وقيل في قوله : (نُورٌ عَلى نُورٍ) : نور المشاهدة يغلب نور المتابعة ، وقيل : نور الجمع يعلو أنوار التفرقة ، وقيل : نور الروح يهدي إلى السر شعاع الفردانية ، ونور السر يهدي إلى القلب ضياء الوحدانية ، ونور القلب يهدي إلى الصدر حقيقة الإيمان ، ونور السر يهدي إلى الصدر آداب الإسلام ؛ فإذا جاء نور الحقيقة غلب هذه الأنوار ، وأفرد العارف عنها وأفناه فيها ، وحصله في محل البقاء مع الحق متسما بسمته مترسما برسمه لا يكون للحدث عليها أثر بحال ؛ لأن محل أنوار الأحوال هو القيام معها ورؤيتها ، والسكون إليها ، فإذا جاء نور الحقيقة أفناه عن الحظوظ والمشاهدات ، وإذا غلب نور الحق خمدت الأنوار لها ، وصارت الأحوال دهشا في فناء ، وفناء في دهش ؛ فهو بحصول اسم ورسم ، وذهاب الحقيقة في عين الحق (يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ) يخص الله بهذه الأنوار من سبقت له المشيئة فيه بالخصوصية ، (وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ).
قال : العقلاء الألباء الذين خصوا بالفهم عنه ، والرجوع إليه ، (لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) في أن الذي خصهم بهذه الأنوار والمراتب من غير سابقة لا يتقرب إليه إلا بفضله وكرمه دون عدّ التسبيح والصلاة عليه (١).
وقال الحسين في قوله : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : منور قلوبكم حتى عرفتم ووجدتم ، وختم بقوله : (يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ) فكان أول ابتدائه (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : مبتدأ النعم ومنبعها والآخر خاتمته ، فالأول فضل ، والآخر مشيئة ؛ فهو المجتبي لأوليائه الهادي لأصفيائه.
__________________
(١) قال المصنف : فالإنسان من حيث المناسبة الروحانية والقوة الملكية يقبل الوحي من الغيب ، ومن حيث المناسبة البشرية يلقى الوحي إليهم ، وهم يواسون الخلق ويربونهم بواضحات الشرع ، وهم بالإضافة إلى الناس كالناس إلى الحيوانات ، وهم في الناس كالشموس والأقمار في سائر الكواكب ، وكما أن نور القمر عكس نور الشمس ، فإن نور الناس من أنوار الأولياء والأنبياء ، وإن نور العقل وإن كان منورا لا يتم إلا بنور الشرع والعقل كالبصر ، والشرع كالنور ، ولا يتم البصر إلا بالنور ، قال الله تعالى : (قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ) [الأنعام : ١٠٤] ، ولولا العقل ما جاء الشرع ، ولولا الإنسان لم يأت العقل ، والشرع من الحضرة والإنسان بالحقيقة من له عقل وعلم ويعرف الشرع ويستدين به حتى يكون كاملا في الجمال الظاهر والباطن ؛ لأن العقل نور الباطن والشرع نور الظاهر ، قال تعالى : (نُورٌ عَلى نُورٍ) ، والنور الثالث معرفة الله التي هي مستفادة من تعريفه إياهم ، وإشهادهم مشاهدة ذاته وصفاته وهو مقام النبوة والولاية والمخصوصية ، من اصطفاه الله في الأزل به ، قال تعالى : (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) [البقرة : ١٠٥] ، وقال : (يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ).