فإن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «الحياء من الإيمان» (١) ثم بيّن سبحانه ما رمزنا من وصف فراستها بقوله : (قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ) رأت بنور الولاية قوة النبوة وأمانة الصديقية ، وأيضا قوة المعرفة والربوبية وأمانة المحبة والعبودية ، وتكلمت مما رأت في المستقبل من أمانة موسى بالوفاء في شرطه شعيب في عهده بقوله ، (فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ) وقوة إرادته في خدمته عشر حجج ، وهذه الكلمة أيضا صدرت منها من رأس شقيقة روحها من روح موسى ؛ لذلك صارت له أهلا ، فأبصر شعيب ما أبصرت من سوابق الحكم في المشيئة والمقادير في الأزل لذلك (قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ) ؛ لأنه رأى بنور النبوة أنه يبلغ إلى درجة الكمال في ثماني حجج ولا يحتاج إلى التربية بعد ذلك ، ورأى أن كمال الكمال في عشر حجج ؛ لأنه رأى أن بعد العشر لا يبقى مقام الإرادة ، ويكون بعد ذلك مقام الاستقلال والاستقامة ، ولا يحتمل مؤنة الإرادة بعد ذلك ؛ لذلك قال : (وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ.)
(فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٢٩) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٣٠) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (٣١) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٣٢) قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (٣٣))
قوله تعالى : (فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ) : افهم أن مواقيت الأنبياء والأولياء وقت سير الأسرار من بدء الإرادة إلى عالم الأنوار وأنفاسهم من بدو الإرادة بل من وقت الولادة ، بل من كون الروح من العدم في مشاهدة القدم منقسمة على شرائف الأحوال ، في كل نفس لهم سر وحال ووجد وخطاب ومقام وكشف ومشاهدة ، فأجل الإرادة أجل المعاملات وأجل الحالات ، فإذا تم أوائل المعارف وأمارات الكواشف لموسى ولم يبق عليه حق
__________________
(١) رواه البخاري (٥ / ٢٢٦٨) ، ومسلم (١ / ٦٣).