وصل
اعلم ، أنّه لمّا يسّر الله تكميل هذا الكتاب ـ المودع فيه من جوامع الحكم ولطائف الكلم ما لا يستخلص المقصود منه إلّا من انتظم في سلك أكابر المحقّقين ، فضلا عن الاطّلاع على معدنه ومنبعه ومكتنزه ومشرعه ـ ، تعيّن للعبد أن يشكر ربّه بلسان عبوديّته (١).
وأعلى مراتب الشكر معرفة حقيقته وكون الحقّ هو المولى المنعم لا سواه ، فأنا أنبّه على سرّ الشكر وموجباته بتنبيه عامّ الحكم في جميع الصفات ؛ مشيرا إلى الذوق الكمالي ، ثم أضرع إلى ربّي بما أظهر بي وعلّم وأوضح وفهّم. فنقول (٢) :
الشكر : هو من نعوت الحقّ سبحانه ؛ فإنّه الشكور ، ويتعيّن به ـ أي بالشكر ـ التعريف والثناء المقيّد ، وله موجبان : أحدهما : النعمة الواصلة من عين المنّة ابتداء ، ومن حيث ملاحظة سرّ (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) (٣) والآخر الإحسان الوارد في مقابلة الصبر الظاهر والواصل لامتحان العبد ، واستخلاص زبد نشأته بمخضات (٤) الشؤون التي تقلّب فيها. وهذا الإحسان هو ثمرة شكر الحقّ عبده يثمر في العبد شكرا آخر يستوجب به العبد (٥) المزيد ، فلا يزال الأمر دائرا أبدا بين المرتبة الإلهيّة والعبديّة ، حتى تكمل حقيقة الشكر بظهور أحكامها كلّها في مقام العبد بهذا التردّد ، والمخض (٦) الواقع على النحو المذكور ، فيظهر حال الكمال العبدي والوصفي بصورة الكمال الإلهي.
__________________
(١) ه : عبودية.
(٢) ق : فأقول.
(٣) نحل (١٦) الآية ٥٣.
(٤) ق : لمحضات ، ه : بمحصات. والظاهر : بممخضات.
(٥) ق : العبد به.
(٦) ق : المحض ، ه : المحص.