الإرادات والمقامات والمعاملات وظهر له عين القدم في عين الجمع وبان نور الأزل في النار بعد انقضاء الأجل قال : (إِنِّي آنَسْتُ ناراً) ، والحكمة في ذلك أن طبع الإنسانية يميل إلى الأشياء المعهودة ؛ لذلك تجلى النور في النار لاستئناسه بلباس الالتباس ، فأخبر عن حال الاستئناس ، وقال (إِنِّي آنَسْتُ ناراً) أي : أبصرتها وأنستها ، ولا تخاط النار من الاستئناس خاصة في الشتاء ، وكان شتاء فتجلى الحق بالنور في لباس النار ؛ لأنه كان في طلب النار ، فأخذ الحق مراده وتجلى من حيث إرادته وهذا سنته تعالى ، ألا ترى إلى جبريل أنه إذا علم أن النبي صلىاللهعليهوسلم أحب دحية فأكثر إتيانه إليه كان على صورة دحية ، فلما وصل موسى إلى المقصود ذهب النار وبقي النور وذهب الأنس وبقى القدس ، ثم ذهب النور وظهر عين الصفة ، ثم عين الذات ، فلما وله تحير في صولة الأزل ، وبان العيان لم يبق له العرفان ، وظن ظنونا منها أنه كان في سره أين أنا وإيش ما أرى ، هل يكون لموسى ما يرى موسى أو أن موسى نام عن موسى ، وما يرى لا يرى أو يرى ولا يعرف ، فكاد أن يضمحل في الحيرة إذ بان الكشف بالبداهة خارجا عن العادة فناداه الحق : أين أنت يا موسى (إِنِّي أَنَا اللهُ) ، فأوقعه بطيب الخطاب من الفناء إلى البقاء ومن التفرقة إلى الجمع حتى أنس بالأنس ثم بالقدس ، وبقي مع الحق بنعت الفرقان في محل العيان ، فأوائل الأحوال كان رسما ثم وسما ثم واسطة ثم حقيقة ، فارتفع الوسائط وبقي الحقائق ، وذلك بقوله (فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى) ، أتى من الأكوان والحدثان إلى بساط الرحمن ، ونودي له من شاطئ وادي الأزل في ساحة القدم من شجرة الذات بأصوات الصفات أن يا موسى (إِنِّي أَنَا) إشارة البعد في القرب والقرب في البعد والغيبة في الحضور والحضور في الغيبة ، أشار إلى الهوية ، ثم إلى كشف العيان بقوله : (إِنِّي أَنَا اللهُ) أي : اخرج أنت من أنت من حيث أنت ؛ فإني أنا الله أبقى لك ؛ فانظر إليّ بعين منا ؛ حتى ترى الألوهية وتعلم الحقيقة.
قال بن عطاء : في قوله (فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ) : لما تم أجل المحبة ودنا أيام القربة والزلفة وإظهار أنوار النبرة عليه سار بأهله ليشترك معه في لطائف الصنع.
وقال جعفر في قوله (آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً) : أبصر نارا دالة على الأنوار ؛ لأنه رأى النور على هيئة النار ، فلما دنا منها شملته أنوار القدس ، وأحاطت به جلابيب الأنس ، فخوطب بألطف خطابا ، واستدعى منه أحسن جواب ؛ فصار بذلك مكلما شريفا مقربا أعطى ما سأل وأمّن مما خاف ، وذلك قوله (آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً.)