وكشفا ، فيربيهم على سنن الواردات حتى صاروا في مشاهدة بدر كمال الصفات ، فإذا كادوا يفنوا في تلك الحالة يغيب عنهم أنوار الصفات حتى يبقى لهم اللمعان والبروق ، ويصير البدر لهم هلالا ، فيتراءون هلال جمال الصفات بأبصار قلوبهم في سماء اليقين ، وهذا من لطف الله لهم الذي يربيهم على قدر الأحوال في مقامات مشاهدة الذات والصفات قبضا وبسطا حتى لا يفنوا.
قال الأستاذ : نهار الوجود يدخله على ليالي التوقف ، ويقود بيد كرمه عصا من عمى عن سلوك رشده ، فيهديه إلى سواء طريقه.
وقال في قوله : (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ) الإشارة منه أن العبد في أوان الطلب رقيق الحال ضعيف اليقين مختصر الفهم ، فيتفكر حتى تزداد بصيرته ويكمل حاله ، ثم يصير كاملا ، ثم يتناقص ، ويدنو من الشمس قليلا قليلا ، وكلما ازداد من الشمس دنوّا ازداد في نفسه نقصانا إلى أن يتلاشى ويخفى ولا يرى ، ثم يبعد عن الشمس ، لا يزال يتباعد حتى يعود بدرا من الذي يصرفه على ذلك إلا أنه تقدير العزيز العليم ، فشبه الشمس عارف أبدا في ضياء معرفته صاحب تمكين غير متلون يشرق بروج من سعادته دائما ، لا يأخذه كسوف ، ولا يستره سحاب ، وشبه القمر عبد يكون أحواله في التنقل ، صاحب تلوين له من البسط ما يرقيه إلى حد الوصال ، ثم يردّ إلى الفترة ، ويقع في النقص بما كان به من صفاء الحال ، فيتناقص ويرجع إلى نقصان أمره إلى أن يرفع قلبه عن وقته ، ثم يجود عليه الحق سبحانه ، فيوفقه لرجوعه عن فرقه وإفاقته عن سكرته ، فلا تزال تصفو حاله إلى أن يقرب من الوصال ، ويرزق صفة الكمال ، ثم بعد ذلك يأخذ في النقص والزوال ، كذلك حاله إلى أن يحق له بالمقسوم ارتحاله ، فكما قالوا : [إن كنت أدري فعلى بدنه من كثرة التلوين إليّ من أنه] ، وفي معناه أنشدوا :
كلّ يوم تتلون غير هذا بك أجمل
(إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (٥٥) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (٥٦) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (٥٧))
قوله تعالى : (إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ) (٥٥) : إذا دخل أهل الجنة في الجنة وتنعموا بها يكشف الله جماله لهم بالبديهة ، فيكونون في شغل من المشاهدة عن نعيم الجنة ناظرين إلى الحق بالحق ، ويفرحون بما نالوا من جماله وجلاله.
قال ابن عطاء : شغلهم في الجنة استصلاح أنفسهم لميقات المشاهدة ، وهذا من أعظم
__________________
ـ الذي حسابه مبني على الشهر لا الدور الشمسي الذي مبنى حسابه على الأيام.