مستأنف وجواب لسؤال مقدّر (فَأَلْقِهْ) قرئ بسكون الهاء تشبيها لهاء الضّمير بالواو والياء الضّميرين ، أو تشبيها لها بهاء السّكت أو اجراء للوقف مجرى الوصل (إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ) بإخفاء حالك عنهم حتّى تتمكّن من استماع قولهم (فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ) يتكلّمون بعضهم لبعض ، وقيل : الكلمتان على التّقديم والتّأخير والأصل فانظر ماذا يرجعون ثمّ تولّ عنهم للذّهاب إلينا وإيصال خبرهم ، قيل : قال الهدهد انّها في حصن منيع قال سليمان (ع) : ألق كتابي على قبّتها ، فجاء الهدهد فألقى الكتاب في حجرها فارتاعت من ذلك وجمعت جنودها ، وقيل : أتاها الهدهد وهي مستلقية على قفاها فألقى الكتاب على نحرها ، وقيل : كانت له كوّة مستقبلة للشّمس تقع الشّمس عند ما تطلع فيها فاذا نظرت إليها سجدت ، فجاء الهدهد الى الكوّة فسدّها بجناحيه فارتفعت الشّمس ولم تعلم فقامت تنظر فرمى الكتاب إليها ، فلمّا قرأت الكتاب جمعت الاشراف وهم يؤمئذ ثلاثمائة واثنا عشر قيلا (١) (قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ) سمّاه كريما لختمه ، أو لجودة مضمونه ، أو لتصدّره ببسم الله ، أو لغرابته من حيث انّه القى اليه مع انّه لم يكن لأحد في حصنه مدخل ومخرج ، أو لجلالة مرسلة (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) اى منقادين أو مقدّرين للإسلام الّذى هو دين الهىّ (قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ) قالت ذلك لانّهم كانوا وزراءها وأصحاب شورها وبمنزلة أعضاء دولتها (قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ) نقدر على القتال مع السّلاطين من حيث قوّة الأبدان ومن حيث العدد وتهيّة الأسباب (وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ) يعنى بأسنا في القتال شديد لانّا شجعان وتدرّ بنا القتال ولنا الحذاقة والمهارة في امر القتال (وَ) لكن (الْأَمْرُ) اى امر الصّلح والقتال (إِلَيْكِ) ونحن مطيعون لك (فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ قالَتْ) بطريق الشّورى (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً) يعنى انّهم ان غلبونا أفسدوا بلادنا وأذلّوا اعزّتنا (وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ) تأكيد للتّفصيل السّابق أو معترضة من الله لتصديقها وكأنّه تأثّر قلبها من الكتاب ولان للصّلح وأراد ان يستميل قومها للصّلح بطريق الشّور لا بطريق الأمر (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) لانّها كانت تعلم عادة الملوك وانّهم يرضون بالهدايا ، فقالت : نرسل اليه بهديّة فان قبلها فهو سلطان يريد الملك ويجوز المقاتلة معه ، وان ردّها واصرّ على طلب ما أظهر من الدّين فهو رسول الهىّ وليس لنا ان نقاتل معه ، واختلف في هديّتها فقيل : كانت وصفاء ووصائف ألبستهم لباسا واحدا حتّى لا يعرف ذكر من أنثى ، وقيل : ألبست الغلمان لباس الجواري والجواري لباس الغلمان ، وقيل : كانت صفائح من ذهب في أوعية من الدّيباج ، وقيل : كانت خمسمائة غلام جعلتهم في لباس الجواري وحليّهنّ ، وخمسمائة جارية جعلتهنّ في لباس الغلمان وحليّهم ، وحملت الجواري على خمسمائة رمكة والغلمان على خمسمائة برزون ، على كلّ فرس لجام من ذهب مرصّع بالجواهر ، وبعثت اليه خمسمائة لبنة من ذهب وخمسمائة من فضّة ، وتاجا مكلّلا بالدّرّ والياقوت ، وعمدت الى حقّة فجعلت فيها درّة يتيمة غير مثقوبة وخرزة جزعيّة مثقوبة معوجّة الثّقب ودعت رجلا من أشراف قومها اسمه المنذر بن عمر وضمّت اليه رجالا من قومها أصحاب رأى وعقل وكتبت اليه كتابا بنسخة الهديّة وقالت فيها : ان كنت نبيّا فميّز بين الوصفاء والوصائف ، وأخبر بما في الحقّة قبل ان تفتحها ، واثقب الدّرّة ثقبا مستويا ، وادخل الخرزة خيطا من غير علاج انس ولا جنّ فانطلق الرّسول بالهدايا ، واقبل الهدهد مسرعا الى سليمان (ع) فأخبره الخبر فأمر سليمان (ع) الجنّ
__________________
(١) القيل بفتح القاف مخفّف قيّل كسيّد النّافذ القول.