ان يضربوا لبنات الذّهب ولبنات الفضّة ففعلوا ثمّ أمرهم ان يبسطوا من موضعه الّذى هو فيه الى بضع فراسخ ميدانا واحدا بلبنات الذّهب والفضّة ، وان يجعلوا حول الميدان حائطا شرفها من الذّهب والفضّة ، ففعلوا ، ثمّ قال للجنّ : علىّ بأولادكم فاجتمع خلق كثير فأقامهم على يمين الميدان ويساره ، ثمّ قعد في مجلسه على سريره ووضع له اربعة آلاف كرسىّ عن يمينه ومثلها عن يساره وامر الشّياطين ان يصطفّوا صفوفا فراسخ ، وامر الانس فاصطفّوا فراسخ ، وامر الوحوش والسّباع والهوامّ والطّير ، فاصطفّوا فراسخ عن يمينه ويساره ، فلمّا دنا القوم من الميدان ونظروا الى ملك سليمان تقاصرت إليهم أنفسهم ورموا بما معهم من الهدايا ووقفوا بين يدي سليمان (ع) ونظر إليهم نظرا حسنا ، وكانت بلقيس اوصتهم ان نظر إليكم نظر غضب فانّه سلطان وان نظر نظر لطف فهو نبىّ ، وقال سليمان (ع) : ما وراءكم؟ ـ فأخبره رئيس القوم بما جاؤا به وأعطاه كتاب الملكة ، فنظر فيه وطلب الحقّة ، وأخبرهم بما فيه ، وثقب الدّرّة بالارضة ، وسلك الخيط في الخرزة بدودة بيضاء ، وميّز بين الجواري والغلمان ، وردّ هداياها إليها كما قال تعالى (فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللهُ) وقد رأيتم شطرا منه (خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ) يعنى انّكم بهديّة بعضكم لبعض تفرحون إذا كان من الاعراض الدّنيويّة لا انا لانّ فرحى بهديّة القلب السّليم والايمان الصّحيح (ارْجِعْ إِلَيْهِمْ) ولم يذكر رجوع الهدايا لعدم الاعتداد بها (فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها) وقد رأيتم شيئا منها (وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها) اى من سبا أو من عند بلقيس (أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ) تأكيد للاذلّة فلمّا رجعوا إليها وقصّوا القصّة علمت انّه رسول من الله وعزمت على الخروج الى سليمان (ع) فلمّا علم بعزمها ورأى انّ قلبها متعلّق بعرشها (قالَ) لاشراف جنوده (يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) وقيل : انّ هذا القول كان منه بعد ما وصل بلقيس الى مكان قريب منه فانّه كان مهيبا لا يبتدئ بالكلام عنده حتّى يكون هو الّذى يسأل عنه فخرج يوما فجلس على سريره فرأى غبارا قريبا منه فقال : ما هذا؟ فقالوا بلقيس يا رسول الله وقد نزلت منّا بهذا المكان وكان ما بينه وبين الكوفة على قدر فرسخ فقال : ايّكم يأتيني بعرشها عند ذلك (قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِ) العفريت بكسر العين النّافذ في الأمر المبالغ فيه مع ذكاء وفطنة (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ) اى من مجلسك الّذى تقضى فيه وكان يجلس فيه ، من غدوة الى نصف النّهار (وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌ) فلا يفوتني شيء من اجزائه بل آتيك به بجميع اجزائه من غير ان افصل اجزاءه (أَمِينٌ) لا أخون في شيء منه فقال سليمان (ع) : أريد أسرع من ذلك (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ) يسير (مِنَ الْكِتابِ) القرآنىّ التّكوينىّ الّذى يتنزّل فيصير فرقانا بصورة الكتب السّماويّة أو بصورة الشّرائع الالهيّة والرّجل كان آصف بن برخيا وزير سليمان (ع) وابن أخته ، وقيل : كان رجلا اسمه بلخيا ، وقيل : كان اسمه اسطوم ، وقيل : كان هو الخضر (ع) ، وقيل: كان الّذى عنده علم من الكتاب جبرائيل ، وقيل : كان سليمان (ع) نفسه (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) قد حقّقنا في مطاوى ما أسلفنا خصوصا في اوّل سورة بنى إسرائيل انّ الإنسان ذو جزئين ، جزء ملكىّ وجزء ملكوتىّ فاذا غلب الجزء الملكىّ كما في أغلب النّاس استهلك الجزء الملكوتىّ وحكمه فلم يظهر منه اثر وحكم ، وإذا غلب الجزء الملكوتىّ صار الجزء الملكىّ مستهلكا من غير بقاء اثر وحكم منه ، ولمّا كان الملكوت حكمها عدم التّقيّد بالزّمان والمكان بل الاحاطة بهما والتّجرّد منهما كان جميع الزّمانيّات والازمنة عندها كالآن وجميع المكانيّات والأمكنة كالنّقطة وكان من غلب عليه الملكوت يقدر على تعرّف حال الآتين والماضين ، وعلى سير المشرق والمغرب في آن واحد ، وكان كلّ ما اتّصل به من الأجسام الثّقيلة يصير بحكمه من عدم التّقيّد بزمان ومكان كما انّ عباء محمّد (ص) ونعليه خرجت من حكم الملك بسبب اتّصالها به وسارت بسيره في الملكوت والجبروت