أكون طيرا من ملك البلابل ، أصفّر بصفير الصفات ، وأترنم من بطنان غيب الذات ، سكران من رؤية الذات ، والها بالصفات ، ووالها من شراب الصفات ، مشغوفا بسنا الذات ، ثم أفنى في الذات ، وأبقى في الصفات ، ولا يجري عليّ بعد ذلك طوارق الفناء ؛ فأبقى بقاء الأبدي ، وأتدارك ما فات مني من المعية القدمية مع القدم ؛ فإن الآخر بالحقيقة أول ، والأول آخر ، والظاهر باطن ، والباطن ظاهر ، فنحن الأولون حيث قام الحق بأوليته مقام أوليتنا وإن كنا معدومين ، ونحن الآخرون من حيث ألبسنا الحق وصف بقائه ، ونحن الظاهرون بظهوره علينا ، ونحن أهل الباطن والغيب ؛ إذ لا غيب في الكشف ، ولا باطن في الظهور ، تعالى الله من أن يدركه بوصفه غيره ، رزق الله هذه المراتب العلية والمواهب السنية من آمن بنا ، وبكل وليّ صدر من بساتين الغيب ، ومشارب القرب الذي يتكلمون بمثل هذه الكلمات البديهية الإلهية الربانية ، كما قال سبحانه : (يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) : قويّ باصطفائيتهم مما اختار لهم في أزله إلى أبده.
قال ابن عطاء في قوله : (اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ) : يعلم من أنفسهم ما لا يعلمونه من نفوسهم ، فربط كلا بحده ، فمن بقي مع حده حجب ، ومن تجاوز حده هلك.
قال أبو سليمان الداراني : من لطف الله بعبده أن قصر له كنه معرفته حتى لا تتكدر عليه نعماؤه.
وقال الجنيد : اللطيف الذي لطف بأوليائه حتى عرفوه.
وقال ابن عطاء : اللطيف الذي يعرف الغيوب بلا دليل.
قال بعضهم : اللطيف الذي ينسى العباد في الآخرة ذنوبهم لئلا يتشردوا.
وقال بعضهم : الذي لم يدع أحدا يقف على مائة أسمائه فكيف الوقوف على مائة وصفه وذاته؟!
وقال أبو سعيد الخراز في قوله : (اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ) : موجود في الظاهر والباطن ، والأشياء كلها موجودة به ، لكن يوجد ذكره في قلب العبد مرة ، ويفقده مرة ؛ ليجدد بذلك افتقاره إليه.
وقال القاسم في قوله : (يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ) : الفطنة والحكمة ، (وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) : القوي يقوّي الفطن ، والعزيز عزّز عنايته ورعايته ، ولا يبذلها لكل أحد.
قال الأستاذ : اللطيف هو العالم بدقائق الرموز وغوامضها.
(مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (٢٠) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ