مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (٦٩) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ (٧٠) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (٧١) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (٧٢))
قوله تعالى : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ) أي : لقد ظهرت أنوار صفاتي في مباشرة أمري في أطوار فطرتكم الأولية ، ما رأيتم تلك المشاهدات بإسبالي ستور الغبرة على أعينكم ، وكيف ينفع العلم بصورة الأفعال ، إذا لم يدرك لطائف اصطناعه ، ولم ير حقائق أنواره.
هذا آدم بديع فطرته ، وخليفة ملكه ، ظهر الحق منه ببديع الآيات ، وحقائق أنوار الصفات ، خلقه من تراب ، ثم خلق ذريته من نطفة ، فباشر سر الحقيقة النطفة ، كما باشر التراب ، يا ليت لذريته لو عرفوا منشأه ومبدأه ، كما عرف آدم نفسه ، لكانوا عارفين بربهم بحقيقة العرفان ، لا برسم الأدلّة والبرهان.
قال القاسم : ألم تعلموا إنّا خلقناكم من تراب ، ثم من مضغة ، ثم من علقة ، ثم من ماء مهين ، أفلا تتعظون بهذه المواعظ ، وتبصرون إلى عجائب الصنع فيكم ، وتستحيون من هذه الدعاوي ، والأماني ، والإضافات ، وتلزمون الأدب ، فإنّ من تعدّى طوره هتك ستره.
(نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (٧٣))
قوله تعالى : (نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً) : جعل الله تعالى آياته بصنوفها مرأى أنوار صفاته ، يتجلّى منها لأبصار العارفين ، ويقوّي برؤيتها أرواح الموحدين ، وتستقيم بها عقول الصادقين ، وتفزغ من مواعظها قلوب الخاشعين ، فصاروا في معابد العبودية متذلّلين ، وفي مراقد أنوار عظمته متواضعين.
قال جعفر : موعظة للتائبين ، وآلة للأقوياء من العارفين في حمله.
قوله تعالى : (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) (٧٤).
(فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) : أمر الله حبيبه عليه الصلاة والسلام أن ينزه نفسه عند رؤية الآية ونعمائه وظهوره ، بكشف الصفات والذات من مشكاة آياته ، بأنّه منزّه عن أن تكون الحوادث محلّه ، أو أن يلحق إليه بنعت مباشرة شيئا من الحدثين ، فأمره أن ينزّهه ، ويسبحه به لا بنفسه ، ألا يرى كيف قال : (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) (٧٤) ، والمسمّى والاسم واحد في واحد أي : قدّسي بي ، فإني أعظم من أن تقدسني بنفسك ، أو بشيء من دوني ، ألا ترى إشارة قوله : (الْعَظِيمِ) عظم جلاله ، أن يبلغ إلى مدحه الخليقة ، أو أن تصفه البريّة.
قال الواسطي : سبّحه باسمه ، فإن الاسم والمسمى هو الشيء بعينه ، وهو العظيم.