بل جميع مصالح معاده ومعاشه منوطة بتعاقبهما إذا عمّم اللّيل والنّهار لجميع معانيهما التّنزيليّة والتّأويليّة ، لكنّهما نعمتان عظيمتان لمن أراد الآخرة مبتديا كان ومقلّدا وهو الّذى أراد ان يذّكّر أو محقّقا ومنتهيا وهو الّذى أراد الشّكور فانّ الشّكور عبارة عن رؤية الانعام في النّعمة والمنعم في الانعام ويلزمها صرف النّعمة لما خلقت له وليس الّا في مقام التّحقيق والخروج عن التّقليد وهذا بمنزلة قوله تعالى : (لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) اشارة الى مقام التّحقيق أو القى السّمع وهو شهيد اشارة الى مقام التّقليد (وَعِبادُ الرَّحْمنِ) جملة مع ما بعدها معطوفة على قوله (هُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) أو (هُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً) أو على قوله يعبدون أو قوله (كانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً) أو على قوله (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما) الرحمن أو على (تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً) أو على (هُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) صفة لعباد الرّحمن وخبره قوله أولئك يجزون الغرفة أو خبر له أراد تعالى ان يبيّن علائم مقام العبديّة حتّى لا يغترّ السّالكون الى الله بما يلوح من التّجلّيات الغيبيّة ولا يظنّوا انّهم وصلوا ، ومن الانانيّة وأسر النّفس خرجوا ، ومقام العبديّة والحضور حصّلوا ، فانّ مقام العبديّة لا يحصل للسّالك الّا إذا خرج من انانيّته ولم ير فعلا وصفة الّا من الله تعالى ، وادنى مراتب هذا المقام بحسب الظّهور في المظاهر ان ينزّل السّكينة الالهيّة على السّالك ويشاهدها لا بنحو شهود المباين المباين ولا بنحو شهود المحلّ للحالّ المنبئ عن الحلول ولا بنحو شهود المتّحد للمتّحد المنبئ عن الاتّحاد ، فانّ شيئا منها ليس من مقام العبديّة بل مقام العبديّة ان يصير السّكينة مالكة ومحيطة بحيث لا يبقى للعبد فعل وصفة وذات وارادة وشعور ، لكن مقام الحلول والاتّحاد أنموذج عن مقام العبديّة ومخبر عنه وفي هذا المقام يكون العبد مثل من وقع على رأسه طير عزيز بل اعزّ من ذاته لا يريد ان يطير عنه بل يرى فناء ذاته في طيرانه فانّه يبالغ ويجتهد في ان لا يطير عن رأسه فيجتهد في خفض صوته وسكون أعضائه فلا يحرّك يده ولا رجله ولا سائر أعضائه إذا اضطرّ الى تحريكها الا بتأنّ ورفق ، وان أراد غيره ان يرفع صوته أو يتحرّك أعضاؤه يلتمس عنده ويسأله ان لا يرفع ولا يحرّك أعضاءه عنده فلا يمشى صاحبوا السّكينة الّا كما يمشى صاحب الطّير (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ) يعنى بجهلهم لا يعارضونهم بمثل جهلهم فانّ الجاهل لا يخاطب من حيث الجهل الّا بما ليس فيه رضى الله و (قالُوا) لينا بهم (سَلاماً) لئلّا يظهر منهم ما ينافي حضورهم وما يكرهه الحاضر عليهم (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً) يعنى انّ لذّة خضوعهم وتذلّلهم ومناجاتهم تغلب على لذّة النّوم والرّاحة فلا ينامون الّا قدر ما لا بدّ منه ويتذلّلون لربّهم بالسّجود والقيام ويناجونه (وَالَّذِينَ) يرون الدّنيا ومشاغلها مانعة من حضورهم وعذابا لأنفسهم ويرون انّ الدّنيا الشّاغلة ليست الّا من جانب جهنّم فيستعيذون بربّهم و (يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً) الغرام الولوع والشّرّ الدّائم والهلاك والعذاب (إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا) يعنى انّ عباد الرّحمن علامتهم التّوجّه الى الكثرات والعدالة بينها بان ينظروا الى ما لهم من الأموال الدّنيويّة العرضيّة والقوى والحشمة والأعضاء والمدارك وينفقوا ما حقّه ان ينفق منها ويمسكوا ما حقّه ان يمسك ، ويعطوا من حقّه ان يعطى ، ويمنعوا من حقّه ان يمنع ، فانّ التّقييد بعدم الإسراف والإقتار يفيد هذا المعنى لانّ الإعطاء لغير المستحقّ إسراف وان كان من فضول المال ومنع المستحقّ إقتار وان كان من أصل المال ، ومن هذه العلامة يستفاد وجه اضافة العباد الى الرّحمن دون سائر الأسماء فانّه تعالى برحمته الرّحمانيّة يعطى كلّا بقدر استعداده (وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً)