ولمّا صحّ أنّ الحقّ وسع كلّ شيء رحمة وعلما ، والرحمة ـ كما قدّمنا ـ هي الوجود الشامل ؛ فإنّ ما عداه لا شمول فيه ولا عموم ، ظهرت إحاطة الاسم «الرّحمن» بالأشياء. ولمّا كان لكلّ شيء خصوصيّة يمتاز بها ، وحصّة متعيّنة (١) من الوجود المطلق لا يشارك فيها ، علم عموم حكم اسم «الرّحيم» أيضا على كلّ شيء بالخصوص ، فصحّ أنّ الحقّ محيط بالأشياء كلّها علما ووجودا من حيث ذاته ، ومن حيث أسمائه الكلّيّة المذكورة في هاتين الآيتين.
ثم نقول : وكلّ ما ظهر وشوهد فمن بطون متقدّم على الظهور تقدّم الغيب على الشهادة ، سواء (٢) كان التقدّم والأوّليّة ـ في جميع ما مرّ ذكره في هذا الباب ـ عند القائل (٣) به بالوجود ، أو بالمرتبة ، أو بهما معا.
فالاسم «الظاهر» وسائر ما ظهر به من الصور كانت غيبا في غيب الحقّ ، وكانت مستهلكة تحت قهر الوحدانيّة التي هي أقرب النعوت نسبة إلى الغيب الإلهي المذكور ، فمنعها حجاب الوحدانيّة والاستهلاك بالقرب المفرط من إدراكها ذاتها وربّها.
ثم أظهرها الحقّ بنور تجلّيه لما ميّزها حسب ما علمها ، فاستنارت بنوره ، وظهرت بظهوره ، فصارت مشهودة موجودة بعد أن كانت باطنة مفقودة ، وسمّيت المرتبة الجامعة لها من حيث نسبة ظهورها شهادة ، كما سمّيت المرتبة الباطنة المتقدّمة عليها الحاوية لكلّ ما ظهر غيبا.
والغيب غيبان : إضافي ، وحقيقي ، فالإضافي : ما يرد تفصيل حكمه. والحقيقي هو حضرة ذات الحقّ وهويّته.
سرّ الوحدة والكثرة
ومن المتّفق عليه أنّ حقيقته لا يحيط بها علم أحد سواه ؛ لأنّه لا يتعيّن عليه حكم مخصوص ، ولا يتقيّد بوصف ، ولا يتميّز ، ولا يتعيّن ، ولا يتناهى ، وما لا يتميّز بوجه لا يمكن
__________________
(١) ق : معيّنة.
(٢) في الأصل : وسواء.
(٣) ق : القابل.