنا من قبيل الدنيا ولهذا أشار إليها بقوله (وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا) وقال في الأنعام (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا) [الآية : ٣٢] وهي خداعة تدعو النفوس إلى الإقبال عليها بالكلية ، فلا جرم قدم اللهو. ويحتمل أن يقال : إنه تعالى قدم اللعب على اللهو في موضعين من «الأنعام» وكذلك في القتال ويقال لها «سورة محمد» صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي «الحديد». وقدم اللهو على اللعب في «الأعراف» و «العنكبوت». فاللعب مقدم في الأكثر لأن اللعب زمانه الصبا ، واللهو زمانه الشباب ، وزمان الصبا مقدم على زمان الشباب.

«تنبيه» ما ذكر في الحديد (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ) كلعب الصبيان (وَلَهْوٌ) كلهو الشبان و (زِينَةٌ) كزينة النسوان (وَتَفاخُرٌ) كتفاخر الإخوان (وَتَكاثُرٌ) [الآية : ٢٠] كتكاثر السلطان وقدم اللهو في الأعراف لأن ذلك في القيامة فذكر على ترتيب ما انقضى وبدأ بما بدأ به الإنسان وانتهى من الجانبين. وأما هذه السورة فأراد فيها ذكر سرعة زمان الآخرة ، فبدأ بذكر ما هو أكثر ليكون إلى المقصود أقرب. ثم إن الحال في سورة الأنعام لما كانت حال إظهار الحسرة لم يحتج المكلف إلى وازع قوي فاقتصر على قوله (وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ) [الأنعام : ٣٢] ولما كان هاهنا حال الاشتغال بالدنيا احتاج إلى وازع أقوى فقال (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ) أي لا حياة إلا حياة الآخرة وليس فيها إلا حياة مستمرة دائمة بلا موت فكأنها في ذاتها حياة. ولا يخفى ما في التركيب من أنواع المبالغة من جهة «إن» ومن جهة صيغة الفصل ، ولام التأكيد ، وبناء الفعلان بتحريك العين وهو مصدر «حيي» بياءين لفقد ما عينه ياء ولامه واو. ولو كانا واوين لقيل : حوى مثل قوى وقياسه «حييان» بياءين قلبت الثانية واوا على منوال حيوة في اسم رجل. ولأن المبالغة هاهنا أزيد مما في الأنعام قال هاهنا (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) وهنالك (أَفَلا تَعْقِلُونَ) [الأنعام : ٣٢] لأن المعلوم أكثر مقدمة من المعقول وقد مر في السورة ثم أشار بقوله (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ) إلى أن المانع من التوحيد والإخلاص هو الحياة الدنيا لأنهم إذا انقطع رجاؤهم رجعوا إلى الفطرة الشاهدة بالتوحيد والإخلاص ، فإذا نجاهم إلى البر عادوا إلى ما كانوا عليه من حب الدنيا وأشركوا لأجلها. ثم بين أن نعمة الأمن يجب أن تقابل بالشكر لا بالكفر فقال (أَوَلَمْ يَرَوْا) الآية. وقد مر مثله في «القصص». ثم ذكر أن الذين سمعوا البيانات المذكورة ولم يؤمنوا فلا أظلم منهم لأن من وضع شيئا في غير موضعه فهو ظالم. فمن وضع شيئا في موضع لا يمكن أن يكون ذلك موضعه يكون أظلم ، وإنهم جعلوا لله شريكا مع عدم إمكان الشريك له ، فلا أظلم منهم. وأيضا من كذب صادقا يجوز عليه الكذب كان ظالما ، فمن كذب صادقا لا يجوز عليه الكذب كيف يكون حاله وإنهم كذبوا النبي والقرآن؟ وفي قوله (لَمَّا

٣٩٦

جاءَهُ) إشارة إلى أنهم لم يتلعثموا في التكذيب وقت أن سمعوه ولم يستعملوا التدبر التفكر فيما يجب أن يستعمل فيه التأني والتثبت. وهذا أيضا نوع من الظلم بل ظلم مضموم إلى ظلم. وفي قوله (أَلَيْسَ) معنيان بعد كون الاستفهام للتقرير. فإن أريد نفي الحال فمعناه ألم يصح عندهم أن في جهنم مثوى للكافرين حتى اجترءوا على مثل هذه الجرأة؟ وإن أريد نفي الاستقبال فالمراد ألا يثوون في جهنم وقد افتروا على الله وكذبوا بالحق؟ وقيل : هو من الكلام المنصف لأنه قدم مقدمة هي أنه لا أظلم من المفتري وهو المتنبئ ومن الذي كذب النبي. ثم ذكر أن جهنم مقام الكافر سواء كان هو المتنبئ أو المكذب للنبي فهو كقوله (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [سبأ : ٢٤] ثم ختم السورة بآية جامعة فيها تسلية قلوب المؤمنين والمراد أن من جاهد النفس أو الشيطان الجني والإنسي (فِينا) أي في حقنا ومن أجل رضانا خالصا (لَنَهْدِيَنَّهُمْ) سبيل الجنة أو سبيل الخير بإعطاء مزيد الألطاف والتوفيق. وقيل : والذين جاهدوا فيما علموا ولم يقصروا في العمل به لنهدينهم إلى ما لم يعلموا وهو قريب من قول الحكيم : إن النظر في المقدمات يعد النفس لقبول الفيض وهو النتيجة من واهب الصور الجسمانية والعقلية. وقوله (وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) أي بالنصر والإعانة إشارة إلى مرتبة أعلى من الاستدلال وهو الذي يسمى العلم اللدني ، فكأنه تعالى أشار في خاتمة السورة إلى الفرق الثلاث. فأشار إلى الناقصين بقوله (وَمَنْ أَظْلَمُ) وذلك أنهم صرفوا الاستعداد في غير ما خلق لأجله ، وإلى المتوسطين الذين يحصلون العلم بالكد بقوله (وَالَّذِينَ جاهَدُوا) وإلى أصحاب الحدس وصفاء الضمير بقوله (وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) والله أعلم بمراده.

التأويل : (وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) بالله لأن عقولهم مؤيدة بأنوار العلم اللدني (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) الذين ينظرون بنور الله فان النور لا يرى إلا بالنور (اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ) فيه أن التلاوة والعمل به يجب أن يتقارنا حتى يتخلق بخلق القرآن ويحصل الانتهاء عن الفحشاء وهي طلب الدنيا. والمنكر وهو الالتفات إلى غير الله. فإن لم تكن الصلاة متصفة بذلك فهي كلا صلاة. (وَلَذِكْرُ اللهِ) في إزالة مرض القلب (أَكْبَرُ) من تلاوة القرآن وإقامة الصلاة ، لأن القلب لا يطمئن إلا بذكر الله ، وعند الاطمئنان توجد سلامة القلب. فالذكر له خاصية الإكسير في جعل الإبريز ذهبا خالصا. (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ) من استعمال مفتاح الشريعة وآداب الطريقة لفتح أبواب طلسم الوجود المجازي والوصول إلى الكنز الخفي (وَلا تُجادِلُوا) يا أرباب القلوب أهل العلم الظاهر إلا بطريق الإنصاف والرفق (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا) بمزيد الإنكار والعناد فحينئذ لا تجادلوهم إذ لا يرجى منهم قبول الحق والإذعان له ، فخلوا بينهم وبين باطلهم (وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا) من

٣٩٧

العلوم الباطنة (وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) من العلوم الظاهرة (وَكَذلِكَ) أي كما أنزلنا الدلائل والبراهين العقلية على أهل الظاهر أنزلنا عليكم الكشوف والمعارف (فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) وهم أرباب القلوب يصدقون به ، (وَمِنْ هؤُلاءِ) العلماء الظاهريين من يؤمن به (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا) الذين يشترون الحق بالباطل (وَما كُنْتَ تَتْلُوا) وفيه أن القلب إذا كان خاليا عن النقوش الفاسدة كان أقبل للعلوم اللدنية كقلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولذلك قال (بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) يعني أن قلوب الخواص خزائن الغيب. سأل موسى عليه‌السلام : إلهي أين أطلبك؟ فقال : أنا عند المنكسرة قلوبهم لأجلي. ثم أشار بقوله (وَما يَجْحَدُ) إلى أن الحرمان من الرؤية من خصوصية الرين ولهذا قالوا (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ) وذلك لعمى عيون قلوبهم. ثم أشار إلى ظلومية الإنسان وجهوليته بأنه يستعجل بالعذاب مع عدم صبره عليه (وَإِنَّ جَهَنَّمَ) الحرص وغيره من الأخلاق الذميمة (لَمُحِيطَةٌ) بهم من فوقهم وهو الكبر والغضب (وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) وهو الحرص والشره والشهوة (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) لأنهم نائمون فإذا ماتوا انتبهوا (يا عِبادِيَ) أن أرض حضرة جلالي (واسِعَةٌ) فهاجروا بالخروج من حبس وجودكم إلى سرادقات هويتي (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) بالاضطرار فارجعوا إلينا بالاختيار لنبوئنكم من جنة الوصال غرفا من المعارف (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) أنهار الحكمة (الَّذِينَ صَبَرُوا) في البداية على حبس النفس بالفطام عن المرام ، وفي الوسط على تجرع القلب كاسات التقدير من غير تعبير ، وفي النهاية صبروا على بذل الروح لنيل الفتوح (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ) شخص كالدابة (لا تَحْمِلُ) النظر عن (رِزْقَهَا) لضعف نفسها عن التوكل (اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ) أيها الطالبون للمشاهدات والمكاشفات (لَيَقُولُنَّ اللهُ) لأن كلهم قالوا في الأزل : بلى عند خطاب (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) [الأعراف : ١٧٢] والفرق إثبات الشريك ونفيه وذلك لعدم إصابة النور المرشش وإصابة دليله قوله (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ) بإصابته النور (وَيَقْدِرُ) بأخطائه (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) باستحقاق كل فريق من نزل من سماء الروحانية ماء الإيمان فأحيا به أرض القلوب (لَهِيَ الْحَيَوانُ) لأن جميع أجزائها حي فقد ورد في الحديث «إن الجنة وما فيها من الأشجار والأثمار والغرف والحيطان والأنهار حتى ترابها وحصباؤها كلها حي» قلت : ولعل ذلك لبقاء كل منها على كماله الآخر. ثم بين بقوله (فَإِذا رَكِبُوا) أن إخلاص المؤمن ثابت وإخلاص الكافر مضطرب ثم بين أن حرم القلب آمن وما حوله من صفات النفس ومشاهدة ربها مظنة تصرف الشيطان ، فمن افترى على الله بأن لا يكون له مع الله وقت وحال ويظهر ذلك من نفسه ، أو كذب طريقة أهل الحق جاهدوا فينا يخرج منه مجاهدة الرهبانيين والفلاسفة والبراهمة ونحوهم لأنهم مرتاضون رياء وكسلا.

٣٩٨

سورة الروم وهي مكية حروفها ثلاثة آلاف وخمسمائة وأربعة وثلاثون

وكلماتها ثمانمائة وتسعة عشر آياتها ستون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤) بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٥) وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (٧) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (٨) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٩) ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠) اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١١) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (١٢) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (١٣) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (١٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (١٥) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (١٦) فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (١٧) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (١٨) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١٩) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (٢٠) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢١) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (٢٢) وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ

٣٩٩

لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٢٣) وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٤) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (٢٥) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (٢٦) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧) ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٨) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٩) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٠) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٣١) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٣٢))

القراآت : عاقبة بالنصب : ابن عامر وعاصم وحمزة وعلي وخلف. الآخرون : بالرفع. (السُّواى) بالإمالة : أبو عمرو وحمزة وعلي وخلف وحماد يرجعون على الغيبة : أبو عمرو غير عباس وأوقية وسهل ويحيى وحماد تخرجون بفتح التاء وضم الراء : حمزة وعلي وخلف. الباقون : مجهولا (لِلْعالِمِينَ) بكسر اللام : حفص يفصل على الغيبة : عباس. الآخرون : بالنون.

الوقوف : (الم) كوفي (غُلِبَتِ الرُّومُ) ه (سَيَغْلِبُونَ) ه (سِنِينَ) ه (وَمِنْ بَعْدُ) ط (الْمُؤْمِنُونَ) ه (بِنَصْرِ اللهِ) ط وكلاهما مبني على أن قوله (بِنَصْرِ اللهِ) يتعلق بـ (يَفْرَحُ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ) ط (الرَّحِيمُ) ه (وَعْدَ اللهِ) ه (لا يَعْلَمُونَ) ه (الدُّنْيا) ج لعطف الجملتين المختلفتين والوصل أولى (غافِلُونَ) ه (فِي أَنْفُسِهِمْ) ط لحق الحذف أي فيعلموا ذلك أو فيقولوا هذا القول (مُسَمًّى) ط (لَكافِرُونَ) ه (مِنْ قَبْلِهِمْ) ط (بِالْبَيِّناتِ) ط (يَظْلِمُونَ) ه لا لأن «ثم» لترتيب الأخبار (يَسْتَهْزِؤُنَ) ه يرجعون ه (الْمُجْرِمُونَ) ه والوصل جائز (كافِرِينَ) ه (يَتَفَرَّقُونَ) ه (يُحْبَرُونَ) ه (مُحْضَرُونَ) ه (تُصْبِحُونَ) ه (تُظْهِرُونَ) ه (بَعْدَ مَوْتِها) ط (تُخْرَجُونَ) ه (تَنْتَشِرُونَ) ه (وَرَحْمَةً) ط (يَتَفَكَّرُونَ) ه (وَأَلْوانِكُمْ) ط (لِلْعالِمِينَ) ه (مِنْ فَضْلِهِ) ط (يَسْمَعُونَ) ه (مَوْتِها) ط (يَعْقِلُونَ) ه (بِأَمْرِهِ) ط لأن «ثم» لترتيب الأخبار (دَعْوَةً) لا وقيل : على من الأرض وكلاهما تعسف.

٤٠٠