تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٥

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٥

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٩

إبليس. ثم لم يلبث أيوب حتى استغفر واسترجع فصعد إبليس ووقف موقفه وقال : إلهي إنما هون أيوب خطب المال والولد لعلمه أنك تعيد له المال والولد ، فهل أنت مسلطي على جسده وإني لك زعيم لو ابتليته في جسده ليكفرن بك. فقال تعالى : انطلق فقد سلطتك على جسده وليس لك سلطان على عقله وقلبه ولسانه. فأتاه فنفخ في منخره حين هو ساجد فاشتعل منه جسده وخرج من فرقه إلى قدمه ثآليل ، وقد وقعت فيه حكة لا يملكها فكان يحك بأظفاره حتى كشطت أظفاره ، ثم حكها بالمسوح الخشنة ثم حكها بالفخار والحجارة ، ولم يزل يحكها حتى تقطع لحمه وتغير وأنتن فأخرجه أهل القرية وجعلوه على كناسة وجعلوا له عريشا ، ورفضه الناس كلهم غير امرأته رحمة بنت إفرايم بن يوسف عليه‌السلام فكانت تصلح أموره. ثم إن وهبا طول في الحكاية إلى أن قال : إن أيوب عليه‌السلام أقبل على الله تعالى مستغيثا متضرعا إليه قائلا : يا رب لأي شيء خلقتني يا ليتني كنت حيضة ألقتني أمي ، يا ليتني كنت عرفت الذي أذنبته والعمل الذي عملت حتى صرفت وجهك الكريم عني. ألم أكن للغريب دارا وللمسكين قرارا ولليتيم وليا وللأرملة قيما. إلهي أنا عبد ذليل فإن أحسنت فالمن لك وإن أسأت فبيدك عقوبتي. جعلتني للبلاء غرضا وسلطت عليّ ما لو سلطته على جبل لضعف عن حمله. إلهي تقطعت أصابعي وسقطت لهواتي وتناثر شعري وذهب المال وصرت أسأل اللقمة فيطعمني من يمن بها عليّ ويعيرني بفقري وهلاك أولادي. قال الإمام أبو القاسم الأنصاري في جملة هذا الكلام : ليتك لو كرهتني لم تخلقني. ثم قال : ولو كان ذلك صحيحا لاغتنمه إبليس فإن قصده أن يحمله على الشكوى وأن يخرجه من زمرة الصابرين. قلت : إن غرض إبليس لا يحصل بمجرد الشكوى وإنما كان غرضه أن يرتد أيوب عليه‌السلام ولهذا قال سفيان بن عيينة : من شكا إلى الله تعالى فإنه لا يعد ذلك جزعا إذا كان في شكواه راضيا بقضاء الله تعالى إذ ليس من شرط الصبر استحلاء البلاء. ألم تسمع قول يعقوب عليه‌السلام : (إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ) [يوسف : ٨٦].

ومما حكاه الله سبحانه من شكوى أيوب قوله (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) الضر بالفتح الضرر في كل شيء ، وبالضم الضرر في النفس من مرض وهزال. قال جار الله : ألطف في السؤال حيث ذكر نفسه بما يوجب الرحمة عليه وذكر ربه بما يجب أن يصدر دعاء الرحمة عنه ولم يصرح بالمطلوب ، وحسن الطلب باب من أبواب الأدب. يحكى أن عجوزا تعرضت لسليمان بن عبد الملك فقالت : يا أمير المؤمنين مشت جرذان بيتي على العصا. فقال لها : ألطفت في السؤال لا جرم لأردنها تثب وثبة الفهود وملأ بيتها

٤١

حبا. وفي قوله : (وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) رمز إلى أنه جواد مطلق لا يرحم لمنفعة تعود إليه ، ولا لمضرة يدفعها عنه ، ولا يطلب شيئا ، ولا يجلب مدحا وكل رحيم سواه. فأما رحمته لغرض من الأغراض أو لرقة طبع ونحو ذلك على أن تلك الرحمة أيضا تتوقف على داعية يخلقها الله فيه ، والآفات والآلام التي تراها في هذا العالم كلها مستندة إلى صفة قهره التي لا بد لكل ملك منه أو مستتبعة لمصالح وغايات لا يعلمها إلا هو ، وإنها ضرورية في الوجود لاشتمالها على خيرات أكثر من الشرور. واختلف العلماء في السبب الذي لأجله دعا الله أيوب ؛ فعن أنس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إن أيوب عليه‌السلام بقي في البلاء ثماني عشرة سنة ، فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من إخوانه كانا يغدوان إليه ويروحان فدخلا عليه ذات يوم فوجدا ريحا فقالا : لو كان أيوب عند الله خير ما بلغ إلى هذه الحالة. قال : فما شق على أيوب شيء مما ابتلي به مثل ما سمع منهما. فقال : اللهم إن كنت تعلم إني لم أبت شبعان وأنا أعلم بمكان جائع فصدق وهما يسمعان ثم خر أيوب ساجدا. وقال : اللهم إني لا أرفع رأسي حتى تكشف ما بي فكشف الله ما به. وقال الحسن : مكث أيوب بعد ما ألقي على الكناسة سبع سنين وأشهرا ولم يبق له مال ولا ولد ولا صديق غير امرأته صبرت معه وكانت تأتيه بالطعام. وكان أيوب مواظبا على حمد الله والثناء عليه والصبر على ما ابتلاه فصرخ إبليس صرخة جزعا من صبر أيوب فاجتمع جنوده من أقطار الأرض وقالوا له : ما خبرك؟ قال : أعياني هذا العبد الذي سألت الله أن يسلطني عليه وعلى ماله وولده فإنه لا يزيد بالبلاء إلّا صبرا وحمدا لله تعالى. فقالوا له : أين مكرك أين عملك الذي أهلكت به من مضى؟ من أين أتيت آدم حين أخرجته من الجنة؟ قال : من قبل امرأته. قالوا : فشأنك بأيوب من قبل امرأته فإنه لا يستطيع أن يعصيها لأنه لا يقربه أحد غيرها. قال : أصبتم. فانطلق حتى إذا أتى امرأته فتمثل لها في صورة رجل فقال : أين بعلك يا أمة الله؟ قالت : هو هذا يحك قروحه وتتردد الدواب في جسده. فظن إبليس أنها جزعت فطمع فيها ووسوس إليها وذكر لها ما كان بها من النعم والمال ، وذكرها جمال أيوب وشبابه. قال الحسن : فصرخت فلما صرخت علم أن قد جزعت فأتاها بسخلة وقال : لتذبح هذه باسم أيوب ويبرأ. قال : فجاءت تصرخ يا أيوب حتى متى يعذبك ربك أين المال وأين الماشية؟ أين الولد؟ أين الصديق؟ أين اللون؟ أين الحسن؟ أين جسمك الذي قد بلى وقد صار مثل الرماد وتتردد فيه الدواب؟ اذبح هذه السخلة واسترح ، فقال أيوب : أتاك عدوّ الله ونفخ فيك ويلك من أعطانا الذي تذكرين من المال والولد والصحة؟ قالت : الله. قال : كم متعنا به؟ قالت : ثمانين سنة. قال : فمنذ كم ابتلانا الله بهذا البلاء؟ قالت : منذ سبع سنين وأشهر. قال : ويلك ما

٤٢

أنصفت ربك ألا صبرت في البلاء ثمانين سنة! والله لئن شفاني الله لأجلدنك مائة جلدة ، أمرتني أن نذبح لغير الله وحرام عليّ أن أذوق بعد هذا شيئا من طعامك وشرابك الذي تأتيني به فطردها. فلما نظر أيوب في شأنه وليس عنده لا طعام ولا شراب ولا صديق وقد ذهبت امرأته خر ساجدا وقال (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) فقال : أرفع رأسك فقد استجبت لك (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ) [ص : ٤٢] فركض برجله فنبعت عين ماء فاغتسل منها فلم يبق في ظاهر بدنه دابة. إلا سقطت ثم ضرب رجله مرة أخرى فنبعت عين أخرى فشرب منها فلم يبق في جوفه داء إلا خرج وقام صحيحا ، وعاد إليه شبابه وجماله حتى صار أحسن مما كان حتى ذكر أن الماء الذي اغتسل منه تطاير على صدره جرادا من ذهب فجعل يضمه بيده فأوحي إليه : يا أيوب ألم أغنك؟ قال : بلى ولكنها بركتك فمن يشبع منها. قال : فخرج حتى جلس على مكان مشرف. ثم إن امرأته قالت : هب أنه طردني أفأتركه حتى يموت وتأكله السباع لأرجعن إليه. فلما رجعت ما رأته في تلك الكناسة ولا تلك الحالة فجعلت تطوف وتبكي فدعاها أيوب وقال : ما تريدين يا أمة الله؟ فقالت : أردت ذلك المبتلى الذي كان ملقى على الكناسة. فقال : تعرفينه إذا رأيته؟ قالت : وهل يخفى على أحد يراه. فتبسم قائلا : أنا هو. فعرفته بضحكه فاعتنقته ثم قال : إنك أمرتني أن أذبح لإبليس وإني أطعت الله وعصيت الشيطان فعافاني الله ببركة ذلك.

الرواية الثالثة : قال الضحاك ومقاتل : بقي في البلاء سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع ساعات ، فلما غلب أيوب إبليس ذهب إبليس إلى امرأته على هيئة ليست كهيئة بني آدم في العظم والجسم والجمال على مركب ليس كمراكب الناس وقال لها : أنت صاحبة أيوب؟ قالت : نعم. قال : فهل تعرفيني؟ قالت : لا. قال : أنا إله الأرض ، أنا صنعت بأيوب ما صنعت وذلك أنه عبد إله السماء وتركني فأغضبني ولو سجد لي سجدة واحدة رددت عليه وعليك جميع ما لكما من مال وولد فإن ذلك عندي. قال وهب : وسمعت أنه قال : لو أن صاحبك أكل طعاما ولم يسم الله تعالى لعوفي مما فيه من البلاء. وأيضا قال لها : لو شئت فاسجدي لي سجدة واحدة حتى أرد عليك المال والولد وأعافي زوجك. فرجعت إلى أيوب فأخبرته فقال : أتاك عدوّ الله ليفتنك عن دينك ، ثم أقسم لئن عافاني الله لأجلدنك مائة جلدة وقال عند ذلك (مَسَّنِيَ الضُّرُّ) يعني من طمع إبليس في سجودي وسجود زوجتي له.

الرواية الرابعة قال إسماعيل السدي : إن إبليس تمثل للقوم في صورة بشر وقال : تركتم أيوب في قريتكم أعدى إليكم ما به من العلة ، فأخرجوه إلى باب البلد ثم قال لهم :

٤٣

إن امرأته تدخل عليكم وتعمل وتمس زوجها أما تخافون أن تعدي إليكم علته ، فحينئذ لم يستعملها أحد فتحيرت وكان لها ثلاث ذوائب فعمدت إلى إحداها وقطعتها وباعتها فأعطوها بذلك خبزا ولحما فقال أيوب : من أين هذا؟ قالت : كل فإنه حلال. فلما كان من الغد لم تجد شيئا فباعت الثانية ، وكذلك فعلت في اليوم الثالث وقالت : كل فإنه حلال. فقال : لا آكل أو تخبريني فأخبرته فبلغ ذلك من أيوب ما الله به عليم فقال : (رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ). والرواية الخامسة قيل : سقطت دودة من فخذه فرفعها وردها إلى موضعها وقال : قد جعلني الله طعمة لك فعضته عضة شديدة فقال : (مَسَّنِيَ الضُّرُّ) فأوحى الله إليه : لو لا أني جعلت في كل شعرة منك صبرا لما صبرت. واعلم أن مس الضر هاهنا مطلق إلا أنه ورد في «ص» مقيدا وذلك قوله (أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ) [ص : ٤١] فصح أن يكون سندا لهذه الروايات إلا أن الجبائي طعن فيها بأن الشيطان كيف يقدر على إحداث الأمراض والأسقام والقادر على ذلك قادر على خلق الأجسام وحينئذ يكون إلها. وأيضا إن هذه التأثيرات تنافي قوله سبحانه حكاية عنه (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ) [إبراهيم : ٢٢] والجواب أنه كان بإذن من الله كما حكينا فلا محذور ولا تنافي. وقال : ومن البعيد أنه لم يسأل الله إلا عند أمور مخصوصة والجواب أن الأمور مرهونة بأوقاتها. وقال : انتهاء أمراض الأنبياء إلى حد التنفير من القبول غير جائز. والجواب المنع ولا سيما بشرط العافية في العاقبة. قوله سبحانه (فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ) مجمل يقتضي إعادته إلى ما كان في بدنه وأحواله. وقوله : (وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) تفصيل لذلك المجمل وفيه قولان : الأول قال ابن عباس وابن مسعود وقتادة ومقاتل والكلبي : إن الله تعالى أحيا له أهله يعني أولاده بأعيانهم. والثاني قال الليث : أرسل مجاهد إلى عكرمة وسئل عن الآية فقال : أراد أهلك لك في الآخرة وآتيناك مثلهم في الدنيا. فقد روي أن زوجته ولدت بعد ذلك ستة وعشرين ابنا له. ثم بين الحكمة في ذلك الابتلاء ثم الاستجابة بقوله (رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا) لأيوب (وَذِكْرى) لغيره من العابدين للرحمن أو الرحمة والذكرى كلاهما (لِلْعابِدِينَ) لكي يتفكروا فيصبروا كما صبر حتى يتابوا في الدارين كما أثيب. وإنما خص الرحمة والتذكرة بالعابدين لأنهم هم المنتفعون بذلك لا الذين يعبدون الهوى والشيطان. قال أهل البرهان : إنما قال في هذه السورة (رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا) وقال في «ص» (رَحْمَةً مِنَّا) [ص : ٤٣] لأنه بالغ هاهنا في الدعاء بزيادة قوله : (وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) فبالغ في الاستجابة لأن لفظ «عند» يدل على مزيد التخصيص وأنه سبحانه تولى ذلك من غير واسطة.

وحين ذكر صبر أيوب وانقطاعه إليه ذكر غيره من الأنبياء المشهورين بالصبر منهم

٤٤

إسماعيل عليه‌السلام ، صبر على الانقياد للذبح وعلى الإقامة بواد لا زرع فيه ولا ضرع ، وصبر على بناء البيت ورفع قواعده ، فلا جرم أخرج الله ببركة ذلك من صلبه خاتم النبيين ، ومنهم إدريس وقد مر ذكره في سورة مريم. قال ابن عمر : بعث إلى قومه داعيا لهم إلى الله فأبوا فأهلكهم الله ورفع إدريس إلى السماء. ومنهم ذو الكفل قيل : هو زكريا وعلى هذا فقد تقدمت قصته أيضا. وفي هذا القول نظر ، لأن قصة زكريا تجيء عن عقيب فيلزم التكرار. وقيل : هو إلياس وكان خمسة من الأنبياء ذوي اسمين : إسرائيل ويعقوب ، وإلياس وذو الكفل ، وعيسى والمسيح ، ويونس وذو النون ، ومحمد وأحمد. وقيل : يوشع بن نون سمي بذلك لأنه ذو الحظ من الله دينا ودنيا ، أو لأنه كان له ضعف عمل الأنبياء في زمانه وضعف ثوابهم. وقال أبو موسى الاشعري ومجاهد : إنه لم يكن نبيا ولكن كان عبدا صالحا ، وقال الحسن والأكثرون : إنه من الأنبياء وهذا أقرب لأنه معطوف عليهم معدود فيما بينهم. يروى عن ابن عباس أن اليسع أو نبيا آخر في بني إسرائيل قربت وفاته فأراد أن يستخلف رجلا على الناس فقال : من يقبل مني خلافتي على أن يصلي بالليل ويصوم بالنهار ويقضي بين الناس فلا يغضب؟ فقام رجل وقال : أنا أتكفل لك هذه الثلاثة فدفع إليه ملكه ووفى بما ضمن ، فحسده إبليس فأتاه وقت القيلولة فقال : إن لي غريما قد ظلمني حقي وقد دعوته إليك فأبى فأرسل معي من يأتيك به ، فأرسل معه وقعد حتى فاتته القيلولة وعاد إلى صلاته وصلى ليله إلى الصباح ، ثم أتاه من الغد وقال مثل ذلك حتى شغله عن القيلولة وهكذا في اليوم الثالث. وقيل : إنه في اليوم الثالث قال للبواب : قد غلب عليّ النعاس فجاء إبليس فلم يأذن له البواب فدخل من كوة البيت ودق الباب من داخل ، فاستيقظ الرجل وعاتب البواب فقال : أما من قبلي فلم تؤت فقام إلى الباب ، فإذا هو مغلق وإبليس على صورة شيخ في البيت فقال له : أتنام والخصوم على الباب فعرفه وقال : إبليس؟ قال : نعم. أعييتني في كل شيء فعلت هذه الأفعال لأغضبك فعصمك الله مني فسمي ذا الكفل لأنه قد وفى بالكفالة. ولا خلاف أن ذا النون هو يونس لأن النون هو السمكة والاسم إذا دار بين أن يكون لقبا محضا وبين أن يكون مقيدا فحمله على المقيد أولى. واختلفوا في أن وقوعه في بطن الحوت كان قبل اشتغاله بأداء الرسالة أو بعد.

أما القول الأوّل فعن ابن عباس أن يونس وقومه كانوا من فلسطين فغزاهم ملك وسبى منهم تسعة أسباط ونصفا وبقي سبطان ونصف ، فأوحى الله تعالى إلى شعيب عليه‌السلام أن اذهب إلى حزقيل الملك وقل له حتى يوجه نبيا قويا فإني ألقي في قلوب أولئك أن يرسلوا معه بني إسرائيل. فقال له الملك : من ترى وكان في مملكته خمسة من الأنبياء؟ فقال :

٤٥

يونس بن متى. فإنه قويّ أمين. فدعاه الملك وأمره أن يخرج فقال له يونس : هل أمرك الله بإخراجي؟ قال : لا. قال : فههنا أنبياء غيري فألحوا عليه فخرج مغاضبا للملك ولقومه فأتى بحر الروم فوجد قوما هناك وسفينة فركب معهم فاضطربت السفينة حتى كادوا أن يغرقوا فقال الملاحون : هاهنا رجل عاص أو عبد آبق لأن السفينة لا تفعل هذا من غير ريح ، إلا وفيها رجل عاص ، ومن عادتنا في مثل هذا البلاء أن نقترع فمن خرجت له القرعة ألقيناه في البحر حتى تسلم السفينة. فاقترعوا ثلاث مرات فوقعت القرعة كلها على يونس. فقال : أنا الرجل العاصي والعبد الآبق وألقى نفسه في البحر فابتلعه حوت ، فأوحى الله تعالى إلى الحوت لا تؤذ منه شعرة فإني جعلت بطنك سجنا له ولم أجعله طعاما لك. ثم نجاه الله من بطن الحوت فنبذه بالعراء كالفرخ المنتوف ليس عليه شعر ولا جلد ، فأنبت الله عليه شجرة من يقطين يستظل بها ويأكل من ثمرتها حتى اشتد ، فلما يبست الشجرة حزن عليها يونس فقيل له : أتحزن على شجرة ولم تحزن على مائة ألف أو يزيدون حيث لم تذهب إليهم ولم تطلب سلامتهم؟. فتوجه يونس نحوهم حتى دخل أرضهم وهم منه غير بعيد فقال لملكهم : إن الله أرسلني إليك لترسل معي بني إسرائيل. فقالوا : ما نعرف ما تقول ولو علمنا أنك صادق لفعلنا ولقد أتيناكم في دياركم وسبيناكم ، فلو كان كما تقول لمنعنا الله منكم. فطاف فيهم ثلاثة أيام يدعوهم إلى ذلك فأبوا عليه فأوحى الله إليه قل لهم : إن لم تؤمنوا جاءكم العذاب. فأبلغهم فأبوا فخرج من عندهم فلما فقدوه ندموا على فعلهم فانطلقوا يطلبونه فلم يقدروا عليه. فقال علماؤهم : اطلبوه فإن كان في المدينة فليس ما ذكره بشيء ، وإن كان قد خرج فهو كما قال. فطلبوه فلم يجدوه ، فلما أيسوا أغلقوا باب مدينتهم فلم يدخلها بقرهم وغنمهم وعزلوا الوالدة عن ولدها وكذا الصبيان والأمهات ، فلما طلع الصبح رأوا العذاب ينزل من السماء فشقوا جيوبهم ووضعت الحوامل ما في بطونها وصاح الصبيان وثغت المواشي فرفع الله عنهم فبعثوا إلى يونس وآمنوا به وبعثوا معه بني إسرائيل.

القول الثاني وعليه أكثر المفسرين : أن قصة الحوت كانت بعد دعائه أهل نينوى وتبليغه رسالة الله إليهم كما مر في سورة يونس. واحتج الطاعنون في عصمة الأنبياء بهذه القصة من وجوه : الأوّل أنه ذهب مغاضبا لربه هكذا فسره ابن عباس وابن مسعود والحسن والشعبي وسعيد وابن جبير ووهب واختاره ابن قتيبة ومحمد بن جرير ، ومن المعلوم أن مغاضبة الله من أعظم الذنوب. ولئن سلم أنه كان مغاضبا لقومه فذلك أيضا محظور لأنه كان يجب أن يصبر معهم. الثاني قوله (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) وهو شك في قدرة الله. الثالث : اعترافه بأنه من الظالمين والظلم من صفات الذم. الرابع : إخبار الله تعالى في موضع آخر

٤٦

بقوله (فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ) [الصافات : ١٤٢] والمليم ذو الملامة. الخامس : قوله للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ) [القلم : ٤٢] وقال في موضع آخر (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ) [الأحقاف : ٣٥] والجواب أنه عليه‌السلام غضب لأجل ربه أنفة لدينه وبغضا للكفر وأهله ، وغاضب قومه بمفارقته كي يخوّفهم حلول العقاب عليهم عندها. فغاية ما في الباب أن تلك المغاضبة ترك الأولى وهو الصبر على مشاق الرسالة بعد أدائها إلى أن يأذن الله له في المهاجرة. وعن الثاني أن معنى. (لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) لن نضيق كقوله (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) [الرعد : ٢٦] (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ) [الطلاق : ٧] فهو من القدر لا من القدرة ، ويجوز أن يكون من القدر بمعنى القضاء. قال الزجاج : يقال قدر الله الشيء قدرا وقدره تقديرا. والمعنى فظن أن لن نقضي عليه بشدة وهو قول مجاهد وقتادة والضحاك والكلبي وابن عباس في رواية واختاره الفراء والزجاج. يقال : قدر الله عليه الضراء وقدر له السراء كما يقال : قدر القاضي على فلان أوله. ولئن سلمنا أنه من القدرة فالمراد القدرة بالفعل أي فظن أن لن نعمل فيه قدرتنا ، فالقدرة غير وإعمالها غير ، فظن انتفاء الأول كفر دون الثاني أو هو وارد على سبيل التمثيل والاستعارة أي كانت حاله ممثلة بحال من ظن أن لن نقدر عليه في مراغمته قومه من غير انتظار لأمر الله ، أو هو استفهام بمعنى التوبيخ معناه أفظن أن لن نقدر عليه : عن ابن زيد. سلمنا الكل لكن هذه الواقعة لعلها قبل رسالته كما حكينا ومثل هذا الظن في حق غير الأنبياء لا يبعد بوسوسة الشيطان ، ولكن المؤمن يرده بعد ذلك بالبرهان. وعن البواقي أن الكل راجع إلى ترك الأولى ونحن لا ننكر ذلك وكفى بذكر يونس في عدد الأنبياء الصابرين الصالحين دليلا على أنه لم يصدر عنه شيء ينافي عصمته والله تعالى أعلم.

أما قوله (فَنادى فِي الظُّلُماتِ) فمعنى الجمع راجع إلى شدة الظلمة وتكاثفها أي في الظلمة الشديدة المتكاثفة في بطن الحوت كقوله (يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ) [البقرة : ٢٥٧] وقيل : ظلمات بطن الحوت والبحر والليل. وقيل : ابتلع حوته حوت أكبر منه فحصل في ظلمتي بطن الحوتين وظلمة البحر. وقيل : إن الحوت إذا عظم غوصه في البحر كان ما فوقه من البحر ظلمة في ظلمة. ومعنى (أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ) أي لا إله إلا أنت أو بأنه لا إله إلا أنت (سُبْحانَكَ) تنزيه له عن كل النقائص. منها الظن المذكور على أي وجه فرض ، ومنها العجز عن تخليصه ، ومنها خلو ذلك الفعل عن حكمة كاملة. (إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) بالفرار من غير إذن وأنا الآن من التائبين وفيه من حسن الطلب ما فيه فلذلك قال (فَاسْتَجَبْنا لَهُ) ثم بين الاستجابة بقوله (وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِ) أي من غمه بسبب كونه في

٤٧

بطن الحوت وبسبب خطيئته (وَ) كما أنجينا يونس من كرب الحبس إذ دعانا (كَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) من كل كرب إذا استغاثوا بنا. عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما من مكروب يدعو بهذا الدعاء إلا استجيب له». وعن الحسن : ما نجاه والله إلا إقراره على نفسه بالظلم. وقد بقي في الآية بحث لفظي وهو أن بعض أهل العربية غلطوا عاصما في قراءته نجي بالتشديد والنون لا تدغم في الجيم. واستخرج بعضهم له وجها وهو أن يكون نجي فعلا ماضيا مجهولا من التنجية لكنه أرسل الياء وأسند الفعل إلى المصدر المضمر ونصب المؤمنين بذلك المصدر أي نجى نجاء المؤمنين كقولك «ضرب الضرب زيدا» ثم ضرب زيدا على إضمار المصدر ، وأنشد ابن قتيبة حجة لهذه القراءة :

ولو ولدت فقيرة جرو كلب

لسب بذلك الجرو الكلابا

وقال أبو علي الفارسي وغيره من الأئمة المحققين : إن مثل هذا لا يجوز إلا في ضرورة الشعر وإنما الوجه الصحيح في قراءة عاصم أن يحمل ذلك على الإخفاء ، فلعل الراوي التبس عليه فظنه إدغاما. ثم بين انقطاع زكريا وتبتله إليه رغبة فيمن يؤنسه ويعينه في أمر دينه ودنياه وإن انتهى الحال به وبزوجته في الكبر إلى حد اليأس من ذلك عادة. وفي قوله (وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ) وجهان : أحدهما أنه ثناء على الرب بأن مآل كل الأمور إليه فيكون مؤكدا لما فوض إليه أمر الولد. والثاني أنه أراد إن لم ترزقني من يرثني فلا أبالي فإنك خير وارث. وفي إصلاح زوجه وجوه : منها أنها جعلت صالحة للولادة بعد عقرها. ومنها أنها جعلت حسنة الخلق وكانت سيئة الخلق ، ولا شك أن حسن خلق الزوج نعمة عظيمة. ومنها أن الإصلاح يتعلق بأمر الدين كأنه سأل ربه المعونة على الدين والدنيا بالولد والأهل جميعا. ويرد على الوجه الأول أن إصلاح الزوج مقدم على هبة الولد ، والجواب أن الواو لا تفيد الترتيب أو أراد بالهبة إرادة الهبة. أما الضمير في قوله (إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) فقد قيل : إنه عائد إلى زكريا وولده وأهله. وقال جار الله : إنه للمذكورين من الأنبياء عليهم‌السلام يريد أنهم ما استحقوا الإجابة إلى طلباتهم إلا لمسارعتهم في تحصيل الخيرات ، وهذا من أجلّ ما يمدح به المؤمن لأنه يدل على الجد والرغبة في الطاعة. (وَيَدْعُونَنا رَغَباً) في ثوابنا (وَرَهَباً) عن عقابنا. ومعنى (خاشِعِينَ) قال الحسن : ذللا لأمر الله. وقيل : متواضعين. وعن مجاهد : الخشوع الخوف الدائم في القلب. وفي تقديم الجار والمجرور على (خاشِعِينَ) إشارة إلى أنهم لا يخشون أحدا إلا الله. وروى الأعمش عن إبراهيم النخعي أنه الذي إذا أرخى ستره وأغلق بابه رأى الله منه خيرا ليس هو الذي يأكل خشبا أي علقا ويلبس خشنا ويطأطىء رأسه. ولما فرغ من ذكر الرجال الكاملين ذكر من هي

٤٨

سيدة نساء العالمين فمدحها بإحصان فرجها إحصانا كليا من الحلال والحرام جميعا حتى إنها منعت جبرائيل جيب درعها قبل أن عرفته. والنفخ فيها عبارة عن إحياء عيسى في بطنها أي فنفخنا الروح في عيسى فيها كقول الزامر «فنفخت في بيت فلان» أي نفخت في المزمار في بيته ، أو المراد وفعلنا النفخ في مريم من جهة روحنا ـ وهو جبرائيل ـ لأنه نفخ في جيب درعها فوصل النفخ إلى جوفها. وهذا البيان هو المراد في سورة التحريم فلذلك قال (فَنَفَخْنا فِيهِ) [التحريم : ١٢] أراد فرج الجيب أو غيره. وإنما قال (وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ) لأنه أراد أن مجموعهما آية واحدة وهي ولادتها إياه من غير أب.

التأويل : الإشارات المفهومة من قصص الأنبياء أكثرها مرّ فلنذكر ما يختص بالمقام. منها قوله (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ) أي الله الكبير لأن كسر الأصنام ليس من طبيعة الإنسانية بل من طبيعتها أن تنحتها ، فإن صدر من أحدهم كسرها فإنما ذلك بتوفيق الله وتأييده. فقوله (هذا) بدل الكل من الضمير في فعله : قالوا أحرقوه إذا أراد الله أن يكمل عبدا من عباده المخلصين فداه خلقا عظيما كما لو أراد استكمال حوت في البحر فداه كثيرا من الحيتان الصغار ، فلما أراد تخليص جسد الخلة من غش البشرية جعل نمرود وقومه فداء له حتى أجمعوا على تحريقه ولم يعلموا أن تلك النار له نور. وذلك العذاب له روح وريحان ، لأن نار العشق قد أحرقت أنانيته حتى لم ير غير الله بل لم يبق إلا هو فلم يمكن للنار أن تتصرف فيه فوقع قوله : (قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) تمثيلا لهذا المعنى.

بالنار خوفني قومي فقلت لهم

النار ترحم من في قلبه نار

ونجينا إبراهيم الروح ولوط القلب من أرض البشرية إلى أرض الروحانية المتبركة المشرفة المشرقة لتجلي الذات والصفات. (وَنَجَّيْناهُ) من قرية القالب. (الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ) بالأوصاف البهيمية والسبعية (وَداوُدَ) الروح (وَسُلَيْمانَ) القلب (إِذْ يَحْكُمانِ فِي) شأن حرث الدنيا (إِذْ نَفَشَتْ) أي دخلت فيه في ظلمة ليل البشرية (غَنَمُ الْقَوْمِ) أي الصفات البشرية من غير راعي العقل فأفسدت الحرث بالإفراط والإسراف. فحكم الروح بانجذابه إلى عالمه بالكلية أن يمنع الأوصاف عن التصرف فيها مطلقا. (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ) القلب لكونه متقلبا في طودي الروح والجسد أن يحكم بمنع التصرف فيها إلى أن يعود الحرث من حالة الإسراف فيه المؤدي إلى الفساد إلى حالة التوسط والاعتدال الذي هو المعتبر في باب الكمال والإكمال جمعا بين المصلحتين ورعاية للجانبين. (وَسَخَّرْنا مَعَ

٤٩

داوُدَ الْجِبالَ) وهي الأعضاء والجوارح التي فيها ثقل وكثافة (يُسَبِّحْنَ) بتسبيحه (وَالطَّيْرَ) وهن القوى الحيوانية السيارة بل الطيارة بين فضاء القلب والقالب. هذا في الباطن ، وأما في الظاهر فإذا استولى سلطان الذكر على أجزاء البدن انعكس نوره في مرآة القلب إلى ما يحاذيها من الجمادات والحيوانات فيذكر ما يذكره كالحصاة سبحت في يد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وعن بعض الصحابة أنه قال : كنا نأكل الطعام ونسمع تسبيحه (وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ) إن الله تعالى ألهم داود الروح كيفية إلانة القلب الذي هو في القساوة بمنزلة الحديد حتى يتولد من ذلك القلب أوصاف حميدة تحصن الإنسان من بأس الأعداء التي هي النفس والهوى والشيطان. وسخرنا (لِسُلَيْمانَ) القلب ريح الروح الحيواني فإنه مركب الروح الإنساني به يتهيأ له السير إلى مقام بورك له فيه (وَمِنَ الشَّياطِينِ) وهم الأوصاف النفسية (مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ) في بحر الحديد فيستخرجون درر الفضائل الإنسية (وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ) من الوسائط والوسائل إلى تلك الفضائل : (وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ) من أن يزيغوا عن سواء السبيل ويميلوا عن جادة الشريعة وقانون الطريقة. قال أهل التحقيق : إذا بلغ الإنسان مبلغ الرجال البالغين سخر الله له بحسب مقامه السفليات والعلويات كما سخر لسليمان الريح والجن والشياطين والطير ومن العلويات الشمس حين ردت لأجل صلاته ، وسخر لداود عليه‌السلام الجبال والطير والحديد والأحجار التي قتل بها جالوت ، وسخر لنبينا جميع السفليات والعلويات حتى قال «زويت لي الأرض» (١) وقال «أوتيت مفاتيح خزائن الأرض» (٢) وكان الماء ينبع من بين أصابعه. وقال «نصرت بالصبا» وكانت الأشجار تسلم عليه وتسجد له وتنقلع بإشارته من مكانها وترجع ، والحيوانات تتكلم معه وتشهد بنبوته. وقال «أسلم شيطاني على يدي» (٣). وأما من العلويات فقد انشق القمر بإشارته وسخر له البراق وجبرائيل ، وعبر السموات والجنة والنار والعرش والكرسي إلى مقام قاب قوسين أو أدنى. (وَأَيُّوبَ) القلب المبتلى بديوان الهواجس والوساوس الذي فارقه أوصافه الحميدة وأخلاقه الشريفة لشدة تألمه بالعلائق البدنية وعوائق الأمور الدنيوية (فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ) بأن قلنا

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب الفتن حديث ١٩. أبو داود في كتاب الفتن باب ١ الترمذي في كتاب الفتن باب ١٤. ابن ماجة في كتاب الفتن باب ٩. أحمد في مسنده (٥ / ٢٧٨).

(٢) رواه البخاري في كتاب الجهاد باب ١٢٢. مسلم في كتاب المساجد حديث ٦ ، ٧. النسائي في كتاب الجهاد باب ١. الدارمي في كتاب المقدمة باب ١٤. أحمد في مسنده (٢ / ٢٦٤ ، ٤٥٠).

(٣) رواه مسلم في كتاب المنافقين حديث ٦٩ ، ٧٠. الترمذي في كتاب الرضاع باب ١٧. النسائي في كتاب النساء باب ٤. الدارمي في كتاب الرقاق باب ٣٥ ، ٦٦. أحمد في مسنده (١ / ٢٥٧) بلفظ «إلا أن الله أعانني عليه فأسلم».

٥٠

له (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ) [ص : ٤٢] نظيره (وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ) [طه : ٦٩] لينبع ماء حياة العلم والمعرفة فتسلم من تعلقات الكونين المؤذية للقلب والروح (إِذْ ذَهَبَ) من عالمه (مُغاضِباً) لغيره من المجردات فألقي في بحر الدنيا فالتقمه حوت النفس الأمارة بالسوء ، وابتلع حوت النفس حوت القالب (فَنادى) في ظلمات حجب النفس والقالب والدنيا (وَزَكَرِيَّا) الروح (وَهَبْنا لَهُ يَحْيى) القلب (وَأَصْلَحْنا لَهُ) زوج القالب (وَيَدْعُونَنا رَغَباً) في الفناء فينا (وَرَهَباً) من البقاء بأنانيتهم (وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ) أما القالب فبأعمال الشريعة ، وأما النفس فبتهذيب الأخلاق ، وأما القلب فبالاطمئنان بذكر الله ، وأما السر فباجتهاده في كشف الأسرار ، وأما الروح فببذل الوجود في طلب المعبود ، وأما الخفي فبإفنائه في الله وبقائه بالله. (وَمَرْيَمَ) النفس (الَّتِي أَحْصَنَتْ) قلبها عن تصرفات الكونين فأحييناها بالحياة الأبدية.

(إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (٩٢) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (٩٣) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (٩٤) وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (٩٥) حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (٩٦) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (٩٧) إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (٩٨) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (٩٩) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (١٠٠) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (١٠١) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (١٠٢) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (١٠٣) يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (١٠٤) وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (١٠٥) إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (١٠٦) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (١٠٧) قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (١٠٩) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (١١٠) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (١١١) قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١١٢))

٥١

القراآت : وحرم بكسر الحاء : حمزة وعلي وعاصم غير حفص وأبي زيد عن المفضل فتحت بالتشديد : ابن عامر ويزيد ويعقوب. لا يحزنهم بضم الياء وكسر الزاء يزيد (نَطْوِي) بضم التاء الفوقانية وفتح الواو و (السَّماءَ) بالرفع : يزيد. (لِلْكُتُبِ) على الجمع : حمزة وعلي وخلف وحفص (بَدَأْنا) مثل (أَنْشَأْنا) قال بالألف على حكاية قول الرسول (رَبِ) بحذف الياء اكتفاء بالكسرة : حفص غير الخراز رب بضم الباء على أنه مبتدأ احكم على صيغة التفضيل. يزيد عن يعقوب الباقون (رَبِّ احْكُمْ) يصفون على الغيبة : المفضل وابن ذكوان في رواية.

الوقوف : (واحِدَةً) ز لأن المقصود من قوله (أَنَا رَبُّكُمْ) قوله (فَاعْبُدُونِ) وكان الكلام متصلا (فَاعْبُدُونِ) ه (بَيْنَهُمْ) ط (راجِعُونَ) ه (لِسَعْيِهِ) ج لاختلاف الجملتين (كاتِبُونَ) ه (لا يَرْجِعُونَ) ه (يَنْسِلُونَ) ه (كَفَرُوا) ط لإضمار القول (ظالِمِينَ) ه (جَهَنَّمَ) ط (وارِدُونَ) ه (ما وَرَدُوها) ط (خالِدُونَ) ه (فِيها) ط (لا يَسْمَعُونَ) ه (الْحُسْنى) لا لأن ما بعده خبر «إن» (مُبْعَدُونَ) ه لا لأن ما بعده خبر بعد خبر (حَسِيسَها) ج لاحتمال الواو الحال والاستئناف (خالِدُونَ) ه ج لاحتمال الجملة بعده أن تكون صفة أو استئنافا (الْمَلائِكَةُ) ط لأن التقدير قائلين هذا يومكم (تُوعَدُونَ) ه (لِلْكُتُبِ) ط لأن الجار يتعلق بما بعده (نُعِيدُهُ) ط لحق المضمر أي وعدنا وحقا (عَلَيْنا) ط (فاعِلِينَ) ه (الصَّالِحُونَ) ه (عابِدِينَ) ه ط لاختلاف الجملتين (لِلْعالَمِينَ) ه واحد ج للاستفهام مع الفاء (مُسْلِمُونَ) ه (عَلى سَواءٍ) ط لابتداء النفي (تُوعَدُونَ) ه (تَكْتُمُونَ) ه (حِينٍ) ه (بِالْحَقِ) ط لأن ما بعده مبتدأ خارج عن المقول ، ومن قرأ ربي احكم فوقفه مجوز لنوع عدول من الواحد إلى الجمع (تَصِفُونَ) ه.

التفسير : لما فرغ من قصص الأنبياء أراد أن يذكر ما استقر عليه أمر الشرائع في آخر الزمان فقال (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ) وسيرتكم ، فالأمة الدين والطريقة لأنه أصل وقانون يرجع إليه. وللتركيب دلالة على ذلك وهذا إشارة إلى ملة الإسلام أي إن هذه الملة هي طريقتكم وسيرتكم التي يجب أن تكونوا عليها حال كونها طريقة واحدة غير مختلفة. (وَأَنَا رَبُّكُمْ) لا غيري (فَاعْبُدُونِ) والخطاب للناس كافة ، وكان الظاهر أن يقال بعده وتقطعتم أمركم بينكم أي جعلتم أمر دينكم بينكم قطعا كما يقسم الشيء بين الجماعة فيصير لهذا نصيب ولهذا نصيب فصرتم فرقا مختلفة وأحزابا شتى ، إلا أنه عدل من الخطاب إلى الغيبة على طريقة الالتفات كأنه يقبح أمرهم إلى غيرهم فيقول : ألا ترون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء؟ عن

٥٢

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «تفرقت بنو إسرائيل على إحدى وسبعين فرقة فهلكت سبعون وخلصت فرقة وأن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة وتخلص فرقة واحدة قالوا : يا رسول الله ومن الفرقة الناجية؟ قال : الجماعة الجماعة» (١) فهذا الحديث مفسر للآية من حيث إن هذه الأمة يجب أن يكونوا على كلمة واحدة. طعن بعضهم في الحديث أنه إن أراد بالاثنتين والسبعين فرقة أصول الأديان فإنها لا تبلغ هذا العدد ، وإن أراد الفروع فإنها أضعاف هذا العدد. وأجيب بأنه أراد ستفترق أمتي هذا العدد في حال ما ، وهذا لا ينافي كون العدد في بعض الأحوال أنقص أو أزيد. قال أهل البرهان : إنما قال في هذه السورة (فَاعْبُدُونِ وَتَقَطَّعُوا) بالواو وفي «المؤمنين» (فَاتَّقُونِ فَتَقَطَّعُوا) [الآية : ٥٣] بالفاء لأن الخطاب هاهنا أعم والعبادة أعم من التقوى. وأيضا الخطاب يتناول الكفار وقد وجد منهم التقطع قبل هذا القول ، وفي سورة المؤمنين الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين بدليل قوله (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ) [الآية : ٥١] ثم قال : (فَتَقَطَّعُوا) [الآية : ٥٣] أي ظهر منهم أي من أمتهم التقطع بعد هذا القول ولأن التقطع منهم أغرب أكده هناك بقوله (زُبُراً) وفي قوله (كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ) وعيد عظيم للفرق المختلفة. ثم فصل مآل لهم بقوله (فَمَنْ يَعْمَلْ) الآية والكفران مثل في حرمان الثواب كما أن الشكر مثل في إعطائه في قوله (فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) [الإسراء : ١٩] وإنما لم يقل «فلا يكفر سعيه» لأن نفي الجنس أبلغ فإن نفي الماهية يستلزم نفي جميع أفرادها. وفي قوله (وَإِنَّا لَهُ) أي لذلك السعي (كاتِبُونَ) مبالغة أخرى فإن المثبت في الصحيفة أبعد من النسيان والغلط كما قيل : قيدوا العلم بالكتابة. ولا سيما إذا كان الكاتب ممن لا يجوز عليه السهو والنسيان. قال المفسرون : معناه حافظون لنجازي عليه. وقيل : مثبتون في أم الكتاب أو في صحف الأعمال. هذا حال السعداء وأما أحوال أضدادهم فذلك قوله (وَحَرامٌ) ومن قرأ حرم فإنه فعل بمعنى مفعول. والتركيب يدور على المنع أي ممتنع أو ممنوع وهذا خبر لا بد له من مبتدأ وذلك قوله (أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) أو غير ذلك. والرجوع إما الرجوع عن الشرك إلى الإسلام أو الرجوع إلى الدنيا أو إلى الآخرة. وعلى الأول إما أن تكون «لا» زائدة أقحمت للتأكيد ومعنى الآية ممتنع على أهل قرية عزمنا على إهلاكها أو قدرنا إهلاكها أن يرجعوا أو يتوبوا إلى أن تقوم الساعة والمراد تصميمهم على الكفر. وإما أن تكون معيدة ولكن الحرام بمعنى الواجب تسمية لأحد الضدين باسم الآخر باشتراكهما في المنع إلا أن الوجوب منع عن

__________________

(١) رواه أبو داود في كتاب السّنة باب ١. الترمذي في كتاب الإيمان باب ١٨. ابن ماجة في كتاب الفتن باب ١٧. أحمد في مسنده (٢ / ٣٢٢) (٣ / ١٢٠).

٥٣

الترك والحرمة منع عن الفعل ، وقد ورد في الاستعمال مثل ذلك قال سبحانه (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا) [الأنعام : ١٥١] وترك الشرك واجب وليس بمحرم ، وقالت الخنساء :

وإن حراما لا أرى الدهر باكيا

على شجوه إلا بكيت على عمرو

وعلى الثاني فالإهلاك على أصله ، والمعنى أن رجوعهم إلى الدنيا ممتنع أو عدم رجوعهم واجب إلى قيام الساعة نظيره قوله (فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ) [يس : ٦٧] وعلى الثالث فقوله «حتى» غاية لقوله (لا يَرْجِعُونَ) أي ممتنع عدم رجوع المهلكين إلى عذاب الآخرة حتى الساعة ، وذلك أن رجوعهم إلى عذاب النار قبل الساعة واجب بقوله (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) [غافر : ٤٦] وقال أبو مسلم : أراد أن رجوعهم إلى الآخرة واجب إلى هذه الغاية أي أنهم يكونون أول الناس حضورا في محفل القيامة. وعلى الرابع فالمعنى وحرام عليهم ذلك وهو المذكور من السعي المشكور غير المكفور لأنهم لا يرجعون عن الكفر إلى أن تقوم الساعة.

قوله تعالى (حَتَّى إِذا فُتِحَتْ) «حتى» هي التي يقع بعدها الجملة وهي هاهنا مجموع الشرط والجزاء و «إذا» المفاجأة تسد مسد فاء الجزاء ، وقد يجمع بينهما للتعاون على وصل الجزاء بالشرط فيتأكد وإنما احتيج إلى هذا التأكيد لأن الشرط يحصل في آخر أيام الدنيا والجزاء إنما يحصل يوم القيامة ، ولعل بينهما فاصلة بالزمان إلا أن التفاوت القليل كالمعدوم والمضاف محذوف أي سد يأجوج ومأجوج وتأنيث الفعل لأنهما قبيلتان وهما ومن جنس الأنس كما مر في آخر الكهف. يقال : الناس عشرة أجزاء تسعة منها يأجوج ومأجوج. وفي الحديث «إن منكم واحدا ومن يأجوج ومأجوج ألف». قوله (وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ) قال أكثر المفسرين : الضمير ليأجوج ومأجوج يخرجون حين يفتح السد. وعن مجاهد أنه لجميع المكلفين الذين يساقون إلى المحشر. والحدب ما ارتفع من الأرض والنسل الإسراع. (وَاقْتَرَبَ) عطف على (فُتِحَتْ) وهو داخل في الشرط. و (الْوَعْدُ الْحَقُ) القيامة وقوله (فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ) كقوله في سورة إبراهيم (لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ) [إبراهيم : ٤٢] وقال في الكشاف : (هِيَ) ضمير مبهم توضحه الأبصار وتفسره. قلت : فعلى هذا (هِيَ) مبتدأ و (شاخِصَةٌ) خبره و (أَبْصارُ) بدل (هِيَ) ولو قيل : (هِيَ) ضمير القصة مبتدأ والجملة التي هي أبصار الذين كفروا شاخصة خبره جاز وهو قول سيبويه. ثم هاهنا إضمار أي يقولون (يا وَيْلَنا) وهو في موضع الحال من الذين كفروا والعامل شاخصة (قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا) الوعد أو الأمر (بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ) أنفسنا بتلك الغفلة وبتكذيب الرسل وعبادة الأوثان. ثم بين حال معبوديهم يوم

٥٤

القيامة فقال : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) أي محصوبها بمعنى محصوب فيها ، والحصب الرمي ومنه الحصباء لأنه يرمى بها الشيء وقرىء حطب. واللام في قوله (أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) كاللام في قوله «هو لزيد ضارب» وذلك لضعف عمل اسم فيما تقدم عليه. والمعنى لا بد لكم أن تردوها ولا معدل لكم عن دخولها. ثم ألزمهم الحجة بقوله (لَوْ كانَ هؤُلاءِ) المعبودون (آلِهَةً) في الحقيقة (ما وَرَدُوها) لكنهم واردوها للخبر الصادق الذي يتنبه لصدقه من يتأمل في إعجازه فينتج أن هؤلاء ليسوا بآلهة وأنها لا تستحق تعظيما أصلا. ثم أخبر أنهم بعد ورودهم النار لا يخلصون منها أبدا فقال (وَكُلٌ) أي من العابدين والمعبودين (فِيها خالِدُونَ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ) قد سبق معانيه في آخر سورة هود (وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ) شيئا إما لأنهم يجعلون في توابيت من نار عن ابن مسعود ، وإما لأنه تعالى يصمهم كما يعميهم. والصمم في بعض الأوقات لا ينافي كونهم سامعين أقوال أهل الجنة في غير ذلك الوقت ، أو المراد أنهم لا يسمعون ما يسرهم ، أو الضمير للمعبودين والسماع سماع إجابة ، وعلى هذا فالضمير في (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ) للعابدين وجاز اعتمادا على فهم السامع حيث يرد كلا من الضميرين إلى ما يناسبهما كأنه قيل : العابد يدعو والمعبود لا يجيب ، ويجوز أن يكون للمعبودين أيضا لأن فيهم من يتأتى منه الزفير كالشياطين فغلب ، أو لأن الجماد ينطقه الله وقتئذ والزفير بمعنى اللهيب والله أعلم. يروى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخل المسجد وصناديد قريش في الحطيم وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما ، فجلس إليهم فعرض له النضر بن الحرث وكلمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى أفحمه ثم تلا عليهم (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) الآية. فأقبل عبد الله بن الزبعري فأخبره الوليد بن المغيرة بما جرى فقال معترضا : أليس اليهود عبدوا عزيرا والنصارى عبدوا المسيح وبنو مليح عبدوا الملائكة؟ فقال عليه‌السلام : بل هم عبدوا الشياطين التي أمرتهم بذلك وأنزل الله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ) الآية. فخرج من الحديث. والآية جواب ابن الزبعري على أتم وجه وأكمله كأنه قيل أولا إن الآية باقية على عمومها لأن الذين عبدوا عزيرا والمسيح والملائكة لم يعبدوهم في الحقيقة ، وانما عبدوا الشياطين التي دعتهم إلى ذلك ، ولئن سلم أنهم عبدوهم في الحقيقة لكنهم مخصوصون بما سبقت لهم منا الخصلة الحسنى وهي السعادة أو البشرى بالثواب أو بتوفيق الطاعة وكل ميسر لما خلق له. ومن المفسرين من أجاب عن اعتراض ابن الزبعري بوجوه أخر منها : أن قوله (إِنَّكُمْ) خطاب لمشركي قريش وإنهم لم يعبدوا سوى الأصنام. ولقائل أن يقول : حمل الآية على العموم أتم فائدة. ومنها أن قوله (وَما تَعْبُدُونَ) لا يتناول العقلاء فيسقط الاعتراض. ولقائل أن يقول : ما أعم لا مباين فيشمل ذوي العقول

٥٥

وغيرهم ولهذا جاء (وَالسَّماءِ وَما بَناها) [الشمس : ٥] سبحان ما سخركن لنا. ومنها أنه تعالى يصور لهم في النار ملكا على صورة من عبدوه ، وضعف بأن القوم لم يعبدوا تلك الصورة ، وبأن الملك لا يتعذب بالنار كخزنة جهنم. واعلم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فقوله (إِنَّ الَّذِينَ) لا يبعد أن يكون عاما لكل المؤمنين ويؤيده ما روي أن عليا قرأ هذه الآية ثم قال : أنا منهم وأبوبكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف. وزعم مثبتوا لعفو أن الحسنى في الآية هي الوعد بالعفو لأنه قال (أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) بأزاء قوله (أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) والورود الدخول فالإبعاد الإخراج من النار بعد أن كانوا فيها. وأيضا إبعاد البعيد محال. وقوله (لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها) إذ الصوت الذي يحس به مخصوص بما بعد الإخراج. وأيضا قوله (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) يفهم منه أنه يحزنهم الفزع الأصغر ، فالأكبر عذاب الكفار والأصغر عذاب صاحب الكبيرة ، والأكثرون على أن المراد من قوله (مُبْعَدُونَ) أنهم لا يدخلون النار ولا يقربونها البتة لأن ما جعل بعيدا عن شيء ابتداء يحسن أن يقال : إنه أبعد عنه ، وهؤلاء لم يفسروا الورود في قوله (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) [مريم : ٧١] بالدخول كما مر في سورة مريم. وفي قوله (لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها) تأكيد للإبعاد فقد لا يدخل النار ويسمع حسيسها. ثم بين أنهم مع البعد عن المنافي منتفعون بالقرب من الملائم ملتذون به على سبيل التأبيد فقال وهم فيما اشتهته (أَنْفُسُهُمْ) أي فيما تطلبه للالتذاذ به (خالِدُونَ) هذا نصيب أهل الجنة ، وأما أهل الله فهم فيما اشتهت قلوبهم وأرواحهم وأسرارهم خالدون. والفزع الأكبر قيل : النفخة الأخيرة لقوله (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) [النمل : ٨٧] وعن الحسن هو الانصراف إلى النار فإنه لافزع أكبر مما إذا شاهدوا النار ، وهذا أمر يشترك فيه أهل النار جميعا ، ثم مراتب التعذيب بعد ذلك متفاوتة. وعن الضحاك وسعيد بن جبير هو حين تطبق النار على أهلها فيفزعون لذلك فزعة عظيمة ، وقيل : حين يذبح الموت على صورة كبش أملح فعند ذلك يستقر أهل النار في النار وأهل الجنة في الجنة وتستقبلهم الملائكة مهنئين قائلين (هذا يَوْمُكُمُ) أي وقت ثوابكم (الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) ذلك قال الضحاك : هم الحفظة الذين كتبوا أعمالهم. والعامل في (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ) : (لا يَحْزُنُهُمُ) أو (تَتَلَقَّاهُمُ). والسجل اسم للطومار الذي يكتب فيه. وعن ابن عباس أنه ملك يطوي كتب بني آدم إذا رفعت إليه وهو مروي أيضا عن علي رضي‌الله‌عنه. وروى أيضا أبو الجوزاء عن ابن عباس أنه كاتب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وليس بمعروف. قال الزجاج : هو الرجل بلغة الحبش. فعلى هذه الوجوه فالطي وهو المصدر مضاف إلى الفاعل وعلى الوجه

٥٦

الأول هو مضاف إلى المفعول والفاعل محذوف كطي الطاوي للسجل وهو قول الأكثرين. واشتقاقه من السجل الدلو العظيم وقد قرىء به والتركيب يدل على الامتلاء والاجتماع ولهذا لا يسمى الدلو سجلا إلا إذا كان فيه ماء ومنه «أسجلت الحوض ملأته.» وقوله (لِلْكُتُبِ) أي للكتابة ومعناه ليكتب فيه أو لما يكتب فيه لأن الكتاب أصله المصدر كالبناء ثم يوقع على المكتوب. ومن جمع فمعناه للمكتوبات أي ما يكتب فيه من المعاني الكثيرة ، وكيفية هذا الطي لا يعلمها إلا من أخبر عن ذلك أما قوله (كَما بَدَأْنا) فمن المفسرين من قال : أنه ابتداء كلام ومنهم من قال : إنه وصف قوله (هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) بقوله (يَوْمَ نَطْوِي) ثم عقبه بوصف آخر فقال (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ) وهو مفعول نعيد الذي يفسره (نُعِيدُهُ) و «ما» كافة أي نعيد أول الخلق كما بدأناه تشبيها للإعادة بالابتداء في تناول القدرة لهما على السواء. فكما أوجده أولا عن عدم يعيده ثانيا عن عدم. ومنهم من قال : الإعادة إنما تتعلق بالضم والتركيب بعد تفريق الأجزاء الأصلية والآية لا تطابقه كل المطابقة. وأول خلق كقولك «هو أول رجل» أي إذا فضلت رجلا رجلا فهو أولهم ، وإنما خص أول الخلائق بالذكر تصويرا للإيجاد عن العدم ودفعا للاعتراض. وجوز جار الله أن تنتصب الكاف بفعل مضمر يفسره نعيده و «ما» موصولة أي نعيد مثل الذي بدأنا نعيده و (أَوَّلَ خَلْقٍ) ظرف لـ (بَدَأْنا) أي أول ما خلق أو حال من ضمير الموصول الساقط من اللفظ وقوله (وَعْداً) مصدر مؤكد لأن قوله نعيد عدة للإعادة وقيل : أراد حتما (عَلَيْنا) لسبب الإخبار عن ذلك وتعلق العلم بوقوعه فإن وقوع ما علم الله وقوعه واجب ثم حقق ذلك بقوله (إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) أي سنفعل ذلك لا محالة فإنا قادرون عليه. عن سعيد بن جبير ومجاهد والكلبي ومقاتل وابن زيد أن الزبور جنس للكتب المنزلة كلها ، والذكر أم الكتاب يعني اللوح ففيه كتابة كل ما سيكون اعتبارا للملائكة ، وكتب الأنبياء كلهم منتسخة منه ، وعن قتادة أن الزبور هو القرآن ، والذكر هو التوراة. وعن الشعبي أن الزبور هو كتاب داود عليه‌السلام والذكر التوراة. وجوز الإمام فخر الدين أن يراد بالذكر العلم أي كتبنا فيه بعد أن كنا عالمين غير ساهين. والمراد تحقيق وقوع المكتوب فيه ، والأرض أرض الجنة ، والعباد الصالحون هم المؤمنون العالمون بما يجب عليهم نظيره قوله (وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) [الزمر : ٧٤] قاله ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد والسدي وأبو العالية. وإنما ذهبوا إلى هذا القول لأن أرض الدنيا تعم الصالح وغير الصالح ، ولأن الآية وردت بعد ذكر الإعادة. وعن ابن عباس أيضا في رواية الكلبي أنها أرض الدنيا يرثها المؤمنون بعد إجلاء الكفار نظيره (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) [النور : ٥٥]

٥٧

وقيل : الأرض المقدسة يرثها أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسلم عند نزول عيسى بن مريم (إِنَّ فِي هذا) الذي ذكر في السورة من الأخبار والوعد والوعيد وغير ذلك (لَبَلاغاً) لكفاية (لِقَوْمٍ عابِدِينَ) عاملين بما ينبغي عمله من الخيرات بعد ما عملوا من كيفية أدائها. والبلاغ ما يبلغ به المرء مطلوبه من الوسائط والوسائل ، ولا مطلوب أجل من سعادة الدارين فكل من كان وسيلة إلى نيل هذا المطلوب على الوجه الأتم الأكمل كان وجوده رحمة من الله للطالب المتحير وما ذاك إلا خاتم النبيين فلهذا قال (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) وكونه رحمة للكل لا ينافي قتله بعض الكفرة والتعرض لأموالهم وأولادهم كما أن كي بعض أعضاء المريض بل قطعه لا ينافي حذق الطبيب وإشفاقه على المريض ومن هنا قيل : آخر الدواء الكي. والعاقل لا ينسب التقصير إلى الفاعل لقصور في القابل. قالت المعتزلة : لو كان كفر الكافر بخلق الله لم يكن إرسال الرسول رحمة له لأنه لا يحصل له حينئذ إلا لزوم الحجة عليه. وأجيب بأن كونه رحمة للفجار هو أنهم أمنوا بسببه عذاب الاستئصال ، ولا يلزم أن يكون الرسول رحمة للمؤمنين من جهة كونه رحمة للكافرين ، والجواب المحقق أن كونه رحمة عامة بالنسبة إلى أمة الدعوة لا ينافي كونه رحمة خاصة بالنسبة إلى أمة الإجابة وهو قريب مما ذكرناه أولا ، والحجة وتبعتها لازمة على الكافر وإن لم يبعث النبي غايته أنها بعد البعثة ألزم. وفي الآية دلالة على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل من الملائكة لأنه رحمة لهم فإنهم من العالمين وعورض بقوله (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) [الشورى : ٥] والاستغفار رحمة. والجواب أن الرحمة بمعنى كونه في نفسه مكملا في الغاية غير الرحمة بمعنى الدعاء ، فلا يلزم من كون الأول سببا للأفضلية كون الثاني كذلك ، ثم بين أن أصل تلك الرحمة وأسها هو دعاؤه إلى التوحيد والبراءة عن الشرك فقال (قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَ) إن كانت «ما» موصولة فمعناه أن الذي يوحي إليّ هو أن وصفه تعالى مقصور على الوحدانية لا يتجاوزه إلى ما يناقضها أو يضادها بأي قسمة فرضت وإن كانت كافة المعنى أن الوحي مقصور على استئثار الله بالوحدة ، وذلك أن القصر يكون أبدا لما يلي إنما وفي قوله (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) بعث لهم على قبول هذا الوحي الذي هو أصل التكاليف كلها ، وفيه نوع من التهديد فلذلك صرح به قائلا (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ) أي أعلمتكم والمراد هاهنا أخص من ذلك وهو الإنذار (عَلى سَواءٍ) هو الدعاء إلى الحرب مجاهرة كقوله (فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ) [الأنفال : ٥٨] إلى وقت أي حال كونكم مستوين في ذلك لا فرق بين القريب والأجنبي والقاصي والداني والشريف والوضيع ولهذا قال أبو مسلم : الإيذان على سواء هو الدعاء إلى الحرب مجاهرة كقوله (فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ) [الأنفال : ٥٨] وقيل : أراد أعلمتكم ما هو

٥٨

الواجب عليكم من أصول التكاليف ولا سيما التوحيد على السوية من غير فرق في الإبلاغ بين مكلف ومكلف. ولست (أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ) أم بعيد والموعود قيل : هو عذاب الآخرة. واعترض بأنه ينافي قوله (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُ) وقيل : هو الأمر بالقتال لأن السورة مكية وكان الأمر بالجهاد بعد الهجرة. وقيل : هو إعلاء شأن الإسلام وغلبة ذويه فإنه لا بد أن يلحق للكفار حينئذ ذلة وصغار. ولما أمره أن ينفي عن نفسه علم الغيب أمره أن يقول لهم إن الله سبحانه هو العالم بالسر والعلن فيعلم ما تجاهرون به من المطاعن في الإسلام وما تكتمونه في صدوركم من الإحن والضغائن فيجازيكم على القبيلين (وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ) أي ما أدري لعل تأخير هذا الوعد أو إبهام وقته أو تأخير الأمر بالجهاد امتحان لكم لينظر كيف تعملون وتمتيع لكم (إِلى حِينٍ) حضور وقت الموعد. وقال الحسن : لعل ما أنتم عليه من الدنيا ونعيمها بلية لكم. وقيل : أراد لعل ما بينت وأعلمت وأوعدت ابتلاء لكم لأن المعرض عن الإيمان مع البيان حالا بعد حال يكون عذابه أشد. ومعنى (رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ) أقض بيني وبين من يكذبني بالعذاب. قال قتادة : أمره الله تعالى أن يقتدي بالأنبياء في هذه الدعوة وكانوا يقولون (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِ) [الأعراف : ٨٩] فاستجيب له فعذبوا ببدر ، وقال جار الله : بالحق لا تحابهم وشدد عليهم كما هو حقهم كما قال «أشدد وطأتك على مضر» (١) وقيل : معناه وافعل بيني وبينهم بما يظهر الحق للجميع تنصرني عليهم كأنه سبحانه قال له : قل داعيا إليّ رب احكم بالحق وقل متوعد للكفار (وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ) الذي يستعان به (عَلى ما تَصِفُونَ) من الشرك والكفر وما تعارضون به دعوتي من الأباطيل ، وكانوا يطمعون أن يكون لهم الغلبة والدولة فقلب الله الأمر عليهم. وفي هذا الأمر تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورفع عن مقداره حيث أمر بالانقطاع إلى الرب في دفع أذية القوم ليحصل له مع الخلاص من أذيتهم شرف الاستجابة وهذه غاية العناية.

التأويل : (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ) فيه إشارة إلى أن السالك إذا عبر المقامات التي ذكرنا تصير متفرقات شمله مجتمعة في الفناء بالله والبقاء به ، فيكون أمة واحدة في ذاته كما أن إبراهيم كان أمة فيعرفه الله نفسه ويقول (أَنَا رَبُّكُمْ) الذي بلغتكم هذه الرتبة (فَاعْبُدُونِ) أي فاعرفون (وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ) فمنهم من سكن إلى الدنيا ، ومنهم من سكن إلى الجنة ، ومنهم من فر إلى الله (كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ) أما طالب الدنيا فيرجع إلى صورة قهرنا وهي جهنم ،

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الأذان باب ١٢٨. مسلم في كتاب المساجد حديث ٢٩٤ ، ٢٩٥. أبو داود في كتاب الوتر باب ١٠. النسائي في كتاب التطبيق باب ٢٧. الدارمي في كتاب الصلاة باب ٢١٦.

٥٩

وأما طالب الآخرة فيرجع إلى صورة رحمتنا وهي الجنة ، وأما الذي يطلبنا فإنه يرجع إلينا بالحقيقة (وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ) في الأزل من أهل السعادة حتى إذا فتح سد (يَأْجُوجُ) النفس و (مَأْجُوجُ) الهوى ، والسد أحكام الشريعة وفتحها مخالفاتها وموافقات الطبع وهم أعني دواعي النفس من كل معدن شهوة من الحواس الظاهرة والباطنة (يَنْسِلُونَ) فيفسدون ما يمرون عليه من القلب والسر والروح (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ) إهلاك القلوب الغافلة (فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ) بصائرها بالانهماك في الأهواء (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) العناية الأزلية (لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها) أعني مقالات أهل البدع والأهواء (وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ) المطمئنة المجذوبة بجذبة (ارْجِعِي) في مقامات السير في الله (خالِدُونَ) الفزع الأكبر قوله في الأزل «هؤلاء في النار ولا أبالي» (يَوْمَ نَطْوِي) سماء وجود الإنسان بتجلي صفات الجلال في إفناء مراتب الوجود من الانتهاء إلى الابتداء وذلك قوله (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) يعني أن الرجوع يكون بالتدريج كما أن البدء كان بالتدريج خلق النطفة علقة ثم خلق العلقة مضغة ثم خلق المضغة عظاما ثم كسا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر. ففي الإعادة يجب أن يمر السالك من الإحساس على الحيوانية ثم النباتية ثم المعدنية ثم البسائط العنصرية ثم الملكوتية ثم الروحانية ثم إلى صفات الربوبية بجذبة (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ) [الفجر : ٢٨] (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ) أي في أم الكتاب (مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) أي بعد أن قلنا للقلم أكتب نظيره (كُنْ فَيَكُونُ) [يس : ٨٢] أن أرض جنة الوجود الحقيقي (يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) وهم الذين طويت سماء وجودهم المجازي. فالوجود المجازي لكونه غير ثابت ولا مستقر كالسماء ، والوجود الحقيقي لكونه ثابتا ومستقرا على حالة واحدة كالأرض (لِقَوْمٍ عابِدِينَ) عارفين. (وَما أَرْسَلْناكَ) من كتم العدم (إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) فلولاك لما خلقت الأفلاك «أول ما خلق الله روحي» ولو لا الأزل لم تنته الهوية إلى الآخر والله أعلم.

٦٠