والبذل والإيثار في خدمتهم وصحبتهم ، والنظر إلى كل مستحسن والانفراد عن كل مستقبح وإجراء الحياة في السماع والوقت والوجد والحال والمراقبة والمحاضرة ، وجميع ذلك مجموع في قوله عليهالسلام : «حبّب إليّ من دنياكم ثلاث : الطيب ، والنساء ، وقرة عيني في الصلاة» (١) ، وإحسان الله على العارف كشف مشاهدته وتعريف نفسه له ، وإحسان العارف الإقبال على الله بنعت التجريد عما دونه وشهوده مشاهدة جلاله وربوبيته في عبوديته.
سئل سفيان الثوري عن قوله (وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) قال : لا تغفل عن عمرك في الدنيا أن تعمل بالطاعة.
قال بعضهم : لا تغترّ بها ولا تسكن إليها.
وقال الجنيد : لا تترك إخلاص العمل لله في الدنيا ؛ فهو الذي يقربك منه ويقطعك عما سواه.
قال القاسم في قوله : (وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ) : اصرف وجهك عن الكل بالإقبال عليه كما أحسن إليك ؛ حيث جعلك من أهل معرفته ، وأحسن مجاورة معرفته ؛ فإنه أحسن إليك ؛ حيث أنعم عليك بالإيمان وهو من أعظم النعم ، فأحسن جوار نعمه ؛ فإنه أحسن إليك في أن وفّقك لخدمته ، فأحسن القيام بواجب عبوديته وإخلاص خدمته.
(قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (٧٨))
قوله تعالى : (قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) : كل مريد نظر إلى طاعته وعلمه وعمله وكراماته وحكمته ونطقه وفصاحته وما يسهل له من مراداته فهو مفتون بدعواه ساقط عن نظر الشيوخ بترك آدابه وسقوط احتشامهم عن قلبه ، نعوذ بالله من هذه الفتنة ، والله رأيت أكثر أهل زماننا يسقطون من درجة الإرادة والصدق ومن قلوب أهل الحقيقة بإعجابهم بما هم فيه ، فيصير حالهم أقبح من أحوال العصاة المفلسين ؛ لأن مآل هؤلاء في أواخر أعمارهم الإنكار على أولياء الله وخروجهم بدعوى الشيخوخية عليهم ، أعمى الله أبصار قلوبهم وهم لا يشعرون.
قال سهل : ما نظر أحد إلى نفسه فأفلح ، ولا ادّعى لنفسه حالا فتم له ، والسعيد من الخلق من صرف بصره عن أفعاله وأقواله وفتح له سبيل الفضل والإفضال ورؤية من الله
__________________
(١) تقدم تخريجه.