قوله تعالى : (وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ) : أخبر الله سبحانه بهذه الآية أن المفارقة من الأضداد واجبة.
قيل : إن بعض أصحاب الجنيد وقع له إنكار عليه في مسألة جرت له معه ؛ فبكّر إليه ليعارضه فيها ، فلما دخل على الجنيد نظر إليه وقال : يا فلان (وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ. وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (٢٤) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٢٦) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (٢٧) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (٢٨))
قوله تعالى : (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ) : خاطب الله موسى بأن يرفع تقاضي سره حقائق المقادير ولا يتفحص ، ولا يغوص في بحار الربوبية ، حتى لا يستغرق بنعت الفناء في قلزم العدم ، ولا يخرج منه أبدا إلى سواحل النبوة ؛ فإن بحار الألوهية لو تكون متلاطمة يستغرق فيها الأولون والآخرون أي : لا تشوشها حتى تغرق المدعين بالربوبية والسلطنة في أول بواديات بحار القهريات.
قال سهل : أي : اجعل قلبك ساكنا في تدبيري ، (إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ) أي : فإن المخالفين قد غرقوا في التدبير.
(فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (٢٩) وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (٣٠) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (٣١))
قوله تعالى : (فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ) : كيف تبكي السماء والأرض على من يدّعي الأنائية في ساحة كبرياء الأزل ، والسماوات والأرضون في عظمها تصير هناك أقل من خردلة من هيبة عزة جبروته وملكوته ، فغارت عليهم السماوات والأرض ؛ إذ ادّعوا ما ليس لهم في أمر الربوبية ، وهي تبكي على العارفين الذين لا يجترئون أن يصفوا معروفهم بجميع الألسنة حياء منه ، إذا فارقوا من الدنيا تبكي السماوات والأرض بمفارقتهم حين لا تصعد عليهم أنوار أنفاسهم ولا يجري عليها بركات آثارهم كما روي في الحديث أن : «السماء والأرض تبكي بموت العلماء» (١).
قال بعضهم : كيف تبكي السماء على من لم يصعد إليه منه طاعة؟! وكيف تبكي الأرض على من يعصي الله عليها؟! معناه ما بكت عليهم مصاعد عملهم من السماء ، ولا مواضع عبادتهم من الأرض.
__________________
(١) ذكره ابن كثير في التفسير (٤ / ١٤٣) بنحوه.