قوله تعالى : (لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ) (٣٣) أي : غير مقطوعة عنهم أثمار أشجار المشاهدة ، وهي ثمرات أنوار الذات ، والصفات التي تثمر في قلوبهم ثمار علم العلم ، وغيب الغيب ، وسر السر إلى الأبد ، وهي غير ممنوعة من رؤوسهم ، وعلمهم ، وإدراكهم أدركوها بالله من الله.
قال جعفر : لم يقطع عنهم المعونة والتأييد ، ولو قطع عنهم ذلك لهلكوا ، ولا يمنعون من التلذّذ بمجاورة ، ولو منعوا من ذلك لاستوحشوا.
(عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (٦١))
قوله تعالى : (وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) (٦١) (١) : بيّن الله سبحانه أن حقائق الغيوب غير متناهية ، وحقائقها غير مكشوفة للأعداء ، ومن اختاره بالولاية وكحّل عينه بنور العناية ، يطلعه على نوادر الملكوت ، وعجائب الجبروت ، فهذا من كنوز الغيب التي اختار الله بها سفرة الأنبياء ، والرسل ، والأولياء ، وأهل الصفوة بقوله : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (٢٦) إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) ، وبقهر القديم منع الأعداء من النظر إلى مكنون السرائر ، فخاطبهم بهذه الآية أنه يخرجهم بمراده الأزلي على لباس مقاديره الأولية ، إمّا بصورة السعادة ، وإمّا بصورة الشقاوة.
قال الواسطي في قوله : (وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) (٦١) : من أسباب السعادة والشقاوة.
(وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٦٤) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (٦٥) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (٦٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٦٧) أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (٦٨) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ
__________________
(١) والحاصل : إن الآية وعد لمتوقع الخير ، ووعيد لفاعل الشر ، والله عند حسن ظن عبده به لكن العبد وجب عليه أن يلاحظ قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) ، فإن عبد الكريم لابد وأن يكون كريما لا لئيما ، ثم في الآية إشارة إلى أن إنشاء المذكور لا يستلزم الاستحالة ؛ وهو قلب الحقائق ، فإن الإنسان لا يصير خنزيرا مثلا أبدا ، وإنما يظهر في صورته ، وكذا لا يصير ملكا وإن كان ظاهرا بصورته ؛ كجبريل في صورة شاب ، أو في صورة دحية ، أو نحو ذلك من الصور الحسنة ، وكذا الجن والمتروحنون ، ومن ذلك الكيمياء فإن الإكسير لا يقلب النحاس ذهبا حقيقة ؛ وإنما يقلب صفة النحاس ، فيظهر في صورة الذهب ، ثم لا يرجع إلى أصله أبدا كما أشار إليه قولهم : لو وصلوا ما رجعوا ، وقد نازع فيه بعضهم من لا خبرة له بحقيقة الحال ، وقس على هذا سائر الاستحالات ؛ فإنها استحالات صورة لا حقيقة ، وإن زعم بعضهم الحقيقة في كل ذلك.