كذلك ، فلهذا (١) وغيره قلنا : إنّ كلّ فرع متوجّه إلى أصله وعابد (٢) له ، ولهذا الموجب وسواه سرت أحكام العبوديّة والربوبيّة في كلّ شيء بحسب ما يليق به ، فظهر سرّ المعيّة الإلهيّة الذاتيّة في كلّ شيء بالإحاطة الوجوديّة والعلميّة والحكميّة ، فكلّ حاكم فبصفة الربوبيّة ، وكلّ مجيب وتابع فبالصفة الأخرى ، وقد عرّفتك مراتب ظهور هذه الأمور في الأشياء كيف تكون (٣) ، ومتى تصحّ ، ومتى تمتنع ، وفي الشيء الواحد أيضا بحسب شؤونه المختلفة والمحالّ والمراتب والمحالي المتباينة والمؤتلفة ، فتذكّر واكتف ، والله الهادي.
فاتحة القسم الثالث من أقسام أمّ الكتاب
بموجب التقسيم الإلهي ، والتصرف النبوي ، وهو آخر أقسامها والخصيص بالعبد ، كما كان الأوّل خصيصا بالحقّ ، والمتوسّط مشتركا بين الطرفين.
قوله تعالى : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) :
اعلم ، أنّ هذه الآية تشتمل على أمور تتعلّق بظاهرها ، وأمور تختصّ بما بعد الظاهر وفوقه ، ونحن نبدأ بالظاهر ، ثم نشرع فيما بعد. فنقول :
هذه الآية منتظمة من ثلاث كلمات : لفظة «اهدنا» ولفظة «الصراط» و [لفظة] «المستقيم» ، ولكلّ واحدة من هذه الثلاث ثلاث مراتب ظاهرة ، وثلاث مراتب باطنة ، سننبّه عليها كلّها ـ إن شاء الله تعالى ـ فتذكّر تثليث الفاتحة ، وافحص عن سرّه ، فإن أشهدته شاهدت العجب :
و «اهدنا» ، أمر في صورة دعاء وسؤال ، وهو مأخوذ من الهداية وهي : البيان ، وأصل هذه اللفظة بالياء (٤) وانحذفت للأمر. وورودها بصيغة الجمع هو إرداف لما سلف في قوله : (نَعْبُدُ) و (نَسْتَعِينُ) فكان (٥) كلّ من العباد يترجم عن الجميع بلسان النسب الجامع
__________________
(١) هذا جواب «لمّا» في أوّل البحث. ق : لهذا.
(٢) ق : عائد.
(٣) ه : يكون.
(٤) أي : اهدي.
(٥) ق : وكأنّ.