وقد اتفق الأئمة على وجوب الوفاء بالنذر ، فيجري ما أشبه مجراه. وأيضا فقد فهمنا من الشرع أنه حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا ، ومن جملة التزيين تشريعه على وجه يستحسن الدخول فيه ، ولا يكون هذا مع شرعية المشقات. وإذا كان الإيغال في الأعمال من شأنه في العادة أن يورث الكلل والكراهية والانقطاع ـ الذي هو كالضد لتحبيب الإيمان وتزيينه في القلوب ـ كان مكروها لأنه على خلاف وضع الشريعة ؛ فلم ينبغ أن يدخل فيه على ذلك الوجه.
وأما الثاني : فإن الحقوق المتعلقة بالمكلف على أصناف كثيرة ، وأحكامها تختلف حسبما تعطيه أصول الأدلة ، ومن المعلوم أنه إذا تعارض على المكلف حقان ولم يمكن الجمع بينهما ، فلا بد من تقديم ما هو آكد في مقتضى الدليل ، فلو تعارض على المكلف واجب ومندوب لقدم الواجب على المندوب ، وصار المندوب في ذلك الوقت غير مندوب بل صار واجب الترك عقلا أو شرعا ، من باب ما لا يتم الواجب إلا به.
وإذا صار واجب الترك ، فكيف يصير العامل به إذ ذاك متعبدا لله به؟ بل هو متعبد بما هو مطلوب في أصول الأدلة ، لأن دليل الندب عتيد ، ولكنه مع ذلك بالنسبة إلى ترك المندوب على الجملة ، إلا أنه غير مخلص من جهة ذلك الالتزام المتقدم ، وقد مرّ ما فيه ، وإن عمل بالمندوب عصى بترك الواجب.
وبقي النظر في المندوب : هل وقع موقعه في الندب أم لا؟ فإن قلت : إن ترك المندوب هنا واجب عقلا ؛ فقد ينهض المندوب سببا للثواب مع ما فيه من كونه مانعا من أداء الواجب ، وإن قلت : إنه واجب شرعا ، بعد من انتهاضه سببا للثواب إلا على وجه ما ، وفيه أيضا ما فيه.
فأنت ترى ما في التزام النوافل على كل تقدير فرضا إذا كان مؤديا للحرج وهذا كله إذا كان الالتزام صادّا عن الوفاء بالواجبات مباشرة ، قصدا أو غير قصد ؛ ويدخل فيه ما في حديث سلمان مع أبي الدرداء رضي الله عنهما ، إذ كان التزام قيام الليل مانعا له من أداء حقوق الزوجة ، من الاستمتاع الواجب عليه في الجملة وكذلك التزام صيام النهار.
ومثله لو كان التزام صلاة الضحى أو غيرها من النوافل مخلا بقيامه على مريضه ،