ولو لا أنّ همم الخلق وعقولهم تضعف وتعجز عن الترقّي (١) إلى ذروة هذا الذوق ، وخرق حجبه والتنزّه في رياض نتائجه وكمالاته ، وطباعهم تمجّه ؛ لبعد المناسبة ، لأظهرت ـ مع عجزي وضعفي ـ من أسراره ما يبهر العقول والأذهان والبصائر والأفكار ولكن (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٢) وقد حصل ـ بحمد الله ـ بهذا القدر تنبيه لكلّ نبيه ، وموافقة لشيخنا الإمام الأكمل رضي الله عنه ، حيث قرن الكلام على سرّ البداية بالكلام على سرّ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) واستفتحه بهذا اللسان ، ثم بيّن بعد ذلك ما قدّر الله له بيانه.
ولعمر الله لم أقصد ذلك ، بل وقع هذا الكلام والموافقة والترتيب دون تعمّل ، وإنّما تنبّهت له فيما بعد ، فشكرت الله سبحانه على ذلك.
وسببه أنّي ما تصدّيت لنقل كلام أحد في هذا الكتاب ، لا الشيخ رضي الله عنه ولا غيره إلّا كلمات يسيرة أخطرها الحقّ بالبال دون قصد وتعمّل في جملة ما ورد من نفحات جوده ، وقد كان يقع ذلك لشيخنا رضي الله عنه ، ويقع لكثير من أهل الأذواق ، فيظنّ من لا يعرف أنّ ذلك نقل عن قصد وتعمّل بمطالعة واستكشاف وجمع وليس كذلك. وفي الأذواق النبويّة من ذلك كثير ، ولهذه الشبهة قالوا (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (٣) ، فافهم ، والله وليّ الفضل والإحسان والإرشاد.
وإذ قد ذكرنا في شرح كلمة «بسم» والاسم «الله» وحروفهما ما قدّر الحقّ ذكره ، مع تنبيهات جملية تتعلّق بالاسمين : «الرّحمن» «الرّحيم» فلنذكر في تفسيرهما من حيث ما يخصّهما ما يمليه الحقّ على القلب ، ويجري به القلم. فنقول :
الرّحمن الرّحيم
فلمّا انضاف إلى المراتب المتقدّمة ـ أعني التربيع التابع للتثليث ـ الأسرار الخمسة ، التي تضمّنها ظاهر الاسم «الله» تمّت الاثنا عشريّة المستوفية لمراتب الأسماء الكلّيّة ، والتالية
__________________
(١) ق : الرقي.
(٢) فاطر (٣٥) الآية ٢٠.
(٣) الفرقان (٢٥) الآية ٥.