الاشتغال.
وقال الجنيد : أحيا أقواما بالراحة (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) [القمر : ٥٥] ، فهم متقلبون في الراحة واللقاء والرضوان والمشاهدة ، ثم منّ عليهم زيادة منه ، فقال : (إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ) : شغلهم حظوظ الأنفس عن هذا المعدن وهذا المشهد.
وسئل بعض المشايخ عن قول النبي صلىاللهعليهوسلم : «أكثر أهل الجنة البله» (١) قال : لأنهم في شغل فاكهون ، شغلهم النعيم عن المنعم.
وقال الحسين : إن الحق قطع أهل الجنة بتجليه عن الالتذاذ بالجنة ؛ لأنه أفناهم بتجليه عنها ؛ لئلا تدوم بهم اللذة ، فيقع بهم الملك فرجوعهم إلى إياهم بعد تجلي الحق لهم يوفر اللذة عليهم ، والحق لا يلتذّ به.
(سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (٥٨) وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (٥٩) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٠))
قوله تعالى : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) (٥٨) : سلام الله أزلي الأبد غير منقطع من عباده الصادقين في الدنيا والآخرة ، لكن في الجنة يرفع عن آذانهم جميع الحجب ، فسمعوا سلامه ، ونظروا إلى وجهه كفاحا.
قال ابن عطاء : السلام جليل الخطر ، عظيم المحل ، وأجله خطر ما كان في المشاهدة والمكافحة من الحق حين يقول : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) : من استقام عليه فقد ظهر عليه سرّ الربوبية ، وشغله ذلك السرّ به عن الطاعة والمعصية ، قد حضر لي نكتة أن السلام يكون بالقول والكلام من رب رحيم يربيهم بمشاهدته ويرحمهم ؛ لئلا يحجبهم عن جماله أبدا.
قال الأستاذ : الرحمة في تلك الحالة أن يرزقهم الرؤية في حالة ما سلم عليهم ليكمل لهم النعمة.
(وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (٦٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٦٣) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٦٤) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٦٥) وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (٦٦) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (٦٧))
__________________
(١) رواه الديلمي في الفردوس (١ / ٣٦٢) ، وابن عدي في الكامل (٣ / ٣١٣).