تنزّل إلى الأفهام وتأنيس وإيضاح مبهم بتمثيل نفيس
ربما استنكرت أيّها المتأمّل ما أشرت إليه آنفا في سرّ الحيرة ؛ لأنّ فهمك ينبو عن درك سرّه ، وأنت المعذور لا أنا حيث أذكر لك مثل هذا وأتوقّع منك ومن الناس فهمه واستخلاص المقصود من مشتبهه ، وعلمه.
اللهمّ إلّا من حيث إنّي محلّ لتصرّف ربّي ومرآة له ، فهو يظهر بي ويظهر ما يشاء من شأنه ، ويوضح ما اختاره (١) من برهانه ، فإنّي أيضا مقهور (٢) ، لا مختار ولا مجبور ، وها أنا أتنزّل من ذلك المرقى الجليل إليك وإلى غيرك بالتمثيل ، للتفهيم وهدى السبيل ، فارعني سمعك ، وأرصد لي لبّك وفهمك ، والله المرشد.
اعلم ، أنّه سواء كان المتأمّل لهذا (٣) الكلام من المرجّحين لمذهب المتكلّمين ، أو النظّار المتفلسفين ، فإنّه لا يشكّ أنّ ما يدركه من عالم الأجسام الذي هو فيه مركّب من جوهر وعرض ، أو هيولى وصورة ، فالجوهر لا يظهر إلّا بالعرض ، والعرض لا يكون إلّا بالجوهر ، كما أنّ الهيولى لا يوجد إلّا بالصورة ، والصورة لا تظهر إلّا بالهيولى ، ومعقوليّة الجسم المتعيّن في البين عبارة عن معنى ما يمكن أن يفرض فيه أبعاد ثلاثة : الطول ، والعرض ، والعمق.
ثم إنّ الهيولى المجرّد عند أهل النظر لا يقبل القسمة عقلا ، وكذلك الصورة ، مع أنّه بحلول الصورة في الهيولى صارتا جسما ، وقبلتا القسمة ، فانقسم ما كان لذاته غير قابل للقسمة ، مع أنّه لم يحدث إلّا الاجتماع ، وهو نسبة كسائر النسب ، فافهم.
__________________
(١) ق : ما اختار.
(٢) ق : معذور.
(٣) ه : بهذا.