تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٥

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٥

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٩

كونها شفعاء وشهداء ، ولو ذكرها ذاكر بخلاف ذلك ساءهم. وأما ذكر الرحمن الذي منه جلائل النعم ودقائقها وأصولها وفروعها فلا يخطر منهم ببال ، ولو ذكره ذاكر استهزؤا به حتى إن بعضهم يقولون : ما نعرف الرحمن إلا مسيلمة فهم أحق أن يتخذوا هزوا. ويحتمل أن تكون الباء للسببية أي هم كافرون بسبب ذكرهم الرحمن لا على ما ينبغي ، فيكون الذكر في الموضعين بمعنى واحد. وقيل (بِذِكْرِ الرَّحْمنِ) أي بما أنزل إليك من القرآن وكانوا يستعجلون بعذاب الله كما يجيء من قوله (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ) فقدم لذلك أولا مقدمة هي قوله (خُلِقَ الْإِنْسانُ) أي هذا الجنس (مِنْ عَجَلٍ) أراد أنه مجبول على إفراط العجلة كما مر في قوله (وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً) [الإسراء : ١١] وعن ابن عباس أنه آدم أراد أن يقوم حين بلغ الروح صدره ، وعن مجاهد أن آدم لما دخل الروح رأسه وعينيه رأى الشمس قاربت الغروب فقال : يا رب عجل خلقي قبل أن تغيب الشمس. وعن ابن عباس أيضا أنه النضر بن الحرث والأول أظهر. وقيل : العجل الطين بلغة حمير ، وقال الأخفش : أي من العجل في الأمر وهو قوله (كُنْ) وقيل : هو على القلب أي خلق العجل من الإنسان (سَأُرِيكُمْ آياتِي) وهي الهلاك المعجل في الدنيا والعذاب في الآخرة (فَلا تَسْتَعْجِلُونِ) فإنها كائنة لا محالة في وقتها وقيل : هي أدلة التوحيد وصدق الرسول. وقيل : آثار القرون الخالية بالشام واليمن.

سؤال : قوله (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) فيه أن الآدمي معذور على الاستعجال لأنه له كالأمر الطبيعي الذي لا بد منه ، فلم رتب عليه النهي بقوله (فَلا تَسْتَعْجِلُونِ)؟ وأجيب بأن فيه تنبيها على أن ترك العجلة حالة شريفة وخصلة عزيزة. وقال جار الله : هذا كما ركب فيه الشهوة وأمره أن يغلبها.

آخر : القوم استعجلوا الوعد على جهة التكذيب ، ومن هذا حاله لا يكون مستعجلا في الحقيقة؟ أجيب بأن الاستعجال على هذا الوجه أدخل في الذم لأنه استعجال على أمر موهوم عندهم لا معلوم (لَوْ يَعْلَمُ) جواب «لو» محذوف و (حِينَ) مفعول به لـ (يَعْلَمُ) والمعنى لو يعلمون الوقت الذي يستعجلونه وهو وقت إحاطة النار بهم ، لما كانوا بتلك الصفة من الكفر والاستهزاء والاستعجال. ويجوز أن يكون (يَعْلَمُ) متروك المفعول أي لو كانوا من أهل العلم لما كانوا مستعجلين ، وعلى هذا يكون (حِينَ) منصوبا بمضمر أي حين لا يكفون يعلمون أنهم كانوا على الباطل ، وخص الوجوه والظهور بالذكر لأن نكاية النار في هذين العضوين أشد مع أن الإحاطة التامة تفهم منهما. ثم بين أن وقت مجيء العذاب غير

٢١

معلوم لهم فإن مجيء الساعة مخفي عن المكلفين ليكونوا أقرب إلى تلافي الذنوب فقال (بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ) قال جار الله : أي لا يكفونها بل تفجؤهم فتغلبهم. قلت : فائدة «بل» في هذه المقامات للانتقال من جملة إلى أخرى أهم من الأولى ، ويحتمل أن تكون «لو» لظاهر التمني والضمير للنار. وقيل : للساعة. وفي قوله (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) تذكير بإمهالهم في دار الدنيا أي ثم يهلكون بعد طول الإمهال. ثم سلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ) الآية. وقد مرت في أول الأنعام. ولما بين أن الكفار في الآخرة لا يكفون عن وجوههم النار ذكر أنهم في الدنيا أيضا مفتقرون إلى حراسة الله وكلاءته فقال (قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ) إذا نمتم (وَالنَّهارِ) إذا تقلبتم في وجوه المصالح (مِنَ الرَّحْمنِ) أي من بأسه وعذابه كالقتل والسبي ونحوهما. قيل : إنما خص الرحمن بالذكر تلقينا للجواب حتى يقول العاقل أنت الكالئ يا إلهنا لكل الخلائق برحمتك ونظيره (ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) [الإنفطار : ٦] ثم أضرب عن الأمر بالاستفهام قائلا (بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ) لا يخطرونه ببالهم فضلا أن يخافوا بأسه كأنه أمر رسوله بسؤالهم عن الكالئ ، ثم بين أنهم لا يصلحون لذلك لإعراضهم عن ذكر من يكلؤهم. أما قوله (أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ) فذكر في الكشاف أنه إضراب عن الكلام السابق بما في «أم» من معنى «بل». وقال غيره : الميم زائدة وإنه استفهام مستأنف والتقدير ألهم آلهة تمنعهم من دوننا من العذاب ، ومعنى (مِنْ دُونِنا) أن تلك الآلهة لا تتجاوز منعنا وحفظنا ثم استأنف فقال (لا يَسْتَطِيعُونَ) ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي تلك الآلهة ليست تقدر على نصر أنفسها فكيف تحفظ غيرها وتنصرها. وقوله (وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ) قال المازني : هو من أصحبت الرجل إذا منعته. والأكثرون على أنه من الصحبة بمعنى النصرة والمعونة ومنه قولهم «صحبك الله». والحاصل أن من لا يكون قادرا على دفع الآفات ولا يكون مصحوبا من الله بالإعانة والنصرة كيف يتوقع منه دفع ضر أو جلب نفع! ولما أبطل كون الأصنام نافعة أضرب عن ذلك منتقلا إلى بيان أن ما هم فيه من الحفظ والكلاءة والتمتع بالحياة العاجلة هو من الله لا من مانع يمنعهم من الإهلاك ولا من ناصر يعينهم على أسباب التمتع سوى الله. وفي قوله (حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) إشارة إلى أنه لما امتدت أيام الروح والطمأنينة حسبوا أن ذلك لن يزول عنهم فاغتروا به ونسوا المنعم فاستأهلوا العقاب كما أشار إليه بقوله (أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) وفي لفظ الإتيان تصوير ما كان الله يجريه على أيدي المسلمين الذين هم حزب الله من نقص ديار الكفر وتخريبها وعمارة حوزة الإسلام وتشييد مبانيه وقد مر مثله في آخر سورة الرعد. والاستفهام في قوله (أَفَهُمُ الْغالِبُونَ) للتقرير أي لنحن الغالبون وهم المغلوبون.

٢٢

ثم بين أن هذه الإنذارات ليست من قبل الرسول ولكنه بالوحي ، ثم مهد عذر الرسول إن لم تنجع فيهم رسالته بأن الصم لا يسمعون دعاء المنذر. واللام في (الصُّمُ) للعهد أي لا يسمع هؤلاء الإنذار فوضع (الصُّمُ) في موضع اسم الإشارة إيذانا بأنهم هم الموسومون بالصمم عن استماع الحق ، ولو كان اللام للجنس لكان الأنسب إطلاق الدعاء لأن الصم لا تسمع الدعاء بشروا أو أنذروا. ثم ذكر أنهم لا يعترفون بالتقصير والظلم إلا عند معاينة العذاب فقال : (وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ) وفي ذكر المس وبناء المرة من النفح الذي هو بمعنى القلة والنزارة. منه قولهم «نفحه بعطية» أي رضخه ، «ونفحته الدابة» وهو رمح يسير دليل على أنهم في غاية الضعف يجزعون من أدنى أثر من عذاب الله. قوله (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ) المراد من الوضع الإحضار والقسط أي العدل صفة الموازين وإن كان موحدا كقولهم للقوم «إنهم عدل» قاله الفراء. وعن الزجاج أراد ذوات القسط. واللام في (لِيَوْمِ الْقِيامَةِ) بمعنى الوقت كما يقال «جئت لتاريخ كذا». وقيل : أراد لأجل الحساب يوم القيامة. وقد مر تحقيق الوزن وما يتعلق به من الأبحاث في أول سورة الأعراف. يروى أن داود عليه‌السلام سأل ربه أن يريه الميزان ، فلما رآه غشي عليه ثم أفاق فقال : يا إلهي من الذي يقدر أن يملأ كفته حسنات؟ فقال : يا داود إني إذا رضيت عن عبدي ملأتها بتمرة. وفي قوله (فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) بحث بين المعتزلة والأشاعرة وقد مر مرارا (وَإِنْ كانَ) أي الوزن والعمل (مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها) أنت ضمير المثقال باعتبار إضافته إلى الحبة. قيل : الحبة أعظم من الخردلة فكيف قال : حبة من خردل؟ وأجيب بأن الوجه فيه أن تفرض الخردلة كالدينار ثم تعتبر الحبة من ذلك الدينار ، والظاهر أنه أراد الحبة من حيث اللغة. وقوله (مِنْ خَرْدَلٍ) بيان لها لأن الحبة أعم من أن تكون من الخردل أو من الحنطة أو من غيرهما ولكن المبالغة في الأول أكثر ، وذلك أن الخردلة سدس شعيرة وهي نصف سدس ثمن الدينار عند الحساب ونصف سدس سدسه في الشرع ، والحبة ثمن تسع الدينار في عرف حساب فارس والعراق ، فمثقال حبة من خردل يكون على الوجه الأول ثمن تسع خردلة ، وعلى ما قلنا يكون هو الخردل بعينه. والحاصل أن شيئا من الأعمال صغيرا كان أو كبيرا غير ضائع من علم الله وأنه يجازي عليه. رؤي الشبلي في المنام فقيل له : ما فعل الله بك؟ فقال :

حاسبوني فدققوا

ثم منوا فأعتقوا.

قال في التفسير الكبير : زعم الجبائي أن من استحق مائة جزء من العقاب فأتى بطاعة

٢٣

يستحق بها خمسين جزءا من الثواب فهذا الأقل منحبط بالأكثر كما كان. والآية تبطل قوله لأن الله تعالى تمدح بأن اليسير من الطاعة لا يسقط ، ولو كان الأمر كما قاله الجبائي لسقطت الطاعة من غير فائدة. قلت : للجبائي أن يقول : الإتيان بالطاعة مشروط عندي بعدم الإحباط كما أن العقاب على المعصية مشروط عندكم بعدم العفو. (وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) كقوله (وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً) [النساء : ٦] وحين فرغ من دلائل التوحيد والنبوة والمعاد شرع في قصص الأنبياء تسلية لنبيه وتثبيتا وعظة لأمته وتذكيرا ، وقد مر قصة موسى إلا أنه أوجز فيها هاهنا والموجز تقدمه الفصحاء غالبا ، ولأن موسى أقوى حالا ومعجزة ، ولأن ذكر التوراة يناسب ما تقدم من قوله (قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ) وصف التوراة بأنها جامعة لكونها فرقانا يفرق به بين الحق والباطل ، وقد مر سائر تفاسير الفرقان في أول البقرة (وَضِياءً) كقوله (فِيها هُدىً وَنُورٌ) [المائدة : ٤٤] وذكر للمتقين أي شرفا وموعظة ، أو ذكر ما يحتاجون إليه في دينهم ودنياهم وقوله (بِالْغَيْبِ) إما حال من الرب أي حال كونه غائبا عن حسهم والله لا يغيب عنه شيء فيكون كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «فإن لم تكن تراه فإنه يراك» (١) وإما حال منهم أي حال كونهم غائبين عن عذاب الآخرة وأهوالها ، أو غائبين عن الناس أي يخشون ربهم في الخلوات. ثم عظم شأن القرآن بقوله (وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ) أي كثير البركة (أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) أي أنتم دون سائر الناس مع علمكم بفصاحته وإعجازه تخصونه بالإنكار. ولا يخفى ما فيه من التوبيخ للعرب ومن داناهم.

التأويل (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً) من أرض البشرية ثم هم يحيون القلوب الميتة بل الله يحييها بنور ذكره وطاعته لو كان في سماء الروحانية وأرض البشرية (آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ) كالعقل والهوى (لَفَسَدَتا) كما فسد سماء أرواح الفلاسفة حين أثبتت عقولهم للواجب صفات لا تليق به ، وفسد أرض بشرية الطبائعية حين زلت قدمهم عن استعمال قوانين الشريعة بمقتضى هوى الطبيعة (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) لأن أفعاله تعالى صادرة عن الحكمة والقدرة (وَهُمْ يُسْئَلُونَ) لأن أفعالهم منشؤها الظلومية والجهولية (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ) لأنه ليس فيهم ما يخالف داعية العقل وهو الطبع الذي يجذب صاحبه إلى السفل ، ولهذا وصفهم بالإكرام ووصف بني آدم بالتكريم في قوله (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) [الإسراء : ٧٠] ففي التكريم تكثير ليس في

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب تفسير سورة ٣١ باب ٢. مسلم في كتاب الإيمان حديث ٥٧ أبو داود في كتاب الإيمان باب ٤. ابن ماجة في كتاب المقدمة باب ٩. أحمد في مسنده (١ / ٢٧) (٢ / ١٠٧) (٤ / ١٢٩).

٢٤

الإكرام والسبب أن أمر بني آدم أشكل وحالهم أصعب (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) من خجالة قولهم (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) [البقرة : ٣٠] (وَما خَلْفَهُمْ) من الأمر بسجود آدم والاستغفار لمن في الأرض (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا) يعني أنهم رأوها في عالم الأرواح لأنها خلقت قبل الأجساد بألفي عام ، وفي رواية بأربعة آلاف سنة (كانَتا رَتْقاً) أي كانت سموات الأرواح متعلقة بأرض القوالب (فَفَتَقْناهُما) بالمفارقة وقطع التعلق (وَجَعَلْنا مِنَ) ماء حياة العلم (كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) بالحياة الأبدية (وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ) أرض القالب (رَواسِيَ) هي هموم العلائق البدنية (أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ) فلولاها لمالت كل نفس إلى عالمها وبطل الغرض من التكليف ، ويمكن أن يكون الرواسي إشارة إلى الأبدال الذين هم أوتاد الأرض بهم يرزق ويمطر الناس (فِجاجاً سُبُلاً) هي طرق الإرشاد والتسليك (وَجَعَلْنَا) سماء القلب (سَقْفاً مَحْفُوظاً) من وساوس شياطين الإنس والجن (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ) ليل البشرية ونهار الروحانية وشمس المعرفة وقمر الإسلام (كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) فأهل الإسلام في فلك الشريعة ، وأهل الإيمان في فلك الطريقة ، وأهل الولاية في فلك أطوار الحقيقة (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) أما النفس الحيوانية فلأن من خواصها أن تصير الغذاء من جنسها فلا جرم إذا عجز الغذاء عن التشبيه بها لعجز القوة الغاذية حل أجلها ، وأما النفس الناطقة فلأن من خواصها أنها تصير من جنس غذائها وهو الكمالات العلمية والعلمية التي هي فيوض ربانية يتجوهر الروح بجوهرها فيحصل له الفناء عن وجوده والبقاء بشهود ربه (وَنَبْلُوكُمْ) بالمكروهات التي تسمونها شرا بالمحبوبات التي تحسبونها خيرا (فِتْنَةً) فربما كان الأمر عكس ما تصورتم (وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) اختيارا وقهرا (وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) فيه أن الأغيار لا ينظرون إلى الأخيار إلا بعين الإنكار (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) بالنسبة إلى خلق السموات والأرض وما بينهما فإنها خلقت في ستة أيام وخمرت طينة آدم أربعين صباحا مع أن فيها أنموذجا من الكل واستعدادا لقبول الخلافة وقابلية تجلي الذات والصفات ومظهرية الكنز الخفي وأشار إلى هذه المعاني بقوله (سَأُرِيكُمْ آياتِي) أي في مظاهر الآفاق ومرايا أنفسكم بالتدريج وبالتربية في كل طور (فَلا تَسْتَعْجِلُونِ) فإن حد الاستكمال من المهد إلى اللحد بل من الأزل إلى الأبد وهذا منطق الطير لا يفهمه إلا سليمان الوقت. ويمكن أيضا أن يقال : إن الروح الإنساني أول شيء تعلقت به القدرة وهذا معنى العجلة (قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ) فيه أن ملوك الأرض لو حرسوهم (بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ) من الخصوم والأعداء فمن لهم حتى يحفظوهم في ليل البشرية ونهار الروحانية من سطوات قهر الجلال الذي الرحمانية من صفاته كما أن الرحيمية من صفات الجمال ، فلو وكلهم بالخذلان إلى ظلمة البشرية بقوا في الجهل ، ولو وكلهم بالإضلال في نور المعقولات تاهوا في أودية الحيرة والحجب النورية ، والمنع من

٢٥

الحجب الظلمانية والجهل البسيط أسرع من إزالة الجهل المركب (بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ) الجهال (وَآباءَهُمْ) الذين علموهم تلك المعقولات التي صارت حجبا نورية لهم حتى اغتروا بظاهر الحال وأنكروا المعاد والشريعة. ثم بين أن الحق يغلب على الباطل البتة فقال (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ) البشرية (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ) ميزان الفضل قد نصب في الأزل (نَحْنُ قَسَمْنا تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا) وميزان العدل ينصب في الأبد (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ) فالأول كالبزرة والثاني كالثمرة.

(وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (٥١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (٥٢) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (٥٣) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٥٤) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (٥٥) قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٥٦) وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (٥٧) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (٥٨) قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٥٩) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (٦٠) قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (٦١) قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (٦٢) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (٦٣) فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (٦٤) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (٦٥) قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (٦٦) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٧) قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٦٨) قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (٦٩) وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (٧٠) وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (٧١) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (٧٢) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (٧٣) وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (٧٤) وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥) وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٧٧) وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ

٢٦

غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (٧٨) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (٧٩) وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (٨٠) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (٨١) وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (٨٢) وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٨٣) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (٨٤) وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (٨٥) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٦) وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (٨٧) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (٨٨) وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (٨٩) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (٩٠) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (٩١))

القراآت (جُذاذاً) بكسر الجيم : علي. الآخرون بضمها أف بفتح الفاء : ابن كثير وابن عامر وسهل ويعقوب (أُفٍ) بالكسر والتنوين : أبو جعفر ونافع وحفص. الباقون بالكسر من غير تنوين لنحصنكم بالنون : أبو بكر وحماد ورويس وبالتاء الفوقانية والضمير للصنعة أو للدرع لأنها مؤنثة سماعا : ابن عامر ويزيد وحفص والمفضل وروح وزيد. الباقون بالياء التحتانية والضمير لداود عليه‌السلام أو للبوس والكل بتخفيف الصاد والرياح على الجمع : يزيد بطريق المفضل الآخرون على التوحيد. (مَسَّنِيَ الضُّرُّ) و (عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) في آخر السورة مرسلة الياء : حمزة. الباقون بفتحها وأن لن يقدر بالياء مجهولا : يعقوب ننجي بضم النون الواحدة وتشديد الجيم وتسكين الياء : ابن عامر وعباس وأبو بكر وحماد. الآخرون من الإنجاء مخففا.

الوقوف : (عالِمِينَ) ج ه لأن «إذ» يصلح ظرفا لآتينا أو لـ (رُشْدَهُ) أو للعلم به مفعولا لأذكر محذوفا (عاكِفُونَ) ه (عابِدِينَ) ه (مُبِينٍ) ه (اللَّاعِبِينَ) ه (فَطَرَهُنَ) ز لواو الابتداء والحال أولى (الشَّاهِدِينَ) ه (يَرْجِعُونَ) ه (الظَّالِمِينَ) ه (إِبْراهِيمُ) ه

٢٧

(يَشْهَدُونَ) ه (يا إِبْراهِيمُ) ه ط (فَعَلَهُ) ز وفيه بعد ويجيء في التفسير (يَنْطِقُونَ) ه (الظَّالِمُونَ) ه لا للعطف (عَلى رُؤُسِهِمْ) ج لاتحاد المقصود مع إضمار القول (يَنْطِقُونَ) ه (وَلا يَضُرُّكُمْ) ط لاستئناف الدعاء عليهم (مِنْ دُونِ اللهِ) ط (تَعْقِلُونَ) ه (فاعِلِينَ) ه (عَلى إِبْراهِيمَ) ه لا بناء على أن التقدير وقد أرادوا (الْأَخْسَرِينَ) ج ه للعطف والآية (لِلْعالَمِينَ) ه (إِسْحاقَ) ط بناء على أن المراد ووهبنا له يعقوب حال كونه نافلة (نافِلَةً) ط (صالِحِينَ) ه (الزَّكاةِ) ج لاحتمال الاستئناف والحال (عابِدِينَ) ه وكان ينبغي أن لا يوقف للعطف ولكنهم حكموا بالوقف لتمام القصة وكذلك أمثالها (الْخَبائِثَ) ط (فاسِقِينَ) ه لا بناء على أن التقدير وقد أدخلناه (رَحْمَتِنا) ط (الصَّالِحِينَ) ه (الْعَظِيمِ) ه ج للعطف مع الآية (بِآياتِنا) ط (أَجْمَعِينَ) ه (غَنَمُ الْقَوْمِ) ج لاحتمال الواو بعده الاستئناف والحال (شاهِدِينَ) ه لا للعطف بالفاء (سُلَيْمانَ) ج لانقطاع النظم بتقديم المفعول مع اتحاد الكلام (وَعِلْماً) ز لعطف المتفقين مع نوع عدول (وَالطَّيْرَ) ط (فاعِلِينَ) ه (مِنْ بَأْسِكُمْ) ج للاستفهام مع الفاء (شاكِرُونَ) ه (فِيها) ط (عالِمِينَ) ه (دُونَ ذلِكَ) ج لاحتمال الاستئناف والحال (حافِظِينَ) ه (الرَّاحِمِينَ) ه ط للفاء وللآية (لِلْعابِدِينَ) ه (وَذَا الْكِفْلِ) ط (الصَّابِرِينَ) ه وقد يوصل لعطف (وَأَدْخَلْناهُمْ) على (نَجَّيْناهُ) للقدرة (فِي رَحْمَتِنا) ط الصالحين ه (سُبْحانَكَ) قد يوقف لأجل «أن» ولكنه داخل في حكم النداء (الظَّالِمِينَ) ج ه على ما ذكر في الوجهين (فَاسْتَجَبْنا لَهُ) لا لاتفاق الجملتين واتصال النجاة بالاستجابة (مِنَ الْغَمِ) ط (الْمُؤْمِنِينَ) ه (الْوارِثِينَ) ه (فَاسْتَجَبْنا لَهُ) ه لا مكان الفصل بين الاستجابة المعجلة وحصول الولد الموهوب على المهلة (زَوْجَهُ) ط (وَرَهَباً) ط (خاشِعِينَ) ط (لِلْعالَمِينَ) ه.

التفسير : الرشد الاهتداء لوجوه المصالح في الدين والدنيا وقد يخص هاهنا بالنبوة لقوله (رُشْدَهُ) ومعنى الإضافة أن لهذا الرشد شأنا ولقوله (وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ) وفيه أنه علم منه أسرارا عجيبة وأحوالا بديعة حتى اتخذه خليلا واصطفاه نبيا نظيره (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) [الأنعام : ١٢٤] وعلى هذا فمعنى قوله (مِنْ قَبْلُ) أي من قبل موسى وهارون قاله ابن عباس. وعلى الأول يحتمل هذا وأن يراد من قبل البلوغ حين استدل بالكواكب قاله مقاتل. وعن ابن عباس في رواية الضحاك حين أخذ الله ميثاق النبيين في صلب آدم. قالت الأشاعرة : أراد بإيتاء الرشد خلق ذلك فيه إذ لو حمل على أسباب ذلك تناول الكفار. أجاب الكعبي بأن هذا إنما يقال فيمن قبل لا فيمن رد ، نظيره بأن يعطي الأب كل واحد من ولديه ألفا فقبله أحدهما وثمره ورده الآخر أو أخذه ثم ضيعه فيقال : أغنى

٢٨

فلان ابنه فيمن ثمر المال ، ولا يقال مثله فيمن ضيع. واعترض بأن قبوله على هذا التقدير يكون جزءا من مسمى الرشد وحينئذ لا يصح استناد إيتاء الرشد إلى الله وحده ، وهذا بخلاف نص القرآن. والتمثال اسم للشيء المصنوع مشبها بخلق من خلق الله تعالى من مثلت الشيء بالشيء شبهته به ، واسم ذلك الممثل تمثال جعل إبراهيم عليه‌السلام هذا التجاهل والتغابي ابتداء كلامه لينظر فيما عساهم يوردونه من شبهة فيحلها لهم مع ما في هذا السؤال من تحقير آلهتهم وتسفيه أخلافهم. وفي قوله (أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ) دون أن يقول عليها كقوله (يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ) [الأعراف : ١٣٨] نوع آخر من التجهيل والتوبيخ لأنه ادعى عليهم أنهم جعلوا العكوف مختصا بها دون خالقها وخالق كل شيء (قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ) لا يمكن لهم أن يتمسكوا بشيء آخر سوى التقليد فزيف طريقتهم بالتنبيه على خطئهم وخطأ أسلافهم فقال : (لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) لأن كل مذهب لا يستند إلى دليل كان صاحبه ضالا أو في حكم ذلك. ثم إن القوم تعجبوا من تضليلهم مع كثرتهم ووحدته ومنعهم عما ألفوه وضروا به فقالوا (أَجِئْتَنا بِالْحَقِ) أي بما ليس بهزل ودعابة (أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ) فحينئذ عدل إبراهيم عن مجرد التنبيه إلى إثبات الدعوى بالبينة والدليل وجاهدهم أولا باللسان قائلا (بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَ) الظاهر أن الضمير للسموات والأرض إلا أنه قيل : كونه للتماثيل أدخل في تضليلهم وأثبت للاحتجاج عليهم. وقوله وأنا على ذلكم من الشهداء فيه تأكيد وتحقيق لما قاله كقول الرجل إذا بالغ في مدح أحد أو ذمه «أشهد إنه كريم أو لئيم» لأن الشهادة خبر قاطع. وفيه أنه قادر على إثبات ما ادعاه بالحجج والبينات كما شاؤا ثم أخبر أنه سيجاهدهم جهادا بالفعل من غير تقية وخوف قال (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ) قال جار الله : في تاء القسم مع أنه عوض عن الباء زيادة معنى وهو التعجب كأنه تعجب من سهولة الكيد على يده لأن ذلك لصعوبته كان كالمقنوط منه خصوصا في زمن نمرود مع شدة شكيمته وقوة سلطانه. قلت : لا ريب أن هذا مستبعد عادة ولكنه سهل لمن أيده الله ونصره كما قال علي رضي‌الله‌عنه : والله ما قلعت باب خيبر بقوة جسدانية ولكن بقوة رحمانية.

سؤال : الكيد هو الاحتيال على الغير في ضرر لا يشعر به فكيف يتصور ذلك في حق الأصنام؟ وجوابه أنه قال ذلك بناء على زعمهم أنه يجوز ذلك عليها ، أو أراد لأكيدنكم في أصنامكم لأنه بذلك الفعل أهمهم وأحزنهم. قال السدي : كانوا إذا رجعوا من عيدهم دخلوا على الأصنام فسجدوا ثم عادوا إلى منازلهم ، فلما كان هذا الوقت قال آزر لإبراهيم : لو خرجت معنا؟ فخرج معهم. فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه وقال إني سقيم أشتكي

٢٩

رجلي ، فلما بقي هو وضعفاء الناس نادى وقال الله لأكيدن أصنامكم. وروى الكلبي أن إبراهيم كان من أهل بيت ينظرون في النجوم وكانوا إذا خرجوا إلى عيدهم لم يتركوا إلا مريضا ، فلما هم إبراهيم بالذي هم به من كسر الأصنام نظر قبل يوم العيد إلى السماء فقال لأصحابه : إني أراني أشتكي عدا فذلك قوله في الصافات (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ) [الصافات : ٨٨ ، ٨٩] وأصبح من الغد معصوبا رأسه ، فخرج القوم لعيدهم ولم يتخلف أحد غيره فقال سرا : أما والله لأكيدن أصنامكم ، فسمعه رجل واحد وأخبر به غيره وانتشر الخبر. وعلى الوجهين يصح قوله فيما بعد (قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ) وروي أن آزر خرج به في عيد لهم فبدأوا ببيت الأصنام فدخلوه وسجدوا لها ووضعوا بينها طعاما خرجوا به معهم وقالوا : إلى أن نرجع بركت الآلهة على طعامنا ، فذهبوا وبقي إبراهيم فنظر إلى الأصنام وكانت سبعين صنما مصطفة وثمة صنم عظيم مستقبل الباب وكان من ذهب وفي عينيه جوهرتان تضيئان بالليل ، فكسرها كلها بفأس في يده حتى إذا لم يبق إلا الكبير علق الفأس في عنقه (فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً) قال الجوهري : جذذت الشيء جذا قطعته وكسرته ، والجذاذ ما كسر منه وضمه أفصح من كسره. قلت : فعلى هذا هو اسم جمع لا جمع (إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ) أي في الخلقة كما روينا. وقيل : في التعظيم. ويحتمل أن يكون جامعا للأمرين. أما الضمير الواحد في قوله (لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ) فيحتمل عوده إلى إبراهيم أي جعلهم جذاذا واستبقى الكبير رجاء أنهم يرجعون إلى دينه أو إلى السؤال عنه لما تسامعوه من إنكاره لدينهم وسبه لآلهتهم فيبكتهم بقوله (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ) ويحتمل عوده الكبير كما ذهب إليه الكلبي. والمعنى لعلهم يرجعون إليه كما يرجع إلى العالم في حل المشكلات فيقولون ما لهؤلاء مكسورة وما لك صحيحا والفأس على عاتقك ، وهذا بناء على ظنهم أن الأصنام قد تتكلم وتجيب ، على أن نفس ذلك الكبير كان دليلا على فساد مذهبهم لأن الإله يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء لأنهم كانوا يعظمونها ويقولون : إن المستخف بها يلحقه ضرر عظيم ، فحين كسرها إبراهيم ولم ينله ضرر من تلك الجهة بطل ما اعتقدوه. فلما انكشفت لهم جلية الحال و (قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا) الكسر والحطم والاستخفاف (بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ) المعدودين في جملة من يضع الشيء في غير موضعه لأنه وضع الإهانة مكان التعظيم (قالُوا سَمِعْنا) احتمل أن يكون القائل واحدا ، ونسب القول إلى الجماعة لأنه منهم ، واحتمل أن يكون جمعا على الوجهين اللذين رويناهما ، أو لأنهم سمعوا منه قوله على وجه الاستهزاء (ما هذِهِ التَّماثِيلُ) والفعلان بعد (فَتًى) صفتان له إلا أن الأول ضروري ذكره لأنك لا تقول «سمعت زيدا» وتسكت حتى تذكر شيئا مما يسمع ، والثاني ليس كذلك. والأصح أن قوله (إِبْراهِيمُ) فاعل (يُقالُ) لأن

٣٠

المراد الاسم لا المسمى وقيل : هو خبر مبتدأ محذوف أو منادى. (قالُوا) أي فيما بينهم (فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ) الجار والمجرور في محل الحال أي بمرأى منهم ومنظر أو معاينا ومشاهدا قال. في الكشاف : معنى الاستعلاء في «على» أنه يثبت إتيانه في الأعين ويتمكن ثبات الراكب على المركوب وتمكنه منه (لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ) عليه بما سمع منه وبما فعله فيكون حجة عليه قاله الحسن وقتادة والسدي وعطاء عن ابن عباس. وقال محمد بن إسحق : معناه لعلهم يحضرون عقوبتنا له ليكون ذلك زاجرا لهم عن الإقدام على مثل فعله. وهاهنا إضمار أي فأتوا به ثم (قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا) الظلم والاستخفاف (بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ) طلبوا منه الاعتراف ليقدموا على إيذائه فـ (قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ) وقوله (هذا) صفة كبيرهم.

زعم الطاعنون في عصمة الأنبياء أن هذا القول من إبراهيم كذب وأكدوا قولهم بما جاء في الحديث «إن إبراهيم لم يكذب إلا ثلاث كذبات» وللعلماء في جوابهم طريقان : أحدهما تسليم أنه كذب ولكنهم قالوا : الكذب ليس قبيحا لذاته وإنما يقبح لاشتماله على مفسدة. وقد يحسن الكذب إذا اشتمل على مصلحة كتخليص نبي ونحوه ، وزيف هذا الطريق بأنا لو جوزنا أن يكذب النبي لمصلحة لبطل الوثوق بالشرائع ، فلعل الأنبياء أخبروا عما أخبروا لمصلحة المكلفين في باب المعاش مع أنه ليس للمخبر عنه وجود كما في الواقع. الطريق الثاني وعليه جمهور المحققين المنع من أنه كذب وبيانه من وجوه : الأول أنه من المعاريض التي يقصد بها الحق وهو إلزام الخصم وتبكيته كما لو قال لك صاحبك وقد كتبت كتابا بخط في غاية الحسن ، أنت كتبت هذا وصاحبك أمي لا يحسن الخط فقلت له : بل كتبته أنت. كان قصدك بهذا الجواب تقريره لك مع استهزاء به لا نفيه عنك وإثباته للأمي. الثاني أن إبراهيم عليه‌السلام غاظته تلك الأصنام حين أبصرها مصطفة مزينة ، وكأن غيظ كبيرها أشد لما رأى من زيادة تعظيمهم له فأسند الفعل إليه لأنه هو الذي تسبب لاستهانته بها. الثالث أن يكون ذلك حكاية لما يؤل إليه مذهبهم كأنه قال : ما تنكرون أن يفعله كبيرهم فإن من حق من يعبدو يدعى إلها أن يقدر على أمثال هذه الأفعال ، ويؤيد هذا الوجه ما يحكى أنه قال (فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) غضب أن تعبد معه هذه الصغار ، الرابع ما يروى عن الكسائي أنه كان يقف عند قوله (بَلْ فَعَلَهُ) ثم يبتدىء (كَبِيرُهُمْ هذا) أي فعله من فعله. الخامس عن بعضهم أنه يقف عند قوله (كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ) وأراد بالكبير نفسه لأن الإنسان أكبر من كل صنم. السادس أن في الكلام تقديما وتأخيرا والتقدير «بل فعله كبيرهم هذا إن كانوا ينطقون فاسألوهم». فيكون إضافة الفعل إلى كبيرهم مشروطا

٣١

بكونهم ناطقين ، فلما لم يكونوا ناطقين امتنع أن يكونوا فاعلين ، السابع قراءة محمد بن السميفع (فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ) بالتشديد أي فلعل الفاعل (كَبِيرُهُمْ) وفيه تعسف. وأما قول إبراهيم عليه‌السلام (إِنِّي سَقِيمٌ) فلعله كان به سقم قليل وسوف يجيء تمام البحث فيه. وأما قوله لسارة «إنها أختي» فالمراد أنها أخته في الدين فلم يكن وقتئذ على وجه الأرض مسلم سواهما (فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ) حين نبههم على قبح طريقتهم (فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ) لأنكم تعبدون من لا يستحق العبادة. وقال مقاتل : معناه فلاموا أنفسهم فقالوا : إنكم أنتم الظالمون لإبراهيم حيث تزعمون أنه كسرها مع أن الفأس بين يدي الصنم الكبير. وقيل : أنتم الظالمون لأنفسكم إذ سألتم منه ذلك حتى أخذ يستهزىء بكم في الجواب. يقال : نكسته أي قلبته فجعلت أسفله أعلاه ، وانتكس انقلب ، وانتكاس الإنسان هو أن يكون رأسه من تحت فلهذا قال (ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ) والمراد أنهم استقاموا حين رجعوا إلى أنفسهم وجاؤا بالفكرة الصالحة ، ثم انقلبوا عن تلك الحالة فأخذوا في المجادلة قائلين (لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ) وفيه أنهم رضوا بإلهيتها مع تقاصر حالها عن حال الحيوان الناطق. وقال ابن جرير : المعنى نكست حجتهم فأقيم الخبر عنهم مقام الخبر عن حجتهم وبيان انتكاس الحجة قولهم (لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ) فإن هذه حجة عليهم لا لهم. وقيل : المراد بانتكاس رؤوسهم إطراقهم خجلا وانكسارا. ثم زاد إبراهيم في توبيخهم قائلا (أَفَتَعْبُدُونَ) الآية وقد مر في سورة سبحان أن «أف» صوت يدل على التضجر ، واللام لبيان المتأفف به ، أي لكم ولآلهتكم هذا التأفف وذلك أنه أضجره ما رأى من ثباتهم على عبادتها بعد انقطاع عذرهم. (قالُوا حَرِّقُوهُ) المشهور أن الذي أشار بتحريقه هو نمرود بن كنعان ابن سنجاريب بن نمرود بن كوش بن حام بن نوح. وقال مجاهد : سمعت ابن عمر يقول : إنه رجل من أعراب العجم يريد الأكراد. وعن ابن جريج عن وهب أن الذي قال هذا القول قد خسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة.

روى مقاتل أن نمرود وقومه أجمعوا على إحراقه فحبسوه ثم بنوا بيتا كالحظيرة بكوثى وهي من قرى الأنباط وذلك قوله (ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ) [الصافات : ٩٧] ثم جمعوا له الحطب الكثير أربعين يوما حتى إن كانت المرأة لتمرض فتقول : إن عافاني الله لأجمعن حطبا لإبراهيم. فلما اشتعلت النار اشتدت وصار الهواء بحيث لو مر الطير في أقصى الهواء لاحترق ثم أخذوا إبراهيم ووضعوه في المنجنيق مقيدا مغلولا فضجت السماء والأرض ومن فيهما من الملائكة إلا الثقلين ضجة واحدة : أي ربنا ليس في أرضك أحد يعبدك غير إبراهيم وإنه يحرق فيك ، فأذن لنا في نصرته ، فقال سبحانه : إن استغاث بأحد

٣٢

منكم فأغيثوه وإن لم يدع غيري فأنا أعلم به وأنا وليه فخلوا بيني وبينه. فلما أرادوا إلقاءه في النار أتاه خازن الرياح وقال : إن شئت طيرت النار في الهواء فقال إبراهيم : لا حاجة لي إليك. ثم رفع رأسه إلى السماء فقال : أنت الواحد في السماء وأنا الواحد في الأرض ، ليس في الأرض أحد يعبدك غيري حسبي الله ونعم الوكيل. وروي أنه قال : لا إله إلا أنت سبحانك رب العالمين ، لك الحمد ولك الملك لا شريك لك. ثم أتاه جبرائيل في الهواء فقال : يا إبراهيم هل لك من حاجة؟ قال : أما إليك فلا. قال : فسل ربك. قال : حسبي من سؤالي علمه بحالي : فأرسل الله ملائكة أخذوا بضبعيه وأقعدوه في الأرض ، فإذا عين ماء عذب وورد أحمر ونرجس ولم تحرق النار منه إلا وثاقه. وأتاه جبرائيل بقميص من حرير الجنة وقال : يا إبراهيم إن ربك يقول : أما علمت أن النار لا تضر أحبائي. قال المنهال بن عمرو : أخبرت أن إبراهيم مكث في النار أربعين يوما أو خمسين. وقال : ما كنت أياما أطيب عيشا مني إذ كنت فيها قلت : وذلك لاستغراقه في بحر الفيوض والآثار الربانية ولو لم يكن فيه إلا القرب من لطف خليله والبعد من قهر عدوه لكفى. ثم نظر نمرود من صرح له مشرف على إبراهيم فرآه جالسا في روضة ومعه جليس له من الملائكة والحطب يحترق حواليه فناداه يا إبراهيم : هل تستطيع أن تخرج منها؟ قال : نعم. فقام يمشي حتى خرج. فقال نمرود : إني مقرب إلى ربك قربانا فذبح أربعة آلاف بقرة وكف عن إبراهيم ، وكان إبراهيم عليه‌السلام إذ ذاك ابن ست عشرة سنة. قال العلماء : اختاروا العقاب بالنار لأنها أهول ما يعاقب به وأفظعه ولهذا جاء في الحديث «لا يعذب في النار إلا خالقها» (١) ومن ثم قالوا (وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) أي إن كنتم ناصرين آلهتكم نصرا قويا فاختاروا له أشد العقاب وهو الإحراق وإلا كنتم مقصرين في نصرتها (قُلْنا) عن السدي أن القائل هو جبرائيل عليه‌السلام والأكثرون على أنه سبحانه. وذهب أبو مسلم الأصفهاني إلى أنه لا قول هناك بل أراد به الجعل لأن النار جماد فلا فائدة في خطابه. ويمكن أن يجاب بأن الله قادر على أن يخلق لها فهما يصح به التخاطب ، ولو سلم فلعل في ذلك الخطاب مصلحة للملائكة. والظاهر أن قوله (يا نارُ) خطاب لتلك النار المخصوصة فإن الغرض يتعلق ببردها فقط وفي النار منافع للخلائق ، فلا يحسن من الكريم إبطالها. وقيل : المذكور اسم الماهية فلا بد من حصول البرد في تلك الماهية أينما وجدت ، ويناسبه رواية مجاهد عن ابن

__________________

(١) رواه أبو داود في كتاب الأدب باب ١٦٤. الدارمي في كتاب السير باب ٢٣. بلفظ «لا ينبغي أن يعذب بالنار إلّا رب النار».

٣٣

عباس أنه لم يبق يومئذ في الدنيا ونار إلا طفئت. واختلفوا في أن النار كيف بردت؟ فقيل : إنه تعالى أزال عنها ما فيها من الحر والإحراق وأبقى ما فيها من الإضاءة والإشراق والله على كل شيء قدير. وقيل : خلق في جسد إبراهيم كيفية مانعة من وصول أذى النار كما يفعل بخزنة جهنم ، وكذلك في النعامة لا يضرها ابتلاع الحديدة المحماة ، والسمندل ولا يؤذيه المقام في النار. وقيل : جعل بينه وبين النار حائلا منع من وصول أثر النار إليه. والمحققون على القول الأول لأن النص دل ظاهره على أن نفس النار صارت باردة ، وليست الحرارة جزءا من مسمى النار حتى يمتنع كونها نارا وهي باردة ، وأما على القولين الآخرين فيلزم أن لا يحصل البرد فيها وهو خلاف النص قوله (وَسَلاماً) أي ذات برد وسلام فبولغ في ذلك حتى كأن ذاتها برد وسلام. والمعنى ابردي حتى يسلم منك إبراهيم ، أو ابردي بردا غير ضار ويناسبه ما روي عن ابن عباس لو لم يقل ذلك لأهلكته ببردها. وقوله (عَلى إِبْراهِيمَ) حال من فاعل الكون أو متعلق بالبرد والسلام ، ولو لا هذا القيد لكانت النار بردا على كافة الخلق ، قوله (فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ) وفي الصافات (فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ) [الآية : ٩٨] لأن في هذه السورة كادهم إبراهيم لقوله (لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ) وكادوه لقوله (وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً) فغلبهم إبراهيم لأنه كسر أصنامهم وسلم من نارهم فكانوا هم الأخسرين. وفي الصافات (قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ) [الصافات : ٩٧] فأججوا نارا عظيمة وبنوا بناء عاليا ورفعوه إليه ورموا به إلى أسفل فرفعه الله وجعلهم في الدنيا من السافلين وفي العقبى في السافلين.

ويروى أنهم بنوا لإبراهيم بنيانا وألقوه فيه ، ثم أوقد عليه النار سبعة أيام ثم أطبقوا عليه ، ثم فتحوا عنه فإذا هو غير محترق يعرق عرقا. فقال لهم حارث أبو لوط : إن النار لا تحرقه لأنه سحر النار ولكن اجعلوه على شيء وأوقدوا تحته فإن الدخان يقتله ، فجعلوه فوق بئر وأوقدوا تحته فطارت شرارة فوقعت في لحية أبي لوط فأحرقته فآمن له لوط كما يجيء في العنكبوت ، وهاجر إلى أرض الشام فذلك قوله (وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها) أي بالخصب وسعة الأرزاق أو بالمنافع الدينية لأن أكثر الأنبياء بعثوا فيها. وقيل : ما من ماء أرض عذب إلا وينبع أصله من تحت صخرة بيت المقدس. يروى أنه نزل بفلسطين ولوط بالمؤتفكة وبينهما مسيرة يوم وليلة. وقيل : الأرض مكة (وَوَهَبْنا لَهُ) أي لإبراهيم (إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً) هي ولد الولد وهي حال من يعقوب فقط ، وقيل : النافلة العطية الزائدة ومنه الصلاة النافلة. ونوفل للرجل الكثير العطاء ، وعلى هذا احتمل أن يكون حالا من يعقوب فقط أي سأل إسحق فأعطيه وأعطى يعقوب زيادة وفضلا من غير سؤال.

٣٤

واحتمل أن يكون حالا من كليهما أي وهبناهما له عطية منا ، والأول قول مجاهد وعطاء ، والثاني وهو أن النافلة العطية قول ابن عباس وأبي بن كعب وقتادة والفراء والزجاج (وَكُلًّا) من إبراهيم وإسحق ويعقوب (جَعَلْنا صالِحِينَ) قال الضحاك : أي مرسلين وقال غيره : عالمين عاملين. وفي قوله (جَعَلْنا صالِحِينَ) وكذا قوله (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً) دلالة الأشاعرة على أن الصلاح بجعل الله وكذا الإمامة وغيرها من الأفعال أجاب الجبائي بأنه أراد تسميتهم بذلك ومدحهم وأنه حكم به لهم كما يقال : إن الحاكم عدل فلانا وجرحه إذا حكم بالعدالة والجرح ، وضعف بأنه خلاف الظاهر. وقوله (يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) أي يدعون الناس إلى دين الله بأمرنا وإرادتنا. قال أهل السنة : فيه أن الدعوة إلى الحق والمنع من الباطل لا يجوز إلا بأمر الله تعالى. وقالت المعتزلة : فيه أن من صلح لأن يقتدى به في الدين فالهداية واجبة عليه ليس له أن يخل بها ويتثاقل عنها. ولا خلاف في أن الهادي إذا كان مهتديا بنفسه كان الانتفاع بهداه أعم والنفوس إلى الاقتداء به أميل فلذلك قال (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ) أي أن يفعلوها لأن المراد هو إيحاء أن يحدثوا الخيرات من أنفسهم ونفس الفعل الخير لا يمكن إيحاؤه فرد إلى فعل الخيرات تخفيفا ، فإن المقصود معلوم ، ثم أضيف المصدر إلى المفعول لإفادة تخفيف آخر في اللفظ وكذلك (إِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ) أي أوحينا إليهم أن يقيموا ويؤتوا ، قال الزجاج : حذف الهاء من إقامة لأن المضاف إليه عوض منها. وقال غيره : الإقام والإقامة مصدران. ولا ريب أن تخصيص هاتين الخصلتين بالذكر دليل على شرفهما والأولى أصل التعظيم لأمر الله ، والثانية أصل الشفقة على خلق الله. (وَكانُوا لَنا عابِدِينَ) فيه أنه سبحانه لما وفى بعهد الربوبية فآتاهم النبوّة والدرجات العالية فهم أيضا وفوا بعهد العبودية فلم يغفلوا عنها طرفة عين.

قوله (وَلُوطاً) عن الزجاج أنه معطوف على (أَوْحَيْنا) وعن أبي مسلم أنه معطوف على قوله (وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ) والحكم الحكمة ، وقيل الفصل بين الخصوم ، وقيل النبوة والقرية سذوم والمراد أهلها وخبائثهم مشهورة قد عددت في «الأعراف» وفي «هود». و (قَوْمَ سَوْءٍ) نقيض رجل صدق (وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا) أي أهل رحمتنا أو في الجنة والثواب. عن ابن عباس والضحاك. وقال مقاتل : هي النبوة أي أنه لما كان من الصالحين آتيناه النبوة كي يقوم بحقها. وقال أهل التحقيق : حين آتاه الحكم والعلم وتخلص من جلساء السوء فتحت عليه أبواب المكاشفات وتجلت له أنوار الذات والصفات وإنها هي الرحمة في الحقيقة. قوله (وَنُوحاً) وكذا نظائره معطوف على قوله (وَلَقَدْ آتَيْنا) أو المراد واذكر نوحا. و (إِذْ نادى) بدل منه أي اذكر وقت ندائه (مِنْ قَبْلُ) هؤلاء المذكورين والنداء

٣٥

هو دعاؤه على قومه بنحو قوله (رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) [القمر : ١٠]. وقوله (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) [نوح : ٢٦] بدليل قوله (فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ) أي أهل دينه وهم من معه في الفلك (مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) وهو الطوفان وما كان فيه من تكذيب قومه وإيذائهم. وفي لفظ الكرب وهو الغم الذي يأخذ بالنفس ، ثم وصفه بالعظم إشعار بأنه عليه‌السلام لقي من قومه أذى شديدا لا يكتنه كنهه. ثم زاده بيانا بقوله (وَنَصَرْناهُ) الآية. تقول : نصرته منه فانتصر إذا جعلته منتصرا منه أي منتقما. (وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي) شأن (الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ) ظرف لـ (يَحْكُمانِ) وهو حكاية حال ماضية. قال ابن السكيت. النفش بالتحريك أن ينتشر الغنم بالليل من غير راع وعليه جمهور المفسرين. وعن الحسن : إنه يكون ليلا ونهارا. وليس في قوله (وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ) دلالة على أن أقل الجمع اثنان لاحتمال أنه أرادهما والمتحاكمين إليهما. والضمير في (فَفَهَّمْناها) للحكومة أو الفتوى. ويروى أنه دخل رجلان على داود عليه‌السلام أحدهما صاحب حرث. أي زرع. وقيل كرم ـ والآخر صاحب غنم. فقال صاحب الحرث : إن غنم هذا دخلت حرثي وأكلت منه شيئا. فقال داود : اذهب فإن الغنم لك. فخرجا فمرا على سليمان وهو ابن إحدى عشرة سنة فقال : كيف قضى بينكما؟ فأخبراه. فقال : لو كنت أنا القاضي لقضيت بغير هذا. فأخبر بذلك أبوه فدعاه وقال : كيف كنت تقضي بينهما؟ قال : أدفع الغنم إلى صاحب الحرث فتكون له منافعها من الدر والنسل والوبر حتى إذا عاد الحرث من العام القابل كهيئته يوم أكل دفعت الغنم إلى أهلها وقبض صاحب الحرث حرثه.

قال أبو بكر الأصم : الحكمان واحد لأن الثاني بيان للأول. والمشهور عن الصحابة ومن بعدهم أنهما متغايران لقوله (وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ) ولقوله : (فَفَهَّمْناها) والفاء للتعقيب فدل على أنه فهم حكما خلاف الأول. وعلى تقدير الاختلاف فهما بالوحي أو بالاجتهاد ، فيه خلاف بين العلماء ، فمنهم من لم يجوز الاجتهاد على الأنبياء أصلا كالجبائي لقوله : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) [النجم : ٣] (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) [الأنعام : ٥٠] ولأن النبي قادر على تحصيل حكم الواقعة بالنص ، ولأن مقتضى الاجتهاد مظنون وخلاف المظنون لا يوجب الكفر وخلاف الرسول يوجب الكفر ، ولما ثبت أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يتوقف في بعض الأحكام انتظارا للوحي ولو جاز له الاجتهاد لم يتوقف ، ولأنه لو جاز على النبي لجاز على جبرائيل أيضا وحينئذ يرتفع الأمان عن الوحي فلعل هذه الشرائع من مجتهدات جبرائيل. وأجيب بأنه إذا أوحي إليه جواز الاجتهاد له صح قوله : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) [النجم : ٣ ـ ٤] وبأن الحكم الحاصل عن الاجتهاد مقطوع لا مظنون لأنه تعالى إذا قال له

٣٦

مهما غلب على ظنك كون الحكم في الأصل معللا بكذا ثم غلب على ظنك قيام ذلك المعنى في صورة أخرى فاحكم بذلك فهذا الحكم مقطوع به والظن واقع في طريقه. سلمنا جواز المخالفة لكنه مشروط بصدوره عن غير معصوم ، ولهذا لو اجتمعت الأمة على مسألة اجتهادية امتنع خلافهم. وكان الرسول أوكد ، وبأن التوقف لعله وجد منه حين لم يظهر له وجه الاجتهاد وبأن الأمة أجمعوا على عدم جواز اجتهاد جبرائيل. ومما يدل على جواز الاجتهاد لنا أنه إذا غلب على ظن المجتهد أحد الطرفين فإن عمل بهما كان جمعا بين النقيضين ، وان أهملهما لزم ارتفاع النقيضين ، وإن عمل بالمرجوح دون الراجح فذلك باطل بالاتفاق فلم يبق إلا العمل بالراجح. قال الجبائي : ولئن سلمنا أن الاجتهاد على الأنبياء جائز لكن هذه المسألة غير اجتهادية لأن الذي أتلفه صاحب الماشية مجهول المقدار ، فكيف يجعل الغنم في مقابلة ذلك؟ وأيضا إن اجتهاد داود إن كان صوابا فالاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد ، وإن كان خطأ فكيف لم يذكر الله توبته بل مدحه بقوله (وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) وأيضا لو حكم بالاجتهاد لم يسم ذلك علما ، وأيضا قوله (فَفَهَّمْناها) يدل على أنه من الله لا من سليمان. وأجيب بأن الجهالة بعد تسليمها قد تكون معفوا عنها كما في حكم المصراة ، ولعل الخطأ في اجتهاده كان من الصغائر فلهذا أهمل ذكره والاجتهاد من باب العلوم والظن في الطريق كما مر ، والذي يحصل في نظر المجتهد مستند إلى الله. أما الذين منعوا من الاجتهاد مطلقا أو في هذه المسألة ، فذهبوا إلى أن حكومة داود نسخت بحكومة سليمان ، ولا استبعاد في أن يوحي الناسخ إلى غير من أوحى إليه المنسوخ. قال الفقهاء : مثال حكومة داود في شرعنا قول أبي حنيفة في العبد إذا جنى على النفس خطأ يدفعه المولى بذلك أو يفديه ، وعند الشافعي يبيعه في ذلك ويفديه ، ولعل قيمة الغنم كانت على قدر النقصان في الحرث. ومثال حكومة سليمان قول الشافعي فمن غصب عبدا فأبق من يده فإنه يضمن القيمة فينتفع به المغصوب منه بإزاء ما فوته الغاصب من منافع العبد ، فإذا ظهر العبد يرد ويقال له ضمان الحيلولة. هذا ولو وقعت هذه القضية في شرعنا فلا ضمان عند أبي حنيفة وأصحابه لا بالليل ولا بالنهار ، لأن جرح العجماء جبار. إلا أن يكون معها راع. والشافعي يوجب الضمان بالليل دون النهار لأن الليل وقت الهدوء وجمع الماشية ، فتسريحها تقصير من صاحبها بخلاف النهار. وعن البراء بن عازب أنه كانت له ناقة ضارية فدخلت حائطا فأفسدته ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقضى أن حفظ الحوائط بالنهار على أهلها ، وأن حفظ الماشية بالليل على أهلها ، لأن على أهل الماشية ما أصابت ماشيتهم بالليل. قال بعض الأصوليين : كل مجتهد مصيب لقوله (وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) وقال

٣٧

بعضهم : المصيب واحد لقوله (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ) ولو كان كلاهما مصيبا لم يكن لتخصيص سليمان بالفهم فائدة. وضعف بعضهم كلا الاستدلالين بعد تسليمهما بأن ما ثبت في شرعهم لا يلزم أن يكون ثابتا في شرعنا.

ولما مدح داود على سبيل الاشتراك ذكر ما يختص بكل منهما فبدأ بداود قائلا : (وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ) أي حال كونهن مسبحات أو هو استئناف كأنه قيل : كيف سخرهن؟ فقال : (يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ) وهو معطوف على الجبال أو مفعول معه ، وتسبيح الجبال إما حقيقة أو مجاز وعلى الأول قال مقاتل : كان إذا سبح داود سبح الجبال والطير معه. وقال الكلبي : إذا سبح داود أجابته الجبال. وقال سليمان بن حيان : كان داود إذا وجد فترة أمر الله تعالى الجبال فسبحت فيزداد نشاطا واشتياقا. وعلى الثاني قيل : كانت الجبال تسير معه حيث سار فكل من رآها كان يسبح الله تعالى ، فلما حملت على التسبيح وصفت به وهذا القول اختيار كثير من أصحاب المعاني والمعتزلة ، لأن الجماد غير قابل للحياة والفهم عندهم ، ولأن المتكلم هو الذي يفعل الكلام لا الذي يكون محلا للكلام ، ولهذا يقال : إن المتكلم هو الله حين كلم موسى لا الشجرة. وإنما قدم تسبيح الجبال على الطير لأن ذلك أدل على القدرة وأدخل في الإعجاز ، فإن الطير أقرب إلى الحيوان الناطق من الجماد ولا يلزم من نطق الطير أو الجبل أن يكونا مكلفين فليس كل ناطق مكلفا كالأطفال والمجانين. (وَكُنَّا فاعِلِينَ) أي قادرين على أن نفعل أمثال هذه الخوارق على أيدي الأنبياء لأجلهم وإن كانت عجيبة عندكم. واللبوس اللباس يقال : البس لكل حالة لبوسها والمراد الدرع. عن قتادة أنها كانت صفائح فسردها وحلقها داود فجمعت الخفة والتحصين وتوارث الناس منه وعمت النعمة بها لكل المحاربين فلذلك قال (فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ) قال علماء المعاني : هذا التركيب أدخل في الإنباء عن طلب الشكر من قولنا «فهل أنتم تشكرون» إذ المختار فيه أن يقدر مفسر محذوف أي هل تشكرون تشكرون. ومن قولنا «أفأنتم شاكرون» لأنه وإن كان ينبىء عن عدم التجدد لمكان الجملة الاسمية إلا أنه دون المذكور في القرآن فإن «هل» أدعى للفعل من الهمزة ، فترك الفعل معه يكون أدخل في الإنباء عن استدعاء المقام عدم التجدد لأن تخلف المعلول عن العلة القوية يدل على وجود مانع أقوى منه إذا تخلف عن العلة الضعيفة.

ثم حكى ما أنعم به على سليمان فقال (وَلِسُلَيْمانَ) أي وسخرنا له (الرِّيحَ) حال كونها (عاصِفَةً) ولا ينافي هذا قوله في (فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ) [ص : ٣٦] لأن المراد أنها مع كونها في نفسها رخية طيبة كالنسيم كانت في عملها

٣٨

عاصفة تحمل كرسيه من إصطخر إلى الشام ، أو أنها كانت في وقت رخاء وفي وقت عاصفا لهبوبها على حسب إرادته وأمره. وفي قوله (وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ) إشارة أنه فعل كل ما فعل بالأنبياء المذكورين عن حكمة بالغة وتدبير محكم وإحاطة بأحوالهم وعلم باستئهالهم. قوله (وَمِنَ الشَّياطِينِ) أي سخرنا من الشياطين (مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ) ويجوز أن يكون الكلام خبر أو مبتدأ و «من» موصولة أو موصوفة. كانوا يغوصون لأجله في البحار فيستخرجون الجواهر (وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ) أي متجاوزا ما ذكر من بناء المدائن والقصور وسائر الصنائع العجيبة. قالت العلماء : الظاهر أن التسخير لكفارهم دون المؤمنين منهم لإطلاق الشياطين ولقوله : (وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ) أي من أن يزيغوا عن أمره أو يبدلوا أو يوجد منهم فساد في الجملة إذ كان من دأبهم أن يفسدوا بالليل ما عملوا بالنهار. والحفظ إما بسبب الملائكة أو مؤمني الجن الموكلين بهم ، أو بأن حبب إليهم طاعته وخوفهم مخالفته. قال ابن عباس في تفسيره : يريد أن سلطانه مقيم عليهم يفعل بهم ما يشاء. قال الجبائي : كيف تتهيأ منهم هذه الأعمال وأجسامهم رقيقة وإنما تمكنهم الوسوسة فقط ، فلعل الله تعالى كثف أجسامهم خاصة وقواهم على تلك الأعمال الشاقة وزاد في عظمهم معجزة لسليمان فلما مات سليمان ردهم إلى الخلقة الأولى. إذ لو أبقاهم على الخلقة الثانية لكان شبهة على الناس ، فلعل بعض الناس يدعي النبوة ويجعله دلالة عليها. واعترض عليه الإمام فخر الدين الرازي رضي‌الله‌عنه بأنك لم قلت : إن الجن أجسام فلعلهم من الموجودات التي ليست متحيزة ولا حالة في المتحيز. ولا يلزم منه الاشتراك مع الباري فإن الاشتراك في اللوازم الثبوتية لا يدل على الاشتراك في الملزومات فضلا عن اللوازم السلبية. سلمنا أن الجن أجسام لكن لم قلت : إن البنية شرط للقدرة وليس في يدكم إلا الاستقراء الضعيف؟ سلمنا أنه لا بد من تكثيف أجسامهم فمن أين يلزم ردهم إلى الخلقة الأولى؟ فإن قال : لئلا يفضي إلى التلبيس. قلنا : إذا ثبت أن ذلك كان معجزة لنبي قبله لم يتمكن المتنبي من الاستدلال ومن عجيب قدرة الله سبحانه أن أصلب الأجسام في هذا العالم الحجارة والحديد ، وقد سخرهما الله تعالى لداود فأنطق الحجر ولين الحديد ، وفي ذلك دلالة باهرة على أنه تعالى قادر على إحياء العظام الرميمة. ومن الغرائب أن الشياطين مخلوقة من النار وكان يأمرهم بالغوص في الماء ، وفيه إظهار الضد بالضد فتبارك الله رب العالمين.

ومن عجائب القصص والأخبار حكاية أيوب عليه‌السلام وصبره على بلائه حتى صار مثلا. عن وهب بن منبه أنه كان من الروم من ولد عيص بن إسحاق وكانت أمه من ولد لوط اصطفاه الله وجعله نبيا ، ومع ذلك بسط عليه الدنيا وكثر أهله وماله وكان له سبعة بنين وسبع

٣٩

بنات وله أصناف المواشي وخمسمائة فدان يتبعها خمسمائة عبد لكل عبد امرأة وولد ونخيل. وكان إبليس لا يحجب عن السموات حين أخرجه الله من الجنة حتى رفع عيسى عليه‌السلام فحجب عن أربع حتى إذا ولد نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم حجب عن جميع السموات إلا من استرق السمع. قال : فسمع إبليس تحاور الملائكة في شأن أيوب فأدركه الحسد فقال : يا رب إنك أنعمت على عبدك أيوب فشكرك وعافيته فحمدك ثم لم تجرّبه بشدة ولا بلاء ، وأنا زعيم إن ضربته بالبلاء ليكفرن بك. فقال الله تعالى : انطلق فقد سلطتك على ماله. فجمع إبليس عفاريت الجن وقال لهم : ماذا عندكم من القوة فإني سلطت على مال أيوب. فقال عفريت أعطيت من القوة ما إذا شئت تحولت إعصارا من النار فأحرقت كل شيء فقال إبليس : فأت الإبل ورعاتها. فذهب ولم يشعر الناس حتى ظهر من تحت الأرض ، إعصار لا يدنو منها شيء إلا احترق ، فلم يزل يحرقها ورعاتها حتى أتى على آخرها. فذهب إبليس على شكل أولئك الرعاء إلى أيوب فوجده قائما يصلي ، فلما فرغ من الصلاة قال : يا أيوب هل تدري ما الذي صنع ربك؟ وأخبره بحال الإبل ورعاتها. فقال أيوب : إنها ماله إذا شاء نزعه. فقال إبليس : إن الناس منهم من يقول ما كان أيوب يعبد شيئا وما كان إلا في غرور ، ومنهم من يقول : لو كان إلهه يقدر على شيء لمنع من وليه. ومنهم من يقول : بل هو الذي فعل ما فعل ليشمت به أعداءه ويفجع به أصدقاءه فقال أيوب : الحمد لله حين أعطاني وحين نزع مني ، خرجت من بطن أمي عريانا وأضجع في التراب عريانا وأحشر إلى الله عريانا ، ولو علم الله عريانا ، ولو علم الله فيك أيها العبد خيرا لنقل روحك مع تلك الأرواح وصرت شهيدا وأوجر فيك. فرجع إبليس إلى أصحابه خاسئا فقال عفريت آخر : عندي من القوة ما إذا شئت صحت صوتا لا يسمعه ذو روح إلا خرجت روحه. فقال إبليس : فأت الغنم ورعاءها فانطلق فصاح بها فماتت ومات رعاؤها ، فخرج إبليس متمثلا بقهرمان الرعاة إلى أيوب فقال له القول الأول ، ورد عليه أيوب الرد الأول ، فرجع إبليس صاغرا فقال له عفريت آخر : عندي من القوة إذا شئت تحولت رياحا عاصفة أقلع كل شيء أتيت عليه قال : فاذهب إلى الحرث والثيران ، فأتاهم فأهلكهم وأخبر إبليس به أيوب فرد عليه مثل الرد الأوّل ، فجعل إبليس يصيب أمواله شيئا فشيئا حتى أتى على جميعها. فلما رأى إبليس صبره على ذلك صعد إلى السماء وقال : يا إلهي هل أنت مسلطي على ولده فإنها الفتنة الكاملة. فقال الله : انطلق فقد سلطتك ، فأتى أولاد أيوب في قصرهم فقلب القصر عليهم ثم جاء إلى أيوب متمثلا بالمعلم وهو جريح مشدوخ الرأس يسيل دمه ودماغه فقال : لو رأيت بنيك كيف انقلبوا منكوسين على رؤوسهم تسيل جميع أدمغتهم من أنوفهم لتقطع قلبك! فلم يزل يقول هذا ويرققه حتى رق أيوب وبكى وقبض قبضة من التراب فحثاها على رأسه ، فاغتنم ذلك

٤٠