وقاية الأذهان

الشيخ أبي المجد محمّد رضا النجفي الإصفهاني

وقاية الأذهان

المؤلف:

الشيخ أبي المجد محمّد رضا النجفي الإصفهاني


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٩

إليه ، فما صنعه من المقابلة بينهما في أول كلامه وآخره لا يصح أبدا ، وإنّما يصح في مثل الأجنبية والزوجة ، فالنظر إلى الأجنبية محرّم ، وجائز بعد صيرورتها زوجة ، وعندها يرتفع موضوع الأجنبية ، لا مثل المقام الّذي عنوان الغصبية باق مع عنوان التخلّص.

وقوله في آخرها : فالغصب مبغوض دائما ، والتخلص من غير فرق قبل الدخول وبعده (١). فاسد جرى فساده إلى جميع ما اعترض على الفصول جريان السقم في البدن الصحيح ، بل هو أساس اعتراضاته واعتراضات موافقيه ، فلا بدّ لنا من هدمه من أصله وإن أدّى إلى الإسهاب.

فنقول : إن وجوب التخلص متأخر رتبة بحسب الطلب والموضوع عن حرمة الغصب ، فلا يعقل لحاظه مع الأول.

أما تأخره موضوعا فقد مرّ بيانه ، وعلمت أنّ التخلّص لا يعقل تصور عنوانه إلاّ بعد وقوع المحذور ، فهو كعنوان العلاج المتأخر تصوره عن تصور الداء ، وليس تأخره بمجرد الخارج كما سبق ، بل متأخّر ذهنا وخارجا.

وأما تأخّره حكما ، فلأنه مترتب على عصيان النهي بالدخول ، ومرتبة عصيان الطلب متأخر عنه ، ولا يعقل لحاظه معه ، ولذا قالوا : إن الطلب بالنسبة إلى الإطاعة والعصيان لا إطلاق له ولا تقييد ، لأنهما فرعا اللحاظ ولحاظ المتأخّر طبعا محال.

وهذا أساس شريف يبنى عليه مسائل مهمة كالجمع بين الأحكام الظاهرية والواقعية ، وتصوّر الأمر بالمهم عند عصيان الأهم ، وغيرهما ، وقد أوضحنا ذلك فيما سلف من هذا الكتاب.

وعليه فالمولى عند نهيه عن الغصب لا يمكنه ملاحظة عصيانه الّذي هو

__________________

(١) مطارح الأنظار : ١٥٥.

٣٦١

موضوع الأمر بالخروج وعنوانه ، بل يكون طبيعة الغصب متعلّقة للنهي حتى في صورة العصيان ، لا بالإطلاق الاصطلاحي ، بل على نحو شمول الحكم لصورة الشك فيه ، وأشباه ذلك.

ثم باللحاظ الثانوي يمكنه فرض العصيان وجعله موضوعا لحكم آخر فيأمر بالخروج أمرا مشروطا بالعصيان.

وهذه المسألة مع مسألة الترتّب رضيعا لبان ، وماتحان من قليب واحد ، فراجع ما حقّقناه فيها يتضح لك هذه.

وهذا هو الّذي أراده الفصول بقوله : « فيكون للخروج بالقياس إلى ما قبل الدخول وما بعده حكمان متضادان أحدهما مطلق وهو النهي عن الخروج ، والآخر مشروط بالدخول وهو الأمر به » (١) إلى آخره.

فقول الفاضل المقرّر : « يلزم أن يكون موضوع التخلّص طاعة ومعصية » (٢).

فيه : أنه لا يلزم ذلك ، بل اللازم منه أن يكون طاعة في زمان المعصية ، وهذا ليس بمحال ، وإنما المحال البعث على الضدّين ، وكون كلّ من النهي والأمر يقتضي مفاد هيئته ، والمفروض في المقام سقوط النهي عن الاقتضاء بالعصيان.

ونظير هذا الإشكال ما أورد على الترتّب بين الضدّين ، بأن الأهمّ مطلوب في مرتبة المهمّ فيعود محذور البعث على الضدّين ، والجواب عنه قريب ممّا ذكرناه هنا.

إن قلت : زمان تقاضي النهي الترك ، والبعث إليه باق بالنسبة إلى مستقبل الزمان.

قلت : قد أورد بمثله على الترتب أيضا ، وأجابك عنه السيد الأستاذ بما

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ١٣٩.

(٢) مطارح الأنظار : ١٥٥.

٣٦٢

مرّ في تلك المسألة.

ويكفي للجواب هنا ما في الفصول من أن ترك جميع أفراد الغصب غير ممكن لوقوعه ، والعقل والنقل يبيّنان زمن الخروج وقد مرّ بألفاظه فراجع.

وتخلّف زمان باعثيّة النهي عن زمان المعصية غير عزيز ، وظاهر من القاعدة التي ذكرها ، والأمثلة التي مثّل بها ، فمن ترك المسير إلى الحج لا شك أنّ زمان سقوط النهي بمعنى عدم تأثيره في ذي القعدة مثلا ، وزمان المعصية ذو الحجة ، وهكذا ، ولله تعبير الفصول عن هذا المعنى بقوله : « يجري عليه حكم المعصية » (١).

وأما قول المحقق الفاضل المقرّر طاب ثراه : « وأما ما استند إليه في دفع ذلك من اختلاف الزمان ، ففيه خبط ظاهر لا يليق بأهل النّظر ، فكيف بمن (٢) هو بمنزلة ربّهم » (٣).

وإنما أقول : لو كان مراده هذا الّذي فهمه من كلامه ، وفهمه جميع من تعرّض له ، واعترض عليه فهو كما قال ، وأنا أزيد عليه وأقول : لا يليق بصبيان الكتّاب (٤) ، فكيف بمصنّف مثل هذا الكتاب ، لأنهم حملوا كلامه على أنه يقول في زمان التخلّص هو حرام بالنهي السابق ، وواجب بالأمر اللاحق فهو مأمور به ، ومنهي عنه معا فيجب فعله وتركه ، وجعلوه بمنزلة قول القائل : لا تهن زيدا في داري وأهنه حال خروجه. من غير أن يكون الأمر مقيّدا للنهي ولا ناسخا له ، وحاشاه وحاشا كلّ عالم ، بل كلّ عاقل من هذا السخف.

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ١٣٨.

(٢) هذا هو التعبير الّذي ينبغي من محقّق مثله عن مثل هذا العلاّمة ، لا ما تعوّد قلمه من لفظ بعض الأجلّة لا غير ، وما زالت الأشراف يهجا ويمدح. ( منه )

(٣) مطارح الأنظار : ١٥٥ ـ ١٥٦.

(٤) الكتّاب : المكتب. الصحاح ١ : ٢٠٨ ( كتب ).

٣٦٣

وأما الّذي قصده فهو بمعزل عن هذا التفسير ، وما أوردوه بمعزل عن مراده بل أراد أمرا واضح الصحّة بعد البيان ، فإنه بعد ما أوضح عدم اجتماع الضدّين بقوله : « فيكون للخروج إلى ما قبل الدخول وما بعده حكمان ـ إلى قوله ـ باعتبار الحالين » (١) في كلامه السابق نقله ، أراد بيان أمر ربما يخفى على بعض الأذهان ، وهو تصوّر انقلاب الغصب المبغوض المحرّم إلى المحبوب الواجب ، وقد كان قبل انطباق عنوان الخروج مبغوضا وحراما ومشمولا للنهي ، فبيّن جوابه بقوله : « ولو كانت مبغوضيّة شيء في زمان مضادّة لمطلوبيّته في زمان لامتنع البداء في حقنا مع وضوح جوازه » (٢) وأوضحه بالبداء عندنا لا عنده تعالى فإنّه على ما ذكر في محلّه : إبداء بعد الإخفاء ، فإنّ أحدنا إذا عزم على التوطّن في بلد طول عمره ، ثمّ بدا له بعد سنة لظهور أمر خفي عليه فعزم على المسافرة.

وفي الإرادة التشريعيّة لو أمر ولده به ، ثمّ بدا له لذلك ، لا شك أنّ العزم الأول والإرادة الأولى كانا شاملين للزمان الّذي بدا له فيه ، وإلاّ لم يكن بداء ، بل كان نسخا أو تقييدا.

فانظر رعاك الله ، هل تجد فيه مغمزا أو مجالا لقول الفاضل المقرّر :

« اختلاف الزمان إنما يجدي في دفع التناقض فيما إذا كانت القضية السالبة واقعة في أحدهما ، والموجبة في الآخر ، مثل قولك : زيد قائم أمس وليس بقائم في الغد.

وأما إذا كان الزمان على وجه لو اعتبر في الفعل ، يصير عنوان الفعل مغايرا للعنوان الّذي كان وجها للفعل وعنوانا له فلا يعقل أن يكون اختلاف الزمان في مثله رافعا للتناقض » (٣).

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ١٣٩.

(٢) الفصول الغرويّة : ١٣٩.

(٣) مطارح الأنظار : ١٥٦.

٣٦٤

ثم أوضحه بما يكاد أن يكون تكرارا لاعتراضه الأول ، وأراك قد علمت أنّ الفصول لم يرد باختلاف الزمانين الجواب عن التناقض الّذي يحاولون إلزامه به ، أعني اجتماع الضدّين في الخروج ، فإنه قد أجاب عنه أوّلا بكون النهي مطلقا ، والأمر مشروطا ، وإنما أراد به ما نبّهناك عليه من إمكان كون شيء محكوما بحكمين في زمانين.

كما أجاب عن اعتراض ربّما يورد عليه وهو انتفاء الموصوف في الزمن السابق ، فقال : « لوجوده في علم العالم ولو بوجهه الّذي هو نفسه بوجه » (١).

فهو كما قيل : إذا قال لم يترك مقالا لقائل ، لا يرى ثلمة في كلامه إلاّ سدّها ، ولا بابا للاعتراض إلاّ أغلقه ، فكل من هذه الجمل الثلاث جواب عن اعتراضات ثلاثة ، والفاضل المقرّر وموافقوه جعلوه جوابا للتناقض ، فقال ما سمعت أوّلا.

وقال ثانيا : « فلأنّا لو سلّمنا أنّ اختلاف الزمان يجدي في دفع التناقض في المقام ، إنّه قد قرّر في محلّه أن اختلاف نفس الزمان من دون أن يكون رجوعه إلى اختلاف عنوان الفعل لا يصلح لأن يكون وجها لتعلّق النهي والأمر بشيء واحد شخصي » (٢) إلى آخره.

على أنّ اختلاف العنوان حاصل ، وهو التخلّص الّذي جعله في مذهبه عنوان الوجوب ، ولعلّه أمر بالتأمل لأجله ، فتأمّل.

أما قوله ثالثا : « فلأنّ القول بإجداء اختلاف الزمان ينافي ما هو بصدده من إجراء حكم النهي السابق عليه ، كيف وقد فرض اختصاص النهي بالزمان السابق » (٣).

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ١٣٩.

(٢) مطارح الأنظار : ١٥٦.

(٣) مطارح الأنظار : ١٥٦.

٣٦٥

لا أدري كيف ينافيه وقد كانت الحركات الخروجيّة مبغوضة محرّمة قبل الدخول كالحركات الدخولية ، وبعد حصول الشرط المحرّم سقط النهي لمكان الضرورة ، فكان زمان الخروج زمان معصية النهي ، فيجري عليه حكمها ، كما سبق بيانه ، إذن فما قوله بعده : « فلو فرض أنّ شرب الخمر بالأمس كان حراما ، لا وجه لإجراء حكمه في اليوم » (١).

سبحان الله ، أين النهي الشامل لجميع الأزمنة ، ثم رفع اليد في بعضها للضرورة من حرمة شرب الخمر بقيد الأمس؟

لا وزمام العلم ، ما كنت أرضى لمثل هذا المحقّق مثل هذا النقض مع هذا البعد الشاسع بين المقامين.

وهل سائل من هذا الفاضل أنّ مذهب الفصول لو كان اختصاص النهي بالزمان السابق فأين التناقض الّذي يحاولون إلزامه به؟.

ولعمري صدور أمثال هذه الاعتراضات من هؤلاء الأماثل ممّا يوجب العجب.

وأعجب منه قوله بعد ذلك : « على أنّ استفادة الحكم المذكور من الدليل اللفظي الدالّ على حرمة الغصب لا يخلو عن إشكال ، فإنه يدلّ بعمومه على تحريم جميع أفراد الغصب في مرتبة واحدة ، وأما الترتيب المذكور فممّا لا يعقل استفادته من الدليل المذكور » (٢).

وكأنه كلام من لم ينظر عبارة الفصول ، أو لم يطالعها بتمعّن ، لأنه قد أسلف الجواب عنه بقوله : « لا بدّ من ارتفاع النهي عن الغصب في تلك المدّة ، وليس إلاّ صورة الخروج لدلالة العقل والنقل على أنه مأمور بالخروج » (٣).

__________________

(١) مطارح الأنظار : ١٥٦.

(٢) مطارح الأنظار : ١٥٦.

(٣) الفصول الغرويّة : ١٣٨.

٣٦٦

وقوله في التوضيح : « إذا دخل فيه ارتفع تمكّنه من تركه بجميع أنحائه مقدار ما يتوقف التخلّص عليه ، فيمتنع بقاء إرادة تركه » (١) إلى غير ذلك.

فهل يريد هذا الفاضل أن يستفيد من دليل الغصب التكليف بالمحال وهو ترك جميع [ افراد ] (٢) الغصب ، أو يعيّنه في غير الخروج الّذي دلّ العقل والنقل على وجوبه؟ وما ذا ترى أن تستفيد من دليل الغصب ، وحكم العقل والنقل بوجوب الخروج إلاّ ما قاله الفصول ، فراجع الفصول ، وانظر إلى هذا الاعتراض ، وسل الله العصمة.

وبهذه الوجوه استظهر سقوط هذا القول جدّاً ، ولا شك في سقوط أحد القولين ، ولكن بالله لا تسأل عن التعيين ، وصيرفيّ العلم لا يخفى عليه الجيّد من الزيف.

وجعل خاتمة اعتراضاته ، قوله : « إن النهي عن التصرف في ملك الغير على وجه الإطلاق والأمر به مشروطا لا يخلو عن التناقض ، فإنّ النهي على جميع التقادير ينافي الأمر على تقدير خاص » (٣).

وهذا هو إشكاله الوحيد ، ولا أدري ما الّذي دعاه إلى التكرار ، وجوابه علم ممّا قرّرناه من أول المسألة هنا.

وإذا وصل الأمر إلى مؤاخذة التهافت فلما ذا غفل أو تغافل عن الّذي يلزمه في مذهبه؟! لأنّ وجوب الخروج إن كان مطلقا وجب الدخول من باب المقدّمة ، وإن كان مشروطا لم يجب قبل حصول شرطه ، فالجمع بين حرمة الدخول ووجوب الخروج من الأول لا يخلو عن التنافي.

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ١٣٩.

(٢) الزيادة يقتضيها السياق.

(٣) مطارح الأنظار : ١٥٧.

٣٦٧

هذا ، وفذلكة القول في هذا المذهب أنّ الغصب بجميع أفراده وجميع أزمانه مبغوض ، منهي عنه ، ومعاقب عليه في ضمن أيّ فرد وجد ، وبعد الدخول يجب الخروج ، ووجوبه مولويّ نفسيّ كسائر الأوامر النفسيّة التي مصلحتها التخلّص من المفسدة كالأمر بشرب الدواء المرّ بعد عروض الداء.

ولا فرق بين الغاصب لها والواقع قهرا فيها ، فكلاهما مأموران بالخروج مع وجود المبغوضيّة الذاتيّة.

والفرق صحّة عقاب الغاصب ، لوقوع الغصب باختياره ، وتمكنه من ترك الخروج بترك الدخول ، وهذا مراد الفصول من جريان حكم النهي ، وكون الخروج ظرفا لمعصيته ، وموضوع الواجب هو الخروج ، وهو مفهوم واضح كالدخول ، فالإطالة في كونه مقدّمة للواجب أو ملازما له ونحو ذلك من التطويلات المملّة ، فصاحب القول الحق في راحة منه ، فالتعرّض منه له ضرب من العبث.

وقد مرّ أول البحث أنّ صاحب الكفاية يوافق صاحب الفصول في كونه منهيّا بالنهي السابق الساقط ، ويخالفه في كونه مأمورا بالخروج ، ولكن الظاهر أنّ مراده من جريان حكم النهي غير الّذي يقوله الفصول ، فليتأمل من شاء فإن وجده موافقا ، وإلاّ فليعرف جوابه ممّا تقدّم.

ومن الظريف في مذهب هذا الأستاذ الالتزام بخلوّ الخروج من الأحكام الخمسة ، وكونه غير محكوم بأحدها على ما هو لازم مذهبه وصريح المنقول عنه ، فيكون حال العاقل البالغ المختار حال الطفل أو المجنون في فعل اختياري.

هذا ممّا يحكم بفساده العقل والنقل ، ودعوى الضرورة على خلافه غير بعيد ، وقد صرّح بعدم إمكانه في بعض فوائده ، فقال : « بناء على مذهبنا من عدم خلوّ واقعة من الوقائع من حكم من الأحكام الخمسة ».

واعلم أنّ من حسن صنيع الله إلى هذا العلاّمة وأخيه الشيخ الإمام ، أنه

٣٦٨

قلّما عاب أحد عليهما مقالة إلاّ ووقع فيها أو فيما هو أشدّ منها ، وقد سبق في هذا الكتاب شواهد على ذلك ويأتي إن شاء الله أمثالها.

وهذا المقام أحدها ، فإنّ صاحب الكفاية بعد ما أورد على الفصول بلزوم اتصاف فعل واحد بعنوان واحد بالوجوب والحرمة ، قال ما لفظه :

« ولا يرتفع غائلته باختلاف زمان التحريم والإيجاب قبل الدخول أو بعده مع اتّحاد زمان الفعل المتعلّق لهما وإنما المفيد اختلاف زمانه ولو مع اتّحاد زمانهما ، كما هو أوضح من أن يخفى » (١).

نعم لا يخفى على صاحب الفصول هذا الواضح ـ وهو أرفع مقاما من الجهل ـ بأنّ الفعل الواحد لا يمر عليه زمانان ، ولكن قد عرفت بما لا مزيد عليه إنه يقول بسقوط النهي وارتفاع الحرمة التشريعيّة عن الخروج ، وتمحّضه للوجوب إلاّ إجراء حكم النهي الساقط السابق بالمعنى السابق.

ولكن هلم إلى ما في حاشية هذا الأستاذ على مكاسب الشيخ الأعظم من الالتزام بأنّ المال في البيع الفضولي بعد صدور البيع وقبل الإجازة محكوم بكونه ملك من انتقل عنه واقعا ، وبعد الإجازة يكون محكوما بكونه ملكا في ذلك الزمان بعينه لمن انتقل إليه واقعا ، ولا منافاة بين الحكمين أصلا ، لتعدّد زمان الحكمين وإن اتّحد زمان المتعلّق.

فهب ـ رعاك الله ـ أنّ في كلام صاحب الفصول كانت علّة ـ وحاشاه منها ـ فنحن قد أزحناها بما لا مزيد عليه ، ولكن ما ذكره هذا الأستاذ ممّا يعجز نطاسيّ (٢) العلم عن إصلاحه ، وكيف يصلح وصريحه كون الملك الواحد في الزمان الواحد ـ الواقع بين العقد والإجازة ـ لمالكين مستقلّين.

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٧٢.

(٢) التنطّس : دقّة النّظر في الأمور واستقصاء علمها. مجمع البحرين ٤ : ١١١ ( نطس ).

٣٦٩

بناءان ساقطان

بنى بعض أساتيذنا صحة ما ذهب إليه الفصول على مسألة جواز الاجتماع نظرا إلى تعدّد العنوان ، فإنه منهي عنه قبل الدخول ومأمور به بعده لكن بعنوان التخلّص.

وبنى صاحبنا العلاّمة صحّته على كون الخروج مقدّمة لترك الغصب الزائد ، ولذا اختار مختاره على هذا التقدير ، وقول صاحب الكفاية على تقدير عدم المقدّميّة (١).

وكلا البناءين ساقطان ، أمّا الأوّل ، فلأنّ من المقرّر في مورد الكلام في الاجتماع أن يكون الفرد مصداقا لهويتين متباينتين داخلتين تحت مقولتين ، موجودة كلّ واحدة منهما بمختصّاتها كما مرّ تفصيله. وأين ذلك من هذه المسألة التي ليست إلاّ مقولة واحدة تشتمل إحداهما الأخرى؟ بل هي أحد أفرادها ومصاديقها ، ولعلّه لا يريد كونها من جزئيّات تلك المسألة ، بل يريد إجراء مناط تعدّد الجهة فيها.

وأيّاً كان ، فلا يجدي ما سمّاه تعدّد العنوان لأنّ ما ذكرناه من تأخّر عنوان الخروج رتبة عن النهي إن صحّ ـ وقد صحّ إن شاء الله ـ صحّ ما ذهب إليه الفصول ، ولو لم يجد تعدّد العنوان في تلك المسألة ، وإلاّ فلا يجدي هذا التعدّد ، ويظهر لك ذلك بإمعان النّظر فيما قدّمناه.

وما صدّه عن اختيار قول الفصول إلاّ زعمه منافاة انقلاب التكليف مع بقاء أثر الحكم ، كما صرّح به ، وكأنه فهم من بقاء الأثر غير ما أراده صاحب الفصول ، وإلاّ فهو أرفع مقاما من توهم منافاة صحة العقاب على النهي السابق

__________________

(١) درر الفوائد ١ : ١٢٨.

٣٧٠

مع الأمر اللاحق.

وأمّا الثاني فلما عرفت من أنّ الخروج واجب نفسي كسائر الواجبات النفسيّة ، يثاب عليه مع الإطاعة ، ويعاقب على عصيانه ، وتفصيل جميع ذلك قد مرّ مفصّلا ، فلا أملّك بالتكرار.

( حكم الصلاة حال الخروج )

قال في الفصول : « ثم على المذهب المختار هل تصح منه الصلاة المندوبة وما بحكمها موميا حال الخروج وما بحكمه؟ وجهان : من ارتفاع الحرج عن تصرفه في تلك المدّة ، ومن أنها كانت مطلوبة العدم قبل الدخول ، فلا تكون مطلوبة الوجود بعده ، وإلاّ لزم أن تكون فاسدة بالنسبة إلى حال ، وصحيحة بالنسبة إلى حال وهو محال ، لأن الصحّة والفساد وصفان متضادّان يمتنع تعلّقهما بمحلّ واحد ولو باعتبار زمانين ، والمعتمد الأول.

والجواب عن الثاني أنّ تأثير النهي في البطلان ليس كتأثيره في استحقاق العقوبة مطلقا ، بل مشروط ببقائه ، ومع انتفائه ينتفي موجب البطلان ، فيبقى موجب الصحّة بلا معارض.

نعم قد يتطرق الإشكال إلى الصحّة باعتبار توقفها على أمر يزيد على الخروج ، ولتحقيق ذلك محل آخر » (١).

وقال الفاضل المقرّر بعد ما تقدم نقله : « ثم إنه يظهر منه التردّد في صحّة صلاة النافلة حين الخروج حيث قال : وعلى المذهب المختار هل يصح منه الصلاة المندوبة وما بحكمها موميا حال الخروج؟ وجهان : من ارتفاع الحرج في تلك المدّة ، ومن أنها كانت مطلوبة العدم ، ثم اختار الصحّة.

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ١٣٩.

٣٧١

وفيه أولا ، لا وجه للقول بالصحّة على مذاقه ، فإنّ زمان الخروج زمان المعصية فعلا وإن كان زمان النهي سابقا ، كما ستعرف » (١).

حقّا أقول : لو لا علمي بأنّ هذه الجملة من كلام هذا الفاضل ، ونقلي لها من كتابه ، لتوهّمت أنّه كلام من لم ير كتاب الفصول في هذه المسألة ، ولم يقرع صماخ سمعه مختار صاحبه.

ولو جرى ـ طاب ثراه ـ على عادته غالبا من نقل تمام كلامه لما بقي له محل لهذا الاعتراض ، لأنه أوضح جوابه فيه بأتم بيان ، بعد ما أعطى الاعتراض حقّه من التوضيح ، فراجع ما نقلناه من قوله : « تأثير النهي في البطلان » (٢) تعرف صحّة ما قلناه.

ولقد تكرّر من أول البحث إلى هذه الغاية أنّ المنافي للأمر هو النهي في مرتبة بعثه وتقاضيه العدم ، وبعد سقوطه عنها لا يبقى إلاّ المبغوضيّة الذاتيّة ، وكثير من موارد الأوامر التشريعيّة ـ إن لم يكن أكثرها ـ من هذا النمط ، أليس الرّجل الغيور يأمر الطبيب بكشف بدن زوجته ومسّه إذا توقف عليهما العلاج ، والوالد البارّ بولده يأمر بضربه للتأديب؟ إلى غيرهما.

وبالجملة فمن أوضح الأشياء أنّ المبغوضية الذاتيّة لا تنافي المحبوبيّة التشريعيّة بل التكوينيّة ، ولذا يقدم على تجرّع مرّ الدواء لمصلحة الإبلال (٣) من الداء.

وبالجملة النهي لا يقتضي الفساد بذاته بل باقتضائه الترك ، فلو نهيت عبدك عن التردّي من الجبل فتردّى ، وسقط النهي عن تأثيره لارتفاع التمكّن ، فهل تجد مانعا من أمره بأن يوجّه يمينه نحو الشمال ويحرك شماله حال السقوط؟

__________________

(١) مطارح الأنظار : ١٥٧.

(٢) الفصول الغرويّة : ١٣٩.

(٣) أي : الشفاء. الصحاح ٤ : ١٦٣٩ ، القاموس المحيط ٣ : ٣٣٧ ( بلل ).

٣٧٢

كما كان يمثّل به السيّد الأستاذ ، فما الّذي يمنع الشارع من أمر الغاصب بالصلاة وتطبيق حركاته الخروجيّة على حركتها؟ إذ لا فرق بين التعبّديات والتوصليات إلاّ من جهة قصد القربة.

والداهية الدهياء قوله بعد اعتراضه الأول ما لفظه :

« وثانيا لا نعرف وجها لإفراد الصلاة المندوبة بالبحث بعد ما عرفت من أنّ المناط في الصحة والبطلان على النهي وعدمه ، فلو قلنا بأن زمن الخروج ممّا لا يتعلّق بالمكلّف نهي ، وليس أيضا زمن المعصية ، فالصلاة صحيحة سواء كانت واجبة أو مندوبة » (١) إلى آخره.

ومتابعة الأستاذ له في فوائده ، وقوله : « أمّا على القول بإجراء حكم المعصية عليه ، سواء قلنا بكونه مأمورا به أم لا ، فلا وجه للحكم بصحّة صلاة الفريضة في سعة الوقت ولا النافلة ـ إلى أن قال ـ فانقدح بذلك ما في الفصول من التردّد في صحّة النافلة المشعر بجزمه بالصحّة في الفريضة ، حيث إنه لا وجه له على ما ذهب إليه للصحّة في الفريضة ، ولو كان له وجه فلا يكاد أن يكون معه وجه للفرق بين النافلة والفريضة ، وهذه التفرقة إنما يتمّ إذا كان وجه الصحة إجماع أو دليل آخر » (٢).

لا أدري كيف خفي الوجه الواضح في تخصيص النافلة بالصحّة!؟ مع أنه في أعلى مدارج الوضوح ، وهو أنّ النافلة يختص بموجب الفتاوى والنصوص بجواز الإتيان بها راكبا وماشيا ، ولا يشترط فيها الاستقرار ، ولا القبلة ، ونحوهما ، فيمكن أن يؤتى بها في حال الخروج ، بخلاف الفريضة التي لا يمكن الإتيان بها حال الخروج إلاّ في ضيق الوقت ، الخارج عن محلّ الكلام.

ولقد زاد الأستاذ ضغثا على إبّالة ، وعجبا على عجب في قوله : مشعرا

__________________

(١) مطارح الأنظار : ١٥٧.

(٢) فوائد الأصول : ١٦٢ ـ ١٦٣.

٣٧٣

بالصحّة في الفريضة.

وليت شعري ما هذا الإشعار وما سببه؟ فانظر كيف عكس الأمر ، فجعل الصحّة للفريضة ، ثم التجأ إلى توجيهه بقيام الدليل من إجماع وغيره ، مع أنّ الظاهر قيام الإجماع على عدم صحّة إتيان الفريضة اختيارا على هذه الصفة.

( العبادات المكروهة )

هذه إحدى المسائل الصعبة ، وما صعبت إلاّ لتفسير العبادة بما يعتبر فيها قصد الامتثال ، المفسر بقصد الأمر الملازم للرجحان والمحبوبيّة ، كما أوجب ذلك صعوبة تصوّر اعتبار قصد الأمر فيها.

وقد سبق منّا ـ في بحث الأمر ـ عدم اعتباره في معنى العبادة فضلا عن اعتبار قصده ، ولا الرجحان والمحبوبيّة.

وقلنا : إنّ العبادة من حيث ذاتها قابلة للأحكام الخمسة كسائر أفعال المكلّفين ، ولكن لا بد لنا من إعادة ما أسلفناه ، وتفصيل ما أجملناه.

فنقول : العبادة من الأفعال القصدية كالتعظيم والتحقير ، فكما لا يتحقّقان إلاّ بأمور ثلاثة : القصد ، وكون الفعل ممّا يحصلان به طبعا أو جعلا ، وتعيين من يعظم أو يحقر ، فكذلك العبادة التي حقيقتها إظهار الخضوع والتعظيم والانقياد ونحوها من المعاني المتقاربة.

فالسجدة التي تكاد أن تكون عبادة طبيعيّة متى أوقعها المؤمن لله تعالى كانت عبادة له امر بها أم لا ، كما أنّ الكافر إذا أوقعها لندّه كانت عبادة للصنم من غير توقف على أمر آخر غير الأمور الثلاثة أمرا كان أو غيره.

ونقول بعد ذلك : إنّ العبادة قد تكون ذات مصلحة ملزمة أو غير ملزمة ، وقد تكون فيها مفسدة كذلك ، كالصلاة واجبة ومستحبة ، وكصوم العيدين والأيام المكروهة.

٣٧٤

وانظر إذا أردت توضيحه بالمثال إلى حال السوقة (١) مع الملوك ، فإنّ المثول (٢) بين أيديهم للخضوع والتعظيم قد يكون لازما لا يرضى الملك بتركه كأيام المواسم والأعياد ، وقد يكون محبوبا من غير لزوم كسائر الأيام ، وقد يكون مبغوضا لديه كما إذا كان الماثل في حال لا ينبغي حضوره لديه ، أو كان الملك في حال لا يجب تعظيمه ، بل يبغضه أشدّ البغض كما لو كان مختفيا من عدوّ يرصده ، فلو عظّمه أحد بالتعظيم المختصّ له عرفه العدوّ فقصده.

وإذا صحّ عند وجدانك أمثال هذا المثال وإن كان الله لا يضرب له الأمثال ، فقس عليها الصلاة ، فما هي إلاّ المثول بين يديه تعالى ، كما يرشد إليه قولهم عليهم السلام : « الصلاة معراج المؤمن » (٣) تجب في الأوقات الخمسة ، وتستحب في كثير من الأوقات ، وتكره في الأوقات الثلاثة ، وتقع من الطاهر دون الطامث ، لكونها في حالة قذرة لا تصلح لها معها.

وإن شئت مثّلها بالهديّة ، كما يشير إليه قولهم عليهم السلام : « الصلاة بمنزلة الهديّة » (٤) فكما أنها تتحقق بالأمور الثلاثة وهي قابلة للأحكام الخمسة ، وتختلف باختلاف أحوال المهدي وزمان الإهداء ، فلتكن الصلاة كذلك.

وما الّذي يمنع من القول بأنّ صلاة الحائض حرام شرعي لا تشريعي ، وأنّ صلاتها وهي حائض كتركها لها وهي طاهر؟

وما الّذي يدعو إلى تأويل ظواهر السنّة وفتاوى الأصحاب بأنّ المراد منها المانعيّة وموانع الصلاة كثيرة؟ ولأمر ما خصّ الحيض بهذا التعبير؟

وأظنّك لا تحتاج إلى زيادة توضيح ، وعلمت أنّ الأمر يتعلّق بالعبادة ، لا أنها

__________________

(١) السوقة : الرعيّة. مجمع البحرين ٥ : ١٨٨ ( سوق ).

(٢) أي : القيام منتصبا. مجمع البحرين ٥ : ٤٧١ ( مثل ).

(٣) لم نعثر عليه في المصادر الحديثية.

(٤) الكافي ٣ : ٤٥٤ ـ ١٤ ، التهذيب ٢ : ٢٦٧ ـ ١٠٦٥ و ١٠٦٦ ، الاستبصار ١ : ٢٧٨ ـ ١٠٠٩ و ١٠١٠.

٣٧٥

تكون عبادة بالأمر ، وإذا أمكن عبادة محرّمة كصوم العيدين ، وصوم الوصال ، وغيرهما من الصوم المحظور ، فالأولى به العبادة المكروهة ، فيقيّد مطلقات العبادات بالدليل الدالّ على الحرمة أو الكراهة.

وليعلم أنّ للعبادات الواجبة والمستحبة سننا وآدابا من تروك وأفعال ، وقد يظنّ أنّ النواهي الواردة من هذا القبيل تدلّ على كراهتها فتعدّ في عداد العبادات المكروهة.

وليس كذلك ، إذ النهي فيها ليست عن العبادة لتكون مكروهة ، بل نهي عنها في العبادة ، وفرق واضح بين النهي عن الشيء وبين النهي عنه في الشيء.

فالنهي عن الصلاة عند طلوع الشمس غير النهي عن التثاؤب (١) في الصلاة ، إذ الأول تخصيص لعموم الأمر بالصلاة ، والثاني اعتبار عدم الشيء في الفرد الداخل فيه ، الشامل عموم الحكم له ، فالصلاة في الأوقات الثلاثة ملحوظ بلحاظ الفرديّة ، والنهي عنها مخصّص للعموم الزماني الدالّ على رجحان طبيعة الصلاة ، بخلاف النهي عن صلاة الحاقن (٢) والحاقب (٣) والحازق (٤) ، فإنّ العناوين الثلاثة لم تلحظ إلاّ بعنوان أنها حالات للمصلّي.

وإذا شئت زيادة التوضيح فارجع إلى مثال الهديّة السالف ، فشتّان بين ألطاف تهديها إلى بعض أخلاّئك وهي مطيّبة بأزكى طيب ، ومغطّاة بأنظف منديل ، ومحفوفة بصنوف الأزهار والرياحين ، وبين ما تكون بالضدّ من ذلك.

ثم انظر الفرق بين الهديّتين وموقعهما عند خليلك ، مع أن الألطاف هي

__________________

(١) التثاؤب : فترة تعتري الشخص فيفتح عندها فاه. مجمع البحرين ٢ : ١٦ ( ثأب ).

(٢) الّذي به بول شديد واحتبسه. الصحاح ٥ : ٢١٠٣ ، لسان العرب ١٣ : ١٢٦ ، مجمع البحرين ٢ : ٤٥ ( حقب وحقن ).

(٣) الحاقب : الّذي احتبس غائطه. مجمع البحرين ٢ : ٤٥ ( حقب ).

(٤) الحازق : الّذي ضاق عليه خفّه فحزق رجله أي : عصرها وضغطها. النهاية لابن الأثير ١ : ٣٧٨ ، مجمع البحرين ٥ : ١٤٥ ( حزق ).

٣٧٦

تلك نوعا ومقدارا ، ولكن انضمّت إلى تلك بما رفع قدرها وشأنها ، وإلى هذه ما خفض مقامها وشأنها.

وكذلك البعد بين صلاة متطيّب في أحسن زيّ ، وأشرف مكان ، مع حضور القلب ، وخشوع الجوارح ، وبين صلاة متّصف بأضداد هذه.

وبالجملة الصلاة في الحمام وفي معاطن الإبل مكروهة ، بمعنى تقابل استحبابها في المساجد والمشاهد ، وصوم ثاني شوال مكروه ، بمعنى أنه منهيّ بذاته كحرمة صوم أوله ، إلاّ أنّ ذلك نهي تحريم ، والثاني نهي كراهة.

والفرق بين القسمين واضح في مقام الثبوت ، وأما في مقام الإثبات ، فقد يشكل الفرق ، والمتّبع حينئذ لسان الدليل ، ومناسبة الحكم والموضوع.

ولو لا تكلّف من حملها على الإرشاد ، أو أقلّية الثواب لشرح مراده ، لكان ما قلناه قابلا لأن يكون شرحا له.

واعلم أنّ من الممكن أن يكون بعض الأفعال مكروهة حال الصلاة كراهة مستقلّة ، بمعنى أن تكون العبادة ظرفا لها من غير أن تمس العبادة أصلا ، كما يتصوّر مثله في المستحبّ ، كالدعاء لطلب الرزق في السجدة الأخيرة ، ولطلب الولد في القنوت ، إذ الظاهر أنّ ذلك لكون الدعاء فيهما أقرب إلى الإجابة ، لا أنّ الصلاة تكتسب بهما مزيّة وفضيلة.

فاستبان ممّا ذكرناه أنّ العبادة التي تستحق إطلاق المكروه عليها ما كانت من قبيل الأول ، ولا أشاحّك في إطلاقه على غيرها ، بل أكره لك مخالفة الاصطلاح إذا حفظت المعاني ، ولم تغرّك الألفاظ ، ولا يصدّك عن ذلك إلاّ الشغب (١) بمخالفة الإجماع ، ومن لك بمحصّله وأنت تعلم حال منقوله.

على أنه لو شئت قلت : إجماع الفقهاء على صحّة هذه الصلاة ممّا لا معنى

__________________

(١) الشغب : تهيّج الشرّ. مجمع البحرين ٢ : ٩١ ( شغب ).

٣٧٧

له هنا ، لأنها عندهم ما أسقط الإعادة والقضاء ، ولا يتصوّر لها معنى في هذه العبادات ، وقد منع المحقّقون جريان قاعدتي الفراغ والتجاوز ونحوهما في غير الواجبات لا لقصور في أدلّتها ، بل لعدم تصوّر معنى الصحّة فيها ، ولم يكترثوا بالعلم الإجمالي ببطلان إحدى الصلاتين من الفريضة والراتبة.

هذا ، والقوم لمّا أعضلهم أمر هذه العبادات ، لعدم تصوّرهم عبادة غير راجحة فضلا عن المرجوحة ، التجئوا إلى التأويل ، كما اعترف به في الكفاية ، فقال :

« لا بدّ من التصرّف والتأويل فيما وقع في الشريعة ممّا ظاهره الاجتماع بعد قيام الدليل على الامتناع ، ضرورة أنّ الظهور لا يصادم البرهان » (١).

وتلك التأويلات كثيرة فاطلبها من مظانّها ، ونحن نقتصر على ما اعتمد عليه السيد الأستاذ ، وهو تقسيمها إلى ثلاثة أقسام ، كما صنعه الشيخ الأعظم (٢) ومن قبله.

أوّلها : ما تعلّق النهي بعنوان يكون بينه وبين العبادة عموما من وجه كالصلاة في موارد التّهم بناء على أن يكون كراهتها من جهة النهي عن الكون فيها المجامع مع الصلاة.

وثانيها : ما تعلّق النهي بتلك العبادة مع تقيّدها بخصوصيّة ، وهو على قسمين :

أحدهما : ما يكون للفرد المكروه بدل كالصلاة في الحمام.

وثانيهما : ما ليس له بدل كصوم يوم عاشوراء.

أما أول الأقسام ، فملخّص ما ذكره هو الالتزام بعدم فعليّة الكراهة ، وأنّ إطلاق الكراهة عليها نظير إطلاق الحلال على الشاة الموطوءة ، بمعنى أنّ هذا

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٦١ ـ ١٦٢.

(٢) انظر مطارح الأنظار : ١٣٥.

٣٧٨

الفرد لو لا اتّحاده مع الواجب كان مكروها ، وذلك لأنّ الكراهة من جهة عدم منعها من الترك لا يصلح لتقييد أفراد الطبيعة المأمور بها بغير الفرد المجامع لها بخلاف الحرمة ، لأنها من جهة منعها من الترك يلزم امتثال الأمر بغير الفرد المحرّم بحكم العقل بالجمع بين الفرضين.

أقول : الظاهر أنّ أكثر المكروهات ، بل كلّها ـ إلاّ الشاذ منها ـ لا يختص بالعبادات الواجبة ، وقد تقرّر أن الأصل في كلّ نافلة أن يكون بحكم فريضتها ، وإطلاق أدلّتها شاملة لها ، فيبقى الإشكال بحاله فيها.

وأما ثانيها ، فالنهي راجع إلى نفس الخصوصية ، ومن أورد عليه بأنّ خصوصيّة الكون في الحمام ليست مكروهة ، بل قد تكون راجحة ، فقد غفل عن مراده ، إذ المراد كراهة الكون فيه حال الصلاة وهي بحالها من الرجحان من غير أن تمسّها الكراهة ، فقوله : لا تصلّ في الحمام. معناه لا تكن في الحمام حال الصلاة ، وعلى هذا التفسير لا داعي إلى حمل النهي على الإرشاد ، ولا إلى الالتزام بعدم وجود الكراهة الفعليّة.

نعم يبقى للسؤال موقع عن السبب الّذي دعا إلى هذا الإلغاز ، فهلا قال بدل قوله : يكره الصلاة في الحمام : يكره الكون فيه حال الصلاة.

وأمّا ثالث الأقسام وهو ما تعلّق النهي بها ولا بدل لها ، وهو أصعب الأقسام على أصولهم.

وحاصل ما أفاده فيه : أنّ فعلها راجح لكونها عبادة ، وتركها راجح أيضا لانطباق عنوان راجح عليه ، ولكن رجحان الترك أشدّ فيزول وصف الاستحباب عنها ، وتكون الكراهة فعلية.

ولكن لمّا كان مشتملا على الجهة الراجحة تكون عبادة ، إذ لا يشترط في كون العمل عبادة وجود الأمر ، بل يكفي تحقق الجهة.

ويشكل بأنّ العنوان الوجوديّ لا يمكن أن ينطبق عليه عنوان عدمي

٣٧٩

لأنّ معنى الانطباق هو الاتّحاد ، والعدم ليس له وجود خارجي.

واختار هذا الوجه صاحب الكفاية (١) ، بل تجاوزه في درسه إلى إمكان وجود المصلحة في الترك نفسه من غير حاجة إلى عنوان وجودي ينطبق عليه.

وهذا ـ كما ترى ـ مستلزم لاجتماع الراجحيّة والمرجوحيّة في كلّ من الفعل والترك ، إذ رجحان أحد النقيضين يستلزم مرجوحيّة الآخر ، وكذا العكس.

وقد تنبّه لذلك ، ودفعه بما لا يقوم بعبء الدفع ، وحاصله : الفرق بين النهي التحريمي والتنزيهي ، وبيّن الفرق بينهما بما هو أشدّ غموضا من الأول ، ولعلّ ما تعرفه في كلام الفصول ما يرتق به هذا الفتق.

والسيد الأستاذ بعد ما أورد ما سمعت على الوجه السابق أبدى وجها آخر ، وهو أنّ فعل الصوم راجح ، وتركه مرجوح ، وأرجح منه تحقّق عنوان آخر لا يمكن أن يجتمع مع الصوم ، فنهى الشارع عن الصوم الموصل إلى ذلك العنوان.

وعلى ذلك فالنهي إرشادي محض ، إذ مجرّد أرجحيّة الضدّ لا يوجب النهي عن الضدّ الآخر ، بناء على عدم مقدّميّة الضدّ.

ولعلّ السرّ في التعبير بالنهي عن الصوم الراجح بدلا عن الأمر بذلك العنوان الأرجح عدم إمكان إظهار ذلك العنوان.

وهذا ـ رعاك الله ـ قصارى ما عندهم في التخلّص عن هذه المضايق على تفاصيل يطول بنقلها الكلام ، واحتمالات بعيدة غير سديدة ، هذا أقربها وأسدّها ، والجميع راجع إلى إخراج لفظ الكراهة عن معناه ، ومخالفة ظواهر الأدلّة.

هذا صوم يوم عاشوراء الّذي هو المثال المعروف لهذا القسم من مكروه العبادات كيف يمكن القول برجحانه ، وجعل الأرجح ذلك العنوان المجهول

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٦٣.

٣٨٠