وقاية الأذهان

الشيخ أبي المجد محمّد رضا النجفي الإصفهاني

وقاية الأذهان

المؤلف:

الشيخ أبي المجد محمّد رضا النجفي الإصفهاني


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٩

ولكن قوله : « وكأنّ المستدلّ توهّم أنّ مجرّد نصب الطريق ولو مع عروض الاشتباه فيه موجب لصرف التكليف عن الواقع إلى العمل بمؤدّى الطريق » يوهم الترديد في مراد الفصول ، مع أنّ ذلك صريحه في عدّة مواضع ، بل هو الأصل الّذي بنى دليله عليه ، وهو الحق الّذي لا معدل عنه لكن على وجه يسلم من هذه الاعتراضات المتوجّه إليه من الشيخ وغيره ، ونؤخّر بيانه إلى أن يفي الشيخ بوعده ، أعني مزيد التوضيح لاندفاع هذا التوهّم ، ونزيده توضيحا عند شرح كلام أخيه الجدّ ، ونكتفي هنا بقولنا : إنّ هذا الّذي سمّاه توهّما قد جزم به في رسالة البراءة ، وتخلّص به عن الدليل العقلي المستدلّ به على وجوب الاحتياط في الشبهة التحريمية ، ودونك كلامه بنصه :

« والجواب أولا : منع تعلّق تكليف غير القادر على تحصيل العلم ، إلاّ بما أدّى إليه الطرق غير العلمية المنصوبة له ـ وقد سمعت منه منع نصب الطريق (١) ـ فهو مكلّف بالواقع بحسب تأدية هذه الطرق لا بالواقع من حيث هو ، ولا مؤدّى هذه الطرق من حيث هو حتى يلزم التصويب أو ما يشبهه ، لأنّ ما ذكرناه هو المتحصّل من ثبوت الأحكام الواقعية للعالم وغيره ، وثبوت التكليف بالعمل بالطرق » (٢) انتهى.

وهذا مذهب صاحب الفصول بعينه ، وقد أحسن في بيانه ، وتشييد أركانه ، وقد برّأه عن هجنة (٣) التصويب وما يشبهه ، وجعله المتحصّل من ثبوت الأحكام الواقعية والعمل بالطرق العلمية ، واحتمل هنا نظيره في مسألة عمل القاضي بالظن في الطريق ، كما ستعرفه.

__________________

(١) ما بين الشرطتين من المصنف.

(٢) فرائد الأصول : ٢١٣.

(٣) الهجنة ـ بضم الهاء ـ في الكلام : العيب والقبح. القاموس المحيط ٤ : ٢٧٩ ، المصباح المنير : ٦٣٥ ( هجن ).

٥٤١

وظاهر أنّ جميع ما يورد على صرف التكليف عن الواقع إلى مؤدّيات الطرق من التصويب وشبهه يرد عليه بعينه.

عاد كلامه : « فإن قلت : نحن نرى أنه إذا عيّن الشارع طريقا للواقع عند انسداد باب العلم به ، ثم انسدّ باب العلم بذلك الطريق ، كان البناء على العمل بالظن في الطريق دون نفس الواقع ، ألا ترى أنّ المقلّد يعمل بالظن في تعيين المجتهد ، لا في نفس الحكم الواقعي ، والقاضي يعمل بالظن في تحصيل الطرق المنصوبة لقطع المرافعات ، لا في تحصيل الحق الواقعي بين المتخاصمين.

قلت : فرق بين ما نحن فيه وبين المثالين ، فإنّ الظنون الحاصلة للمقلّد والقاضي في المثالين بالنسبة إلى الواقع أمور غير مضبوطة ، كثير المخالفة للواقع ، مع قيام الإجماع على عدم جواز العمل بها كالقياس ، بخلاف ظنونهما المعمولة في تعيين الطريق ، فإنّها حاصلة من أمارات منضبطة ، غالب المطابقة ، لم يدلّ دليل بالخصوص على عدم جواز العمل به.

فالمثال المطابق لما نحن فيه ، أن يكون الظنون المعمولة في تعيين الطريق بعينها هي المعمولة في تحصيل الواقع لا يوجد بينهما فرق من جهة العلم الإجمالي بكثرة مخالفة إحداهما للواقع ، ولا من جهة منع الشارع عن إحداهما بالخصوص ، كما أنّا لو فرضنا أنّ الظنون المعمولة في نصب الطريق على العكس في المثالين كان المتعيّن العمل بالظن في نفس الواقع دون الطريق.

فما ذكرنا من العمل على الظن ـ سواء تعلّق بالطريق أم بنفس الواقع ـ فإنّما هو مع مساواتهما من جميع الجهات ، فإنّا لو فرضنا أنّ المقلّد يقدر على إعمال نظير الظنون التي يعملها لتعيين المجتهد في الأحكام الشرعية مع قدرة الفحص عمّا يعارضها على الوجه المعتبر في العمل بالظن لم يجب عليه العمل بالظن في تعيين المجتهد ، بل وجب عليه العمل بظنّه في تعيين الحكم الواقعي.

وكذا القاضي إذا شهد عنده عادل واحد بالحق لا يعمل به ، وإذا أخبره

٥٤٢

هذا العادل بعينه بطريق قطع هذه المخاصمة يأخذ به ، فإنّما هو لأجل قدرته على الاجتهاد في مسألة الطريق بإعمال الظنون ، وبذل الجهد في المعارضات ، ودفعها ، بخلاف الظنّ بحقيّة أحد المتخاصمين ، فإنّه ممّا يصعب الاجتهاد ، وبذل الوسع في فهم الحق من المتخاصمين لعدم انضباط الأمارات في الوقائع الشخصية ، وعدم قدرة المجتهد على الإحاطة بها حتى يأخذ بالأخرى ، وكما أنّ المقلّد عاجز عن الاجتهاد في المسألة الكلّية ، كذلك القاضي عاجز عن الاجتهاد في الوقائع الشخصية فتأمل.

هذا ، مع إمكان أن يقال : إنّ مسألة عمل القاضي بالظن في الطريق مغايرة لمسألتنا ، من جهة أنّ الشارع لم يلاحظ الواقع في نصب الطرق ، وأعرض عنه وجعل مدار قطع الخصومة على الطرق التعبدية مثل الإقرار ، والبينة ، واليمين ، والنكول ، والقرعة ، وشبهها ، بخلاف الطرق المنصوبة للمجتهد على الأحكام الواقعية ، فإنّ الظاهر أنّ مبناها على الكشف الغالبي عن الواقع ، ووجه تخصيصها من بين سائر الأمارات : كونها أغلب مطابقة ، وكون غيرها غير غالب المطابقة ، بل غالب المخالفة ، كما ينبئ عنه ما ورد في العمل بالعقول في دين الله ، « وأنه ليس شيء أبعد عن دين الله من عقول الرّجال » و « أنّ ما يفسده أكثر ممّا يصلحه » و « أنّ الدين يمحق بالقياس » ونحو ذلك.

ولا ريب أنّ المقصود من نصب الطريق إذا كان غلبة الوصول إلى الواقع لخصوصية فيها من بين سائر الأمارات ، ثم انسدّ باب العلم بذلك الطريق المنصوب ، والتجأ إلى إعمال سائر الأمارات التي لم يعتبرها الشارع في نفس الحكم لوجود الأوفق منها بالواقع ، فلا فرق بين إعمال هذه الأمارات في تعيين ذلك الطريق وبين إعمالها في نفس الحكم الواقعي ، بل الظاهر أنّ إعمالها في نفس الواقع أولى لإحراز المصلحة الأوّلية التي هي أحقّ بالمراعاة عن مصلحة نصب الطريق ، فإنّ غاية ما في نصب الطريق من المصلحة ما به يتدارك المفسدة المترتبة

٥٤٣

على مخالفة الواقع اللازمة من العمل بذلك الطريق ، لا إدراك المصلحة الواقعيّة ، ولهذا اتفق العقل والنقل على ترجيح الاحتياط على تحصيل الواقع بالطريق المنصوب في غير العبادات ممّا لا يعتبر فيه نية الوجه اتّفاقا ، بل الحقّ ذلك فيها أيضا ، كما مرّت الإشارة إليه في إبطال وجوب الاحتياط » (١).

أقول : إن تمّ ما ادّعاه من الفرق بين المقلّد وبين ما نحن فيه ـ ولا يتمّ على إطلاقه ، كما ستعرف ـ فإنّ الأمر في القضاء بالعكس ، إذ لمعرفة المحقّ من المبطل في الدعاوي طرق منضبطة يجري عليها العقلاء من كلّ قوم وملّة يفصلون بها بين الخصوم ، ويصيبون الواقع غالبا ، بل إلاّ نادرا.

وحينما ترى قاضي العرف إذا رفع إليه دعوى السرقة ينظر إلى حال المتداعيين ، فإذا رأى المدّعي صالحا مثريا لم يعهد منه قط ارتكاب مأثمة ولا ادّعاء باطل ، ورأى المدّعى عليه خليعا (٢) ، صعلوكا (٣) ، حرفته الشحاذة (٤) ، وعادته السرقة ، ماهرا في حرفته ، جاريا طول عمره على عادته ، قد قطعت للسرقة يده ، وكم سوّد بالسياط جلده ، ورآه جماعة واقفا ساعة التهمة على باب الدار ، وآخرون متسلّقا حائط الجار ، فبعد الاستنطاق والاستخبار ، واستقصاء الشواهد والآثار يحكم عليه بها ، مصيبا في حكمه ترى قاضي الشرع لا يسعه مع ذلك كلّه بعد فقد البيّنة إلاّ تحليفه ، مع علمه بأنّه لا يتحرّج من ألف يمين على فلس واحد.

ولعلّ الشيخ لهذا أمر بالتأمّل ، وعدل عنه إلى ما هو أبعد وأعجب ، وهو احتمال أنّ الشارع لم يلاحظ الواقع في نصب الطرق ، وأعرض عنه ، وجعل مدار قطع الخصومة على الطرق التعبدية.

__________________

(١) فرائد الأصول : ١٣٢ ـ ١٣٤.

(٢) الخليع : الشاطر الّذي خلع الدين والحياء. تاج العروس ٥ : ٣٢١ « خلع ».

(٣) الصعلوك : الفقير. القاموس المحيط ٣ : ٣٢٠ ، الصحاح ٤ : ١٥٩٥ « صعلك ».

(٤) الشحذ : الإلحاح في السؤال. القاموس المحيط ١ : ٣٦٧ « شحذ ».

٥٤٤

ولا أرى هذا الاحتمال إلاّ وقد صدر منه ـ طاب ثراه ـ على سبيل سلطان الجدل ، وإلزام المناظر ولو بما يقطع بخلافه.

وكيف يحتمل مثله أنّ الشارع الّذي عرف منه ذلك الاهتمام ـ الّذي يجلّ عن الوصف ـ في حفظ أموال المسلمين ، وصيانة أعراضهم ، وحقن دمائهم يرفع ذلك الاهتمام بمجرد إقامة الدعوى من كاذب ، فلا يبالي بضياع الأموال ، ولا بهتك الأعراض ، وإراقة الدماء إذا شهد على أحدها بشهادة الزور ، أو صدر الحلف من حليف خمر وماخور (١) ، ويكون عنده سواء في الأموال المالك والغاصب ، وفي الفروج الزوج والعاهر ، وفي الدماء دم المسلم والحربي! لا يكون هذا أبدا.

ويبقى بعد ذلك موضع للسؤال عن معنى الإعراض عن الواقع على وجه لا يستلزم التصويب المحال ، ويكون غير الّذي يتصور في سائر الأحكام (٢).

هذا ، وأمّا ما ذكره من « أنّ الظنون المعمولة في تعيين طرق القضاء حاصلة من أمارات منضبطة غالب المطابقة » فالقضاء فيه موكول إلى الناظر بعد أن يتصفّح بابا من أبوابه.

وأمّا ما ذكره في وجه عدم عمل المقلّد بظنّه في نفس الحكم الواقعي ، فهو صحيح ، ولكن لا على إطلاقه ، إذ قد يكون اقتدار المقلّد على تحصيل الظنّ بالواقع من نفس الطرق التي يحصّله [ بها ] (٣) المجتهد أقوى من المجتهد ، كالأحكام التي مبانيها مسائل لغوية أو نحوية ، فلا شك أنّ المقلّد اللغوي أو النحوي أشدّ اقتدارا ، وأصوب ظنّا ممّن يزيد عليه في الفقه ، ويقصر عنه في صناعته.

__________________

(١) الماخور : مجلس الفسّاق. الصحاح ٢ : ٨١٢ « مخر ».

(٢) ولهذا البحث تتمّة تعرفها قريبا إن شاء الله. ( منه ).

(٣) زيادة يقتضيها السياق.

٥٤٥

ومناظرة الأصمعي مع أبي يوسف القاضي في معنى ( لا تعقل العاقلة عمدا ولا عبدا ) (١) وشهادته عليه بأنّ القاضي لم يفرّق بين ( عقلته ) و ( عقلت عنه ) حتى فهّمه ، مذكورة كأمثالها الكثيرة في مواضعها.

هذا ، وعمدة طريق المقلّد غالبا في تحصيل الظن في تعيين المجتهد أحد أمرين : إمّا شهادة أهل الخبرة ، وإمّا الشهرة ، ولكن من له بخبير لا يميل في شهادته مع الهوى ، وبشهرة لم يجلبها حطام الدنيا ، وفي النّظر في حال أبناء الزمان ما يغنيك عن البيان.

وأمّا قوله طاب ثراه : « فلا فرق في إعمال هذه الأمارات في تعيين الطرق وبين إعمالها في نفس الحكم الواقعي ، بل إعمالها في نفس الواقع أولى » فستعرف ما فيه بما نبيّنه قريبا من مراد صاحب الفصول ، ونوضّحه من حقيقة هذا الدليل.

عاد كلامه : « فإن قلت : العمل بالظن في الطريق عمل بالظن في الامتثال الظاهري والواقعي ، لأنّ الفرض إفادة الطريق للظن بالواقع ، بخلاف غير ما ظنّ طريقيّته ، فإنّه ظنّ بالواقع ، وليس ظنّا بتحقّق الامتثال في الظاهر ، بل الامتثال الظاهري مشكوك أو موهوم بحسب احتمال اعتبار ذلك الظنّ.

قلت : أوّلا إنّ هذا خروج عن الفرض ، لأنّ مبنى الاستدلال المتقدّم على وجوب العمل بالظن في الطريق وإن لم يكن الطريق مفيدا للظنّ به أصلا ، نعم قد اتّفق في الخارج أنّ الأمور التي يعلم بوجود الطريق فيها إجمالا مفيدة للظنّ شخصا أو نوعا لا أنّ مناط الاستدلال اتّباع الظنّ بالطريق المفيد للظنّ بالواقع.

وثانيا : أنّ هذا يرجع إلى ترجيح بعض الأمارات الظنية على بعض باعتبار الظنّ باعتبار بعضها شرعا دون الآخر ، بعد الاعتراف بأنّ مؤدّى دليل الانسداد حجّية الظنّ بالواقع لا بالطريق. وسيجيء الكلام في أنّ نتيجة دليل

__________________

(١) وردت هذه الجملة عن الشعبي. انظر : سنن الدار قطني ٣ : ١٧٨ ـ ٢٧٧ ، وسنن البيهقي ٨ : ١٠٤.

٥٤٦

الانسداد على تقدير إفادته اعتبار الظنّ بنفس الحكم كلّية ، بحيث لا يرجّح بعض الظنون على بعض ، أو مهملة بحيث يجب الترجيح بين الظنون ، ثم التعميم بعد فقد المرجّح والاستدلال المذكور مبني على إنكار ذلك كلّه ، وأنّ دليل الانسداد جار في مسألة تعيين الطريق وهي المسألة الأصولية ، لا في نفس الأحكام الواقعية الفرعية بناء منه (١) على « أنّ الأحكام الواقعية بعد نصب الطريق ليست مكلّفا بها تكليفا فعليا إلاّ بشرط قيام الطرق عليها ، فالمكلّف به في الحقيقة مؤدّيات تلك الطرق لا الأحكام الواقعية من حيث هي » (٢).

وقد عرفت ممّا ذكرنا أنّ نصب هذه الطرق ليست إلاّ لأجل كشفها الغالبي عن الواقع ، ومطابقتها له ، فإذا دار الأمر بين إعمال ظنّ في تعيينها أو في تعيين الواقع لم يكن رجحان للأول.

ثم إذا فرضنا أنّ نصبها ليس لمجرّد الكشف ، بل لأجل مصلحة يتدارك بها مصلحة الواقع ، لكن ليس مفاد نصبها تقييد الواقع بها ، واعتبار مساعدتها في إرادة الواقع ، بل مؤدّى وجوب العمل بها جعلها عين الواقع ولو بحكم الشارع ، لا قيدا له.

والحاصل : أنّه فرق بين أن يكون مرجع نصب هذه الطرق إلى قول الشارع : « لا أريد من الواقع إلاّ ما ساعد عليه ذلك الطريق » فينحصر التكليف الفعلي حينئذ في مؤدّيات الطريق ، ولازمه إهمال ما لم يؤدّ إليه الطريق من الواقع ، سواء انفتح باب العلم بالطريق أم انسدّ ، وبين أن يكون التكليف الفعلي بالواقع باقيا على حاله إلاّ أنّ الشارع حكم بوجوب البناء على كون مؤدّى الطريق هو ذلك الواقع فمؤدّى هذه الطرق واقع جعلي ، فإذا انسدّ طريق العلم إليه ، ودار الأمر بين الظنّ بالواقع الحقيقي وبين الظن بما جعله الشارع واقعا فلا ترجيح ،

__________________

(١) الضمير في ( منه ) عائد إلى الشيخ محمد حسين الأصفهانيّ صاحب الفصول الغرويّة.

(٢) الفصول الغرويّة : ٢٧٧ نقلا بالمعنى.

٥٤٧

إذ الترجيح مبني على إغماض الشارع عن الواقع.

وبذلك ظهر ما في قول هذا المستدلّ (١) من أنّ التسوية بين الظنّ بالواقع والظن بالطريق إنّما يحسن لو كان أداء التكليف المتعلّق بكلّ من الفعل والطريق المقرّر مستقلاّ لقيام الظنّ في كلّ من التكليفين حينئذ مقام العلم به ، مع قطع النّظر عن الآخر ، وأمّا لو كان أحد التكليفين منوطا بالآخر مقيّدا له ، فمجرّد حصول الظنّ بأحدهما دون حصول الظنّ بالآخر المقيّد له لا يقتضي الحكم بالبراءة ، وحصول البراءة في حصول العلم بأداء الواقع إنّما هو لحصول الأمرين به نظرا إلى أداء الواقع ، وكونه من الوجه المقرّر لكون العلم طريقا إلى الواقع في العقل والشرع ، فلو كان الظنّ بالواقع ظنّا بالطريق جرى ذلك فيه أيضا ، لكنّه ليس كذلك ، ولذا لا يحكم بالبراءة معه » انتهى (٢).

أقول : ما ذكره في جواب هذا القائل من الخروج عن الفرض ، والرجوع إلى ترجيح بعض الأمارات على بعض ، فهو حقّ لا ريب فيه ، ولكن قوله : « إنّ الاستدلال المذكور مبني على أنّ دليل الانسداد جار في مسألة تعيين الطرق » وما نسبه إلى صاحب الفصول من بنائه على أنّ الأحكام الواقعية بعد نصب الطرق ليست مكلّفا بها تكليفا فعليا ، إلى آخر كلامه ، لا يظهر حقيقة الحال فيه إلاّ بعد بيان المراد من هذا الدليل ، وتقريره على الوجه الّذي أراده المستدلّ ، ولا بدّ من نقل بعض ما حذفه الشيخ من كلامه لتوضيح مرامه ، قال بعد المنقول منه بعدّة أسطر ، ما لفظه :

« واعلم أنّ العقل يستقلّ بكون العلم طريقا إلى إثبات الحكم المخالف للأصل ، ولا يستقلّ بكون غيره طريقا إليه ولو مع تعذّره ، حيث لا يعلم ببقاء

__________________

(١) يعني بالمستدلّ : الشيخ محمد تقي الأصفهانيّ صاحب هداية المسترشدين.

(٢) فرائد الأصول : ١٣٤ ـ ١٣٥ ، وانظر أيضا لقول ( المستدلّ ) : هداية المسترشدين : ٣٩٤.

٥٤٨

التكليف معه ، بل يستقلّ حينئذ بعدم كون غير العلم طريقا في الظاهر ، وبسقوط التكليف ما لم يقم على حجّية غير العلم قاطع سمعي أو واقعي [ أو ظاهري ] (١) معتبر مطلقا ، أو عند انسداد باب العلم إلى الدليل مع حصوله ... ثم إن [ دلّ ] (٢) الدليل السمعي بأحد أنواعه على حجّية طريق مطلقا كان في مرتبة العلم مطلقا ، فيجوز التعويل عليه ولو مع إمكان تحصيل العلم في تلك الواقعة ، وإن دلّ على حجّيته عند تعذّر العلم لم يجز التعويل عليه إلاّ عند تعذّره ، فيقدّم عليه العمل بالعلم وبما دلّ الدليل السمعي على قيامه مقامه مطلقا مع تيسّره ، وأما إذا انتفى الجميع ، وعلم ببقاء التكليف معه ثبت بحكم العقل وجوب العمل بالظن الّذي لا دليل على عدم حجّيته ، ثم الأقرب إليه ، وهذه مرتبة ثالثة متوقّفة على تعذّر المرتبتين المتقدّمتين ـ إلى أن قال ـ فاتّضح أنّ للطريق ثلاث مراتب لا يعوّل على اللاحقة منها إلاّ بعد تعذّر السابقة » (٣).

وكيف ينسب إليه مع هذا التصريح تقييد الأحكام الواقعية بالطرق أو صرفها إليها على نحو يوجب التصويب المحال أو المجمع على بطلانه ، كما لا يزال يلهج به المعترضون!؟.

ومن نظر في سائر ما أورده يجد مواضع أخرى شاهدة ببراءته عنه ، ويكفي لها تنظير المقام بمسألة القضاء ، قال في أثناء الردّ على التقرير المشهور لدليل الانسداد وإبطال الظنّ المطلق ما لفظه :

« وبالجملة ، فعلمنا بأنّا مكلّفون بالأحكام المقرّرة في الشريعة عند تعذّر طريق العلم والطريق العلمي إليها لا يفتح لنا باب الظنّ إليها بعد علمنا بنصب طرق مخصوصة إليها.

__________________

(١) زيادة من المصدر.

(٢) زيادة من المصدر.

(٣) الفصول الغرويّة : ٢٧٨.

٥٤٩

ألا ترى أنّ علمنا بأنّا مكلّفون في المرافعات بإيصال كلّ حقّ إلى صاحبه لا يوجب في حقّنا فتح باب الظنّ في تعيين الحقوق لعلمنا بأنّ الشارع كما كلّفنا بذلك كذلك جعل لنا إليها طرقا مخصوصة ، وكلّفنا بالعمل بمقتضاها كاليد ، والشهادة ، واليمين ، فإذا انسدّ علينا معرفة تلك الطرق أيضا لم نعمل بالظن في تعيين الحقوق ، بل في تعيين الطرق المقرّرة لها » (١).

ولا بدّ لمنكري مقالته من أحد أمرين : إمّا مخالفة الإجماع وتجويز الرجوع في القضاء إلى مطلق الظنّ ، أو بيان الفرق بينه وبين سائر الأحكام ، ولو ضربوا عليه آباط الإبل مدّة شهرين لم يعثروا على أثر منه أو عين.

وما ذكره الشيخ ـ طاب ثراه ـ أواخر كلامه ـ المتقدّم نقله ـ من « أنّ الظاهر أنّ مبنى الطرق المنصوبة على الأحكام الواقعية على الكشف الواقعي ، ووجه تخصيصها كونها أغلب مطابقة ، وكون غيرها غير غالب المطابقة » إلى آخره (٢) ، فلا يصلح أن يكون فارقا بينهما ، إذ السبب مشترك ، ولا شك أنّ الوجه في تخصيص الطرق المقرّرة للقضاء أيضا هو ما ذكر بعينه ، فلما ذا يرجع إلى مطلق الظن؟

وأمّا بيان المراد من هذا الدليل وتقريره : فتوضيحه أنّ المستدلّ استدلّ به على أنّ المرجع بعد فرض الانسداد الكتاب والسنّة وما يلحق بهما ، ويؤول إليهما ، وبنى دليله على القطع ببقاء التكليف أولا ، وبوجود الحجّة عليها ثانيا ، ثم جمع بين القطعين ، فقال : « ومرجع هذين القطعين عند التحقيق إلى أمر واحد ، وهو القطع بأنّا مكلّفون تكليفا فعليّا بالعمل بمؤدّى طرق مخصوصة » (٣).

ومعناه أنّ فعلية التكاليف أو تنجيزها مشروطة بوجود الحجّة ، ولو

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ٢٨١.

(٢) فرائد الأصول : ١٣٣.

(٣) الفصول الغرويّة : ٢٧٧.

٥٥٠

فرض أنّ هناك حكم واقعي لم ينصب الشارع إليه طريقا ، أي لا يكون عليه حجة ، لا يكون فعليا أو منجزا ، ثم ادّعى الإجماع على انحصار الحجّة في مدارك مخصوصة ، فقال في أثناء كلامه ما لفظه : « فإنّا نقطع بأنّ الشارع لم يعتبر بعد الأدلّة القطعية في حقّنا أمارات اخر خارجة عن هذه الأمارات ».

وقال بعده بقليل ما لفظه أيضا : « إنّا لمّا راجعنا طريقة أصحابنا وجدناهم يعتمدون في فروع الأحكام على طرق ومدارك مخصوصة ، مطبقين على نفي حجّية ما عداها » إلى آخره (١).

وقال في أثناء الكلام على التقرير الثاني لدليل الانسداد ما نصّه :

« الّذي يظهر لنا من طريقة أصحابنا قديما وحديثا اقتصارهم على حجّية الظنون المخصوصة ، والتزامهم بأصالة عدم حجّية ظنّ لا دليل على حجّيته ، فإنّا لم نقطع من إطباقهم على ذلك بفساد حجّية مطلق الظنّ فلا أقلّ من حصول ظنّ قوي لنا به » (٢) إلى آخره.

وأيّد ذلك بالنهي عن عدّة من الأمارات ، فقال : « إنّا كما نجد على الأحكام أمارات نقطع بعدم اعتبار الشارع إيّاها طريقا إلى معرفة الأحكام مطلقا وإن أفادت الظنّ الفعلي بها كالقياس ، والاستحسان ، والسيرة الظنية ، والرؤيا ، وظنّ وجود الدليل ، والقرعة ، وما أشبه ذلك ممّا لا حصر له ، كذلك نجد عليها أمارات أخر نعلم بأنّ الشارع قد اعتبرها كلاّ أو بعضها طريقا إلى معرفة الأحكام وإن لم يستفد منها ظنّ فعلي بها ولو لمعارضة الأمارات السابقة » (٣).

ثم ذكر العبارة المتقدمة قريبا ، وقال بعده : « ومستند قطعنا في المقامين

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ٢٧٨.

(٢) الفصول الغرويّة : ٢٨٢.

(٣) الفصول الغرويّة : ٢٧٨.

٥٥١

الإجماع ، مضافا في بعضها إلى مساعدة الأخبار والآيات ، حتى أنّ القائلين بحجّية مطلق الظن كبعض متأخّري المتأخّرين لا تراهم يتعدّون في مقام العمل عن هذه الأمارات إلى غيرها » (١).

وادّعى بعد ذلك أنّ تفاصيل تلك الأمارات المقطوع اعتبارها غير معلوم بالقطع ، فالواجب علينا الرجوع إلى معرفتها بالظن ، وأوضح ذلك في عدّة مواضع من كلامه ، ونقلها يوجب الإسهاب ، ومن شاء فليراجع الكتاب.

ثم استنتج من جميع ذلك وجوب الرجوع في معرفة الأحكام الفعلية التي لا طريق إليها بالقطع إلى الطرق الظنية فقط ، ولا شك في أنّه بعد تسلّم هذه المقدّمات لا تكون النتيجة إلاّ ذلك.

وأكثر ما أورده الشيخ ـ طاب ثراه ـ ومن تأخّر عنه بمعزل عنه وغير مرتبط به ، وما سبب ذلك إلاّ ما نبّهناك عليه أول الباب من أنّهم جعلوا هذا الدليل الدالّ على بطلان الظنّ المطلق بيانا لنتيجة الدليل على الظنّ المطلق ، مع أنّ هذا الدليل إن تأملته وجدته أجنبيّا عن دليل الانسداد المعروف ، ويكاد أن لا يجمعه معه إلاّ لفظ الانسداد فقط.

وأقول توضيحا له ـ وإن كنت أخالك في غنى عنه ـ : بعد ما عرفت أنّ هذا الدليل مركّب من مقدّمات :

أولها : بعد بقاء التكليف بالأحكام الواقعية ، ووجود الحجة على تلك الأحكام.

ثانيها : انحصار الحجة في الكتاب والسنّة وما يؤول إليهما.

ثالثها : عدم قطعية تفاصيلها بمعنى عدم إمكان تعيين الحجّة منها إلاّ نادرا.

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ٢٧٨.

٥٥٢

رابعها : حكم العقل بلزوم الرجوع إلى الظنّ في تعيينها.

خامسها : فعلية الأحكام التي تكون مؤدّى تلك الطرق الظنّية دون غيرها لو فرض وجوده.

ولا شك أنّ هذه المقدّمات إن تمّت فلا تكون النتيجة إلاّ ما ذهب إليه من حجّية الظنّ بالطريق خاصة ، بمعنى فعلية الأحكام التي تكون مؤدّى تلك الطرق دون الأحكام المظنونة التي لا تكون كذلك.

والدليل على المقدّمتين الأوليين هو ما مرّ نقله من كلامه من الإجماع ، والسيرة القطعيتان.

وعلى الثالثة الضرورة ، والوجدان ، وقد أوضحه في مواضع عديدة وهي لوضوحها في غنية عن البيان.

وعلى الرابعة نظير ما ذكروه في تقريب دليل الانسداد من عدم جواز الرجوع إلى البراءة ، وعدم وجوب الاحتياط ، وترجيح الظن على غيره في مقام الامتثال ، وتقريبه لا يخفى على المتأمّل ولا سيّما بعد الإحاطة بما مرّ في شرح كلام الشيخ الأعظم ، وبعد مراجعة ما ذكره صاحب الفصول في التقريب الثاني لدليل الانسداد من إبطال الرجوع إلى البراءة وغيرها.

وعلى الخامسة ، أنّ ذلك معنى حجّية الظن ، إذ الحجّة من شأنها أن تكون منجّزة للأحكام الواقعية في صورة المصادفة ، وتكون عذرا في مخالفتها عند عدم المصادفة ، حسب ما تقرّر في موضعه ، كما أنّ من شأن عدم الحجّة عدم فعلية التكليف ، وقبح العقاب على مخالفته ، ولا شك أنّ هذه المقدمات إن تمت لا تنتج إلاّ حجّية الظن بالطريق ، لكونه ظنّا بالحكم الفعلي دون مجرّد الظنّ بالواقع ، لأنه ليس ظنّا بالفعلي من الأحكام ، والعمدة منها المقدّمتان الأوليان اللتان بهما امتاز هذا التقريب لدليل الانسداد عن التقريب الآخر له ، وصار بهما في حرز حريز لا تناله يد الاعتراضات الموردة عليه.

٥٥٣

ومن رام إحداث ثلمة في هذا البنيان الرفيع فلا سبيل له إلاّ المناقشة فيهما ، فشأنه وذلك إن شاء ولكن بعد أن يعلم أنّه يصادم حسّه ويكابر نفسه ، فقد علم كلّ من له أدنى إلمام بالعلم أنّ الشيعة ـ أعلى الله كلمتهم ـ ما زالوا من زمن أئمتهم عليهم السلام إلى اليوم يعملون بالروايات الواردة عن المعصومين في الجملة ، ولا تجد أحدا يتمسّك في شيء من أحكام الدين بمجرّد الظنّ والتخمين.

أتظنّ منتميا إلى هذا المذهب يصبح مفتيا بهدر دم مسلم أو إباحة .... محصنة ، فإذا سئل عن مستنده في فتياه أسنده إلى ظنّ حصل له من الرؤيا؟ وذمام (١) العلم وحرمة الفضل لا يصدر هذا من متمسّك بحبل أهل البيت أبدا ، حتى من لاك (٢) لسانه بمطلق الظنّ.

هذا أحد أعلام الفقه ، وحامل عرش الظنّ المطلق ، الفاضل القمي ، إذا تصفّحت كتابه « جامع الشتات » من أول الطهارة إلى آخر الدّيات لا تجد فيه استنادا إلى غير الكتاب والسنّة وما يؤول إليهما قط ، ولا ترى أقل اختلاف بينه وبين سائر أئمة المذهب في طريق الاستنباط.

ولقد أصاب صاحب الفصول حيث قال في أثناء كلامه : « حتى أنّ القائلين بحجّية الظنّ المطلق كبعض متأخري المتأخّرين ، لا تراهم يتعدّون في مقام العمل عن هذه الأمارات إلى غيرها وإن لم يستفد لهم ظنّ فعلي بمؤدّاها » (٣).

صدق ـ والله ـ وبرّ ، لا تجد غير مطعون في طريقته يترك آثار أهل البيت بغير طعن في أسانيدها ، وإجمال في متونها ، أو معارض لمؤدّياتها.

ومن ذلك كلّه يظهر لك وجه النّظر فيما كرّره الشيخ الأعظم من المناقشة

__________________

(١) الذمام : الحرمة. القاموس المحيط ٤ : ١١٧ ، الصحاح ٥ : ١٩٢٦ « ذمم »

(٢) اللوك : إدارة الشيء في الفم ومضغة. مجمع البحرين ٥ : ٢٨٧ ، القاموس المحيط ٣ : ٣٢٨ « لوك ».

(٣) الفصول الغرويّة : ٢٧٨.

٥٥٤

في الإجماع والسيرة المتقدّمين ، وأنهما لا يكشفان عن جهة العمل.

ولفظ تقييد الواقع بالطريق وإن وقع في كلام الفصول ، ولكنه لا يريد به تقييد الواقع نفسه ، بل يريد تقييد فعليته به ، وليس ذلك ببدع من القول ، ولا بمذهب قد تفرّد به ، بل هو أمر يقول به كلّ من يقول بالتخطئة ، وبصحّة جعل الأحكام الظاهرية ، وهو لازم جعل الحجّية ، ولكن الشيخ حمل كلامه على التفسير الأول ، فأورد في آخر كلامه ما أورد (١) ، وجرى عليه غيره ، فقال في الكفاية : « لو سلّم أنّ قضيته لزوم التنزّل إلى الظنّ ، فتوهّم أنّ الوظيفة حينئذ هو خصوص الظنّ بالطريق فاسد قطعا ، وذلك لعدم كونه أقرب إلى العلم ، وإصابة الواقع من الظنّ بكونه مؤدّى طريق معتبر من دون الظنّ بحجّية طريق أصلا ومن الظن بالواقع.

لا يقال : إنّما لا يكون أقرب من الظنّ بالواقع إذا لم يصرف التكليف الفعلي عنه إلى مؤدّيات الطرق ولو على نحو التقييد ، فإنّ الالتزام به بعيد إذ الصرف لو لم يكن تصويبا محالا فلا أقلّ من كونه مجمعا على بطلانه ، ضرورة أنّ القطع بالواقع يجدي في الإجزاء بما هو واقع لا بما هو مؤدّى طريق القطع.

ومن هنا انقدح أنّ التقييد أيضا غير سديد ، مع أنّ الالتزام به غير مفيد ، فإنّ الظنّ بالواقع فيما ابتلي به من التكاليف لا يكاد ينفك عن الظنّ بأنه مؤدّى طريق معتبر ، والظنّ بالطريق ما لم يظنّ بإصابة الواقع غير مجد بناء على التقييد ، لعدم استلزامه الظنّ بالواقع المقيّد به دونه » (٢) انتهى ما أردناه.

أقول : إنّ الّذي قطع بفساده مقطوع بصحته بعد فرض تصرّف الشارع في طرق الامتثال ، وأمره باتّباع بعض ، ونهيه عن بعض ، وحصره فعلية أحكامه

__________________

(١) من قوله : « ثم إذا فرضنا » إلى آخر العبارة [ فرائد الأصول : ١٣٤ ] على أنّ في تعبيراتهم ما يوهم الثاني ، وعليه فالخلف في كلامهم أظهر. ( منه ).

(٢) كفاية الأصول : ٣١٨.

٥٥٥

في مؤدّى أمارات خاصّة ، ورفضه غيرها بعدت عن الواقع أو قربت إليه.

وأما قوله : « إذ الصرف لو لم يكن تصويبا محالا » إلى آخره ، فلا أدري أين كان هذا الفرق والحذار من التصويب حين جمع بين الحكمين الواقعي والظاهري بما هو أدهى وأمرّ!؟

وقوله : « ضرورة أنّ القطع بالواقع يجدي بما هو واقع لا بما هو مؤدّى طريق القطع » لا شك فيه في مرتبة الواقع ، كما أنّه لا شك في أنّ تنجّزه لا يكون إلاّ بالقطع أو ما يقوم مقامه ، فالذي ادّعى الضرورة على خلافه إن كان ما قلناه فهو أجدر بدعوى الضرورة وأحق بها ، إذ التنجّز لم يكن إلاّ بسببه ، وإن كان غيره فلا تضرّنا تلك الضرورة ولا تنفعه.

وأمّا قوله : « فإنّ الظن بالواقع لا ينفك عن الظنّ بأنّه مؤدّى طريق معتبر » فقد كرّره آخر البحث ، فقال : « مع ما قد عرفت من أنه عادة يلازم الظن بأنّه مؤدّى طريق وهو بلا شبهة يكفي ولو لم يكن هناك ظن بالطريق » (١) وكرّره أيضا في حاشيته (٢).

وهذا الكلام يصلح أن يكون دليلا على قلّة فائدة هذا البحث ، وأمّا أن يكون اعتراضا فلا ، لأنه إذا استلزم الظنّ بالواقع الظنّ بالطريق فقد حصل ما هو الحجة عند صاحب الفصول ، إذ لا يشترط عنده فيها حصول الظن بالطريق من طريق خاص ، فيكفي الظنّ به من أيّ سبب حصل ، إلاّ الحاصل من الطريق الممنوعة ، بل حتى الحاصل منها على ما سبق القول فيه ، وهذا على وضوحه مذكور في كلامه تصريحا وتلويحا في مواضع متعددة.

وكأنّ المعترض زعم أنّ الشرط فيها عنده تعيّن الطريق ، فلا يكفي الظنّ

__________________

(١) كفاية الأصول : ٣٢١. نقلا بالمعنى.

(٢) حاشية فرائد الأصول : ٨٤.

٥٥٦

به إجمالا ، كما ربّما يستظهر من بعض كلامه الآتي نقله ، وأنت تعلم أنّه لا أثر ولا عين لهذا الشرط في كلام صاحب الفصول ، ولا داع له يدعو إليه ، ولا يقتضيه حجّته ، وبحسبه أن يظنّ كونه مؤدّى خبر معتبر وإن لم يعرفه على التعيين ، فلو فرض أنه ورد في حكم فرعي خبران ، يظنّ بحجّية أحدهما دون الآخر ، أو قطع من قول صادق ـ كالصدوق ـ بورود رواية مظنونة الاعتبار قد ترك نقلها ، أيظنّ بمثل صاحب الفصول التوقّف عن الحكم فيه على طبقها؟

هذا ، ولهذا الأستاذ في حاشيته كلام طويل واعتراضات كثيرة على هذا القول ، وقد جعله مردّدا أمره بين أن يكون المراد صرف التكليف عن الواقع إلى المؤدّى وبين إناطة التكاليف الواقعية بإصابة الطرق إليها ، أو إناطة تنجّزها بالإصابة ، بأن يكون المنجّز من التكاليف خصوص ما أصاب إليه طريق ممّا علم اعتباره إجمالا ، وجعل ثاني الوجوه ظاهر الكلام (١) المنقول في الكتاب عن بعض الفحول ، وثالثها مراد صاحب الفصول مدّعيا أنّه يظهر من ملاحظة كلامه بتمامه ، ولم ينسب أوّلها إلى أحد ، ولكن أطال القول في ردّه (٢).

وحيث إنّه جزم بمراد صاحب الفصول ـ ونحن معه ، والصرف بالمعنى الأوّل لا يقول به أحد من أئمة هذا القول ـ صرفنا عنان القلم عن نقل ما اعترض عليه ، على أنّ للنظر فيه مواضع ، واقتصرنا من كلامه على ما يتعلّق بما جعله مراد صاحب الفصول ، وعزّاه إلى بعض الفحول إيثارا للاختصار على

__________________

(١) ليس في النسخ الموجودة لديّ كلاما منقولا بهذا العنوان ، وأظنّ أنّ مراده قول الشيخ : « وبذلك ظهر ما في قول هذا المستدلّ » إلى آخره.

والظاهر أنّه مسامحة لأنّه كلام الشيخ في ( الهداية ) لا كلام صاحب الفصول. ثمّ إنّ الظاهر اتّحاد مراد أصحاب هذا القول وإن عبّروا تارة بالفعليّة وأخرى بالتنجّز ، إذ الفرق بينهما بما ينافي المقصود اصطلاح حادث بعد زمانهم. ( منه ).

(٢) انظر : حاشية فرائد الأصول : ٨٤.

٥٥٧

الإطالة ، قال وهذا لفظه :

« وإن أريد إناطة فعلية التكاليف الواقعية بإصابة الطرق إليها بأن يكون الحكم الحقيقي ، والبعث أو الزجر الفعلي هو خصوص ما أصاب إليه طريق معتبر ، كما هو ظاهر الكلام المنقول في الكتاب عن بعض الفحول في ذيل ما يتعلّق بكلام الفصول ، أو أريد إناطة تنجّزها بالإصابة بأن يكون المنجّز من التكاليف هو خصوص ما أصاب إليه طريق ممّا علم اعتباره إجمالا ، كما هو مراد الفصول على ما يظهر من مراجعة كلامه بتمامه ، وحينئذ يجب التنزّل مع التعذّر إلى الظنّ في تعيين الطرق المعتبرة ، فإنّ التكاليف الواقعية التي يكون فيها هي المكلّف بها والمؤاخذ عليها ، فلا يكون الظنّ بها بمجردها من دون الظنّ بكونها مؤدّيات الطرق مجديا ، ففيه أيضا أنّه لمّا كان العلم بكلّ من الواقع بمجرّده ومؤدّى الطريق المعتبر في صورة الانتفتاح مجديا ومؤمّنا كان الظنّ بكلّ يقوم مقام علمه في حال الانسداد ، وليس ذلك في العلم لحصول الأمرين به نظرا إلى أداء الواقع وكونه من الوجه المقرّر لكون العلم طريقا إلى الواقع في العقل والشرع ، ولا يكون الظن بالواقع بمجرّده كذلك أي ظنّا بالأمرين ، بخلاف الظن بالطريق ، فلا يتنزّل إلاّ إليه ، لما عرفت من أنّ حصول البراءة فيه إنما هو لكونه علما بالمبرئ والمسقط وهو أداء الواقع ، وأنّ طريقيته شرعا وعقلا ناشئة من كفايته لا بالعكس.

هذا ، مع ما عرفت أيضا من أنّ الظن بالواقع في المسائل الابتلائية يكون غالبا مستلزما للظن بكونه مؤدّى طريق معتبر ، فيكون الظن بالواقع غالبا ظنّا بالأمرين ولو لم يكن ظن بحجّيته في البين فيصحّ التنزّل إليه أيضا ، ولا يتعيّن التنزّل إلى الظنّ بالطريق ، مع أنّ الظنّ به بمجرّده لا يكون ظنّا بالأمرين ، فإنّه غير مستلزم للظنّ بالواقع ، ضرورة أنّ ما ظنّ اعتباره ربّما لا يفيد الظنّ به ، كما صرّح به في الوجه الثاني في بيان الفرق بين المسلكين ، اللهم إلاّ أن يكتفى بأنّه

٥٥٨

ظن بالأمرين إجمالا ، حيث إنّه يستلزم الظن بالإصابة في بعض موارده وهو كما ترى ، حيث إنّ العقل لا يجوّز التنزّل عن الظن التفصيليّ بالأمرين لو كان بمقدار الكفاية في البين إلى الظنّ بهما إجمالا ، وإلاّ فليجوّز التنزّل إليه ولو كان أمر الإجمال والتفصيل على عكس ذلك ، أي إلى الظن بالواقع إذا كان من أطراف ما ظنّ اعتباره ، فتأمّل.

والحاصل : أنّ مقدّمة العلم الإجمالي بنصب طرق خاصة وإن سلّم أنّها تقتضي اختصاص التكليف الفعلي أو المنجّز بمؤدّياتها من الواقعيات ، إلاّ أنّ قضية ذلك ـ على حسب لزوم التنزّل في حال التعذّر إلى الظن بما يجب العلم به بدونه ـ هو الرجوع إلى الظنّ بالواقعيات المؤدّية إليها الطرق ، لا الظنّ بالطريق وحده ، ولا بالواقع كذلك لانفكاك الظنّ بكلّ عن الآخر ، إلاّ أنّه لا انفكاك عن طرف الظنّ بالواقع في غالب المسائل الابتلائية ، بخلافه من طرف الطريق ، كما لا يخفى.

هذا ، مع أنّ اختصاص التكليف الفعلي أو المنجّز بمؤدّياتها حال التمكن من العلم بالطرق دون التمكن من العلم بالواقعيات لا يقتضي التنزّل إلى الظن بالمؤدّيات وحده حال انسداد باب العلم بكليهما ، بل كما كان العلم بكلّ منهما حال انفتاح بابه كافيا كان الظن به كذلك حال انسداده » (١).

أقول : ما جعله مفتتح اعتراضاته وخاتمتها من قياس الظن حال الانسداد بالعلم حال الانفتاح ، لا مجال له إلاّ على تقرير دليل الانسداد بالتقرير المشهور ، وأمّا على ما تفرّد به صاحب الفصول فلا ، وكيف يلزم بهذا القياس؟! بعد دعواه القطع بجعل الحجة ، وانحصارها في الكتاب والسنّة ، وعدم فعلية غير مؤدّاهما من الأحكام ، أو عدم تنجّزها على ما استظهره من كلامه.

__________________

(١) حاشية فرائد الأصول : ٨٤ ـ ٨٥.

٥٥٩

وعليه ، فالظن بمجرد الواقع ظن بما لا يعلم فعليته أو تنجّزه ، ودعوى حكم العقل بتنجّز التكاليف الواقعية بالظن في هذا الحال مصادرة ممنوعة.

ويظهر وجه المنع ممّا سبق من أول البحث إلى آخره ، فراجع ، ولا يهمّنا الآن الكلام على قوله ، وليس ذلك في العلم لحصول الأمرين به وإن كان يأتي في موضعه إن شاء الله.

وأمّا قوله : « هذا مع ما عرفت » إلى آخره ، فهو ما كرره مرارا في ( الحاشية ) وفي ( الكفاية ) وقد عرفت الكلام عليه ، وهو ظاهر فيما احتملناه في مراده من زعمه أنّ صاحب الفصول يشترط التعيين في الطريق ، وإلاّ فكيف السبيل إلى رفع التهافت البيّن بين قوله : « الظنّ بالواقع ظنّ بالأمرين » وبين قوله بلا فصل : « وإن لم يكن ظنّ بحجّيته في البين ».

وأمّا ما أطال فيه القول من عدم الملازمة بين الظن بالطريق وبين الظن بالواقع فما هو إلاّ الخروج عن مفروض البحث ، أعني عدم فعلية غير مؤدّيات الطرق من الأحكام ، ولا سيّما على ما يذهب إليه هذا الأستاذ من أنّ الفعلية هي قوام الحكم وحقيقته ، ومناط الطاعة والمعصية ولا يجب امتثاله قبل بلوغه هذه المرتبة حتى مع العلم به.

وبالجملة ، مدار التكاليف اللازم امتثالها لدى صاحب الفصول على قيام الحجّة وإصابتها الواقع ، فلا فعلية ـ وإن شئت قلت : ولا تنجّز ـ لغير مداليلها ، ولا يهمّه أمر الواقع أصلا.

فظهر أنّه لا محصّل لما حسبه حاصل كلامه من أنّ قضية مقدّمة العلم الإجمالي بنصب طرق خاصة هو الرجوع إلى الظن بالواقعيات المؤدّية إليها الطرق لا الظن بالطريق وحده ولا بالواقع كذلك.

وظهر أيضا أنّ انفكاك الظن بكلّ عن الآخر غير ضائر بصاحب الفصول ، وعدم الانفكاك غالبا من طرف الظن بالواقع غير نافع للمعترض.

٥٦٠