قصرت عنه العبارة ، وخرست الألسن ؛ لقوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (١).
وقال الواسطي : احتجب بخلقه عن خلقه ، ثم عرّفهم صنعه بصنعه ، وساقهم إلى أمره بأمره ؛ فلا يمكن للأوهام أن تناله ، ولا العقول أن تحتاله ، ولا الأبصار أن تتمثله ، ولا الأسماع أن تشمله ، ولا الأماني أن تمتهنه ، هو الذي لا قبل له ولا بعد له ، ولا يقصد عنه ، ولا معدل ولا غاية وراءه ، ولا منتهى ، ليس له أمد ولا نهاية ولا غاية ولا ميقات ولا انقضاء ، لا يستره حجاب ولا يقلّه مكان ، ولا يحويه هواء ، ولا يحتاطه فضاء ، ويتضمنه خلاء ، (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) ، فلما قطع أطماع الحقيقة عن إدراك جلاله رغّبهم في إقبالهم إليه ؛ لطلب عرفان وجوده ، ووجوده بقوله : (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : مقاليده مشيئته الأزلية وإرادته القدمية ، يفتح بها أبواب كنوز سنوات ذاته وصفاته ، وأعرض فعله للمصطفين في الأزل بمحبته ، وينثر على أسرارهم جواهر أنوار معرفته ، ويعرّفهم شمائل وجوده ومحاسن أفعاله وغرائب صفاته ، ثم زاد وصف كرمه لطلاب قربه وعشاق مشاهدته بقوله : (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) : يبسط رزق مشاهدته لمن يشاء من أهل صبابته وأهل الاشتياق إلى جماله ، وهو قادر بذلك ، لا ينقص جلاله ، وأن ينظر إليه أهل شوقه أبد الآبدين ؛ إنه عالم بحرق فؤادهم ولهيب نيران أسرارهم ، يميل بذلك أزمّة طلاب الحوائج إلى ساحة جوده ؛ حتى لا يميل أحد لكل معنى إلى غيره ، يا أخي مقاليد سماواته ما في قلوب ملائكته من أحكام الغيوب ، ومقاليد أرضه ما أودع الحق صدور أوليائه من حجائب القلوب.
قال ابن عطاء : مقاليد السماوات الغيوب ، ومقاليد الأرض الآيات والبينات.
وقال : عاتب الله أولياءه بنظرهم إلى ما سواه.
__________________
(١) قال سيدي علي وفا : اسمع : إن قيل لك المثل بكسر الميم وسكون الثاء وبفتح الميم والثاء واحد ، فكيف الجمع بين قوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) وبين قوله : (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) [النحل : ٦٠] وبين قوله : (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ) فقل : وما توفيق العبد إلا العبد إلا بالله سيده ومولاه : إن كانا واحدا لغة فالمثل قد أثبت للحقيقة التي هي الهوية بقوله : (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى) ، ولاسم الجلالة بقوله : (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) ، ولنور الله بقوله : (مَثَلُ نُورِهِ) ونفي عن مثل الهوية بقوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) وأثبت المثل للنور بقوله : (مَثَلُ نُورِهِ) هذا المشكاة أمر وهميّ ليس غير ؛ لأنه في الحس فراغ متوهم وخلاء ، والخلاء ثابت وهما فقط ، فهو في الحس والكون لا شيء ، فلا يلزم من كونه كائنا أن يكون ذلك الأمر شيئا. وإنما قال : (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ) [النور : ٣٥] ؛ ليثبت أنه ليس له مثل حقيقي ؛ إذ الظاهر منه في المظاهر هو بالحقيقة ، ومثاله بالوهم ليس إلا كالذي تراه منك بواسطة المرايا الصقيلة ، (يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ) [النور : ٣٥] : أي يبين الله الأمثال للناس ، فافهم.