شك أنه مذموم هنا لأنه من التحكم ، ولذلك أتبع في الآية بهوى النفس في قوله : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ) (١) فكأنهم مالوا إلى أمر بمجرد الغرض والهوى ولذلك أثبت ذمه ، بخلاف الظن الذي أثاره دليل ، فإنه غير مذموم في الجملة ، لأنه خارج عن اتباع الهوى ، ولذلك أثبت وعمل بمقتضاه حيث يليق العمل بمثله كالفروع.
والثالث : أن الظن على ضربين : ظن يستند إلى أصل قطعي ، وهذه هي الظنون المعمول بها في الشريعة أينما وقعت لأنها استندت إلى أصل معلوم ، فهي من قبيل المعلوم جنسه ، وظن لا يستند إلى قطعي ، بل إما مستند إلى غير شيء أصلا وهو مذموم ـ كما تقدم ـ وإما مستند إلى ظن مثله ، فذلك الظن إن استند أيضا إلى قطعي ، فكالأول ، أو إلى ظني ، رجعنا إليه ، فلا بد أن يستند إلى قطعي ، وهو محمود ، أو إلى غير شيء ، وهو مذموم ، فعلى كل تقدير : خبر واحد صح سنده ، فلا بد من استناده إلى أصل في الشريعة قطعي فيجب قبوله ، ومن هنا قبلناه مطلقا ، كما أن ظنون الكفار غير مستندة إلى شيء ، فلا بد من ردها وعدم اعتبارها ، وهذا الجواب الأخير مستمد من أصل وقع بسطه في كتاب الموافقات والحمد لله.
ولقد بالغ بعض الضالين في رد الأحاديث ، ورد قول من اعتمد على ما فيها ، حتى عدوا القول به مخالفا للعقل ، والقائل به معدود في المجانين.
فحكى أبو بكر بن العربي عن بعض من لقي بالمشرق من المنكرين للرؤية ، أنه قيل له : هل يكفر من يقول بإثبات الباري أم لا؟ فقال : لا! لأنه قال بما لا يعقل ، ومن قال بما لا يعقل لا يكفر. قال ابن العربي : فهذه منزلتنا عندهم ، فليعتبر الموفق بما يؤدي إليه اتباع الهوى ، أعاذنا الله من ذلك بفضله.
وزلّ بعض المرموقين في زماننا في هذه المسألة ، فزعم أن خبر الواحد كله زعم وهو ما حكى في الأثر : «بئس مطية الرجل زعموا» (٢) والأثر الآخر : «إياكم والظن
__________________
(١) سورة : النجم ، الآية : ٢٣.
(٢) أخرجه أبو داود في كتاب : الأدب ، باب : قول الرجل : زعموا (الحديث : ٤٩٧٢). وأخرجه أحمد في المسند والبخاري في الأدب المفرد.