أما بعد : فإن الدنيا بحر عميق ، ولنيرانها لهب وحريق ، ولطرقها مفاوز (١) ومضيق ، فالحذر إذا لبعد مفاوزها ومضيقها ، فأعدّ عدة سير تزحزح به عن لهبها وحريقها ، واتخذ سفينة تنجو بها من عميقها ، وقرّب عليك الأجل لا تخدعنك بآمالها ومكرها ، وقد عرّفتك نفسها ، وأوضحت لك لبسها (٢) ، فلا تعم وأنت بصير ، ولا تأمن وأنت بتحذير ، فإن الذي بقي من عمرك قليل ، فإما الثواب الجزيل وإما البلاء الطويل ، فكن بعملك منتفعا ، وللموت متوقعا ، فإنك لا تدري على أي حال يأتيك ، وفي أي وقت يفاجيك ، فعجبا لك يا مكنون (٣) الأجل ، كيف تغتر بطول الأمل ، فابك على نفسك إن كنت باكيا ، وتيقظ من غفلتك إن كنت لاهيا.
أما بعد : فكأنك قد أخرجت من روح الدنيا ومساكنها ، وأبدت أهلك لغيرك سكنها ومحاسنها (٤) ، ونسيت ما كان لها من كدك ، وتغيّرت ـ عما كانت لك عليه من بعدك (٥) ، فتنعموا بمالك ، ولم يعبئوا بحالك ـ لمن لا يرثى لك غدا من بعد صرعتك ، ولا يؤنسك (٦) في وحشتك ، فلا تبع يا مسكين بدنياك آخرتك ، ولا تجزع لها فتركبك رقبتك ، عليك بنفسك أكرم الأنفس عليك ، وأحب الأنفس إليك ، واعلم أنك مسئول ، ومحاسب ومعاقب ، فارغب في الثواب ، واهرب من العقاب.
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وصلى الله على محمد وآله وسلم.
__________________
(١) في (أ) و (ج) : مغاور.
(٢) في (ب) و (د) : بنفسها. وفي (ب) و (د) : لك عن لبسها.
(٣) في (أ) و (ج) : فعجب. والمكنون : الخفي.
(٤) في (أ) و (ج) : وأبدت لأهلك غيرك سكنها ومحاسنها. وفي (د) : وأبدت أهلك لغير سكنها محاسنها.
(٥) في (أ) و (ج) : بعد.
(٦) في (أ) و (ج) : لا يرى لك. مصحفة. وسقط من (أ) و (ج) و (د) : بعد. وفي (أ) و (ج) : ولا يؤنسك غدا في :