قوله تعالى : (وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) : ألبس الله حبيبه أنوار نعوته الأزلية بنعت التجلي والكشوف لقلبه وعقله وروحه وسره وصورته ، فلما جعله كاملا من كل الوجوه قال له : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) أي : استقم بي على مرادي منك ؛ بحيث تستقيم بصفتي عند كشف حقائق ذاتي ؛ فإن الكون وأهله لا يستقيم في موازاة ذرة من عين الألوهية ، والاستقامة في الأمر عموم ، وفي المعرفة والمشاهدة خصوص ، الاستقامة في العبودية للأولياء ، والاستقامة في مشهد الربوبية للأنبياء.
قال بعضهم : حقيقة الاستقامة لا يطيقها إلا الأنبياء وأكابر الأولياء ؛ لأنها الخروج من المعهودات ومفارقة الرسوم والعادات ، والقيام بين يدي الحق على حقيقة الصدق ، ولذلك قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «استقيموا ولن تحصوا» (١) أي : لن تطيقوا الاستقامة التي أمرت بها.
(اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (١٩))
قوله تعالى : (اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ) : لطيف بأوليائه وأهل معرفته ومحبته ، بأن أودع أرواحهم في الأزل ودائع العلم اللدني وأنوار محبته الأزلية ، واصطفاهم بقربه ووصاله ، وأغرقهم في بحار شوقه وعشقه ومعرفته ، ثم طالع أسرارهم بعلومه القديمة ، فرأى لهب نيران قلوبهم من شوقه ، لا يخفي عليه هيجانهم وشوقهم إليه ، فجذبهم من مكمن العدم أولا إلى نور القدم ، وأشهدهم على مشارب بحار الذات والصفات ، ثم جذبهم إلى بساط العبودية ، وتلطّف عليهم بأن رفع عنهم أثقالها تلطفا وكرما حتى سهّل عليهم مسالك الاستقامة ، ثم جذبهم إلى مشاهدة الربوبية ، وأدناهم منه ، ودنا منهم ؛ حتى يبقى البين في البين ، قال تعالى في وصف حبيبه : (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) (٢) : ثم حماهم من قهر غيرته ، وألبسهم قباء أنوار بقائه ، وتوّجهم بتيجان المسرة ، وشدّ في أوساطهم مناطق الحرمة ، وأجلسهم على أرائك المملكة ، وخاطبهم بأسرار ملكه وملكوته ، وجعلهم أهل سرّه ، وأكرمهم بكشف ملكه لهم حتى حكموا فيه بشرط الانبساط ، لا يثقل عليهم حقوق المعارف ، ولا يجري عليهم إلا أنوار الكواشف ، هم طيور مناهل الوصال ، يطيرون في بساتين الجمال والجلال ، ويترنمون بألحان الصفات ، ويخبرون أهاليهم من أسرار الذات ، طوبى لهم ، ثم طوبى له ، (طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ) ، فأرجو من كمال كرمه القديم وجوده العميم أن
__________________
(١) تقدم تخريجه.
(٢) فإذا ارتفع الأين والبين والمكان والجهات ، واتصل أنوار كشوف الذات والصفات بالعارف ، فذلك حقيقة المعية ، إذ هو سبحانه منزّه عن الانفصال والاتصال بالحدث ، البحر المديد (٦ / ٢٦٦).