وقاية الأذهان

الشيخ أبي المجد محمّد رضا النجفي الإصفهاني

وقاية الأذهان

المؤلف:

الشيخ أبي المجد محمّد رضا النجفي الإصفهاني


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٩

وحاصله : أنّ الطلب يتعلّق بالمقدّمات في لحاظ الإيصال بمعنى أنّ الآمر بعد تصوّر المقدّمات بأجمعها يريدها بذواتها ، وتلك الذوات بهذا اللحاظ (١) لا ينفك عن الإيصال ، وترتب المطلوب النفسيّ عليها ، ولو فرض لحاظه (٢) مقدّمة منفكّة عن سائر أخواتها لم يكن مريدا لها ، لأنها وإن كانت بذاتها موردا للإرادة ولكن مطلوبيّتها في ظرف ملاحظة سائر المقدّمات معها ، ولم يكن كلّ واحدة منها مرادة على نحو الإطلاق بحيث تسري الإرادة إلى صورة انفرادها ، وهذا الوجه يتحد في النتيجة مع القول بالموصلة ، ولا يرد عليه شيء من الاعتراضات السابقة.

هذا حاصل ما استفدنا منه ـ أحسن الله إليه ـ ولكنه يحتاج إلى توضيح ومزيد بيان ، إذ لقائل أن يقول : لا تتعقل مرتبة بين الإطلاق والتقييد (٣) ، ولازم عدم التقييد كفاية المطلق ، فتقع على صفة الوجوب وإن لم تكن موصلة ، وستعرف منّا ـ إن شاء الله ـ في أثناء البحث عن مقام الإثبات ما يزيح كلّ شك وريب ، ويصونه عن كل وصمة وعيب.

وأما الكلام في مقام الإثبات ، فملخّص القول فيه أنّ الغرض من المقدّمة إن كان مجرّد إمكان الواجب الأصلي من ناحيتها بعد ما كان عدمها يوجب العدم فلا وجه للتقييد بالموصلة ، إذ هذا الغرض يحصل بغيرها فلا وجه للتخصص بها.

وإن كان الغرض ترتّب الواجب عليها فلا شك في أنها مع تجرّدها عن الإيصال لا يتعلّق بها الغرض ، فلا يمتثل بها الأمر ، والحكم في هذا المقام للوجدان وحده.

ومن الطريف أنّ كلاّ من الطائفتين يستدل به على معتقده ، ويصول به على خصمه.

__________________

(١) أي لحاظ الإيصال ، وقيل : أي بتصوّر المقدّمات بأجمعها. ( مجد الدين )

(٢) يعني لحاظ الآمر. ( مجد الدين )

(٣) أي الإطلاق بالنسبة إلى قيد الإيصال والتقييد به. ( مجد الدين ).

٢٦١

ويكفي القائل بوجوب مطلق المقدّمة بداهة سقوط الأمر بكلّ مقدمة بعد إتيانها ، ضرورة سقوط الأمر بالامتثال ، وأنه لا يبقى للآمر بعد علمه بإتيانها بعث إليها ولا إرادة ، فلا يأمر بعد قطع مسافة ما إلى قطعها ثانيا ، بل يأمر بطيّ باقي المسافة ، بل يكون طلبها محالا لأنه يرجع إلى تحصيل الحاصل ، وأنّ الإيصال لا يترتب على المقدّمة وحدها إذا كان الواجب يتوقف على غيرها أيضا فلا تكلّف إلاّ ما في وسعها ، وما هو إلاّ ما عرفت من إمكان الوقوع من ناحيتها بعد امتناعها ، فالذهاب إلى السوق إذا صار مقدّمة للطبخ لا يعقل أن يترتب عليه سوى الوقوف على حانوت القصّاب مثلا ، وأمّا وجود المطبوخ فيتوقف على مقدّمات أخرى ، ولا يكون إلاّ إذا قامت كلّ منها بوظيفتها ، ولا يعقل أن يكون له أثر إيقاد النار ، ولا نصب القدر عليها مثلا.

ويكفي القائل بخصوص الموصلة بداهة أنّ الجائع الّذي يطلب الخبز والصادي الّذي يروم الماء لا يسدّ جوع هذا ، ولا يروي عطش ذاك إمكان الخبز والماء ، وإذا لم يقع أحدهما على غرضه ، فامتناعه من جميع الجهات وإمكانه إلاّ من جهة واحدة عنده على حدّ سواء ، بل كثيرا ما يكون عدمها عنده أولى من وجوده ، بل يكون وجودها مبغوضا عنده ، وذلك فيما إذا كانت المقدّمة مشتملة على مفسدة في نفسها.

ألا ترى أنّ الآمر إذا أمر عبده بطلب غريم له في بلد بعيد ، وبذل له نفقة كثيرة لسفره ، وأركبه أعزّ خيله ، فسافر العبد ولم يطلب الغريم ، يصحّ له مؤاخذته قائلا : إذا كنت عاصيا بترك الطلب فلما ذا أتلفت مالي ، وأتعبت فرسي ، وتركت الواجب من سائر خدمتي؟

وكذا لو كان الآمر قد نزل بعينه الماء ، وكان له عبد كحال (١) فأمر بإخراج

__________________

(١) قداح ( خ ل ).

٢٦٢

الماء من عينه ، فخرق طبقات بصره وغادره (١) يقاسي أمضّ الأوجاع على فراشه ، ثم عصى ولم يخرج ماء عينه فهل يشك المنصف الّذي لم يفسد وجدانه بمزاولة الشبهات ، أنّ للآمر أن يعاقبه على ما أورد عليه من الحرج والألم في أعزّ أعضائه (٢) قائلا : إذا لم تمتثل أمري فلما ذا خرقت بصري ، وأطلت ألمي وسهري ورميتني بالمقعد المقيم (٣) ، وتركتني أتململ على الفراش تململ السليم (٤) ، فهل ترى للعبد أن يدفع عن نفسه العقوبة ، بل يطلب منه ـ كما هو مذهب جماعة ـ على فعله المثوبة قائلا : إني قد أدّيت الواجب وفعلت ما فعلت بإرادتك وأمرك فهب إنّ لي معصية واحدة ، فلي عليك ضروب من الإحسان حيث أخرجت مطلوبك الممتنع من عدّة جهات إلى الإمكان؟

وقد عرفت ـ سابقا ـ أنّ السيد الأستاذ كان يتخلّص عن هذه الأمثلة بمدخلية القصد ، ويلتزم بعدم الأمر بالمقدمة إلاّ مع القصد.

ويردّه مضافا إلى ما عرّفناك به سابقا ، أنّ الوجدان شاهد بصحة العقاب على المقدّمات المبغوضة ذاتا حتى لو كان عازما على الإطاعة وقت الإتيان ، ويرى له بعده العصيان ، فراجع وجدانك وأنصف.

وغيره (٥) من مشايخنا (٦) كان يلتزم بأشدّية العقاب على ترك الواجب الأصلي فيعود إليه السؤال عن سبب أشدّيته ، وكيف يكون الإتيان بواجبات

__________________

(١) غادره : تركه وبقّاه ، ومثلها في المعنى أغدره. ( مجد الدين ).

(٢) العين. ( مجد الدين ).

(٣) هو الألم الّذي يقوم الإنسان ويقعد من شدّته. ( منه ره ).

(٤) السليم : اللّديغ ، وبالفارسية : ( ما مار گزيده ) وهو بهذا المعنى مراد في هذا المقام ، ويحتمل أن يكون المراد الجزع الّذي أشفى على المهلكة. ( مجد الدين )

(٥) منصوب لكونه معطوفا على السيد الأستاذ. ( مجد الدين )

(٦) صاحب الكفاية طاب ثراه. ( مجد الدين ).

٢٦٣

متعدّدة وامتثال أوامر عديدة سببا لأشدّية العقاب على معصية واحدة بدلا عن أن يكون سببا لتخفيفه ، أو ليس الوجدان أعدل شاهد على أنّ تلك المقدّمات باقية على حالها من عدم المصلحة وتمام المفسدة والمبغوضية إذا لم يترتب عليه المقصود؟ وأنت ـ أعزّك الله ـ إذا تأملت في هذه الأمثلة وضممت إليها ما لا يحصى من أمثالها عرفت أن لا مناص عنها إلاّ بمصادمة الوجدان ، ومكابرة العيان ، والخروج عن مذاهب الحكمة الحقة إلى السفسطة المموّهة ، وأيّ عاقل يحكم على المستطيع الّذي يخرج إلى حانوت خمّار واقع في طريق القافلة ليشرب الخمر ويرتكب ضروبا من الكبائر بأنه يفعل الواجب في قطع الطريق ، أو أنّ أهل الشام وأهل الكوفة لمّا خرجوا إلى صفّين (١) (٢) ، وإلى الطفّ (٣) لقتال الإمامين (٤) كان سفرهم سفر طاعة (٥) يجب عليهم القصر في الصلاة لا الإتمام لأنّ (٦) الجهاد مع الإمام والدفاع عنه واجب ، ومقدّمته واجبة مطلقا!؟ (٧).

هذا وعهدي بمجلس حافل اجتمعت فيه بخدمة الشيخ الأستاذ صاحب الكفاية ـ طاب ثراه ـ وأنا إذ ذاك غلام قد بقل خدّي أو كاد ، فجرى حديث هذه المسألة وكان من أشدّ المنكرين للمقدّمة الموصلة ، وبعد بحث طويل أوردت عليه أمثال هذه الأمثلة فلم يكن جوابه إلاّ قوله : إنّ معك الوجدان ، ومعي

__________________

(١) إشارة إلى الحرب التي وقعت بين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه ومعاوية بن أبي سفيان لعنة الله عليه ، وكانت بداية هذه الواقعة في سنة ست وثلاثين من الهجرة المقدّسة ، ولشهرة هذه الواقعة المبكية لا نزيد على ما ذكرناه. ( مجد الدين )

(٢) إنه اسم مكان وقع فيه الحرب. ( مجد الدين ).

(٣) كربلاء. ( مجد الدين )

(٤) علي بن أبي طالب ، وابنه الحسين صلوات الله عليهما. ( مجد الدين )

(٥) على بعض الوجوه في سفر الحرام. ( منه رحمه الله )

(٦) دليل لكون سفرهم سفر طاعة ... إلى آخره. ( مجد الدين )

(٧) سواء كانت موصلة أو لا. ( مجد الدين )

٢٦٤

البرهان ، فقلت : إنّ أقصى مدارج العلم أن تنتهي مسائله إلى الوجدان ، فإذا سلّمته وعجزت عن الجواب ـ ولا أعجز إن شاء الله ـ فليس البرهان إلاّ شبهة في مقابلة البداهة ، فسكت رحمه الله ولم ينبس ببنت شفة ، واشتهر بين أهل النّظر أمر هذه المناظرة.

( الحكومة بين الفريقين )

وإني أرى أنّ كلاّ من الفريقين قد أصاب شاكلة الصواب في دعوى الوجدان ، وفي حصول الغرض ، وعدم حصوله ، إذ الغرض غرضان ، غرض في كل مقدّمة مقدّمة ، وهذا لا شك في حصوله بمجرّد إتيانها من غير توقف على غيرها ، ويدل عليه جميع ما عرفت في تقريبه.

وغرض يتعلّق بمجموع المقدّمات ، والغرض الأول تابع للثاني ، كما أنّ الثاني تابع للغرض الأصلي الّذي هو الواجب الأصلي فيتعلّق الغرض أوّلا بالواجب الأصلي ، فيدعو إلى الإتيان بجميع المقدّمات ، لأنّ الواجب لا يحصل إلاّ به.

والغرض الثاني يدعو إلى إتيان كل مقدمة مقدمة لأن المجموع لا يحصل إلاّ بها ، فيريد كلاّ منها ، ليحصل الإمكان من ناحيتها ، ويريد المجموع ليحصل به الوجود.

وإن شئت قلت : الغرض من المقدمة الواحدة وجود الكل ومن وجود الكلّ وجود الواجب الأصلي ، فالغرض غرضان غرض في كل مقدمة مقدمة أعني الإمكان من جهتها وحدها ، وهو يحصل بإتيانها كما ادّعاه منكر الموصلة ، وغرض في الكلّ وهو الوجود ، فيجتمع الغرضان معا مع وجود ذي المقدّمة وينتفي الأول إذا انتفى الثاني ، ولا يبقي غرض فيها مع الانفراد.

٢٦٥

والأغراض المترتبة الكثيرة غير عزيزة ، فالإنسان يريد الدراهم لشراء الأرض ، وشراء الأرض للزرع ، والزرع للثمر ، فإذا فرض عدم ترتب الثمر ، انتفت الثمرة من جميع تلك المقدّمات ، وتوجد جميعا بوجودها.

ويوضّح ما قلناه ملاحظة الواجبات النفسيّة ، فإنّ الغرض قد يتعلّق بالمركّب من عدّة أجزاء ، ويسري ذلك الغرض إلى كلّ جزء جزء في حال الانضمام ، ويختلف الغرضان ، إذ الغرض من الجزء حصول الكل ، ومن الكل الفائدة المترتبة عليه ، والأول تابع للثاني بمعنى لغويّته ، وعدم تعلّق الأمر به لو لا الغرض الأول ، بل ربّما يكون مبغوضا في لحاظ الانفراد كما يظهر من ملاحظة المعاجين المركّبة من الأجزاء السمّية والدرياقية (١).

ولا فرق بين الواجبات النفسيّة والغيريّة من هذه الجهة إلاّ اختلاف نوع الفائدة ، وهو غير فارق في المقام.

ومع انتفاء الغرض ينتفي الأمر قطعا انتفاء المعلول بانتفاء علته ، وقد تنبّه لذلك مقرّر الشيخ ـ طاب ثراه ـ فقال ما نصّه :

« فإن قلت : مراده (٢) من شرط الوجود ما هو شرط لوجود الواجب على صفة الوجوب ، كما يظهر ذلك بملاحظة وجود الأجزاء الواجبة في الصلاة ، فإنّ شرط وجود الجزء على وجه الوجوب لحوق الأجزاء الأخر به ، فكما انّ ( الحمد ) لا يجزي عمّا هو الواجب منه ما لم تلحقه الأجزاء اللاحقة ، فكذلك المقدّمة لا تقع على صفة الوجوب ما لم يترتب عليها الغير ، فهو شرط لوقوعها على هذه الصفة ، لا شرط لوجودها حتى يدور ، ولا لوجوبها حتى يكون متضح الفساد.

قلت : نعم ينبغي حمل كلامه (٣) عليه ».

__________________

(١) أي الترياق. ( مجد الدين )

(٢) أي مراد صاحب الفصول. ( مجد الدين )

(٣) أي كلام صاحب الفصول على المذكور. ( مجد الدين )

٢٦٦

ثم أجاب عنه بأنّ الحال في الأجزاء ليس بأوضح منها في المقدمات والتزم بسقوط الأمر المتعلّق بكلّ جزء بعد الإتيان به (١) ، وبيّنه بما يقرب من بيان الشيخ الأعظم في مسألة استصحاب الصحّة من أن الجزء باق على وجوبه لأنّ ما وقع على صفة يمتنع زوالها عنه ، وبطلانه لفقد شرط آخر كالموالاة ، أو لمانع كالحدث لا يوجب فساد الجزء المأتي به (٢) ، وليس هنا محل بيان هذا البحث ، وتعرفه إن شاء الله في مسألة الاستصحاب.

ويكفي هناك (٣) أن نقول : إنّ صحّة الجزء إذا لم يلحقه سائر الأجزاء صحّة تأهّلية ، بمعنى أنه لو انضمّت إليه لكان محصّلا للغرض ، وأنا الضمين بأنّ الصحّة بهذا المعنى لا ينكرها القائل بالموصلة ، ومثل هذا التأهّل يمكن فرضه في نفس مفهوم المقدّمة ، فيقال : لو لا الجبل العظيم في الطريق لكان السير فيه مقدّمة للوصول إلى ميقات الحج ، ولو لا هزال هذه الناقة لكان السير عليها مقدّمة للوصول إليه ، ولقد تشيع شطر هذا الرّجل.

والحمد لله على أمرين : براءة صاحب الفصول ممّا احتمله أوّلا في كلامه من كون الإيصال شرطا لوجود المقدّمة أو في وجوبها ، ومن اعترافه بكون الوجوب شأنيّا لا فعليّا.

وفذلكة المقام أنّ بهذا الجمع الّذي عرّفناك تحلّ هذه المعضلة ، وتكون النتيجة هو القول بخصوص الموصلة.

ويظهر مراد السيد الأستاذ من قوله : إنّ المقدّمة واجبة في لحاظ الإيصال لا بقيد الإيصال ، وتبيين جليّة الحال فيما نقله المقرّر عن الشيخ (٤) ، من أن القول

__________________

(١) مطارح الأنظار : ٧٦.

(٢) فرائد الأصول : ٣٨٩ و ٣٩٠.

(٣) أي في مسألة الاستصحاب. ( مجد الدين )

(٤) الشيخ مرتضى الأنصاري. ( مجد الدين ).

٢٦٧

بالموصلة إمّا إنكار لوجوب المقدّمة ، أو قول بوجوب العلّة التامة (١) ، ولا بدّ أن يسري منها إلى جميع المقدّمات ، وتكون النتيجة هو القول المشهور ، لأنّا نختار الثاني ، ونقول بالسراية ، لكن بالمعنى الّذي عرفت لا بالمعنى الّذي فهمه المقرّر ، فأطال القول وأسهب (٢) ، بل تجاوز الحدّ ، ولم يحسن الأدب ، فإن كان مراد المشهور بالسراية ما عرّفناك فالحمد لله على الوفاق.

وإن شئت زيادة توضيح لما قلناه ـ ولا أخالك في حاجة إليها ـ فعليك بقياس الإرادة التشرعية بالتكوينية بعد التأمل فيما سلف من أن الإرادتين متحدتان بحسب الحقيقة ومتعلّقهما واحد ، لا فرق بينهما إلاّ توسيط فعل الغير في وقوع الفعل المطلوب دون الثانية ، فمن أمر عبده بضرب عدوّه كمن باشر ضربه بيده ، وكلاهما مريد للضرب وفاعل له ، ولكن هذا ضارب بيده وذاك بيد عبده.

ثم راجع نفسك فيما تزاوله من أعمالك وسوف تجدها ، إذا أردت نيل درة غالية كيف تكابد مشقّة الأسفار ، وتجوب لطلبها البراري ، وتغوص البحار ، وترى الصلاح في كل مقدّمة من مقدّمات الوصول إليها ، إذا علمت بأنها سوف يجتمع ، ويترتب عليها الوصول إليها ، بخلاف ما إذا علمت خلاف ذلك ، فإنك لا تجدها تتحرك ولو خطوة نحو واحدة منها ، لأنها لا ترى مصلحة فيها ، وأمر الغير إحدى مقدّمات وقوع الفعل ، فلا بدّ أن يكون الحال فيه كالحال في سائرها.

فحقّ ـ إذن ـ للعلاّمة ـ العمّ ـ أن يقول : « لا يأبى العقل أن يقول الآمر الحكيم : أريد الحج وأريد المسير الّذي يتوصّل به إلى فعل الواجب دون مالا يتوصّل به إليه ، بل الضرورة قاضية بجواز تصريح الآمر بمثل ذلك ، كما أنها

__________________

(١) مطارح الأنظار : ٧٧.

(٢) أسهب : أي أكثر الكلام. ( مجد الدين )

٢٦٨

قاضية بقبح التصريح بعدم مطلوبيّتها له مطلقا ، أو على تقدير التوصّل به إليه » (١) انتهى المقصود من كلامه الآن.

وقد ركب المتأخرون عنه كلّ صعب وذلول في طلب الاعتراض عليه ، وفي مقدّمتهم الفاضل المقرّر ، وما ظفرت أكفّهم بغير مقابلة هذه الضرورة الواضحة بدعوى ضرورة حصول الإمكان من جهة المقدّمة ولو كانت غير موصلة ، وقد عرفت في الحكومة السابقة أنها حقّ ، ولكن الإمكان إنما يكون مطلوبا إذا ترتب عليه الغير وإلاّ فما يصنع الآمر به ، وما ذا غرضه فيه ، ويا حبّذا الإمكان لو كان يبرئ علّة أو يروي غلّة.

نعم يكون الإمكان من جهة واحدة مطلوبا إذا ترتّبت المقدّمات ، وحصل الإمكان من جميع الجهات ، وهذا معنى ترتّب الواجب عليه.

ومن الطريف أنّ الأستاذ ـ طاب ثراه ـ أنكر هذه الضرورة ، ورماها بالمجازفة أوّلا ، ثم لم يلبث حتى قادته السليقة المستقيمة والفطرة السليمة إلى الإذعان بها ، بل زاد على ما ادّعاه صاحب الفصول ، فقال وهذا نصه :

« نعم إنما يكون التفاوت بينهما في حصول المطلوب النفسيّ في إحداهما ، وعدم حصوله في الأخرى من دون دخل لها في ذلك أصلا ، بل كان بحسن اختيار المكلّف وسوء اختياره ، وجاز للآمر أن يصرّح بحصول هذا المطلوب في إحداهما وعدم حصوله في الأخرى ، بل من حيث إنّ الملحوظ بالذات هو هذا المطلوب ، وإنما كان الواجب الغيري ملحوظا إجمالا بتبعه كما يأتي أنّ وجوب المقدّمة على الملازمة تبعي ، جاز في صورة عدم حصول المطلوب النفسيّ التصريح بعدم حصول المطلوب أصلا ، لعدم التفات إلى ما حصل من المقدمة ، فضلا عن كونها مطلوبة ، كما جاز التصريح بحصول الغيري ، مع عدم فائدته لو التفت إليها » (٢)

__________________

(١) الفصول الغروية : ٨٦.

(٢) كفاية الأصول : ١١٨ ـ ١١٩.

٢٦٩

انتهى.

فتراه قد صرّح بجواز التصريح بما ادّعيناه بعد ما زاد عليه عدم الالتفات إلى ما حصل ، ولا ينافيه قوله : كما جاز التصريح إلى آخره ، لأنّ حصول الغيري في الجملة مع عدم الفائدة ممّا لا ننكره ، فتذكّر ما سبق في الحكومة ، وقد عرضت ذلك على غير واحد ممّن يدّعي الإحاطة بحقائق الكفاية ، فلم يك عندهم سوى حمل الجواز على المجاز ، وأنا أحاشي هذا الأستاذ من التمسك بمسامحة لفظية في مسألة عقليّة محضة.

وخير من ذلك أن يقال : إنّ مراده التفصيل بين صورتي الالتفات وبين عدمه فيخصّ التجويز بالثاني ، ولا يرد عليه حينئذ سوى الخروج عن مدّعى صاحب الفصول.

ثم إنّه ممّن يرى عدم سقوط الأمر بإتيان المأمور به إذا لم يحصل الغرض منه ، ويقول ببقائه ما بقي الغرض ، كما سبق في مسألة قصد القربة ، وهنا قد صرّح بعدم الفائدة في حصول الغيري مع عدم الإيصال فهلا قال بمثله في المقام ، وكفانا مئونة النقض والإبرام.

وقال ـ بعد ما تقدّم نقله بعدّة سطور ـ ما لفظه : « لا شهادة على الاعتبار في صحّة منع المولى عن مقدّماته بأنحائها إلاّ فيما إذا رتّب عليه الواجب لو سلّم ضرورة أنه وإن لم يكن الواجب منها حينئذ غير الموصلة إلاّ أنّه ليس لأجل الاختصاص بها في باب المقدّمة ، بل لأجل المنع عن غيرها المانع من الاتصاف بالوجوب هاهنا كما لا يخفى.

مع أنّ في صحة المنع عنه نظرا ، وجهه : أنه يلزم أن لا يكون ترك الواجب حينئذ مخالفة وعصيانا ، لعدم التمكّن شرعا منه ، لاختصاص جواز مقدّمته بصورة الإتيان به ، وبالجملة يلزم أن يكون الإيجاب مختصّا بصورة الإتيان ،

٢٧٠

لاختصاص جواز المقدّمة بها وهو محال ، فإنه يكون من طلب الحاصل المحال » (١).

أقول : استدلال صاحب الفصول مبني على جواز تصريح الآمر بعدم إرادة غير الموصلة من المقدمات ، لا على المنع منها ، فكأنّ هذا الكلام جملة مستقلة عنه ، وجواب عن اعتراض مقدّر ، وأيّا كان فهو حقّ (٢) ، ولا بدّ لك من تسليمه بعد ما مرّ عليك من أمثلة ذلك في طيّ الحكومة بين الفريقين.

ثم نقول : إنّ المنع عن غير الموصلة منها إن كان لجهة خارجية كما في الفرد المحرّم من المقدّمات فهو خارج عن محلّ البحث قطعا ، وقد أشار إليه فيما تركنا نقله من كلامه.

وإن كان لعدم الإيصال يرد عليه جميع ما أورده على التقييد بالموصلة ، من وجود ملاك الوجوب في مطلق المقدّمة ، فكيف يجوز له المنع مع اتّحاد المناط.

وأيضا إن كان تقييد وجوب المقدّمة بالإيصال ممتنعا لتأخره رتبة ، ولم يعقل تنويع المقدّمة به ـ كما هو الحقّ ، وقد مرّ بيانه ـ فكذلك تقييد الحرام بغير الموصلة ، وإن جاز تقييد الحرام بغير الموصل فليجز تقييد الواجب بالموصل.

هذا ، على أنّ المنع عن جميع المقدّمات إلاّ الموصلة عبارة ثانية عن تقييد الواجب بالموصلة ، إذ لا فرق بحسب الواقع بين قوله : يجب الإتيان بخصوص الموصلة ، وبين قوله : لا تأت بغيرها.

وبالجملة تسليم هذا المنع تسليم للقول بالموصلة ، وذهاب إليه من طريق بعيد ، وتعبير عنه بما يشبه الأحجية والإلغاز.

وأما ما قرره في آخر كلامه من لزوم اختصاص الإيجاب بصورة الإتيان به ، وانتهائه إلى طلب الحاصل ، ففيه أنّ القائل بوجوب خصوص الموصلة لا يرى الإيجاب مختصا بهذه الصورة ، بل يرى ذلك بديهيّ الفساد ـ كما مرّ ـ وإنما

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٢٠.

(٢) أي جواز تصريح الآمر على المنع من المقدّمات الباقية. ( مجد الدين ).

٢٧١

يرى اختصاص مصداق الواجب بها ، وللمكلّف القدرة في كلّ مقدّمة على أن يوجدها بصفة الوجوب بأن يأتي بالواجب بعد إتيانها ، وأن يأتي بها بخلاف ذلك ، فإذا كان قادرا على الواجب ، وعالما بقدرته صحّ تكليفه لحصول شرط التكليف بوجود الاختيار ، والقدرة على الفعل والترك معا ، وأين هذا من طلب الحاصل المحال؟

نعم لو كان الجواز مشروطا بنفس الاختيار كان أمرا بما لا بدّ من وجوده ، ولزم المحال.

هذا ، وقد توهم جماعة منهم هذا الأستاذ ، أنّ منشأ توهّم صاحب الفصول خلطه بين الجهة التقييديّة والتعليليّة (١).

ولا أدري كيف يصحّ نسبة هذا الخلط بل الخبط إلى مثله وهو القائل في بيان الفرق بين قسمي الواجب الغيري والنفسيّ ما نصّه :

« المطلوب من المكلّف في الواجب الغيري إنما هو إيجاده للتوصّل به إلى غيره ، على أن يكون التوصّل به إليه مطلوبا منه وإن كان حاملا على الطلب أيضا ، والمطلوب في الواجب النفسيّ إيجاده فقط ، والتوصل به إلى أمر آخر أو حصوله إن كان مطلوبا فهو أمر خارج في كونه مطلوبا منه ، وإنما هو حامل على الطلب » إلى آخره (٢).

والغرض من نقل هذا الكلام تنبيه الناظر فيه إلى أنه ـ طاب ثراه ـ لم يغفل عن الفرق بين جهتي التعليل والتقييد ، بل صرّح باجتماعهما في الواجب الغيري ، وجعل هذا الاجتماع هو الفارق بين قسيميه ، وصرح بإمكان وجود الجهة التعليلية في الواجب النفسيّ ، فكيف ينسب إليه الخلط بينهما!؟

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٢٠.

(٢) الفصول الغروية : ٨٠ ـ ٨١.

٢٧٢

وإن كان ثمّة خلط فهو لمنكري مقالته ، حيث خلطوا بين الغرض الأولي والثانويّ ، أو بين الغرض من الشيء في حدّ ذاته ، وبين الغرض منه في حال اجتماعه مع غيره بالبيان الّذي عرفته.

على أنّ لقائل أن يقول : إنّ الحاكم بوجوب المقدّمة هو العقل ، وليس في أحكامه تعليل إلاّ وهو راجع إلى التقييد ، فإذا اعترف المخالف بأنّ المناط في حكم العقل الإيصال الفعلي لا الشأني فلا بدّ له من الاعتراف بالتقييد به ، فليتأمّل.

ولعلّ لذلك قال في الفصول : « إنّ وجوب المقدّمة لمّا كان من باب الملازمة العقلية فالعقل لا يدلّ عليه زائدا على القدر المذكور » (١).

وأورد عليه الأستاذ البارع (٢) في البدائع ، بقوله : « المسألة عقلية ، والمسألة العقلية منوطة بمناط منقح عند العقل فلا بدّ من النّظر في مناط حكم العقل ، وأنه ما ذا يقتضي؟ فما ذكره من عدم حكم العقل بوجوب غير الموصلة من غير أن يبيّن مناط حكم العقل خروج عن دأب المحصّلين ، إذ المشاجرة في المقام تنتهي إلى أنّ مناط حكم العقل هل هو موجود في مطلق المقدّمة ، أو مختص بالموصلة؟ » (٣) إلى آخره.

وأقول عذرا : أيها الأستاذ! فصاحب الفصول لم يخرج عن مرسومك الشريف الّذي جعلت خلافه خروجا عن دأب المحصّلين ، بل بيّن مناط حكم العقل فقال : « حيث إنّ المطلوب من المقدّمة مجرّد التوصل بها إلى الواجب وحصوله ، فلا جرم يكون التوصّل إليه وحصوله معتبرا في مطلوبيّتها فلا تكون

__________________

(١) الفصول الغروية : ٨٦.

(٢) الشيخ حبيب الله الرشتي أستاذ الجدّ العلاّمة أعلى الله مقامه. ( مجد الدين )

(٣) بدائع الأفكار : ٣٣٩.

٢٧٣

مطلوبة إذا انفكّت عنه » (١) وقد نقله هذا الأستاذ (٢) ، ولا أدري كيف غفل عنه ، فخرج بذلك عن دأب المحقّقين وهو شيخهم إذا حاولوا الاعتراض.

وخاتمة القول : أنّ كلام صاحب الفصول ليس فيه ما يؤخذ به ، وينتقد عليه إلاّ تعبيره في بعض كلامه عن اعتبار الإيصال بلفظ التقييد ، ولعلّه من باب المسامحة.

وقد عبّر عنه في أكثر كلامه بلفظ الاعتبار والإناطة ، وأما أصل المدّعى فهو الحقّ الّذي يجب به الإذعان بحكم (٣) العدلين : الوجدان والبرهان ، وقد أزحت ـ والفضل لله تعالى ـ عنه كلّ شبهة وريبة ، وتركته أجلى من مرآة الغريبة (٤) وإن قال الفاضل المقرّر : « وضوح فساد هذه المقالة بمكان لا نقدر على تصور ما أفاده ، فضلا عن التصديق به ، فنحن بمعزل عن ذلك بمراحل » (٥).

ولو لا مخافة الوقوع فيما نعيته عليه من مخالفة سنة الآداب ، لقلت : إنّ هذا الفاضل مأخوذ بإقراره ، ومعذور في إنكاره ، ولكني أعوذ بالله من أن تأخذني سورة حمية الجاهلية فأمتطي غارب العصبية.

وأما ما يترتب على هذا الأصل ويمتاز فيه القولان فقد ذكر الإمامان ـ الجدّ والعم ـ عدّة أمور ، أهمّها أمران :

أوّلهما : ما سبقت الإشارة إليه من جواز المقدّمة المحرّمة للواجب الأهمّ مطلقا ترتّب عليه الواجب أم لا ، بناء على القول بوجوب مطلق المقدّمة ،

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ٨٦.

(٢) كفاية الأصول : ١١٨.

(٣) الأنسب أن تكون الشهادة مكان الحكم ، أعني بشهادة العدلين بدل بحكم العدلين ، كما لا يخفى. ( مجد الدين ).

(٤) مثل عربي أصله : أن المرأة إذا تزوّجت في غير أهلها ولم تجد ناصحة في أحمائها عمدت إلى مرآتها فبالغت في تصفيتها وجلائها. ( منه عفي عنه ).

(٥) مطارح الأنظار : ٧٥.

٢٧٤

وتخصيصه بما يترتب عليه بناء على تخصيص الوجوب بالموصلة.

وثانيهما : ما يأتي في المسألة الآتية ـ إن شاء الله ـ من تصحيح العبادة إذا كانت ضدّا للواجب (١).

وأما ما نسب إلى صاحب المعالم (٢) من اعتباره قصد الإيصال في وجوب المقدّمة ، وما يوجد في كلامه من الحكم بعدم وجوب المقدّمة مع عدم الداعي إلى فعل الواجب ، أو وجود الصارف عنه (٣) ، فينبغي حمل جميع ذلك على اعتبار نفس الإيصال ، والنسبة بين جميع ذلك وبين الإيصال وإن كانت عموما من وجه ولكن لمّا كان الغالب ملازمة القصد مع ترتب الواجب وعدمه مع عدم الداعي أو وجود الصارف حتى أنه لا يقع الانفكاك بينهما إلاّ نادرا عبّر رحمه الله عن اعتبار الإيصال بهذه العناوين ، وفي المسألة الآتية ـ إن شاء الله ـ مزيد توضيح لذلك.

( وجوب المقدّمة قبل وجوب ذيها )

بناء على ما سمعته من أنّ وجوب المقدمة غيري ينبغي أن يتأخر عن

__________________

(١) هداية المسترشدين : ٢١٩ ، الفصول الغروية : ٩٥.

(٢) هو شيخ الإسلام والمسلمين وآية الله في الأرضين ، جمال الملّة والحق والدين ، أبو منصور حسن بن زين الدين الشهيد الثاني ، صاحب التصانيف المعروفة المشهورة ، منها : كتاب منتقى الجمان في الأحاديث الصحاح والحسان.

اقتصر ـ طاب ثراه ـ في هذا الكتاب على ذكر هذين النوعين ـ أعني الصحيح والحسن ـ من الأخبار نظير كتاب الدرر والمرجان وهو تأليف العلاّمة في ذلك المعنى.

ولقد رأيت المجلّد الأول من منتقى الجمان ، وهو موجود عندنا الآن.

ومنها : كتاب معالم الدين وملاذ المجتهدين ، خرجت منه مقدّمته المشهورة المتداولة بين أهل العلم وشطر من الطهارة وغير ذلك من المصنّفات.

تولّد ـ قدّس سرّه ـ سنة ٩٥٩ ، وتوفّي سنة ١٠١١ ، فكان عمره الشريف اثنين وخمسين سنة.

فنسأل الله أن يجزيه عنّا أفضل جزاء المحسنين. ( مجد الدين ).

(٣) معالم الدين : ٧١.

٢٧٥

وجوب ذي مقدّمتها تأخّر المعلول عن العلّة ، والتابع عن المتبوع ، فلا يعقل تقدّمها عليه ، ولذا وقع الإشكال في موارد يوهم خلاف ذلك ، كوجوب الغسل قبل طلوع الفجر من يوم الصوم ، ووجوب السير إلى الحج على النائي قبل هلال شهره ، وإلى الجمعة قبل ظهرها ، ووجوب حفظ الماء على المحدث العالم بعدم التمكن منه بعد دخول الوقت ـ على ما قيل ـ إلى غير ذلك مما يقف عليه المتتبّع ، ومن هذا القبيل كلّ مقدّمة لا يسعها وقت الواجب المطلق ، أو تلزم مقارنتها لأول أجزائه ، وقد ذكر للتخلّص عن هذا الإشكال وجوه :

أوّلها : ما نسبه جماعة أوّلهم الفاضل المقرّر ، إلى العلاّمة ـ الجدّ ـ ولخّصه بقوله : « إنّ وجوب الإتيان بهذه المقدّمات ليس من حيث استلزام وجوب ذيها ، كما هو المراد بوجوب المقدّمة ، بل وجوبها نفسي وإن كانت المصلحة في وجوبها النفسيّ إمكان التوصّل بها إلى ذيها.

قال ، فيما حكي عنه : إن فسّر الوجوب الغيري بما يكون وجوب الفعل منوطا بوجوب غيره ، وحاصلا من جهة حصوله من غير أن يكون له مطلوبية بحسب ذاته ، بل تكون مطلوبيّته لأجل مطلوبية غيره ـ لم يتعقّل وجوبه الغيري قبل حصول الوجوب النفسيّ للغير ، لتفرّع حصوله على حصوله ، وتقوّمه به وإن تعلّق به أمر أصلي.

وإن فسّر الوجوب الغيري بما لا تكون المصلحة الداعية إلى وجوبه حاصلة في نفسه ، بل يكون تعلّق الطلب به لأجل مصلحة تحصل بفعل غيره لا يجوز تفويت المكلّف لها ، فيجب عليه ذلك ليتمكن من إتيانه بذلك الغير ـ أمكن القول بوجوبها قبل وجوب ذيها ، لا من جهة الأمر الّذي يتعلّق بذيها ، بل بأمر أصلي يتعلّق به ، وتكون الحكمة الباعثة على تعلّق الطلب به تحصيل الفائدة

٢٧٦

المترتبة على فعل آخر ، يكون ذلك الفعل موصلا إليه إن بقي المكلّف على حال يصحّ تعلّق التكليف به عند

حضور وقته ، وقضيّة ذلك استحقاق المكلّف للعقاب عند تركه لكن عدّ ذلك من الوجوب الغيري محلّ تأمّل ، بل لا يبعد كونه من الوجوب النفسيّ » (١).

ثم أورد عليه الفاضل المقرّر ، بقوله : « وفيه إنّ الوجوب الغيري على التفسير الثاني إمّا أن يكون من لوازم نفس المقدّمية ووجوبها كأن يكون وجوب ذي المقدمة يلازم هذا النحو من الوجوب في المقدّمة ، وإمّا أن لا يكون هذا النحو من الوجوب من لوازم وجوب ذيها.

فعلى الأول لا وجه لاختصاص ذلك ببعض المقدّمات بعد استوائها فيما هو المناط للوجوب.

وعلى الثاني فلا مدخل له في المقام ، إذ الإشكال ناش من جهة وجوبها الغيري على التفسير الأوّل ، والتزام الوجوب النفسيّ لا يدفع الإشكال الناشئ من جهة الغير » (٢) انتهى كلامه.

أقول : على ما وقع له من التحريف في النقل ، لا النسبة على إطلاقها ثابتة إليه ، ولا الاعتراض وارد عليه.

أما الأول (٣) فلأنه ـ طاب ثراه ـ لم يقل بهذا النحو من الوجوب النفسيّ في جميع المقدّمات المذكورة ، بل قال به في خصوص ما دلّ الدليل على كون الوقت شرطا في وجوبه ووجوده معا ، كالوضوء للصلاة اليومية ، وحكم في غيره بأنّ الوجوب فيه من الغيري المحض ، وأنّ الوقت ظرف للفعل ، وجعل الوجوب في ذي مقدّمته من قبيل الوجوب الّذي سمّاه أخوه ـ البارع ـ بالوجوب المعلّق ،

__________________

(١) مطارح الأنظار : ٥٠ ، وانظر هداية المسترشدين : ٢١٧.

(٢) مطارح الأنظار : ٥١.

(٣) أي [ قوله ] : « ولا النسبة على إطلاقها ثابتة إليه ». لا « التحريف » ، ( مجد الدين ).

٢٧٧

وقد سبق بيانه في تقسيمات الواجب.

ونزيدك إيضاحا لذلك بنقل بعض كلامه ، قال ـ بعد بيان أقسام الواجب ـ ما نصّه :

« إذا لم يكن الوقت شرطا في وجوب الفعل ، بل كان شرطا في وجوده كما هو الحال في الحج بالنسبة إلى وقته ، فلا إشكال في وجوب المقدّمة قبل حضور الزمان المضروب له ، بناء على القول بوجوب المقدّمة ، سواء وسع الوقت لمقدّمات الفعل أو لم يسعه وليس ذلك حينئذ من مسألتنا ، إذ ليس ذلك من تقدّم وجوب المقدّمة على ذيها.

ومن ذلك أيضا وجوب غسل الجنابة في الليل للصوم الواجب ، إذ الظاهر كون النهار محلا لوقوع الصوم ، لا شرطا في وجوبه ، كما في الصلاة اليومية بالنسبة إلى أوقاتها ، حيث دلّ الدليل على كون الوقت شرطا في وجوبها وصحّتها » (١) انتهى.

وهذا الكلام وغيره مما تركنا نقله حذار الإطناب صريح في أنه لا يقول بالوجوب النفسيّ إلاّ فيما دلّ الدليل على عدم تقدّم الوجوب على وقت الفعل ، فكيف نسب (٢) إليه القول به في جميع المقدّمات المذكورة.

ومنه يظهر عدم ورود ما اعترضه عليه ، بل عدم محصّل له لأنه صريح في التزامه بأنّ الوجوب في المقدّمات المشروط وجوبها بالوقت ليس ناشئا عن وجوب الغير ، فإذن أيّ موقع لقول المعترض : « والتزام الوجوب النفسيّ لا يدفع الإشكال الناشئ من جهة الغير » (٣) بل وأيّ موقع لما احتمله في كلامه من كون هذا النحو من الوجوب للمقدمة من لوازم وجوب ذيها ، ولما اعترض عليه من

__________________

(١) هداية المسترشدين : ٢١٨.

(٢) بصيغة المعلوم ليكون فاعله الفاضل المقرّر ، ويحتمل أن يكون بصيغة المجهول. ( مجد الدين ).

(٣) مطارح الأنظار : ٥١.

٢٧٨

عدم الوجه للاختصاص ببعض المقدّمات حينئذ؟ وما نشأ جميع ذلك إلاّ من الذهول عن مراد هذا الإمام.

وقد اتضح للمتأمّل في ما نقلنا من كلامه ، وفيما ذكرته في شرحه أنه ـ طاب ثراه ـ يجعل الوجوب في جميع هذه الموارد من قبيل المعلّق ، إلاّ فيما دلّ الدليل على عدم الوجوب قبل وقت الفعل ، فإنّه يجعله من الوجوب النفسيّ.

ولا بدّ لصاحب الفصول من غضّ الطرف عن الوجوب التعليقي فيه ، والقول بالوجوب النفسيّ أو بغيره ، وهب إنّه قد يأتي له القول بوجوب الغسل قبل الفجر ، فكيف يمكنه الالتزام بتقدّم وجوب الوضوء للصلاة ، أو حفظ الماء له قبل الوقت ، مع قولهم عليهم السلام : « إذا دخل الوقت فقد وجب الطهور والصلاة » (١) الدالّ على عدم وجوب الوضوء قبل وقت الصلاة.

فتلخّص ممّا عرّفناك به أنه ـ طاب ثراه ـ يقول بالوجوب النفسيّ المطلوب للغير في بعض هذه الموارد ، وبالوجوب التعليقي في بعض.

أمّا بيان الأول منهما فقد سبق في أوائل بحث المقدّمة ، وتصحيح هذه الموارد به فلا شيء فيه ، إلاّ أنه يلزم منه عدم العقاب على ترك الصلاة ، بل على ترك المقدّمة ، وهو بعيد.

ولا يخفى أنّ هذا الاستبعاد يهون خطبة قلّة الموارد التي لا يمكن التخلّص فيها إلاّ به ، إذ لا أعرف الآن منها إلاّ وجوب حفظ الماء قبل وقت الصلاة ، وهذا على أنه لم يتحقّق الإجماع فيه ، ولم يتّضح الدليل عليه لا يصعب الالتزام باللازم المذكور فيه ، إذ الوضوء له بدل شرعي تصحّ الصلاة به ، ولا يصدق تركها معه.

اللهم إلاّ أن يفرض معه عدم التمكن من الصعيد أيضا ، وهو فرض نادر

__________________

(١) الفقيه ١ : ٢٢ ـ ٦٧ ، التهذيب ٢ : ١٤٠ ـ ٥٤٦.

٢٧٩

جدّاً ، والالتزام به في مثل هذا الفرض البعيد أمر هيّن ، وكذلك وجوب السير إلى صلاة الجمعة قبل الوقت ، إذ الظهر بدل عنها.

وأما بيان الثاني منهما أعني الوجوب التعليقي فقد سبق أيضا بعض القول فيه ، ويأتيك تمامه قريبا إن شاء الله تعالى

الوجه الثاني : ما أفاده الشيخ الأعظم ، وإليه يرجع ما اختاره السيد الأستاذ ـ طاب ثراه ـ وحاصله بعد تلخيصه وتوضيحه :

« أن الحاكم بوجوب المقدّمة هو العقل ، ولا شك في أنه يقضي بلزوم تحصيل مقدّمات الواجب المشروط قبل حصول شرطه إذا علم بحصول الشرط فيما بعد ، وعدم قدرته على المقدّمة عنده ، إذ لا يفرق العقل بين أجزاء الزمان بعد العلم بالتكليف في الزمان الآتي لا محالة في وجوب المقدّمة ، كما يكشف عن ذلك ملاحظة طريقة العقلاء فإنّ بناءهم على جواز مؤاخذة من علم بثبوت تكليف عليه في الزمان اللاحق ولم يتهيّأ له بترتيب مقدماته مع قدرته عليه حتى طرأ عليه العجز عن الامتثال في وقته ، ألا ترى أنه لو قال لعبده : سافر غدا. وكان السفر فيه محتاجا إلى مقدمات يلزم تحصيلها قبله فتركها مع القدرة عليها ، فعجز لذلك عن المسافرة ، حكم عليه العقلاء باستحقاق العقاب » هكذا نقله عنه تلميذه العلاّمة في البدائع (١) ، وهو محصّل ما نقله مقرّر درسه ، وتعقّبه بقوله :

« لا يقال : إنّ الوجوب في الواجب المشروط يتعلّق بالفعل بعد حضور زمانه ووجود الشرط ، فليس وجوبه فعليّا ، ومع ذلك لا يعقل الوجوب الفعلي للمقدّمة ، إذ يلزم منه مزية الفرع على الأصل.

لأنّا نقول : إن الواجب صفة منتزعة من الفعل الواجب الّذي تعلّق به الطلب في نظر الطالب ، وبعد تحقق الطلب ـ كما هو المفروض ـ لا وجه لعدم

__________________

(١) بدائع الأفكار : ٣١٧.

٢٨٠