اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٥) لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٦) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٧))
قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ) خاطب الحق سبحانه أهل التوحيد والمعرفة بأنه سبحانه ينشئ في سماء صحو القلب سحائب أنوار فعله على مقادير مشيئته ، وقوة حملها واردات الغيوب ، ويسريها برياح الكرم ، ويجمعها بقوة القدم ثم يجعلها متكاثفات بأثقال أنوار الصفات ، وذلك قوله : (ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً) ثم ينزل منها قطرات زلال بحر الصفة إلى صحاري القلوب بقوله : (فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) فإذا كمل الحال ينكشف جبال أنوار الذات ، وينزل منها برد جواهر حقائق علوم القدم ، فيقع على بحار عقول العارفين ، ويتلقاها أصدف الأرواح فيربيها في حواصل الأفئدة والأسرار (١).
ثم بيّن خاصية من سبق له الحسنى في الأزل في وصول تلك الجواهر القدوسية بقوله : (فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ.)
ثم بيّن أن سنا بروق تجلى الصفات ليغلب على أبصار الأرواح والقلوب حين عاينت الحق ، بقوله : (يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ.)
ثم بيّن مقام المحو والصحو ، والقبض والبسط ، وأوقات الاستناد والتجلي بقوله : (يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) يقلب ليالي الهجران ، ونهار كشف العيان لأهل البيان والامتحان.
ثم بيّن أن هذه الإشارات لذوي البصائر من العارفين بقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي : بصيرة ومعرفة ، وما بان من فحوى الخطاب من قوله : (يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) ، وحقائق غلبة مشيئة الأزل على كل مشيئة إذ كل مشيئة قائمة بمشيئته ، وكل إرادة صدرت من إرادته ، فإذا انسلخ الكون وأهله من محل التصرف والإرادة في نفاذ مشيئة تعالى الله من كل كائن يقع بخلاف إرادته.
قال الواسطي : ما خالفه أحد ولا وافقه ، وكلهم مستعملون بمشيئته وقدرته أنى يكون
__________________
(١) (الودق) : المطر ، يخرج من فتوقه ووسطه ، وقال القشيري : ترتفع بقدرته بخارات البحر ، فيتصعد ، بتسييره وتقديره إلى الهواء ، وهو السحاب ، ثم يديره إلى سمت يريد أن ينزل به المطر ، ثم ينزل ما في السحاب من ماء البحر ، قطرة قطرة ، ويكون الماء ، حين حصوله في بخارات البحر ، غير عذب ، فيقلبه عذبا ، ويسحّه السحاب سكبا ، فيوصل إلى كلّ موضع قدرا يكون له مرادا معلوما ، لا بالجهد من المخلوقين يمسك عن المواضع الذي عليه ينزله ، ولا بالحيلة يستنزل على المكان الذي لا يمطره.