(وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (٥١))
قوله تعالى : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) : كان لي واقعة في ابتداء الأمر ، وذلك أنى شاهدت الحق بالحق ، وكاشف لي مشاهدة جماله ، وخاطبني من حيث الأرواح لا الأشباح ، فغلب على سكر ذلك ، وأفشيت حالي بلسان السكر ، فتعرضني واحد من أهل العلم ، وسألني : كيف تقول ذلك وأن الله سبحانه أخبرنا بأنه لم يخاطب أحدا من الأنبياء والرسل إلّا من وراء حجاب ، وقال : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ)؟! فقلت : صدق الله ، هذا إذا كانوا في حجاب البشرية ، فإذا خرجوا بشرط الأرواح إلى علم الغيب والملكوت ألبسهم الله أنوار قربه ، وكحّل عيونهم بنور نوره ، وألبس أسماعهم قوة من قوى الربوبية ، وكشف لهم سرّ الغيرة وحجاب المملكة ، وخاطبهم كفاحا وعيانا ، ولنبينا صلىاللهعليهوسلم أخصّ خاصية ؛ إذ هو مصطفى في الأزل بالمعراج والمشاهدة ، فإذا صار جسمه روحه ويكون واحدا من كل الوجوه صعد إلى الملكوت ، ورأى الحق منزّها عن أن يحجبه المحل من الحدثان ، أو احتجب بشيء دونه فهو الممتنع بذاته القديم من أن يطالعه إلا بعد أن يكشف له جلال أبديته وجمال سرمديته ، وتصديق ما ذكرنا ما قال الواسطي في هذه الآية ؛ قال : أخبر أن أوصاف الخلق على سنن واحد ، وخصّ السفير الأعلى والواسطة الأدنى بمشافهة الخطاب ومكافحته ، وقال : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً) ، وهو قائم بصفة البشرية حتى ينزع عنه أوصاف البشرية ، ويحلى بحلية الاختصاص ، يكلم شفاها (١) ؛ لقوله تعالى : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ.)
تفسير قوله سبحانه : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) أي : كما خصصنا الأنبياء والرسل بالأرواح الروحانية والأرواح الملكوتية والأرواح الجبروتية والأرواح الجمالية والأرواح الجلالية خصصناك بروح قدسية أوجدتها من جملة الأرواح ، بتجلي قدسي قدمي من العدم ، وفضّلناك برؤية القدس والجوهر القدسي المشروح برقوم تجلي جمالي وجلالي ، المكسو بكسوة جميع صفاتي ، المنور بنور ذاتي ، خصصنا روحك المشرقة بهذه الأنوار ،
__________________
(١) قال الشيخ المصنف : وإذا دخل القلب في عالم الغيب فما يراه فهو كشف ، وما يسمعه فهو كلام وما يتكلم به فهو وحي ، فيتولد مما يسمع الفهم ، وما يتولد مما يبصر فهو بيان وكشف ونظر ، وما يتولد مما يتكلم به فهو حكمة ومعرفة وعلم ، وما يقع في موضع العقل من القلب فهو علم لدني ، وما يقع في الفؤاد وهو الرؤية والإدراك. تقسيم الخواطر (ص ٩٥) بتحقيقنا.