سمعه أوّلا إن كانت الاستفادة من طريق التلفّظ أو بحاسّة البصر إن كانت بطريق الكتابة أو ما يقوم مقامها من حركات الأعضاء وغيرها. ثم انتقل إلى مرتبة التصوّر الذهني الخيالي. ثم انتقل إلى التصوّر النفساني ، فجرّدته النفس عن شوائب أحكام القوى ، وملابس الموادّ ، فلحق بمعدنه الذي هو الحضرة العلميّة بهذا الرجوع المذكور. بل عين ارتفاع أحكام القوى والموادّ عنه ، وتجرّده منها هو عين رجوعه إلى معدنه ، فإنّه فيه ما برح ، وإنّما الأحكام اللاحقة به قضت عليه بقبول النعوت المضافة إليه من المرور والتنزّل وغيرهما. فإذا لحق بالمعدن (١) بالتفسير المذكور أدركه المستفيد من الكتابة أو الخطاب ونحوهما من أدوات التوصيل الظاهرة في مستقرّ بحكم عينه الثابتة المجاورة لذلك الأمر في حضرة العلم ، كما سبق التنبيه عليه ، إلّا أنّ ذلك الأمر يكتسب بالتعيّن الإرادي حال التنزّل والمرور على المراتب هيئات معنويّة وصفات انصبغ بها ، فيصير لذلك الأمر تميّز وتعيّن لم يكن له من قبل ، وذلك بالآثار الحاصلة ممّا مرّ عليه ، وتنزّل إليه [و] بذلك الحكم التمييزي تأتّى للنفس ضبطه وإدراكه وتذكّره في ثاني حال ، وتعذّر ذلك من قبل ، لعدم تعيّنه ، مع ثبوت المجاورة المذكورة في الحضرة العلمية ، وذلك للقرب المفرط وحجاب الوحدة ؛ إذ الغيب الإلهي الذي هو المعدن قد عرّفناك أنّه لا يتعدّد فيه شيء ولا يتعيّن لنفسه ، والقرب المفرط والوحدة حجابان ؛ لعدم التعيّن والتميّز وكذلك البعد المفرط والكثرة غير المنضبطة.
ولهذه الأمور طرفان : الإفراط ، والتفريط ، كما ذكر في النور المحض والظلمة المحضة وحال البصر والبصيرة في المدركات العاليّة جدّا الشديدة الظهور وفي الحقيرة. فافهم ما أدرجت لك في هذا الفصل تعرف سرّ الإيجاد والتقييد (٢) والإطلاق والإفادة والاستفادة ، وغير ذلك من الأسرار الباهرة التي يتعذّر التنبيه عليها تماما ، فضلا عن الإفصاح عنها.
ثم اعلم ، أنّ الفائدة ممّا ذكرنا إنّما تتحصّل (٣) بالقرب المتوسّط ، والسرّ الجامع بين الأطراف ، وحينئذ يصحّ الإدراك والوجود وغيرهما ، فالأطراف كالأحديّة (والكثرة) ، والبعد المفرط والقرب المفرط ، والنور المحض والظلمة المحضة ، وغير ذلك ممّا أومأت
__________________
(١) ق : بالمنزل.
(٢) ق : التقيد.
(٣) ق : تحصل.