قال أبو بكر بن طاهر : أنس سره برؤية النار لما كان فيه من عظيم الشأن وعلو المتبة ، فأخرج الرؤية بلفظ آنست أي : أرى هذه النار رؤية مستأنس بها لا مستوحش منها ، فدنا منها فأنسه طهارة الموضع وما سمع فيه من مناجاة ربه وكلامه ، فتحقق بالأنس.
وقال الواسطي : الوسائط في الحقيقة لا أوزان لها ولا أخطار ، وإنما هي علل لضعف الطاقات ، كما جعل الواسطة به موسى بيته الشجرة نادى في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى ، ثم دفع الواسطة ثانيا ، فقال (قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ.)
قال أبو سعيد القرشي : تلك الشجرة في مخاطبة الكلام تعلل التطبيق ، بذلك التعلل حمل موارد الخطاب عليه كما تعلل النبي صلىاللهعليهوسلم بقوله «حبّب إليّ من دنياكم ثلاث» (١) أي : أنست منها ولا هي مني في شيء ، إنما لي منها تعلل أتحمل به موارد الوحي عليّ.
قال أبو علي الروذباري : الجبل الذي كلّم الله موسى عليه كان من عقيق.
قال القاسم : لما سمع موسى الكلام خرّ صاعقا ، فجاء جبريل وميكائيل فروّحاه بمروحة الأنس حتى أفاق من الهيبة ، واستأنس بالأنس مع الله ، فزال بالرعب والفزع من قلبه ، فقال له : يا موسى أنا الذي أكلمك من علوّي ، وأسمعك من دنوّي ، فلدنوّي لا أخلو من علوّي ، ومن علوّي لا أخلو من دنوّي ، يا موسى إني أنا الذي أدّبتك قربتك وناجيتك ، عند ذلك قال له موسى : أقريب أنت فأناجيك أم بعيد فأناديك؟ قال له : أنا أقرب إليك منك.
قال الأستاذ في قوله (إِنِّي آنَسْتُ ناراً) : لاح له نار ثم لاح نور ثم بدا ما بدا فلا كان المقصود النار ولا النور ، وظهر النداء (إِنِّي أَنَا اللهُ) قيل شتّان بين شجرة وشجرة ؛ فشجرة آدم عندها ظهرت محنة وفتنة ، وشجرة موسى عندها افتتحت نبوته ورسالته ، يا صاحبي لو يعلم قائل هذا القول حقيقة شجرة آدم لم يقل مثل هذا في حق آدم ؛ فإن شجرة آدم إشارة إلى شجرة الربوبية ، لذلك قال (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) [البقرة : ٣٥] ؛ فإن آدم إذا كان متصفا بصفات الحق ، أراد العينة بحقيقتها فنهى الحق عنها ، فقال : هذا شيء لم يكن لك ؛ فإن حقيقة الأزلية ممتنعة من الاتحاد بالحدثية ، هكذا قال ، ولكن أظهر أزليته من الشجرة ، وسكر آدم ولم يصبر عن تناولها ، فأكل منها حبة الربوبية ، فكبر حاله في الحضرة ، ولم يطق الجنة حملها ، فأهبط منها إلى معدن العشاق ، فشجرة آدم الأسرار ، وشجرة موسى شجرة الأنوار ، وكم بين الأسرار والأنوار ، الأنوار للأبرار والأسرار للأخيار ، فلما صال آدم بصولة السكر انهزم من
__________________
(١) ذكره العجلوني في كشف الخفا (١ / ٤٠٥) ، والمحب الطبري في الرياض النضرة (١ / ٢٦٥).