القرني ـ رحمة الله عليه : «إني لأجد نفس الرحمن من قبل اليمن» (١) ، قال تعالى حكاية عن يعقوب عليهالسلام : (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ) [يوسف : ٩٤].
قال جعفر : توجه بوجهه إلى ناحية مدين ، وتوجه بقلبه إلى ربه طالبا فيه سبيل الهداية ، وأكرمه الله بالكلام ، وكل من أقبل على الله بالكلية ؛ فإن الله يبلغه مأموله.
قال أبو سعيد الخراز : حملته الفراسة ، وتدابير المكالمة فيه إلى أن توجه أرض الأولياء ، وهي أرض مدين ، فصادف بها شعيبا ، وكان له في لقائه أوائل البركات ، فلما كمل هيجانه إلى لقاء ربه قصد مدين بصورته ، وقصد بروحه موارد المشاهدة والمكاشفة بقوله : (وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ) ورد سره موارد المكاشفة ، وسواقي المشاهدة وأنهار القربة ، وبحار القدس والأنس فشرب منها بأقدح الأقداح شربات المحبة والعشق والشوق فصار هائما في الملكوت حيران في الجبروت.
قال الواسطي : الوارد بطلب المقالة لثقل الحرمة ، والقاصد يطلب اللقاء والظفر قال أبو بكر بن طاهر : ورد في الظاهر ماء مدين وورد في الحقيقة على مالك مياه الأنس وبساتين المعرفة (وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً) أي : خواص من العباد يرتعون في تلك الميادين ، فأنس بهم ، وشرب معهم من تلك المياه شربة أورثته ورود ذلك المورد المورود على مخاطبة الحق ، وأورثه شرب ذلك الماء الثبات في حال المخاطبة ، ثم بيّن سبحانه مقام فراسة موسى بقوله : (وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ) ، رأى موسى بنور النبوة أهله ، وخاطبهما من حيث رؤية القلب ووجدان الأهلية وأعانهما نصحا الطريقة وأداء شرائط الإرادة بقوله : (فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) ، استظل ظل العناية وطلب من هناك حقائق الكفاية بنعت الرضا والتسليم وأظهر افتقاره إلى وصول المشاهدة حين عاين كنوز القدم مفتوحة وجلابيب الصفات مكشوفة فانبسط إليه بالسؤال حين انفرد من الخلق والخليقة.
قال ابن عطاء : نظر من العبودية إلى الربوبية فخشع وخضع وتكلم بلسان الافتقار بما ورد على سره من أنوار الربوبية ، فافتقاره افتقار العبد إلى مولاه في جميع أحواله لا افتقار سؤال ولا طلب.
قال بعضهم : تولى إلى كهف الرعاية فإن فيه الراحة والاسترواح.
__________________
(١) رواه أحمد في مسنده (٢ / ٥٤١) ، والطبراني في «المعجم الأوسط» (٥ / ٥٧).