قال شهاب الدين (١) ـ رحمهالله تعالى ـ هذا القول المنسوب للزمخشري ، ومن ذكر معه سبقهم إليه الفرّاء (٢) وأبو إسحاق (٣) ، فإنهما أجازا أن يكونا مفعولين قدم ثانيهما على الأوّل ، وأجازا أن يكون «الجنّ» بدلا من «الشركاء» ومفسرا للشركاء هذا نصّ عبارتهم ، وهو معنى صحيح أعني كون البدل مفسرا ، فلا معنى لرد هذا القول ، وأيضا فقد ردّ على الزمخشري (٤) عند قوله تعالى : (إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا) [المائدة : ١١٧] فإنه لا يلزم في كل بدل أن يحل محل المبدل منه ، قال : «ألا ترى إلى تجويز النحويين «زيد مررت به أبي عبد الله» ولو قلت : «زيد مررت بأبي عبد الله» لم يجز إلّا على رأي الأخفش» ، وقد سبق هذا في «المائدة» فقد قرّر هو أنه لا يلزم حلول البدل محلّ المبدل منه ، فكيف يردّ به هنا؟
الثالث : أن يكون «شركاء» هو المفعول الأوّل ، و «الجن» هو المفعول الثاني قاله الحوفي ، وهذا لا يصحّ لما عرفت أنّ الأوّل في هذا الباب مبتدأ في الأصل ، والثاني خبر في الأصل ، وتقرّر أنه إذا اجتمع معرفة ونكرة جعلت المعرفة مبتدأ ، والنكرة خبرا من غير عكس ، إلا في ضرورة تقدّم التّنبيه على الوارد منها.
الرابع : أن يكون (شُرَكاءَ الْجِنَّ) مفعولين على ما تقدّم بيانه ، و «لله» متعلق بمحذوف على أنه حال من «شركاء» ؛ لأنه لو تأخّر عنها لجاز أن يكون صفة لها قاله أبو البقاء (٥) ، وهذا لا يصحّ ؛ لأنه يصير المعنى : جعلوهم شركاء في حال كونهم لله ، أي : مملوكين ، وهذه حال لازمة لا تنفكّ ، ولا يجوز أن يقال : إنها غير منتقلة ؛ لأنها مؤكدة ؛ إذ لا تأكيد فيها هنا ، وأيضا فإن فيه تهيئة العامل في معمول وقطعه عنه ، فإن «شركاء» يطلب هذا الجارّ ليعمل فيه ، والمعنى منصبّ على ذلك.
الخامس : أن يكون «الجنّ» منصوبا بفعل مضمر جواب لسؤال مقدر ، كأن سائلا سأل ، فقال بعد قوله تعالى (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ) : من جعلوا لله شركاء؟ فقيل : الجنّ ، أي : جعلوا الجن.
نقله أبو (٦) حيّان عن شيخه أبي جعفر بن الزبير ، وجعله أحسن مما تقدم ؛ قال : «ويؤيد ذلك قراءة أبي حيوة (٧) ، ويزيد بن قطيب «الجنّ» رفعا على تقدير : هم الجنّ جوابا لمن قال : جعلوا لله شركاء؟ فقيل : هم الجنّ ، ويكون ذلك على سبيل الاستعظام لما فعلوه ، والاستنقاص بمن جعلوه شريكا لله تعالى».
__________________
(١) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٤٤ ـ ١٤٥.
(٢) ينظر : معاني القرآن ١ / ٣٤٨.
(٣) ينظر : معاني القرآن ٢ / ٣٠٥.
(٤) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٢.
(٥) ينظر : الإملاء ١ / ٢٥٥.
(٦) ينظر : البحر المحيط ٤ / ١٩٦.
(٧) ينظر : البحر المحيط ٤ / ١٩٦ ، الدر المصون ٣ / ١٤٥ ، والمحرر الوجيز ٢ / ٣٢٩.