الثاني : أن المراد بالكل هنا البعض ، كما في قوله تعالى : (ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً) [البقرة : ٢٦٠] وقوله تعالى : (وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ) [يونس : ٢٢] وقوله تعالى : (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) [النمل : ٢٣] وقوله تعالى : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) [الإسراء : ١٣] وقول لبيد الشاعر :
ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل |
|
وكلّ نعيم لا محالة زائل |
وكثير من الأشياء غير الله تعالى حقّ ، كالنبي عليه الصلاة والسلام والإيمان والجنة وغير ذلك ، وكذلك نعيم الجنة والآخرة ليس بزائل ، ولبيد صادق في هذا البيت لقوله صلىاللهعليهوسلم : «أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد» :
ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل
إلى آخره.
[٤٧٣] فإن قيل : ما فائدة تخصيص هذه السورة بقوله تعالى : (وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُ) [هود : ١٢٠] مع أنّ الحق جاء في كل سور القرآن؟
قلنا : قالوا فائدة تخصيص هذه السورة بذلك زيادة تشريفها وتفصيلها مع مشاركة غيرها إياها في ذلك كما في قوله تعالى : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ) [الجن : ١٨] وقوله تعالى : (وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) [البقرة : ٩٨] بعد قوله : (وَمَلائِكَتِهِ) [البقرة : ٩٨] وقوله تعالى : (وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) [البقرة : ٢٣٨] بعد قوله : (الصَّلَواتِ) [البقرة : ٢٣٨] ووجه المشابهة بينهما أنه حمل قوله تعالى : (وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) [البقرة : ٩٨] على التشريف والتفضيل عند تعذر حمله على تعليق العداوة به لئلّا يلزم تحصيل الحاصل ، وكذا في المثال الأخير تعذر حمله على إيجاب المحافظة لما قلنا ، وهنا تعذر حمله على حقيقته وهو الجنس بأن حقيقته انحصار كل حقّ في هذه السورة وهو منتف ، أو حمل الحق على معهود سابق وهو منتف ، وحمله على بعض الحق يلزم منه وصف هذه السورة بوصف مشترك بينها وبين كل السور ، وأنه لا يحسن كما لو قال : وجاءك في هذه الحق آيات الله أو كلام الله أو كلام معجز ، فجعل مجازا عن التفضيل والتشريف.
وقيل : الإشارة بهذه إلى الدنيا لا إلى السورة ، والجمهور على القول الأول.
ولا يقال إنما خصت هذه السورة بذلك ؛ لأن فيها الأمر بالاستقامة بقوله تعالى : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [هود : ١١٢] والاستقامة من أعلى المقامات عند العارفين ، لأنا نقول الأمر بالاستقامة جاء أيضا في سورة حمعسق قال الله تعالى (وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) [الشورى : ١٥] ولا يصلح هذا علة للتخصيص ، والله أعلم.