تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٥

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٥

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٩

القصة الخامسة قصة صالح. قال جار الله : الهمزة في (أَتُتْرَكُونَ) يجوز أن تكون للإنكار أي لا تتركون مخلدين في الأمن والراحة ولكل نعمة زوال ، ويجوز أن تكون للتقرير أي قد تركتم في أسباب الأمن والفراغ ، أجمل أولا بقوله (فِي ما هاهُنا) أي في الذي استقر في هذا المكان من النعيم ، ثم فسره بقوله (فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) وذكر النخل بعد ذكر الجنات إما تخصيص للجنات بغير النخل ، وإما تخصيص للنخل بالذكر تنبيها على فضله ومزيته. وطلع النخلة ما يبدو منها كنصل السيف وقد مر في «الأنعام». والهضيم اللطيف الضامر من قولهم «كشح هضيم» أراد أنه وهب لهم أجود النخل وألطفه كالبرني مثلا. وقيل : وصف نخيلهم بالحمل الكثير فإنه إذا كثر الحمل هضم أي لطف. وقيل : الهضيم اللين النضيج كأنه قال : ونخل قد أرطب ثمره. والفراهة الكيس والنشاط ومنه «خيل فرهة» و (فارِهِينَ) حال من الناحتين. قال علماء المعاني : جعل الأمر مطاعا مجاز حكمي وإنما المطاع بالحقيقة هو الآمر. وفي قوله (وَلا يُصْلِحُونَ) إشارة إلى أن إفسادهم في الأرض غير مقترن بالإصلاح رأسا. والمسحر الذي سحر كثيرا حتى غلب على عقله. وقيل : هو من السحر الرئة. أرادوا أنه بشر ذو سحر وهو ضعيف لأنه يلزم التكرار بقوله : (ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) إلا أن يقال : إنه بيان. والشرب النصيب من الماء كالسقي للحظ من السقي. وقرىء بالضم عن قتادة إذا كان يوم شربها شربت ماءهم كله ولهم شرب يوم لا تشرب فيه الماء. سؤال : لم أخذهم العذاب وقد ندموا والندم توبة؟ جوابه كان ندمهم ندم خوف من العقاب العاجل أو ندموا ندم توبة في غير أوانها وذلك عند عيان العذاب. وقيل : ندموا على ترك عقر ولدها وفيه بعد. واللام في العذاب إشارة إلى عذاب يوم عظيم.

القصة السادسة : قصة لوط : أنكر على قومه إتيانهم الذكور من الناس لا الإناث على كثرتهن ، أو أنكر عليهم كونهم مختصين من العالمين بهذه الفاحشة. فقوله : (مِنَ الْعالَمِينَ) يعود على الأول إلى المأتي ، وعلى الثاني إلى الآتي. والعالمون على هذا كل ما ينكح من الحيوان ولا شيء من الحيوان يرتكب هذه الفعلة إلا الإنسان. قوله (مِنْ أَزْواجِكُمْ) إما بيان لما خلق وإما للتبعيض فيراد بما خلق العضو المباح منهن فلعلهم كانوا يفعلون مثل ذلك بنسائهم. والعادي المتجاوز الحد في ظلم أي (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ) في جميع المعاصي وهذه واحدة منها ، أو بل أنتم قوم أحقاء بأن تنسبوا إلى العدوان حيث فعلتم هذه الجريمة العظيمة. (قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ) عن نهينا (لَتَكُونَنَ) من جملة من أخرجناه من بلدنا ولعلهم كانوا يطردون من خالف أراد أنه كامل في قلاهم عصبية للدين ، أو أنه معدود في زمرة مبغضيهم كما تقول : فلان من العلماء. فيكون أبلغ من قولك «هو

٢٨١

عالم». ثم طلب النجاة من عقوبة عملهم أو سأل العصمة عن مثل عملهم ولقد عصمهم الله (إِلَّا عَجُوزاً) رضيت بفعلهم وأعانت على ذلك وكانت من أهله بحق الزواج وإن لم تشاركهم في الإيمان. ومعنى (فِي الْغابِرِينَ) إلا عجوزا مقدرا غبورها أي بقاؤها في الهلاك. واللام في (الْمُنْذَرِينَ) للجنس لتصلح الفاء علة فعل الذم والمخصوص محذوف أي ساء مطر جنس المنذرين مطر أولئك المعهودين والله أعلم.

(كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (١٧٦) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٧٧) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٧٨) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٧٩) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٠) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (١٨١) وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (١٨٢) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (١٨٣) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (١٨٤) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٨٥) وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (١٨٦) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٨٧) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (١٨٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٨٩) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٩٠) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٩١) وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١٩٥) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (١٩٦) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٩٧) وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (١٩٨) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (١٩٩) كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (٢٠٠) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٢٠١) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٢٠٢) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (٢٠٣) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (٢٠٤) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (٢٠٥) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (٢٠٦) ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (٢٠٧) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (٢٠٨) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (٢٠٩) وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (٢١٠) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (٢١١) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (٢١٢) فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (٢١٣) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (٢١٤) وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢١٥) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢١٦) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٢١٧) الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (٢١٨) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (٢١٩) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٢٢٠) هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (٢٢١) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٢٢٢) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (٢٢٣) وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (٢٢٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (٢٢٥) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (٢٢٦) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا

٢٨٢

وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (٢٢٧))

القراآت : ليكة بلام مفتوحة بعدها ياء ساكنة وبفتح التاء على أنها ممتنعة من الصرف للعلمية والتأنيث ، وكذلك في «صاد» : أبو جعفر ونافع وابن كثير وابن عامر. الآخرون (الْأَيْكَةِ) معروفا مجرورا. (كِسَفاً) بفتح السين : حفص غير الخزاز. الآخرون بسكونها (رَبِّي أَعْلَمُ) بفتح الياء : نافع وأبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو و (نَزَلَ بِهِ) مخففا (الرُّوحُ الْأَمِينُ) مرفوعين : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو وحفص وأبو زيد عن المفضل وزيد عن يعقوب. الباقون نزل مشددا (الرُّوحُ الْأَمِينُ) منصوبين أولم تكن بتاء التأنيث آية بالرفع : ابن عامر. الباقون بالياء التحتانية. (آيَةً) بالنصب : فتوكل بالفاء : أبو جعفر ونافع وابن عامر. الباقون بالواو (مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ) بتشديد التاء وكذلك تنزل البزي وابن فليح يتبعهم بالتخفيف : نافع وادي بالياء في الوقف : يعقوب والسرنديبي عن قنبل وقرأ قتيبة بالإمالة.

الوقوف : (الْمُرْسَلِينَ) ج ه (تَتَّقُونَ) ه (أَمِينٌ) ه لا (وَأَطِيعُونِ) ه ج (أَجْرٍ) ج (الْعالَمِينَ) ه ط (الْمُخْسِرِينَ) ج ه (الْمُسْتَقِيمِ) ج ه (مُفْسِدِينَ) ج ه (الْأَوَّلِينَ) ه ط (الْمُسَحَّرِينَ) ه لا (الْكاذِبِينَ) ه ج نصف آي القرآن (الصَّادِقِينَ) ه ط (تَعْمَلُونَ) ه (الظُّلَّةِ) ط (عَظِيمٍ) ه (لَآيَةً) ط (مُؤْمِنِينَ) ه (الرَّحِيمُ) ه (الْعالَمِينَ) ه (الْأَمِينُ) ه لا (الْمُنْذِرِينَ) ه لا (مُبِينٍ) ه (الْأَوَّلِينَ) ه (إِسْرائِيلَ) ط ه (الْأَعْجَمِينَ) ه لا (مُؤْمِنِينَ) ه ط (الْمُجْرِمِينَ) ه ط بناء على أن (لا يُؤْمِنُونَ) مستأنف للبيان ولو جعل حالا فلا وقف (الْأَلِيمَ) ه لا (لا يَشْعُرُونَ) ه لا (مُنْظَرُونَ) ه ط (يَسْتَعْجِلُونَ) ه (سِنِينَ) ه لا للعطف (يُوعَدُونَ) ه لا لأن قوله (ما أَغْنى) جملة نفي أو استفهام قامت مقام الشرط (يُمَتَّعُونَ) ه ط (مُنْذِرُونَ) ه وقد يوقف عليها بناء على أن (ذِكْرى) ليس بمفعول له والمراد ذكرناهم والوقف على (ذِكْرى) جائز (ظالِمِينَ) ه (الشَّياطِينُ) ه (يَسْتَطِيعُونَ) ه ط (لَمَعْزُولُونَ) ه ط (الْمُعَذَّبِينَ) ج ه (الْأَقْرَبِينَ) ج ه للعطف (الْمُؤْمِنِينَ) ه (تَعْمَلُونَ) ه ج (الرَّحِيمِ) ه لا (تَقُومُ) ه لا (السَّاجِدِينَ) ه (الْعَلِيمُ) ه (الشَّياطِينُ) ه ط لانتهاء الاستفهام إلى الأخبار (أَثِيمٍ) ج ه بناء على أن (يُلْقُونَ) حال من ضمير (الشَّياطِينُ) أي تنزل ملقين السمع أو صفة لـ (كُلِّ أَفَّاكٍ) وإن جعل مستأنفا كأن قائلا قال : لم تنزل؟ فقيل : يفعلون كيت وكيت فلك الوقف. (كاذِبُونَ)

٢٨٣

ه ط (الْغاوُونَ) ه ط (يَهِيمُونَ) ه لا (لا يَفْعَلُونَ) ه (ظُلِمُوا) ط (يَنْقَلِبُونَ) ه.

التفسير : القصة السابعة قصة شعيب وأنه كان أخا مدين دون أصحاب الأيكة ولهذا لم يقل «أخوهم شعيب». يروى أن أصحاب الأيكة كانوا أصحاب شجر ملتف وكان شجرهم الدوم وهي التي حملها المقل. قال في الكشاف : قرىء أصحاب ليكة بتخفيف الهمزة وبالجر على الإضافة وهو الوجه ، ومن قرأ بالنصب وزعم أن ليكة بوزن ليلة اسم بلد فتوهم قاد إليه خط المصحف في هذه السورة وفي سورة ص ، ثم اعترض عليه بأن ليكة اسم لا يعرف. قلت : إنه لا يلزم من عدم العلم بالشيء عدم ذلك الشيء ، والظن بالمتواتر يجب أن يكون أحسن من ذلك. أمرهم شعيب بإيفاء الكيل ونهاهم عن الإخسار وهو التطفيف وأن يجعل الشخص خاسرا فكأنه أمره بالإيفاء مرتين توكيدا ثم زاد في البيان بقوله. (وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ) وقد مر في سورة سبحان. قال في الكشاف : إن كان من القسط وهو العدل وجعلت السين مكررة فوزنه «فعلاس» وإلا فهو رباعي. قلت : إن كان مكررا فوزنه «فعلال» أيضا. وقوله (وَلا تَبْخَسُوا) تأكيدا آخر وقد سبق في «هود». والجبلة الخليقة حذرهم الله الذي تفضل عليهم بخلقهم وخلق من تقدمهم ممن لو لا خلقهم لما كانوا مخلوقين. قال في الكشاف : الفرق بين إدخال الواو هاهنا في قوله (وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ) وبين تركها في قصة ثمود هو أنه قصد هاهنا معنيان منافيان عندهم للرسالة : كونه مسحرا وكونه بشرا وهناك جعل المعنى الثاني مقررا للأول. قلت : الفرق بين والإشكال في تخصيص كل من القصتين بما خصت به ، ولعل السبب فيه هو أن صالحا قلل في الخطاب فقللوا في الجواب ، وأكثر شعيب في الخطاب ولهذا قيل له خطيب الأنبياء فأكثروا في الجواب. «وإن» في قولهم (وَإِنْ نَظُنُّكَ) هي المخففة من الثقيلة عملت في ضمير شأن مقدر. واللام في قوله (لَمِنَ الْكاذِبِينَ) هي الفارقة. والكسف بالسكون والحركة جمع كسفة وهي القطعة وقد مر في سبحان في اقتراحات قريش. والمعنى إن كنت صادقا في دعوة النبوة فادع الله أن يسقط علينا قطع السماء. وإنما طلبوا ذلك لاستبعادهم وقوعه فأرادوا بذلك إظهار كذبه فحلم عنهم شعيب ولم يدع عليهم بل فوض الأمر إلى الله بقوله : (رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ) يروى أن شعيبا بعث إلى أمتين : أصحاب مدين وأصحاب الأيكة. فأهلكت مدين بصيحة جبرائيل ، وأهلكت أصحاب الأيكة بعذاب يوم الظلة وذلك إنه حبس عنهم الريح سبعا وسلط عليهم الحرّ فأخذ بأنفاسهم لا ينفعهم ظل ولا ماء ولا شراب ، فاضطروا إلى أن خرجوا إلى الصحراء فأظلتهم سحابة وجدوا لها بردا ونسيما فاجتمعوا تحتها فأمطرت عليهم نارا فاحترقوا.

٢٨٤

وحين سلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذه القصص المؤكدة بالمكررات المختتمة بالمقررات عاد إلى مخاطبته قائلا (وَإِنَّهُ) أي وإن الذي نزل عليك من الأخبار (لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي منزله. والباء في (نَزَلَ بِهِ) على القراءتين للتعدية ولكنها في قراءة التشديد تقتضي مفعولا آخر هو الروح أي جعل الله تعالى الروح الأمين نازلا به على قلبك محفوظا مفهوما (لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) من الذين أنذروا بهذا اللسان وهم خمسة : هود وصالح وشعيب وإسماعيل ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ويجوز أن يكون قوله (بِلِسانٍ) متعلقا بـ (نَزَلَ) أي نزله (بِلِسانٍ عَرَبِيٍ) لتنذر به فإنه لو نزله بالأعجمي لقالوا : ما نصنع بما لا نفهمه. ومن هذا الوجه ينشأ فائدة أخرى لقوله (عَلى قَلْبِكَ) أي نزلناه بحيث تفهمه ولو كان أعجميا لكان نازلا على سمعك دون قلبك. والظاهر من نقل أئمة اللغة أن القلب والفؤاد مترادفان. ونقل الإمام فخر الدين الرازي عن بعضهم أن القلب هو العلقة السوداء في جوف الفؤاد وذكر كلاما طويلا في أن محل العقل هو القلب دون الدماغ وهو المخاطب في الحقيقة فلهذا قال (نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ) ونحن قد تركناه لقلة تعلقه بالمقام ولضعف دلائله مع مخالفته لما عليه معظم أرباب المعقول. قوله (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) يعني أن ذكر القرآن مثبت في الكتب السماوية للأمم المتقدمة ، وإن معاني القرآن في تلك الزبر. وقد يحتج به لأبي حنيفة في جواز القراءة بالفارسية في الصلاة. وقيل : الضمير فيه وفي (أَنْ يَعْلَمَهُ) للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنه حجة ثابتة على نبوته قد شهد بها علماء بني إسرائيل كعبد الله بن سلام وغيره من الذين أسلموا منهم واعترفوا أن نعته وصفته في كتبهم مذكور ، وكان مشركوا قريش يذهبون إلى اليهود يتعرفون منهم هذا الخبر. من قرأ (يَكُنْ) بالتذكير و (آيَةً) بالنصب على الخبر والاسم (أَنْ يَعْلَمَهُ) فظاهر ، ومن قرأ تكن بالتأنيث و (آيَةً) بالرفع على الاسم والخبر (أَنْ يَعْلَمَهُ) فقيل : ليست بقوية لوقوع النكرة اسما والمعرفة خبرا. ويمكن أن يجاب بأن الفعل المضارع مع أن ليس من المعارف الصريحة ، وقد توجه هذه القراءة بتقدير ضمير القصة في تكن وجملته (آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ) و (لَهُمْ) لغوا أو (لَهُمْ آيَةً) و (أَنْ يَعْلَمَهُ) بدل من آية. قال جار الله : إنما كتب علموء بالواو على لغة من يميل الألف إلى الواو ولذلك كتبت الصلاة والزكوة بالواو. ثم أكد بقوله (وَلَوْ نَزَّلْناهُ) ما مر من آية لو نزله بالأعجمي فقرأه عليهم بعض الأعجمين لم يؤمنوا به لأنهم لم يكونوا يفهمونه. وقال جار الله : معناه ولو نزلناه على بعض الأعاجم الذي لا يحسن العربية فضلا أن يقدر على نظم مثله فقرأه عليهم هكذا فصيحا معجزا متحدّى به لكفروا به كما كفروا ولتمحلوا لجحودهم عذرا ولسموه سحرا. ثم قال (كَذلِكَ) أي مثل هذا السلك (سَلَكْناهُ) في قلوبهم وقررناه فيها فعلى أيّ وجه دبر أمرهم فلا سبيل إلى تغييرهم عما هم

٢٨٥

عليه من الإنكار والإصرار ، وقد سبق مثل هذه الآية في أول «الحجر». والحاصل أنهم لا يزالون على التكذيب حتى يعاينوا الوعيد ، وفيه تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن اليأس إحدى الراحتين. قال في الكشاف : ليس الفاء في قوله (فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَيَقُولُوا) لأجل ترادف العذاب ومفاجأته وسؤال النظرة ، وإنما المعنى ترتيبها في الشدة كأنه قيل : لا يؤمنون بالقرآن حتى تكون رؤيتهم العذاب فما هو أشد منها وهو لحوقه بهم مفاجأة. فما هو أشد منه وهو سؤالهم النظرة. نظيره قولك : إن أسأت مقتك الصالحون فمقتك الله ، لا تريد الترتيب في الوجود ولكن في الشدة. قلت : هذا معنى صحيح ولكن لا مانع من إرادة الترتيب والتعذيب في الوجود يظهر بالتأمل إن شاء الله العزيز. ثم نكرهم بقوله (أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ) وفيه إنكار وتهكم أي كيف يستعجل العذاب من لا طاقة له به حتى استمهل بعد أن كان من العمر في مهلة؟ وجوز في الكشاف أن يكون (يَسْتَعْجِلُونَ) حكاية حال ماضية يوبخون بها عند استنظارهم ، أو يكون متصلا بما بعده وذلك أنهم اعتقدوا العذاب غير كائن فلذلك استعجلوه وظنوا أنهم يمتعون بأعمار طوال في سلامة وأمن ، فأنكر الله عليهم استعجالهم الصادر عن الأشر والبطر والاستهزاء والاتكال على طول الأمل. ثم قال : هب أن الأمر كما ظنوه من التمتع والتعمير فإذا لحقهم الوعيد أو الأجل أو القيامة هل ينفعهم ذلك؟. عن ميمون بن مهران أنه لقي الحسن في الطواف وكان يتمنى لقاءه فقال له : عظني فتلا عليه هذه الآية فقال له ميمون : لقد وعظت فأبلغت.

ثم بين أنه ما أهلك قرية إلا بعد إلزام الحجة بإرسال المنذرين إليهم ليكون إهلاكهم تذكرة وعبرة لغيرهم ، وعلى هذا يكون (ذِكْرى) متعلقة بـ (أَهْلَكْنا) مفعولا له. ويجوز أن يكون مفعولا مطلقا لـ (أَنْذِرْ) بمعنى التذكرة فإن (أَنْذِرْ) وذكر متقاربان ، أو حالا من الضمير في (مُنْذِرُونَ) أو مفعولا له متعلقا به أي ينذرونهم ذوي تذكرة أو لأجل الموعظة والتذكير ، أو التقدير : هذه ذكرى فالجملة اعتراض. ويجوز أن يكون صفة لـ (مُنْذِرُونَ) على حذف المضاف أي ذوو ذكرى ، أو جعلوا ذكرى لبلوغهم في التذكرة أقصى غاياتها. والبحث عن وجود الواو وعدمه في مثل هذا التركيب قد مر في أول الحجر في قوله (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ) [الحجر : ٤] إلا أنا نذكر هاهنا سبب تخصيص تلك الآية بالواو وهذه بعدم الواو فنقول : لا ريب أن الواو تفيد مزيد الربط والاجتماع في الحال وفي الوصف إن جوزتا : فسواء قدرنا الجملتين أعني قوله (وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ) [الحجر : ٤] وقوله (لَها مُنْذِرُونَ) حالا أو وصفا فالمقام يقتضي ورود النسق على ما ورد ، وذلك أن قوله (وَلَها كِتابٌ) صفة لازمة للقرية فإن الكتب في اللوح وصف أزلي فناسب أن يكون في

٢٨٦

اللفظ ما يدل على اللزوم واللصوق وهو الواو ، ثم زيد في التأكيد بقوله (مَعْلُومٌ) وبقوله (ما تَسْبِقُ) وهذا بخلاف قوله (لَها مُنْذِرُونَ) فإنها صفة حادثة فأطلقت وجود صدر الجملة عن الواو لذلك والله أعلم. ثم إنه لما احتج على صدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكون القرآن معجزا منزلا من رب العالمين مشتملا على معاني كتب الأولين وكان الكفار يقولون إنه من إلقاء الجن كحال الكهنة أراد أن يزيل شبهتهم بقوله : (وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ وَما يَنْبَغِي لَهُمْ) التنزل بالوحي (وَما يَسْتَطِيعُونَ). ثم بين عدم اقتدارهم بقوله (إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ) أي عن سماع كلام أهل السماء (لَمَعْزُولُونَ) وذلك بواسطة رجم الشهب كما أخبر عنه الصادق والمعجزات يتساند بعضها ببعض ، ولو فرض أنهم غير مرجومين بالشهب فالعقل يدل على أن الاهتمام بشأن الصديق أقوى منه بشأن العدو ، وكان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يلعن الشياطين ويأمر الناس بلعنهم فلو كان الغيب بإلقاء الشياطين لكان الكفار أولى بأن يحصل لهم ذلك. وحين أثبت حقية القرآن أمر نبيه بجوامع مكارم الأخلاق ومحاسن العادات قائلا (فَلا تَدْعُ) والمراد أمته كما مر في نظائره من قوله (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ) [البقرة : ١٢٠] وغير ذلك (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) فيه أن الاهتمام بشأن من هو أقرب إلى المرء أولى. وفيه أنه يجب أن لا يأخذه في باب التبليغ ما يأخذ القريب للقرب من المساهلة ولين الجانب. يروى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما نزلت الآية صعد الصفا فنادى الأقرب فالأقرب فخذا فخذا وقال : يا بني عبد المطلب يا بني هاشم يا بني عبد مناف يا عباس عم النبي يا صفية عمة رسول الله ، إني لا أملك لكم من الله شيئا سلوني من المال ما شئتم. وروي أنه جمع بني عبد المطلب وهم يومئذ أربعون رجلا ، الرجل منهم يأكل الجذعة ويشرب العس على رجل شاة ، فأكلوا وشربوا حتى شبعوا ثم أنذرهم فقال : يا بني عبد المطلب لو أخبرتكم أن بسفح هذا الجبل خيلا أكنتم مصدقي؟ قالوا : نعم. قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. قوله (وَاخْفِضْ جَناحَكَ) قد مر تفسيره في آخر «الحجر» وفي «سبحان» وزاد هاهنا (لِمَنِ اتَّبَعَكَ) كيلا يذهب الوهم إلى أن خفض الجناح وهو التواضع ولين الجانب مختص بالمؤمنين من عشيرته. وإنما لم يقتصر على قوله (لِمَنِ اتَّبَعَكَ) لأن كثيرا منهم كانوا يتبعونه للقرابة والنسب لا للدين. وقال في الكشاف : سبب الجمع بين اللفظين هو أنه سماهم قبل الدخول في الإيمان مؤمنين لمشارفتهم ذلك ، أو أراد بالمؤمنين المصدّقين بالألسنة فزاد قوله (لِمَنِ اتَّبَعَكَ) ليخرج من صدّق باللسان دون الجنان ، أو صدق بهما ولم يتبعه في العمل. وحين أمره بالتواضع لأهل الإخلاص في الإيمان أمره بالتبرئة من أرباب العصيان. فاستدل الجبائي به على أن الله تعالى أيضا بريء من عملهم فكيف يكون فاعلا له؟! وأجيب بأنه إن أراد ببراءة الله أنه ما أمر بها فمسلم ، وإن أراد أنه لا

٢٨٧

يريدها فممنوع لانتهاء جميع الحوادث إلى إرادته ضرورة قوله (وَتَوَكَّلْ) معطوف على قوله (فَلا تَدْعُ) أو على قوله (فَقُلْ) أمره بتفويض الأمر في دفع أعاديه إلى العزيز الذي يقهر من ناوأ أولياءه الرحيم الذي لا يخذل من ينصر دينه. قال بعض العلماء : المتوكل من إن دهمه أمر لم يحاول دفعه عن نفسه بما فيه معصية الله عزوجل ، ولو وقع في محنة واستعان في دفعها ببعض المخلوقين لم يخرج من حد المتوكلين ، ثم عدد مواجب الرحمة وهي رؤيته قيامه وتقلبه في الساجدين أي في المصلين. وللمفسرين فيه وجوه منها : ما روي أنه حين نسخ فرض التهجد طاف تلك الليلة ببيوت أصحابه حرصا عليهم وعلى ما يوجد منهم من فعل الطاعات فوجدها كبيوت الزنابير ذكرا وتلاوة. فالمراد بتقلبه في الساجدين تصفح أحوال المتهجدين من أصحابه ليطلع عليهم كيف يعملون لآخرتهم. ومنها أن المراد تصرفه فما بين المؤمنين به بالقيام والركوع والسجود والقعود. ويروى عن مقاتل أنه استدل به على وجود فضل صلاة الجماعة في القرآن. ومنها أنه إشارة إلى ما جاء في الحديث «أتموا الركوع والسجود فو الله إني لأراكم من خلف ظهري» فالتقلب تقلب بصره فيمن يصلي خلفه. وقيل : أراد أنه لا يخفى علينا كلما قمت وتقلبت مع الساجدين في كفاية أمور الدين. وقد احتج بالآية علماء الشيعة على مذهبهم أن آباء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يكونون كفارا. قالوا : أراد تقلب روحه من ساجد إلى ساجد كما في الحديث المعتمد عليه عندهم «لم أزل أنتقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات» وناقشهم أهل السنة في التأويل المذكور وفي صحة الحديث. والأصوب عندي أن لا نشتغل بمنع أمثال هذه الدعوى ونسرح إلى بقعة الإمكان على أنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول.

ثم أكد قوله وما تنزلت به الشياطين بقوله (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ) قال في الكشاف : تقديره أعلى من تنزل؟ ليكون الاستفهام في صدر الكلام كقولك : أعلى زيد مررت؟ قلت : هذا تكلف بارد لأن الاستفهام في «من» ضمني لا يصرح به قط. والأفاك الكثير الإفك ، والأثيم مبالغة آثم وهم الكهنة والمتنبئة كسطيح ومسيلمة وأمثالهما. والضمير في (يُلْقُونَ) عائد إلى الشياطين كانوا قبل الرجم بالشهب يختطفون بعض الغيوب من الملأ الأعلى بإلقاء (السَّمْعَ) أي بالإصغاء ثم يرجعون به إلى أوليائهم (وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ) لأنهم يخلطون الحق المسموع بكلامهم الباطل كما جاء في الحديث «الكلمة يخطفها الجني فيقرها في أذن وليه فيزيد فيها أكثر من مائة كذبة». والقر الصب. وقيل : السمع بمعنى المسموع أي يلقي الشياطين إلى أوليائهم ما يسمعونه من الملائكة. ويحتمل أن يكون الضمير في : (يُلْقُونَ) للأفاكين والسمع الأذن أو المسموع أي يلقون السمع إلى الشياطين فيتلقون

٢٨٨

وحيهم ، أو يلقون المسموع من الشياطين إلى الناس. وإنما لم يقل «وكلهم كاذبون» لأن الكذوب قد يصدق فيصدق عليه أنه صادق في الجملة لأن هذه عبارة الفصحاء لا يحكمون حكما كليا ما لم تدع إليه ضرورة. والحاصل أنهم كانوا يقيسون حال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على حال الكهنة فقيل لهم : إن الأغلب على الكهنة الكذب ولم يظهر من أحوال محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا الصدق ، فكيف يكون كاهنا؟ ثم بين ما يعرف منه أن النبي ليس بشاعر كما أنه ليس بكاهن فقال (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) قيل : أي الشياطين. والأظهر أنهم الذين يروون أشعارهم وكان شعراء قريش مثل عبد الله بن الزبعري وأمية بن أبي الصلت يهجون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويجتمع إليهم الأعراب من قومهم يستمعون أهاجيهم فنزلت. ثم بين غوايتهم بقوله (أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ) وهو تمثيل لذهابهم في كل شعب من القول يمدحون إنسانا معينا تارة ويذمونه أخرى غالين في كلا الطرفين مستعملين التخيل في كل ما يرومونه. وذكر من قبائح خصالهم (أَنَّهُمْ يَقُولُونَ) عند الطلب والدعاوي (ما لا يَفْعَلُونَ) ولعمري إنها خصلة شنعاء تدل على الدناءة واللؤم.

قالوا وما فعلوا وأين هم

من معشر فعلوا وما قلوا

وعن الفرزدق أن سليمان بن عبد الملك سمع قوله :

فبتن بجانبيّ مصرعات

وبت أفض أغلاق الختام

فقال : وجب عليك الحد. قال : قد درأ الله عني الحد يا أمير المؤمنين وتلا الآية. ثم استثنى الشعراء المؤمنين الصالحين الذين أغلب أحوالهم الذكر والفكر فيما لا بأس به من المواعظ والنصائح ، ومدح الحق وذويه ، ويكون هجاؤهم على سبيل الانتصار ممن يهجوهم مثل عبد الله بن رواحة وحسان بن ثابت وكعب بن زهير كانوا ينافحون عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وعن كعب بن مالك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له : اهجهم فو الذي نفسي بيده لهو أشد عليهم من النبل. وكان يقول لحسان : هاجهم وروح القدس معك. والحاصل أن النظر في الشعر إلى المعنى لا على مجرد النظم والروي. فإن كان المعنى صحيحا مطابقا للحق والصدق فلا بأس بإدخاله في سلك النظم والقافية بل لعل النظم يروجه ويهيج الطبع على قبوله وهو الذي عناه صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن من الشعر لحكما» (١). وإن كان المعنى فاسدا والغرض غير صحيح فهو

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الأدب باب ٩٠. أبو داود في كتاب الأدب باب ٨٧. الترمذي في كتاب الأدب باب ٦٩. ابن ماجة في كتاب الأدب باب ٤١. الدارمي في كتاب الاستئذان باب ٦٨. أحمد في مسنده (٣ / ٤٥٦).

٢٨٩

الذي توجه الذم إليه. وللانتصار حد معلوم وهو أن لا يزيد على الجواب لقوله تعالى : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) [البقرة : ١٩٤] وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «المستبان ما قالا فعلى البادئ منهما حتى يتعدى المظلوم» (١) ثم ختم السورة بآية جامعة للوعيد كله فقال (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا) خصصه بعضهم بالشعراء إذا خرجوا عن حد الإنصاف ، ومالوا إلى الجور والاعتساف ، ولعله عام يتناول لكل من ظلم نفسه بالإعراض عن تدبر ما في هذه السورة بل القرآن كله. وقوله (أَيَّ مُنْقَلَبٍ) صفة لمصدر محذوف والعامل (يَنْقَلِبُونَ) أي ينقلبون في الدركات السفلى انقلابا أيّ منقلب ولا يعمل فيه (سَيَعْلَمُ) لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله. وعن ابن عباس أنه قرأه بالفاء والتاء والمراد سيعلمون أن ليس لهم وجه من وجوه الانفلات وهو النجاة.

التأويل : ولو نزلناه على بعض الأعجميين فيه إظهار القدرة من وجهين : الأول جعل الأعجمي بحيث يقرأ العربي عليهم كقول القائل : أمسيت كرديا وأصبحت عربيا. والثاني أن أهل الإنكار لا يصيرون أهل الإقرار ولو أتاهم مثل هذا الإعجاز البين ، وذلك لأن الله كذلك يسلكه في قلوبهم فيأتيهم عذاب البعد والطرد في الدنيا (بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) لأنهم نيام فإذا ماتوا انتبهوا فيقولون هل نحن منظرون. (وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ) لأنهم خلقوا من النار والقرآن نور قديم فلا يكون للنار المخلوقة قوة حمل النور القديم ، ولهذا تستغيث النار من نور المؤمن وتقول : جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي. (فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ) لأن كل من طلب مع الله شيئا آخر حتى الجنة فله عذاب البعد والحرمان من الله. (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ) فيه أن النسب نسب النفوس فإن أكل المرء يشبعه ولا يشبع ولده. إلا إذا أكل الطعام كما أكل والده وهذا معنى المتابعة. (إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) لم يقل«إني بريء منكم» لأن المراد لا تبرأ منهم وقل لهم قولا جميلا بالنصح والموعظة الحسنة حتى يرجعوا ببركة دعوتك إلى القول الحق ، أو ينالوا الجنة بواسطة شفاعتك. (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) بأن خلق روح كل ساجد من روحك. (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) في الأزل مقالتك «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» لأن أرواحهم خلقت من روحك (الْعَلِيمُ) باستحقاقك لهذه الكرامة الله تعالى حسبي.

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب البر حديث ٦٩. أبو داود في كتاب الأدب باب ٣٩. الترمذي في كتاب البر باب ٥١. أحمد في مسنده (٢ / ٢٣٥ ، ٤٨٨) (٤ / ١٦٢).

٢٩٠

سورة النمل

مكية حروفها أربعة آلاف وستمائة وتسعة وتسعون

كلمها ألف ومائة وتسعة آياتها ثلاث وتسعون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (١) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٣) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (٤) أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٥) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (٦) إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٧) فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨) يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩) وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (١٠) إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (١٢) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (١٣) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٤))

القراآت : (إِنِّي آنَسْتُ) بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو. (بِشِهابٍ) منونا على أن قبسا وهو بمعنى مقبوس بدل أو صفة : عاصم وحمزة وعلي وخلف ورويس. الباقون بالإضافة (مَنْ فِي النَّارِ) ممالة : عليّ غير ليث وأبي حمدون وحمدويه وحمزة وفي رواية ابن سعدان والنجاري عن ورش وأبو عمرو غير إبراهيم بن حماد وكذلك في «القصص».

الوقوف : (طس) ه (مُبِينٍ) ه لا بناء على أن (هُدىً) حال والعامل معنى الإشارة

٢٩١

في (تِلْكَ) أو هو مرفوع بدلا من ال (آياتُ) أو خبرا بعد خبر وإن كان التقدير هي هدى به فلك الوقف (لِلْمُؤْمِنِينَ) ه لا لأن (الَّذِينَ) صفتهم (يُوقِنُونَ) ه (يَعْمَهُونَ) ه ط تنصيصا على أن (أُوْلئِكَ) مبتدأ مستأنف. (الْأَخْسَرُونَ) ه (عَلِيمٍ) ه (ناراً) ه (تَصْطَلُونَ حَوْلَها) ط (الْعالَمِينَ) ه (الْحَكِيمُ) ه لا لعطف الجملتين الداخلتين تحت النداء (عَصاكَ) ط للعدول عن بيان حال الخطاب إلى ذكر حال المخاطب مع حذف أي فألقاها فحييت (وَلَمْ يُعَقِّبْ) ط لابتداء النداء (الْمُرْسَلُونَ) ه لا لأن «إلّا» إن كان بمعنى «لكن» فالاستدراك يوجب الوصل أيضا. (رَحِيمٌ) ه (وَقَوْمِهِ) ط (فاسِقِينَ) ه (مُبِينٌ) ج ه للآية والعطف (وَعُلُوًّا) ط لاختلاف الجملتين وتعظيم الأمر بالاعتبار بعد حذف أي فأغرقناهم (الْمُفْسِدِينَ) ه.

التفسير : تلك الآيات التي تضمنتها هذه السورة آيات القرآن الذي علم أنه منزل مبارك مصدق لما بين يديه وكتاب مبين. فإن أريد به اللوح فآياته أنه أثبت فيه كل كائن ، وإن أريد به السورة أو القرآن فالغرض تفخيم شأنهما من قبل التنكير. فآياتهما أن إعجازهما ظاهر مكشوف وفيهما من العلوم والحكم ما لا يخفى ، ولأن الواو لا تفيد الترتيب فلا حكمة ظاهرة في عكس الترتيب بين ما هاهنا وبين ما في أول «الحجر». ومعنى كون الآيات هدى وبشرى أنها تزيد في إيمانهم وتبشرهم بالثواب. قال جار الله : يحتمل أن يكون قوله (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) من تتمة الموصول إلا أن الأوجه أن يكون جملة مستقلة ابتدائية شبيهة بالمعترضة بدليل تكرير المبتدأ الذي هو هم فكأنه قيل : وما يؤمن بالآخرة حق الإيقان إلا هؤلاء الجامعون بين الإيمان والعمل الصالح ، لأن خوف العاقبة هو الذي يسهل عليهم متاعب التكاليف. وأقول : إنه وصفهم بالإيمان ليكون إشارة إلى معرفتهم المبتدأ ، ثم وصفهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وهما الطاعة بالنفس والمال ، وهذه إشارة إلى وسط. ثم وصفهم بمعرفة المعاد فلا أحسن من هذا النسق. وفيه أن المهتدي بالقرآن حقيقة هو الذي يكون موقنا بأحوال المعاد لا شاكا فيها ، آتيا بالطاعات للاحتياط قائلا : إن كنت مصيبا فيها فقد نلت السعادة وإن كنت مخطئا فلم تفتني إلا لذات يسيرة زائلة. ثم أورد وعيد المنكرين للمعاد وإسناد تزيين الأعمال إلى الله ظاهر على قول الأشاعرة ، وأما المعتزلة فتأولوه بوجوه منها : أنه استعارة فكأنه لما متعهم بطول العمر وسعة الرزق وجعلوا ذلك التمتع ذريعة إلى اتباع الشهوات وإيثار اللذات فقد زين لهم بذلك أعمالهم. ومنها أنه مجاز حكمي وهو الذي يصححه بعض الملابسات. ولا ريب أن إمهال الشيطان وتخليته حتى زين لهم أعمالهم كما قال (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) [النمل : ٢٤] ملابسة ظاهرة للتزيين. ومنها أنه أراد زينا

٢٩٢

لهم أمر الدين ولا يلزمهم أن يتمسكوا به وذلك بأن بينا لهم حسنه وما لهم فيه من الثواب (فَهُمْ يَعْمَهُونَ) يعدلون ويتحيرون عما زينا لهم قاله الحسن (لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ) أي القتل والأسر كيوم بدر. ثم مهد مقدمة لما سيذكر في السورة من الأخبار العجيبة فقال (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ) لتؤتاه وتلقنه من عند أيّ حكيم وأيّ عليم. و (إِذْ قالَ) منصوب بـ (عَلِيمٍ) أو باذكر كأنه قيل : خذ من آثار حكمته وعلمه قصة موسى العجيبة الشأن. والخبر خبر الطريق لأنه كان قد ضله. وفي قوله (سَآتِيكُمْ) مع قوله في «طه» و «القصص» (لَعَلِّي آتِيكُمْ) [طه : ١٠] دليل على أنه كان قوي الرجاء إلا أنه كان يجوّز النقيض ، وعد أهله بأنه يأتيهم بأحد الأمرين وإن أبطأ لبعد المسافة أو غيره. قالوا : في «أو» دليل على أنه جزم بوجدان أحد الأمرين ثقة بعناية الله تعالى أنه لا يكاد يجمع بين حرمانين على عبده والاصطلاء بالنار الاستدفاء بها والاجتماع عليها وإنما خصت هذه السورة بقوله (فَلَمَّا جاءَها) وقد قال في «طه» و «القصص» (فَلَمَّا أَتاها) [طه : ١١] (نُودِيَ) لأنه كرر لفظ (آتِيكُمْ) هاهنا بخلاف السورتين فاحترز من تكرار ما يقاربه في الاشتقاق مرة أخرى. و (أَنْ) مفسرة لأن النداء فيه معنى القول لا مخففة من الثقيلة بدليل فقدان «قد» في فعلها. قال جار الله : معنى (بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ) بورك من في مكان النار ، ومن حول مكانها ، ومكانها البقعة التي حصلت النار فيها كما قال في القصص (نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ) [القصص : ٣٠] وسبب البركة حدوث أمر ديني فيها وهو تكليم الله إياه وإظهار المعجزات عليه. وقيل : معنى بورك تبارك ، والنار بمعنى النور أي تبارك من في النار وهو الله سبحانه مروي عن ابن عباس. وعن قتادة والزجاج أن من في النار هو نور الله ، ومن حولها الملائكة. وقال الجبائي : ناداه بكلام سمعه من الشجرة في البقعة المباركة وهي الشام فكانت الشجرة محلا للكلام والمتكلم هو الله بأن خلقه فيها ، ثم إن الشجرة كانت في النار ومن حولها الملائكة. وقيل : من في النار هو موسى لقربه منها ، ومن حولها الملائكة. وفي الابتداء بهذا الخطاب عند مجيء موسى بشارة له بأنه قد قضي أمر عظيم تنتشر منه البركة في أرض الشام.

وفي قوله (وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) تنزيه له عما لا يليق بذاته من الحدوث والحلول ونحوهما مما هو من خواص المحدثات ، وتنبيه على أن الكائن من جلائل الأمور التي لا يقدر عليها إلا رب العالمين. والهاء في (إِنَّهُ) إما للشأن وإما راجع إلى ما دل عليه سياق الكلام أي أن المتكلم (أَنَا) وعلى هذا فالله مع وصفيه بيان لانا وفيه تلويح إلى ما أراد إظهاره عليه ، يريد أنا القادر القوي على إظهار الخوارق الحكيم الذي لا يفعل جزافا

٢٩٣

ولا عبثا. وقوله (وَأَلْقِ عَصاكَ) معطوف على (بُورِكَ) وكلاهما تفسير لـ (نُودِيَ) والمعنى : قيل له بورك وألق : ومعنى (لَمْ يُعَقِّبْ) لم يرجع يقال : عقب المقاتل إذا كر بعد الفر. وإنما اقتصر هاهنا على قوله (لا تَخَفْ) ولم يضف إليه أقبل كما في «القصص» لأنه أراد أن يبني عليه قوله (إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) وسبب نفي الخوف عن الرسل مشاهدة مزيد فضل الله وعنايته في حقهم. ثم استثنى من ظلم منهم بترك ما هو أولى به ، وقد مر بحث عصمة الأنبياء في أول «البقرة». وفي الآية لطائف وإشارات منها : أنه أشار بقوله (إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) إلى أن موسى قد جعل رسولا. ومنها أنه أشار بقوله (إِلَّا مَنْ ظَلَمَ) إلى ما وجد من موسى في حق القبطي ، وبقوله (ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ) أي توبة بعد ذنب إلى قول موسى (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي) [القصص : ١٦] وقرىء «ألا» بحرف التنبيه. ومنها أنه أشار بقوله (ثُمَّ بَدَّلَ) معطوفا على (ظَلَمَ) إلى أن النبي المرسل بدّل النية ولم يصر على فعله وإلا كان هذا العطف مقطوعا عن الكلام ضائعا ، فإنه إذا ظلم ولم يبدل كان خائفا أيضا. ومنها أنه أشار بقوله (فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) إلى أن الخوف وإن لحق المستثنى إلا أنه منفي عنه أيضا بسبب غفرانه ورحمته ، فنفي الخوف ثابت على كل حال فهذا الاستثناء قريب من تأكيد المدح بما يشبه الذم كقوله :

هو البدر إلا أنه البحر زاخر

وكقوله :

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم

بهن فلول من قراع الكتائب

وهذه اللطائف مما سمح بها الخاطر أوان الكتابة أرجو أن تكون صوابا إن شاء العزيز. قوله (وَأَدْخِلْ يَدَكَ) وفي «القصص» (اسْلُكْ يَدَكَ) [القصص : ٣٢] موافقة لأضمم ولأن المبالغة في (أَدْخِلْ) أكثر منها في (اسْلُكْ) لأن سلك لازم ومتعد. وهناك قال (فَذانِكَ بُرْهانانِ) [القصص : ٣٢] وهاهنا قال (فِي تِسْعِ آياتٍ) وكان أبلغ في العدد فناسب الأبلغ في اللفظ. قال النحويون : متعلق الجار محذوف مستأنف أي أذهب في تسع آيات. أو المراد وأدخل يدك في تسع أي في جملتهن وعدادهن ، اذهب إلى فرعون. وتفسير التسع قد مر في آخر «سبحان» وإنما قال هاهنا (إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ) دون أن يقول (وَمَلَائِهِ) [الآية : ٣٢] كما في القصص لأن الملأ أشراف القوم وقد وصفهم هاهنا بقوله (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ) إلى قوله (ظُلْماً وَعُلُوًّا) فلم يناسب أن يطلق عليهم لفظ ينبىء عن المدح. ومعنى (مُبْصِرَةً) ظاهرة بينة كأنها تبصر بطباق العين فتهدي ، ويجوز أن يكون الإبصار مجازا باعتبار إبصار صاحبها وهو

٢٩٤

كل ذي عقل أو فرعون وقومه. والواو في (وَاسْتَيْقَنَتْها) للحال وقد مضمرة وفي زيادة (أَنْفُسُهُمْ) إشارة إلى أنهم أظهروا خلاف ما أبطنوا والاستيقان أبلغ من الإيقان. وقوله (ظُلْماً وَعُلُوًّا) أي كبرا وترفعا مفعول لأجلهما. وقرىء (مُبْصِرَةً) بفتح الميم نحو «مبخلة» قرأها علي بن الحسين وقتادة والله أعلم.

التأويل : طا طلب الطالبين ، وسين سلامة قلوبهم من تعلقات غير الله ، تلك دلالات القرآن وشواهد أنواره (وَكِتابٍ مُبِينٍ) فيه بيان كيفية السلوك ولذلك قال (هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) بالوصول إلى الله الذين يستقيمون في المعارج لحقائق الصلوات ويؤتون الزكاة أموالهم وأحوالهم بالإضافة على المستحقين (زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ) الدنيوية النفسانية (فَهُمْ يَعْمَهُونَ) لعمي قلوبهم عن رؤية الآخرة ونعيمها ، ولا يكون في عالم الآخرة أعمى إلا كان أصم وأبكم ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «حبك للشيء يعمي ويصم» (١) فبحب الدنيا عميت عين القلب وصمت أذنه وصار أبكم عن العلم اللدني والنطق به ، وهو سوء العذاب ، وهو الموجب لخسران الدارين مع خسران المولى ، وإنما يكون خسران الدارين ممدوحا إذا ربح المولى. وجد أبو زيد في البادية قحفا مكتوبا عليه خسر الدنيا والآخرة فبكى وقبله وقال : هذا رأس صوفي. وحين أخبر عن مقامات المؤمنين ودركات الكافرين أخبر عن مقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ) لا من عند جبريل بل (مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ) تجلى لقلبك بحكمة القرآن (عَلِيمٍ) يعلم حيث يجعل رسالته. ثم ضرب مثالا لذلك وهو أن موسى القلب لما كشف له أنوار شواهد الحق في ليلة الهوى وظلمة الطبيعة (قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ) وهم النفس وصفاتها (إِنِّي آنَسْتُ ناراً) بوادي أيمن السر (لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) بتلك النار عن جمود الطبيعة (فَلَمَّا جاءَها) على قدمي الشوق وصدق الطلب (نُودِيَ) من الشجرة الروحانية (أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي) نار المحبة نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة (وَمَنْ حَوْلَها) كالفراش يريد أن يقع فيها (وَأَلْقِ) عن يد همتك كل ما تعتمد عليه سوى فضل الله فإنه جان في الحقيقة (وَلَّى مُدْبِراً) هاربا إلى الله (وَلَمْ يُعَقِّبْ) لم يرجع إلى غيره فلذلك نودي بـ (لا تَخَفْ) فإن القلوب الملهمة الموصلة إليها الهدايا والتحف والألطاف لا تخاف سوى الله إلّا من ظلم نفسه بالرجوع إلى الغير (وَأَدْخِلْ) يد همتك في جيب قناعتك (تَخْرُجْ بَيْضاءَ) نقية من لوث الدارين (فِي تِسْعِ آياتٍ) من أسباب هلاك النفس وصفاتها (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ) الذين أفسدوا الاستعداد الفطري والله أعلم.

__________________

(١) رواه أبو داود في كتاب الأدب باب ١١٦. أحمد في مسنده (٥ / ١٩٤) (٦ / ٤٥٠).

٢٩٥

(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (١٥) وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (١٦) وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٧) حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٨) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (١٩) وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (٢٠) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢١) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (٢٢) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (٢٣) وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (٢٤) أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (٢٥) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٢٦) قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٧) اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ (٢٨) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (٢٩) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣٠) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣١) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (٣٢) قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ (٣٣) قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٣٤) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (٣٥) فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (٣٦) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (٣٧) قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣٨) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (٣٩) قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (٤٠) قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (٤١) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (٤٢) وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (٤٣) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي

٢٩٦

ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٤))

القراآت : (وادِ النَّمْلِ) ممالة : عباس وقتيبة. وقرأ يعقوب وعلي والسرنديبي عن قنبل بالياء في الوقف. (لا يَحْطِمَنَّكُمْ) بالنون الخفيفة : عباس ورويس. (أَوْزِعْنِي) بفتح الياء : ابن كثير وكذلك في «الأحقاف» (ما لِيَ لا) بفتح ياء المتكلم : ابن كثير وعلي وعاصم (لَيَأْتِيَنِّي) بنون الوقاية بعد الثقيلة : ابن كثير. (فَمَكَثَ) بفتح الكاف : عاصم وسهل ويعقوب غير رويس. الآخرون بضمها (مِنْ سَبَإٍ) بفتح الهمزة لامتناع الصرف : البزي وأبو عمرو وعن قنبل بهمزة ساكنة. وفي رواية أخرى عنه وعن ابن فليح وزمعة بغير همز. الباقون بهمزة منونة مكسورة ، وكذلك في سورة سبأ. (أَلَّا يَسْجُدُوا) مخففا : يزيد وعلي ورويس. الآخرون بالتشديد. وقال ابن مجاهد : إذا وقفوا على (أَلَّا) وقفوا على «ألا يا» والابتداء اسجدوا (تُخْفُونَ) و (تُعْلِنُونَ) بتاء الخطاب فيهما : علي وحفص والباقون على الغيبة (فَأَلْقِهْ) بسكون الهاء : حمزة وعاصم غير المفضل وأبو عمرو غير عباس ، وقرأ باختلاس حركة الهاء : يزيد وقالون ويعقوب غير زيد وأبو عمرو من طريق الهاشمي عن اليزيدي الباقون بالإشباع (إِنِّي أُلْقِيَ) بفتح ياء المتكلم : أبو جعفر ونافع أتمدونني بالياء في الحالين : ابن كثير وسهل وافق به أبو جعفر ونافع وأبو عمرو في الوصل اتمدوني بتشديد النون وبالياء في الحالين : حمزة ويعقوب. الآخرون بإظهار النونين وحذف الياء أتاني الله بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وابن فليح وحفص. فمن فتح الياء فالوقف بالياء لا غير ، من حذف الياء فإنه يقف بغير الياء إلا سهلا ويعقوب فإنهما يقفان بالياء. وقرأ علي (آتانِيَ اللهُ) بالإمالة (أَنَا آتِيكَ) بالإمالة وكذلك ما بعده : حمزة في رواية خلف وابن سعدان والعجلي وأبي عمرو وخلف لنفسه فلما رأيه بكسر الراء : نصير (لِيَبْلُوَنِي) بفتح الياء : أبو جعفر ونافع. (ساقَيْها) وبابه بالهمز : ابن مجاهد وأبو عون عن قنبل والأحسن تركها. قال في الكشاف : من همز فوجهه أنه سمع سؤقا فأجرى عليه الواحد.

الوقوف : (عِلْماً) ج للعدول عن بيان إيتاء الفضل ابتداء إلى ذكر قول المنعم عليهما شكرا ووفاء (الْمُؤْمِنِينَ) ه (شَيْءٍ) ط (الْمُبِينُ) ه (يُوزَعُونَ) ه (النَّمْلِ) لا لأن ما بعده جواب «إذا» (مَساكِنَكُمْ) ج لانقطاع النظم لنهي الغائب مع اتحاد القائل (وَجُنُودُهُ) لا لأن الواو للحال (لا يَشْعُرُونَ) ه (الصَّالِحِينَ) ه (الْهُدْهُدَ) ز على معنى بل أكان من الغائبين على معنى التهديد والأصح أن «أم» متصل بمعنى الاستفهام في (ما لِيَ) أي أنا لا أراه أو هو غائب (الْغائِبِينَ) ه (مُبِينٍ) ه (يَقِينٍ) ه (عَظِيمٌ) ه (لا يَهْتَدُونَ) ه لا ومن خفف

٢٩٧

(أَلَّا) وقف مطلقا (تُعْلِنُونَ) ه (الْعَظِيمِ) ه سجدة (الْكاذِبِينَ) ه (يَرْجِعُونَ) ه (كَرِيمٌ) ه (الرَّحِيمِ) ه لا لتعلق «أن» (مُسْلِمِينَ) ه (أَمْرِي) ج لانقطاع النظم مع اتحاد القائل (تَشْهَدُونِ) ه (تَأْمُرِينَ) ه (أَذِلَّةً) ج لأن قوله (وَكَذلِكَ) يحتمل أن يكون من تتمة قولها أو هو تصديق من الله لما قالت (يَفْعَلُونَ) ه (الْمُرْسَلُونَ) ه (بِمالٍ) ز لانتهاء الاستفهام مع فاء التعقيب وبيان الاستغناء على التعجيل (آتاكُمْ) ج لاختلاف الجملتين على أن «بل» ترجح جانب الوقف (تَفْرَحُونَ) ه (صاغِرُونَ) ه (مُسْلِمِينَ) ه (مَقامِكَ) ج للابتداء بإن مع اتحاد القائل (أَمِينٌ) ه (طَرْفُكَ) ط للعدول (أَمْ أَكْفُرُ) ه (لِنَفْسِهِ) ج (كَرِيمٌ) ه (لا يَهْتَدُونَ) ه (عَرْشُكِ) ط (هُوَ) ج لاحتمال أن يكون ما بعده من كلامها أو من كلام سليمان (مُسْلِمِينَ) ه (مِنْ دُونِ اللهِ) ط (كافِرِينَ) ه (الصَّرْحَ) ج (ساقَيْها) ط (قَوارِيرَ) ه (الْعالَمِينَ) ه.

التفسير : لما فرغ من قصة موسى شرع في قصة ثانية وهي قصة داود وابنه سليمان. والتنوين في (عِلْماً) إما للنوع أي طائفة من العلم أو للتعظيم أي علما غزيرا. قال علماء المعاني : الواو في (وَقالا) للعطف على محذوف لأن هذا مقام الفاء كقولك : أعطيته فشكر. فالتقدير : ولقد آتيناهما علما فعملا به وعلماه وعرفا حق النعمة والفضيلة فيه (وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ) وبيانه أن الشكر باللسان إنما يحسن إذا كان مسبوقا بعمل القلب وهو العزم على فعل الطاعة وترك المعصية ، وبعمل الجوارح وهو الاشتغال بالطاعات فكأنه قال : ولقد آتيناهما علما فعملا به قلبا وقالبا (وَقالا) باللسان (الْحَمْدُ لِلَّهِ) قلت : لقائل أن يقول : الأصل عدم الإضمار وقوله هذا مقام الفاء ممنوع ، وإنما يكون كذلك إذا أريد التعقيب والتسبيب فإن كان المراد مجرد الإخبار عما فعل بهما وعما فعلا فالواو كقولك «أعطيته وشكر». وقوله (عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ) يجوز أن يكون واردا على سبيل التواضع وإن كانا مفضلين على جميع أهل زمانهما. ويجوز أن يكون واردا على الحقيقة بالنسبة إلى زمانهما أو بالنسبة إلى سائر الأزمنة وهذا أظهر. وإنما وصف العباد بالمؤمنين لئلا يظن أن سبب الفضيلة هو مجرد الإيمان ولكن ما يزيد عليه من الاستغراق في بحر العبودية والعرفان. وفي الاية دليل على شرف العلم وأن العالم يجب أن يتلقى علمه بشكر الله تعالى قلبا وقالبا وما التوفيق إلا منه. قوله (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) عن الحسن أنه المال لأن النبوة عطية مبتدأة ، وزيف بأن المال أيضا عطية مبتدأة ولذلك يرث الولد إذا كان مؤمنا ولا يرث إذا كان كافرا أو قاتلا. وما المانع من أن يوصف بأنه ورث النبوة لما قام بها عند موته كما يرث الولد المال إذا قام به عند موته. والظاهر أنه أراد وراثة النبوة والملك معا دليله قوله تشهيرا لنعمة الله

٢٩٨

ودعاء للناس إلى تصديق المعجزة (يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ) والمنطق يشمل كل ما يصوت به من المفرد والمؤلف مفيدا وغير مفيد ، ومنه قولهم «نطقت الحمامة». قال المفسرون : إنه تعالى جعل الطير في أيامه مما له عقل وليس كذلك حال الطيور في أيامنا وإن كان فيها ما ألهمه الله تعالى الدقائق التي خصت بالحاجة إليها. يحكى أنه مر على بلبل في شجرة فقال لأصحابه : إنه يقول : إني أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفا أي التراب. وصاحت فاختة فأخبر أنها تقول : ليت الخلق لم يخلقوا. وصاح طاوس فقال : يقول : كما تدين تدان. وأخبر أن الهدهد يقول : استغفروا الله يا مذنبون. والخطاف يقول : قدموا خيرا تجدوه. والرخمة تقول : سبحان ربي الأعلى ملء سمائه وأرضه. والقمريّ يقول : سبحان ربي الأعلى. والقطاة تقول : من سكت سلم. والببغاء تقول : ويل لمن الدنيا همه. والديك يقول : اذكروا الله يا غافلون. والنسر يقول : يا ابن آدم عش ما شئت آخرك الموت. والعقاب يقول : في البعد من الناس أنس. ومعنى (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) بعض كل شيء. وقال في الكشاف : أراد كثرة ما أوتي كما تقول «فلان يقصده كل أحد» تريد كثرة قاصديه. وإنما قال (عُلِّمْنا وَأُوتِينا) لأنه أراد نفسه وأباه ، ويجوز أن يريد نفسه فقط لا على طريق التكبر بل على عادة الملوك يعظمون أنفسهم لمصلحة التهييب. وقوله (إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) قول وارد على سبيل الشكر والتحدث بالنعم كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» (١) أي أقول هذا شكرا لا فخرا. يروى أن معسكره كان مائة فرسخ في مائة فرسخ. خمسة وعشرون للجن ومثله للإنس ومثله للطير ومثله للوحش ، وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب فيها ثلاثمائة منكوحة وسبعمائة سرية ، وقد نسجت له الجن بساطا من ذهب وإبريسم فرسخا في فرسخ ، وكان يوضع منبره في وسطه وهو من ذهب فيقعد عليه وحوله ستمائة ألف كرسي من ذهب وفضة ، فتقعد الأنبياء عليهم‌السلام على كراسيّ الذهب والعلماء على كراسيّ الفضة وحولهم الناس وحول الناس الجن والشياطين ، وتظله الطير بأجنحتها حتى لا تقع عليه الشمس وترفع ريح الصبا البساط فتسير به مسيرة شهر ، وإنه كان يقول مع ذلك : لتسبيحة واحدة يقبلها الله خير مما أوتي آل داود. ومعنى (يُوزَعُونَ) يحبسون. قيل : كانوا يمنعون من يتقدم من عسكره ليكون مسيره مع جنوده على ترتيب ، ومنه يعلم أنه كان في كل قبيل منها وازع يكون له تسلط على الباقين يكفهم ويصرفهم. ومعنى (أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ) قطعوه وبلغوا آخره من قولهم «أتى على الشيء» إذا أنفذه

__________________

(١) رواه أبو داود في كتاب السنّة باب ١٣. ابن ماجة في كتاب الزهد باب ٣٧. أحمد في مسنده (١ / ٥).

٢٩٩

وبلغ آخره كأنهم أرادوا أن ينزلوا عند منقطع الوادي. ويجوز أن يقصد إتيانهم من فوق لأن الريح كانت تحملهم في الهواء فلذلك عدي بـ «على» عن قتادة أنه دخل الكوفة فاجتمع عليه الناس فقال : سلوا عما شئتم وكان أبو حنيفة حاضرا وهو غلام حدث فقال : سلوه عن نملة سليمان أكانت ذكرا أم أنثى؟ فسألوه فأفحم فقال أبو حنيفة : كانت أنثى لقوله تعالى (قالَتْ نَمْلَةٌ) ولو كان ذكرا لم تجز التاء لأن النملة مثل الحمامة والشاة في وقوعها على الذكر والأنثى فلا بد من التمييز بالعلامة.

وحين عبر عن تفاهم النمل بلفظ التقاول جعل خطابهم خطاب أولي العقل فحكى أنها (قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ) أما جواب للأمر وإما نهي بدلا من الأمر أي لا تكونوا بحيث يحطمكم أي يكسركم سليمان وجنوده على طريقة «لا أرينك هاهنا». وفي قوله (سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ) دون أن يقول جنود سليمان مبالغة أخرى كما تقول : أعجبني زيد وكرمه. وفي الآية دلالة على أن من يسير في الطريق لا يلزمه التحرز وإنما يلزم من في الطريق التحرز. وفي قوله (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) تنبيه على وجود الجزم بعصمة الأنبياء كأنها عرفت أن النبي لعصمته لا يقع منه قتل هذه الحيوانات إلا على سبيل السهو. وعن بعضهم أنها خافت على قومها أن يقعوا في كفران نعمة الله تعالى إذا رأوا جلالة سليمان ، وهذا معنى الحطم فلذلك أمرتهم بدخول المساكن. وفيه تنبيه على أن مجالسة أرباب الدنيا محذورة. قيل : سمع سليمان كلامها من ثلاثة أميال (فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً) أي شارعا في الضحك آخذا فيه ولكن لم يبلغ حدّ القهقهة وكمال الضحك. وما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ضحك حتى بدت نواجذه فعلى وجه المبالغة في الضحك النبوي. وإنما أضحكه من قولها شفقتها على قومها وسروره بما آتاه الله من إدراك الهمس واشتهاره بالتحرز والتقوى ولذلك مال إلى الدعاء قائلا : (رَبِّ أَوْزِعْنِي) قال جار الله : حقيقته اجعلني أزع شكر نعمتك عندي وأربطه لا ينفلت عني فلا أزال شاكرا لك. وإنما أدرج ذكر الوالدين لأن النعمة على الولد نعمة عليهما وبالعكس. ثم طلب أن يضيف لواحق نعمه إلى سوابقها ولا سيما النعم الدينية فقال : (وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ) ثم دعا أن يجعله في الآخرة من زمرة الصالحين لأن ذلك غاية كل مقصود. يروى أن النملة أحست بصوت الجنود ولم تعلم أنها في الهواء فأمر سليمان الريح فوقفت لئلا يذعرن حتى دخلن مساكنهن ، ثم دعا بالدعوة.

القصة الثالثة قصة بلقيس وما جرى بينها وبين سليمان وذلك بدلالة الهدهد ، يروى أن سليمان حين تم له بناء بيت المقدس تجهز للحج مع حشمه فأتى الحرم ومكث به أياما يقرب كل يوم خمسة آلاف ناقة وخمسة آلاف بقرة وعشرين ألف شاة. ثم عزم على السير

٣٠٠