قوله تعالى : (فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ) أن الله سبحانه لما أراد بعبد عبادنا أن يكون له فردا أوقع عليه واقعة شنيعة ليفزع من تبعاتها ، فيفر مما دون الله إلى الله ، فلما فرّ إليه خائفا من الامتحان بجد جمال الرحمن ، ويعلم أن جميع ما جرى عليه واسطة لوصول المراد هذا حال موسى أفقره الحق إلى الافتقار إليه بسبب من الأسباب ، والغرض منها كشف النقاب ، وإسماع الخطاب ، (فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً) كان واجدا في نفسه شغلات نيران المحبة ، واستأنس بها ، واستوحش من الخلق ؛ فإذا أقبل إلى الحق بالكلية خاف وترقب أن يلحقه أحد من الضلال ، فيمنعه من الوصول إليه ، وأيضا خرج مما دون الله خائفا عظمة الله ، يترقب طلوع شمس الوصال من مشرق الجمال.
وقال أبو بكر بن طاهر : (خائِفاً) على قومه العذاب يترقب لهم هداية من الله.
قال ابن عطاء : خرج منها خائفا من قومه يترقب مناجاة ربه.
وقال بعضهم : مستوحشا من الوحدة يطلب من يأنس به.
وقال محمد بن حامد : خائفا من الشيطان راجيا للعصمة.
(وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (٢٢) وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (٢٣) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (٢٤))
قوله تعالى : (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ) لما تخلص من مقام تربية الإرادة ، وغار من صحبة الأضداد ، ومقام الامتحان هاج سره بحق الحق ، واستنشق روحه رائحة ورد الوصال ، ورأى بردا من سحائب القربة ، قال في نفسه : (عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ) (٢٢) أي : يهديني ربي إلى مشاهدته ، ويسمعني كلامه ، وذلك سواء سبيل المعرفة ؛ لأن المعرفة بحقيقتها مستفادة من المشاهدة ، ومن هناك تبدو سبل قدم الذات ومعرفة أزلية الصفات ، فمدين إشارة إلى مشاهدة عالم الأزل والأبد ، وتوجهه كان إليها بالحقيقة ، فوجد نسائم ذلك من جانب مدين ؛ لأن هناك مواضع الكشف والخطاب وصعود أنوار نبوة شعيب عليهالسلام ، وذلك كما قال عليهالسلام في إخباره عن وجدانه نسيم نفحه كشف جمال الحق في مزار قلب أويس