فإن قيل : فهذا من باب المصالح المرسلة لا من باب الاستحسان.
قلنا : نعم! إلا أنهم صوروا الاستحسان بصورة الاستثناء من القواعد ، بخلاف المصالح المرسلة. ومثل ذلك يتصور في مسألة التضمين ، فإن الأجراء مؤتمنون بالدليل لا بالبراءة الأصلية ، فصار تضمينهم في حيز المستثنى من ذلك الدليل ، فدخلت تحت معنى الاستحسان بذلك النظر.
والسادس : أنهم يحكون الإجماع على إيجاب الغرم على من قطع ذنب بغلة القاضي ، يريدون غرم قيمة الدابة لا قيمة النقص الحاصل فيها ، ووجه ذلك ظاهر ، فإن بغلة القاضي لا يحتاج إليه إلا للركوب ، وقد امتنع ركوبه لها بسبب فحش ذلك العيب ، حتى صارت بالنسبة إلى ركوب مثله في حكم العدم ، فألزموا الفاعل غرم قيمة الجميع ، وهو متجه بحسب الغرض الخاص ، وكان الأصل أن لا يغرم إلا قيمة ما نقصها القطع خاصة ، لكن استحسنوا ما تقدم.
وهذا الإجماع مما ينظر فيه ، فإن المسألة ذات قولين في المذهب وغيره ، ولكن الأشهر في المذهب المالكي ما تقدم حسبما نصّ عليه القاضي عبد الوهاب.
والسابع : ترك مقتضى الدليل في اليسير لتفاهته ونزارته لرفع المشقة ، وإيثار التوسعة على الخلق ، فقد أجازوا التفاضل اليسير في المراطلة الكثيرة ، وأجازوا البيع بالصرف إذا كان أحدهما تابعا للآخر ، وأجازوا بدل الدرهم الناقص بالوازن لنزارة ما بينهما ، والأصل المنع في الجميع ، لما في الحديث من أن : «الفضة بالفضة والذهب بالذهب مثلا بمثل سواء بسواء ، وأن من زاد أو ازداد فقد أربى» (١) ووجه ذلك أن التافه في حكم العدم ، ولذلك لا تنصرف إليه الأغراض في الغالب ، وأن المشاحة في اليسير قد تؤدي إلى الخرج والمشقة ، وهما مرفوعان عن المكلف.
والثامن : إن في العتبية من سماع أصبغ في الشريكين يطئان الأمة في طهر واحد فتأتي
__________________
(١) أخرجه مسلم في كتاب : المساقاة ، باب : بيع الذهب بالورق نقدا (الحديث : ١٥٨٨). وأخرجه مالك في كتاب : البيوع ، باب : بيع الذهب بالفضة تبرا وعينا (الحديث : ٢ / ٦٣٢). وأخرجه النسائي في كتاب : البيوع ، باب : بيع الدينار بالدينار ، وباب : بيع الدرهم بالدرهم (الحديث : ٧ / ٢٨٧). وأخرجه الشافعي في كتاب الرسالة (فقرة : ٧٥٩).