يَعْدِلُونَ) بالله غيره أو يعدلون عن الحقّ (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً) يمكن لكم التّعيّش عليها ويمكن لكم تحصيل معايشكم منها (وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً) هي عمدة أسباب معايشكم (وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ) بسببها يمكن جريان الأنهار وتوليد المياه وبها سكون الأرض ، هذا بحسب التّنزيل وبحسب التّأويل لا يكون لكم خير ولا شرّ ولا قليل ولا كثير الّا بها ولولاها لفنى الكلّ ولم يبق ذرّة من الذّرّات (وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً) مانعا من اختلاط الماء العذب بماء الملح الأجاج وبحسب التّأويل جعل بين عالم الشّرور وعالم النّور حاجزا مانعا من اختلاط عالم الزّور وإفساده لكم ولعالمكم وقد مرّ في سورة الفرقان بيان البحرين وحاجزها (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ليس لهم علم وملحقون بالبهائم أو أكثرهم لا يعلمون الله وصفاته (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ).
معنى المضطرّ
اعلم ، انّ الإنسان من اوّل استقرار مادّته في مقرّها الّذى هو الرّحم جماد بالفعل ، ونبات بالقوّة القريبة ، وحيوان بالقوّة البعيدة ، وإنسان طبيعىّ ملكىّ بالقوّة الّتى هي ابعد ، وإنسان ملكوتىّ وجبروتىّ بالّتى هي ابعد ، ولكنّه في تلك الحال يقتضي بفطرته القرار في الرّحم والاغتذاء بدمها وسائر رطوباتها ويتشبّث بها ويجذب من رطوباتها ، ثمّ يصير نباتا بالفعل ، ثمّ حيوانا مثل حيوانيّة الخراطين حتّى يتولّد فيصير حيوانا بالفعل وإنسانا ملكيّا بالقوّة حتّى إذا بلغ الى مقام التّميز والمراهقة فيصير إنسانا ضعيفا بالفعل وكذلك شيطنته تكون ضعيفة وقوّته الشّهويّة والغضبيّة تكون قويّة بحيث تغلب الانسانيّة والشّيطانيّة ، وبشهوته يطلب المشتهى ويجذبه ، وبغضبه يدفع من يمانعه عنه ويغضب عليه ، وبشيطانيّته الضّعيفة يحتال في تحصيله حيلا ضعيفة ، وبانسانيّته الضّعيفة يخجل من ظهور بعض أفعاله خجلة ضعيفة ، فاذا بلغ الى مقام البلوغ والرّشد واستعدّ لتعلّق التّكليف به صار انسانيّته وشيطانيّته قويّتين كما انّ شهوته وغضبه يصيران قويّين ، وبشهوته القويّة يشتدّ طلبه لمشتهياته ، وبغضبه القوىّ يشتدّ دفعه وغضبه على من يمانعه ، وبشيطنته القويّة يشتدّ حيلته في طلبه ، وبانسانيّته يشتدّ انزجاره وخجلته عمّا ينافي انسانيّته ، فان ساعده التّوفيق ودعاه الدّاعى الالهىّ دعوة ظاهرة أو دعوة باطنة وقبل الدّعوة وبايع البيعة العامّة أو البيعة الخاصّة وصار مسلما أو مؤمنا وعمل بما أخذ عليه في بيعته صار انسانيّته في الاشتداد وسلك الى الله وأدبر عن العالم وأسبابه ، حتّى انّه يقطع النّظر عن الأسباب ويتوجّه بشراشره الى مسبّب الأسباب ، وهذا اضطرار تكليفىّ فانّ الاضطرار هو قطع النّظر عن الوسائل والأسباب والتّوجّه الى مسبّب الأسباب والتّوسّل به واليه أشار الصّادق (ع) بقوله : فالاضطرار عين الدّين ، وقد مضى تفصيل للدّعاء وطريقه في سورة البقرة عند قوله تعالى : (إِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) ، وإذا لم يتمسّك بذيل نبىّ (ع) أو وصىّ نبىّ (ع) ولم يبايع بيعة اسلاميّة أو بيعة ايمانيّة كان قواه البهيميّة والسّبعيّة والشّيطانيّة في الاشتداد وقوّته الانسانيّة في الضّعف في أغلب النّاس وفي أغلب الأوقات حتّى يختفى الانسانيّة تحت القوى الثّلاث ويكون الحكم لتلك القوى والآثار منها فقط لكن هذا الإنسان قد يبتلى حتّى يعجز الشّيطنة عن الاحتيال وييأس الشّهويّة عن المشتهى والآمال ويحسر الغضبيّة عن الدّفع والبسط فانّ المدركة تدرك المشتهى والشّيطنة باستعمال المتخيّلة وإظهار الواهمة والخيال الصّور والمعاني عليها تتصرّف وتحتال للوصول اليه وتحرّك العمّالة لطلبه ، وإذا وجدت مانعا ودافعا لها عن الوصول حرّكت الغضبيّة لدفعه فان تيأس عن الوصول سكنت المتخيّلة عن الحركة والتّصرّف ، والواهمة والخيال عن إظهار المعاني والصّور ، والعمّالة عن الطّلب ، والشّهوة والغضب عن الاشتهاء والدّفع ، وحينئذ يظهر الانسانيّة من غير حاجب ومعاوق ولمّا كان فطرتها التّضرّع والالتجاء الى الله والسّؤال منه تضرّعت بفطرتها والتجأت وسألت ، وهذا هو الاضطرار التّكوينىّ الفطرىّ وكلا الاضطرارين لمّا كان مظهرا لانسانيّة الإنسان وكان اللّطيفة السّيّارة الانسانيّة لطيفة الهيّة كان لسانها لسان الله وسؤالها سؤال الله وسؤال الله من نفسه لا يردّ بل يجاب ، والى هذا الاضطرار