وقاية الأذهان

الشيخ أبي المجد محمّد رضا النجفي الإصفهاني

وقاية الأذهان

المؤلف:

الشيخ أبي المجد محمّد رضا النجفي الإصفهاني


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٩

غيري يهتدي إلى ما خفي عليّ ، أو يحدث الله بعد ذلك أمرا.

( القول في مباحث الحقيقة والمجاز )

لا يخفى أنّ من أهمّ ما يترتب على ما حقّقناه في مسألتي الوضع والاستعمال معرفة حقيقة الّذي يسمّى بالمجاز ، ولنقدّم قبل بيانه خلاصة ما وصل إلينا من كلام محقّقي علماء الأصول والبيان ، ونقول :

قالوا : إنّ اللفظ إن استعمل فيما وضع له فهو حقيقة ، وإن استعمل في غيره بعلاقة معتبرة مع قرينة معاندة فهو مجاز ، وإلاّ فهو غلط.

والمحققون من علماء البيان زادوا قسما آخر ، وهو الكناية ، وعرّفوها بلفظ أريد به لازم معناه مع جواز إرادته ، فأخرجوها عن حدّ الحقيقة بكونها مستعملة في غير ما وضع له ، وعن المجاز لاعتبارهم فيه القرينة المعاندة ، وجعلها بعضهم من أقسام الحقيقة.

ثمّ اختلفوا في وضع المجازات على أقوال ، فالجمهور ـ كما في الفصول ـ « على أنّها موضوعة بالوضع التأويلي التعييني النوعيّ ، وأنّ صحته متوقفة على نقل النوع ، وخالف في ذلك شرذمة ، فاعتبروا نقل الآحاد ، ويلزمهم أن تكون المجازات التي أحدثها فصحاء المتأخّرين وغيرهم غلطا ، وهو غلط ».

« وربّما فصّل بعض الأفاضل بين الألفاظ التي ضبطوا معانيها المجازية كالحروف وصيغ الأمر والنهي وبين غيرها ، فاقتصر في الأول على القدر المنقول دون الثاني » (١) انتهى.

وربّما يقال بأنه لا يحتاج المجاز إلى وضع آخر ، بل هو موضوع بنفس وضع اللفظ للمعنى الحقيقي ، فإذا وضع له اللفظ فقد وضع لجميع ما يناسبه ، وتوجد

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ٢٤.

١٠١

فيه العلاقة معه ، فهو يشبه لوازم الماهيّات التي لا تحتاج إلى جعل ، بل لا يعقل جعلها ، وإنما تجعل بجعل ملزوماتها.

وقد يقال بأنّ المجازات لم تنلها يد الوضع لا أصالة ولا تبعا ، بل جواز إطلاق اللفظ على ما يناسبه طبعيّ ، وهذا نظير ما عن بعضهم في مسألة استعمال اللفظ في نفسه.

ويظهر هذا الوجه من الفصول ، مع زيادة قوله : « إنه مبني على المسامحة والتأويل في الوضع الأصلي » (١) وستعرف البحث في معنى التأويل الواقع في كلامه ، وفي كلام المشهور.

ولبعض (٢) المؤسّسين في كتابه المسمّى بـ « تشريح الأصول » كلام مسهب في هذا المقام ، ولا يخلو بظاهره عن اضطراب وتهافت.

وحاصل ما كان يذكره في مجلس الدرس : أنه رجوع عن عموم التعهد بالوضع الأول في استعمال خاص ، وأنه لا فرق بين النقل والمجاز إلاّ أنّ الأول عدول كلّي عن الوضع الأول ، والثاني في خصوص استعمال خاص لا في سائر الاستعمالات.

ومنه يعلم أنّ وضع المجازات شخصي يقع بوقوع المجاز ، وبيانه إنّما هو بقرينة واحدة جامعة للمعانديّة والمعيّنيّة ، أو بقرينتين : إحداهما معاندة للحقيقة ، والأخرى معيّنة لإحدى المجازات.

وأثر التكلّف ظاهر على هذه الوجوه ، بل كثير منها ممّا يقطع بفساده ، فلو حلف الإنسان بغموس (٣) الإيمان على أنّ واضع اللغة لم يكن يعرف هذه العلائق حتى يضع لكل نوع منها وضعا جديدا لم يحنث ، ولم تلزمه الكفارة ، بل ولو حلف

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ٢٥.

(٢) هو الشيخ على النهاوندي مؤسّس أساس التعهّد في الوضع. ( مجد الدين ).

(٣) هي اليمين الكاذبة الفاجرة. لسان العرب ٦ : ١٥٧ ( غمس ).

١٠٢

على أنه لم يصدر منه وضع آخر لكان كذلك.

وما ذهب إليه صاحب التشريح فيبعده ، بل يشهد بفساده القطع بأنّ استعمال المجاز ليس بتعهد خاص شخصي ، بل هو أمر مرتكز في ذهن السامع قبل سماعه هذا اللفظ ، قد استعمله آباؤه من قبل كذلك.

وأمتن هذه الطرق ما تقدّم عن صاحب الفصول ، ولكن يتّجه عليه أنّ دلالة الألفاظ ليست بذاتية ، بل هي جعلية ، وليس الجعل إلاّ الوضع ، فكيف يعقل أن تدلّ على معنى بدونه ، والقرينة من شأنها نفي المعنى الموضوع له لا إثبات الوضع لغيره إلاّ أن يبتنى قوله : « مبني على المسامحة والتأويل » على المسامحة والتأويل ، ويرجع إلى ما سنبيّنه لك إن شاء الله.

ولصعوبة إثبات الوضع للمجازات التزم جماعة بأنّ دلالتها ليست وضعيّة ، فوقعوا في تكلّفات هي أشدّ وأبين فسادا ممّا وقع فيها إخوانهم من قبل ، كما لا يخفى على من راجع هداية ـ الجدّ ـ العلاّمة ، وغيره من الكتب المبسوطة.

ولمعرفة حقيقة الحال في المجاز مسلك آخر ـ يطابقه الوجدان ، ويعضده البرهان ، ولا يعرض على ذهن مستقيم إلاّ قبله ، ولا على طبع سقيم إلاّ رفضه (١) ـ وهو أنّ تلك الألفاظ مستعملة في معانيها الأصليّة ، ومستعملها لم يحدث معنى جديدا ، ولم يرجع عن تعهّده الأول ، بل أراد بها معانيها الأوّلية بالإرادة الاستعمالية على نحو سائر استعمالاته من غير فرق بينهما في مرحلتي الوضع والاستعمال أصلا.

بيانه : أنّ الطبع السليم يشهد بأنّ القائل : « إني قاتلت اليوم أسدا هصورا » (٢) و « قابلت أمس قمرا منيرا » وهو لم يقاتل إلاّ رجلا شجاعا مشيحا ، ولم

__________________

(١) الرفض : الطرح. ( مجد الدين ).

(٢) أسد هصور : الأسد الشديد الّذي يفترس ويكسر. الصحاح ٢ : ٨٥٥ ، لسان العرب ٥ : ٢٦٥ ( هصر ).

١٠٣

يقابل إلاّ وجها صبيحا لا يريد إلاّ إلقاء المعنى الأصلي الموضوع له على السامع ، وإفهامه إيّاه وإن لم يكن مطابقا للواقع ، ولم يكن ذلك منه على سبيل الجدّ.

وقد عرفت سابقا أنه لا معنى للاستعمال إلاّ ما أريد إفهامه للسامع وإلقاؤه عليه ، سواء كان صدقا أو كذبا ، جدّاً أو هزلا ، بأيّ داع سنح وغرض اتّفق.

ولو لا إرادة معاني هذه الألفاظ لما كان موقع للتعجب عن محبوبته إذا ظلّلته عن الشمس (١) ، أو زارته آخر الشهر (٢) ، ولا لليأس من رجوع محبوبه (٣) ، ولا لتكذيب الناس إذا رجع (٤) ، ولا للمفاخرة مع قمر السماء بأنّ قمره معدّل بلا تعديل ، وأنه لا ممثّل له ولا مثيل (٥) ، ولا للتعجب عن عدم ذهاب الدجى مع طلوع

__________________

(١)

قامت تظلّلني ومن عجب

شمس تظلّلني من الشمس (١)

(٢)

زارتك في ليل سرار ومن

أبصر بدرا آخر الشهر

(٣)

يؤيسني من لقائك قولهم

بأنه لا رجوع للقمر (٢)

(٤)

رجعت فأحييت الغريّ وأهله

وكذّبت قول الناس لا يرجع البدر(٣ ـ ٤)

(٥)

قل للسماء دعي الفخار فإنّ ذا

قمري بغير ممثّل ومثيل

قمر السماء معدّل بثلاثة

ومعدّل قمري بلا تعديل

١ـ أوّلها :

قامت تظلّلني من الشمس

نفس أعزّ عليّ من نفسي

( مجد الدين )

(٢) من أبيات صفي الدين الحلّي. انظر ديوانه : ٤٥٥.

(٣) إنّ الخمسة المتحيرة من السيّارات السبعة لها رجوع إقامة واستقامة ، والقمر لا رجوع له ولا إقامة ، فقال : إنّ رجوع بدري دليل على كذب أهل الهيئة حيث قالوا : لا رجوع للقمر. ( مجد الدين ).

(٤) للمصنف طاب ثراه. ( مجد الدين ) وراجع ديوانه : ٨٦.

(٣) إنّ أهل الهيئة والفلك احتاجوا في ضبط حركة القمر إلى ثلاثة تعديلات ، وأثبتوا له أفلاكا كالحامل والجوزهر «٣» ، فقال طاب ثراه : إنّ قمري خير من قمر السماء ، لأنّه معدّل من غير احتياج إلى تعديلات ثلاثة ولا أفلاك متعدّدة. ( مجد الدين ).

١٠٤

الشمس على رمح (١) ، إلى غير ذلك ممّا لو عدّدناه لأفضى بنا إلى الإسهاب ، والخروج عن موضوع الكتاب.

ولهذا إذا سمّي الشجاع أسدا سمّي صوته زئيرا ، وولده شبلا ، ومحلّه خيسا ، أو الجميلة ظبية سمّي صوتها بغاما ، وولدها خشفا ، ودارها كناسا ، بل لو خالف هذا النظام فقال :

« رأيت أسدا يتبعه طفله » أو « ظبية تحمل طفلها » لكان أدون في الفصاحة بمراتب من قوله : « رأيت أسدا يتبعه شبله » أو « ظبية تحمل خشفها » بل ربّما عدّ من مستبرد التعبير ، وسمج الكلام إلاّ أن تجبره جهات أخرى ، ولا وجه لجميع ذلك إلاّ أنّ المقصود منها المعاني الأصلية ، وهذا ظاهر لدى الخبير بحقائق فنّ البيان وصناعة البديع ، وكتابنا هذا موضوع في فن أصول الفقه لا في فنون البلاغة كي يتّسع لنا المجال في سرد الشواهد والأمثال ، ولكني لم أملك عنان القلم وما عليه جناح حتى أثبت قول ابن معتوق في محبوبته وقد روّعها الصباح :

وتنهدت جزعا فأثّر كفّها

في صدرها فنظرت ما لم انظر

أقلام ياقوت كتبن بعنبر

بصحيفة البلّور خمسة أسطر

نشدتك والإنصاف إلاّ نظرت إلى قوله : ونظرت ما لم انظر ، وتأمّلت في

__________________

الحامل والجوزهر من مصطلحات أهل الهيئة. انظر : مفاتيح العلوم : ٢٢٠ ، وكشّاف اصطلاحات الفنون ١ : ٣٥٦ و ٤٠٧.

(١) لقائل :

بدا وجهه من فوق أسمر قدّه

وقد لاح من ليل الذوائب في جنح

فقلت عجيبا كيف لم يذهب الدجى

وقد طلعت شمس النهار على رمح

١٠٥

السبب الّذي أوجب له العجب فهل ضرب المرأة الجميلة المختضبة صدرها ضربا يسود موضع الضرب منه ، وهو أمر مبذول لعلّه أو غيره نظر إلى أمثاله كثيرة ، أو هو حقيقة كتابة أقلام الياقوت خمسة أسطر بالعنبر على البلّور ، وأين موضع هذه البلاغة التي تأخذ بمجامع القلب ، وهذه الملاحة التي تسحر اللبّ ، فهل هو في مجرّد وضع الأقلام موضع الأصابع ، ولفظي العنبر والبلّور موضعي السواد وبياض الصدر ، أم في وضع معاني هذه الألفاظ في موضع معاني تلك؟

ثم إذا قرع سمعك قول الوأواء (١) الدمشقي في محبوبته لما جرت دموعها على خدّيها ، وعضّت أناملها حذر الفراق :

فاستمطرت لؤلؤا من نرجس وسقت

وردا وعضّت على العنّاب بالبرد

أيّ صورة تصوّرها هذه الألفاظ في مرآة ذهنك فتسكرك بلا راح ، وتطربك بلا سماع ، هل إمطار اللؤلؤ من النرجس ، وسقي الورد ، وعضّ العنّاب بالبرد ، أم تلك الحالة المحزنة المشجية ، أعني امرأة تبكي ، وتعضّ أناملها؟

فإن كان الثاني وكان هذا حكم إنصافك ، فقد أخطأت أنا ولم يحسن الوأواء ، وإن كان الأول فقد أحسن نظما وأحسنت فهما ، وأنت ـ أعزك الله ـ إذا أعطيت التأمل حقّه فيما نبّهناك عليه في هذا المثال ، وجعلته أنموذجا لنظائره من صنوف الاستعمال علمت علما لا يشوبه شك ، ولا يحوم حول حماه ريب ، أنّ المجاز ليس وضع اللفظ محل اللفظ ، بل هو وضع المعنى محلّ المعنى ، وهذا هو الّذي يورثه الملاحة ، ويوجب لها المبالغة وإخوانها من نكات الصناعة ، وإلاّ فالألفاظ متكافئة غالبا ، ولفظ الخدّ ليس بغريب ولا بثقيل على اللسان وهو

__________________

(١) الوأواء ، بفتح الأول ، وسكون الثاني ، وفتح الثالث ، وسكون الرابع ، شاعر معروف من أهل دمشق. ( مجد الدين ).

١٠٦

بمعناه أحقّ ، ودلالته عليه أوضح ، فلأمر ما عدل عنه إلى الورد؟ تأمّل فيما قلناه ، تجده واضحا إن شاء الله.

( فصل )

وليت شعري ما ذا يقول القائل بأنّ اللفظ مستعمل في غير معناه في مثل قوله : هو ملك بل ملك ، وفلان شجاع بل أسد؟ وكيف يمكن أن يكون المراد من الملك ـ بالفتح ـ والأسد ، الملك ـ بالكسر ـ والشجاع؟ وقد ذكرهما أوّلا وأضرب عنهما ، وما ذا يقول في الاستعمالات التي يصرّح فيها بنفي المعنى الحقيقي ، كقوله تعالى : ( ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ )(١) على أظهر الوجهين فيه ، وكقولك : ليس هذا بوجه بل هو بدر ، وليس هذه كف بل هي بحر؟ وما ذا يقول في مثل قولهم : يا أخا البدر ، ويا أخت الشمس ونحوهما؟ كقوله :

حكيت أخاك البدر عند تمامه

سنا وسناء مذ تشابهتما سنّا (٢)

مما لا يمكن فيه تفسير شيء من المضاف ولا المضاف إليه بغير معناه إلاّ بتكلّف يمجه السمع ، وينبو عنه الطبع (٣).

وفي مثل قوله ـ من الوافر ـ :

وفي ديباجتيه فتيت مسك

يقال له بزعم الناس حال

وفي مثل قوله ـ من البسيط ـ :

يا من يريني المنايا واسمها نظر

من السيوف المواضي واسمها مقل

__________________

(١) يوسف : ٣١.

(٢) أي : أربعة عشر [ على حساب الجمل ] وجه المشابهة :

فلك أربع عشرة سنة ، وللقمر أربع عشرة ليلة. ( مجد الدين ).

(٣) أي : يأباه السمع ولا يقبله الطبع. ( مجد الدين ).

١٠٧

إلى غير ذلك من الموارد التي تنيف على الألوف بل على آلافها مما إذا أطاعهم التكلّف في واحد منها عصاهم في عشرة ، وإذا فتح لهم باب التأويل في عشرة أرتج عليهم الباب في الف ، وقد سبقت أمثلة لذلك ، منها :

تبدّت ومرآة السماء صقيلة

فأثّر فيها وجهها صورة البدر

وإذا كان الشاعر يصحّ له إنكار البدر ، ودعوى أنّ البازغ في السماء هو صورة محبوبته ، فما ذا يمنعه من دعوى أنّ ذلك البدر هي بعينها ، فينفي التعجّب إذا زارته ليلا قائلا : ولا عجب فالبدر بالليل يطلع ، ويتعجّب إذا رأته نهارا قائلا : ومن عجب أن يطلع البدر نهارا.

فكأنّ القوم قصرت أنظارهم على مثل : أسد يرمي. ونحوه ، وغفلوا عن هذه الأمثلة وأمثالها (١).

( فصل )

ولعلّك تقول : إنّ المجاز ـ على ما ذكرت ـ كذب ، وتغفل من الفرق بين الإرادة الجدّيّة والاستعمالية.

وبيانه : أنّ الكذب الّذي هو قبيح عقلا ، ومحظور شرعا هو الّذي يكون الغرض منه إلقاء السامع في خلاف الواقع ، وإغراءه بالجهل ، وتصديقه بمعنى اللفظ ، وتكون إرادته الجدّيّة الواقعيّة مطابقة لإرادته الاستعمالية.

وأما في المجاز فليس الغرض من إلقاء المعنى إلى السامع إلاّ مجرّد تصوّره له من غير أن يريد تصديقه واعتقاده به ، ولهذا يأتي بالقرينة التي سمّوها بـ

__________________

(١) لهذا البحث تتمة يلاحظ الملحق بالرسالة. ( منه طاب ثراه ).

والظاهر أنها سقطت من الملحق فلم نعثر عليه.

١٠٨

( المعاندة ) لزعمهم أنّها تعاند الحقيقة ، وفي الحقيقة هي تعاند الإرادة الجدّيّة ، فهو يأتي بها ، لأنه لا غرض له إلاّ بنفس الاستعمال وتصوّره لمعناه ، ويتعمّد الكاذب تركها لأنه يريد تصديق المخاطب به لغرض له هناك وراء تصوّر السامع وصرف الاستعمال ، فالمجاز إلى الكذب ما هو وليس به ، وليس هذا ببدع في المجاز ولا بأمر تختص به ، بل سبيله سبيل أشباهه من نكات الصناعة وتفنّنات البلغاء كالمراجعة (١) فكم تقول : قال لي الدهر كذا ، فقلت له كيت وكيت ، ولم يجز بينكما حديث قط.

وكالتجريد فإنك تجرّد من نفسك شخصا تخاطبه ويخاطبك ، وتنقل المفاوضة بينكما ولا واقع لها أصلا ، وإنما يتّضح الحال بالإكثار من الشاهد والمثال ، وبه تخرج عن موضوع الكتاب ، ولا يسعه المجال ، ويغنيك عنه تتبّع ما للبلغاء من المنظوم والمنثور.

قال أحد شعراء اليتيمة :

أرأيت ما قد قال لي بدر الدجى

لمّا رأى طرفي يطيل هجودا

حتّام ترمقني بطرف ساهر

أقصر فلست حبيبك المفقودا (٢)

متى وقع هذا الخطاب ، وبأيّ لغة كان الجواب ، فهل تسمح نفسك أن تسمّي هذا القائل كاذبا والكاذب ممقوت ، وقد أحسن هذا وأجاد ، أو تعتقد صدقه فتكون بمراحل عمّا أراد؟

وبالجملة ، من أراد تنزيه جميع كلام الفصحاء من الكذب الاستعمالي فقد

__________________

(١) وكقول الشاعر :

وقلت لبدر التمّ تعرف ذا الفتى

فقال نعم هذا أخي وشقيقي

( مجد الدين )

(٢) البيتان لأبي الفتح علي بن محمد الكاتب البستي ، راجع يتيمة الدهر ٤ : ٣٠٨.

١٠٩

حاول صعبا ، بل رام ممتنعا ، فحال المجاز حال غيره من مذاهب البلغاء ، ويشبه من هذه الجهة ما يتكلّم به على سبيل المزاح والمجون (١) ، ولهذا قال الفقهاء : إنّ المبالغة ليست بكذب كغيرها من هزل الكلام ومجونه.

( فصل )

ومما ذكرنا في المجاز يتّضح الحال في الكناية ، ويستغنى به عن تلك التكلّفات والتطويلات المملّة المذكورة في كتب الأصول والبيان ، وأنّ الحال فيها كالحال في المجاز بعينه ، والألفاظ فيها مستعملة في معانيها الحقيقة بالإرادة الاستعمالية ، والغرض الّذي يعبّر عنه بالإرادة الجدية هو الملزوم.

ومن الغريب ما ذكروه في الفرق بينها وبين المجاز من لزوم القرينة المعاندة فيه وعدمها فيها مع أن الحال فيهما واحد ، لأنّ السامع إن كان عالما بالغرض الأصلي ، وعدم مطابقته مع الاستعمال فهو يستغني عن القرينة فيهما معا ، وإلاّ فهي لازمة في الكناية لزومها في المجاز بعينه ، فمن قال : « زيد طويل النجاد » (٢) كناية ، وكان السامع بليدا يزعم أنه يريد الإخبار عن طول النجاد (٣) فلا بدّ أن ينصب له قرينة تدلّه على أنّ المراد طول قامته ، وأنه لم يشتمل سيفا طول عمره ، ولم يصاحب عاتقه نجاد قط.

ومن هذا يظهر خطأ من جعل الكناية قسيما للحقيقة والمجاز ، وثلّثهما بها ،

__________________

(١) مجن مجونا فهو ماجن : من لا يبالي قولا ولا فعلا. القاموس المحيط ٤ : ٢٧٠ ، مجمع البحرين ٦ : ٣١٤ ( مجن ).

(٢) من ألفاظ المدح عند العرب ، قولهم : فلان طويل النجاد ، أو كثير الرّماد ، كناية عن طول القامة ، وكثرة الضيافة. ( مجد الدين ).

(٣) نجاد : حمائل السيف. القاموس المحيط ١ : ٣٤٠ ، الصحاح ٢ : ٥٤٣ ( نجد ).

١١٠

وقال في تعريفها : إنها استعمال اللفظ في غير ما وضع له مع جواز إرادته منها (١).

( فصل )

وهذا الّذي قرّرناه في المجاز غير الّذي ذهب إليه السكاكي في الاستعارة من الحقيقة الادّعائية لأنّ ما ذكرناه يعمّ مطلق المجاز مرسلا كان أم استعارة ، والسكاكي يقول بمقالته في خصوص الاستعارة ، ولم يظهر لي إلى الآن وجه للفرق يدعو مثل هذا الأستاذ إلى التفصيل ، فقولك في مريض ـ يئس من برئه الأطبّاء ، وانقطع من شفائه الرجاء ـ : هذا ميت ، كقولك ذلك فيمن لا يرجى نفعه ولا يخشى ضرّه ، وقولك في متاع نفيس ينفق في السوق : هذا ذهب ، كقولك ذلك فيما يشبه الذهب بعينه.

وببالي أنّ بملاحظة مجموع كلامه في المفتاح يظهر أنه يعم مذهبه في مطلق المجاز ، وإنما خصّ الاستعارة بالمثال لأنها من أشهر أقسامه وأهمها ، فليراجعه من شاء.

ومن البعيد من مثله أن يفرّق بينهما من غير فارق أصلا ، إذ الادّعاء الّذي بنى عليه مذهبه ممكن في جميع أقسام المجاز ، وأيّ فرق في إمكان ادّعاء فرد آخر للميّت والذهب ـ في المثالين المتقدّمين ـ إذا كان بعلاقة الأول ، أو بعلاقة التشبيه.

وعمدة الفرق بين المقالتين هي أنّ السكاكي يبني مذهبه على أنّ التصرف في أمر عقلي ، وأنّ المستعير يدّعي أنّ للمشبّه به فردا آخر وهو المستعار له ، ويجعل مقالته غرضا لسهام الانتقاد والاعتراض عليه ، بأن اللفظ موضوع للفرد الواقعي لا الادّعائي فيعود الاستعمال إلى المجاز اللغوي ، وما ذكرناه لا يبنى

__________________

(١) انظر الفصول الغرويّة : ٢٨.

١١١

على الادعاء بهذا المعنى أصلا ، ولهذا تأتي الاستعارة في غير الكلّيات كالأعلام الشخصية ، فنقول ـ في ولد زيد إذا كان يشبهه ـ : هذا زيد ، وفي الجواد : هذا حاتم ، مريدا به الطائي المعروف ، من غير تخصيص له بما فيه نوع وصفية كالمثال الثاني ، ولا حاجة إلى ما تكلّفه التفتازاني بقوله : « إن المستعير يتأوّل في وضع اللفظ ، ويجعل حاتم كأنه موضوع للجواد ، وبهذا التأويل يتناول الرّجل المعروف من قبيلة طي والفرد الغير المتعارف وهو الرّجل الجواد » (١).

وحسبك شاهدا على فساد هذا التكلّف ، وعلى صحة ما قلناه وجدانك عند الاستعمال ، فإنك تريد به مبالغة أنّ هذا الجواد هو ذاك الطائي بعينه.

رجع إلى انتقاد مذهب السكاكي.

وكيف يكون المراد من الاستعارة ادّعاء فرد آخر من جنس المشبّه به!؟ وكثيرا مّا ترى في مليح الكلام ترتيب آثار الفرد المتعارف عليها ، كقول من بات محبوبه عنده ، وزعم أنّ الليل فقد بدره ، وبات ينشده :

أما دري الليل أنّ البدر في عضدي

......................

وأمثال هذا الاستعمال شائع جدّاً كما تقول في موت عالم : كيف لا تظلم الدنيا وقد فقدت الشمس أو انخسف البدر ، ونحو ذلك.

ومن الغريب أنه هدم مبناه ، والتزم بالمجاز اللفظي في نحو « وإذا المنية أنشبت أظفارها » (٢) وغيره مما يسمّيه البيانيّون الاستعارة بالكناية ، ومن حقها ـ على أصولهم ـ أن تسمّى التشبيه بالكناية لأنّ شرط الاستعارة عندهم أن يطوي ذكر المشبّه بالكليّة ، وهنا عكس الأمر فحذف المشبّه به واكتفي عن أداة التشبيه

__________________

(١) شرح التفتازاني على التلخيص ( المطوّل ) : ٣٦٣ ، ( والمختصر ) : ٢ : ٧٤ ، وحكاه في الفصول الغرويّة : ٢٦.

(٢) حكاه في الفصول الغرويّة : ٢٧.

١١٢

بلازم التشبيه ، ومع ذلك فللسكاكي الفضل ولا نبخسه حقّه ولا ننكر سبقه ، فله حسن الاختراع ، ولنا حسن الاتّباع.

ولعمري أنّ علماء البيان لم ينصفوا السكاكي في هذا المقام حيث أنكروا عليه هذا الادّعاء ، ثم جعلوه محورا يدور عليه معظم أحكامهم في بحث الاستعارة ، فمنعوها في الأعلام معلّلين ذلك بأنها تقتضي إدخال المشبّه في جنس المشبّه به ، ولا يمكن ذلك في العلم لمنافاته الجنسيّة.

وربّما قالوا بمقالته بعينها مع تغيير اللفظ كقولهم : إن الاستعارة يفارق الكذب بأنها مبنية على التأويل بدعوى دخول المشبّه في جنس المشبّه به ، ولا معنى لهذا التأويل إلاّ أن يؤول إلى ذلك.

وربّما صرّحوا به بلفظه كقولهم : والشرط في حسن الاستعارة أن لا يشمّ رائحة التشبيه لفظا لأن ذلك يبطل الغرض من الاستعارة أعني ادّعاء دخول المشبّه في جنس المشبّه به إلى غير ذلك ممّا لا يخفى على المتتبّع الماهر ، ولا تنس قولهم : إنّ الاستعارة مبنية على تناسي التشبيه ، وتأمّل في معنى التناسي أوّلا ، ثم في السبب الداعي إليه ، إلاّ أن يقال : إنّ المحقّقين منهم لم ينكروا الادّعاء الّذي يدّعيه ، وإنما أنكروا عليه خروجه بذلك عن المجازيّة.

( فصل )

ولا نكترث بأن تسمّي ما ذكرناه إنكارا للمجاز أصلا ، ولا نتحاشى عنه بعد ما ذهب إليه الأسفرائيني من المتقدّمين وإمام العربية غير مدافع عنه ولا مختلف فيه أعني الشيخ أبا علي الفارسي (١) ، ولكن ينبغي أن تعلم أنه كما يصح

__________________

(١) هو الفاضل الأقدم ، والإمام الأعظم حسن بن أحمد بن عبد الغفار بن محمد بن سليمان بن أبان المكنّى بـ ( أبي علي ) المشتهر بهذه الكنية : الفارسي ، النحوي الشيعي المشهور ، المتولّد سنة ٢٨٨ ، المتوفى سنة ٣٧٧ ، وكان عمره ٨٩ سنة. ( مجد الدين ).

١١٣

على مذهبنا ذلك يصحّ معه أيضا قول تلميذه ابن جني ، وهو أنّ أكثر لغة العرب مجازات ، وأنه لا اختلاف بين هذين الإمامين ، ولا تناقض بين القولين ، ولا أظنّك تحتاج إلى مزيد بيان إن كنت أتقنت ما أسلفنا فهما وأحطت به علما.

بل يحق لك العجب من قوم تعجّبوا من الأسفرائيني ، وحاولوا تأويل كلامه بما لا يرضى به كما في إشارات الأصول (١) ، ومن ابن الدهان حيث قال بعد ما نقل عن أبي علي هذا القول ، ما حاصله : « إنّ العجب كلّ العجب من هذا الإمام كيف أذهب بهاء لغة العرب ورونقها لأنهما قائمان بالمجاز ، وشتّان بين قوله وقول تلميذه ابن جني » انتهى.

وكان الأجدر به أن يتعجّب من نفسه حيث ترك تعاطي صنعة أبيه ، وكانت هي اللائقة به ، وتكلّف العلم ورأس ماله هذا الفهم ، وكيف يرضى المنصف بأن يكون ابن من يبيع الدهن اهتدى إلى الواضح البديهي ، وهو أن العرب تدعو الخدّ بالورد وتعبّر بالغصن عن القد ، وخفي ذلك على مثل هذا الأستاذ!؟

ولقد وقعت فيما وقع فيه الشيخ أبو علي ، وذلك أني لمّا ألقيت هذا المذهب على جماعة من الطلبة كانوا يقرءون علي كتاب الفصول في النجف الأشرف سنة (١٣١٦) لم يلبث حتى اشتهر ذلك مني في أندية العلم ومجالس البحث فتلقّته الأذهان بالحكم بالفساد ، وتناولته الألسن بالاستبعاد.

وعهدي بصاحبي الصفي وصديقي الوفي وحيد عصره في دقّة الفهم واستقامة السليقة وحسن الطريقة العالم الكامل الرباني الشيخ عبد الله الجرفادقاني (٢) ـ رحم الله شبابه ، وأجزل ثوابه ـ سمع بعض الكلام علي فأدركته شفقة الأخوّة ، وأخذته عصبيّة الصداقة ، فأتى داري بعد هزيع (٣) من الليل وكنت

__________________

(١) إشارات الأصول ج ١ ورقة ٩ ـ ١٠.

(٢) أي : الكلبايكاني ، انظر الذريعة ـ للعلاّمة الشيخ آقا بزرگ الطهراني ـ ١٦ : ٢٣٤ ـ ٩٢٢.

(٣) معنى هزيع من الليل أي : طائفة ، وهو نحو من ثلثه أو ربعه. الصحاح ٣ : ١٣٠٦ ( هزع ).

١١٤

على السطح ، فلم يملك نفسه حتى شرع بالعتاب وهو واقف بعد على الباب ، وقال : « ما هذا الّذي ينقل عنك ويعزى إليك؟ » فقلت : « نعم وقد أصبت الواقع وصدق الناقل » فقال : « إذا قلت في شجاع إنه أسد فهل له ذنب؟ » فقلت له مداعبا : « تقوله في مقام المدح ولا خير في أسد أبتر » ثم صعد إليّ ، وبعد ما أسمعني أمضّ (١) الملام ألقيت عليه طرفا من هذا الكلام ، فقبله طبعه السليم وذهنه المستقيم ، فقال : « هذا حق لا معدل عنه ولا شك فيه » ثم كتب في ذلك رسالة سمّاها ( فصل القضاء في الانتصار للرضا ) ومن ذلك اشتهر القول به ، وقبلته الأذهان الصافية ، ورفضته الأفهام السقيمة.

ومن يك ذا فم مرّ مريض

يجد مر به العذب الزلالا (٢)

وأنت إذا تصفّحت كتب المحقّقين كالفصول وهداية المسترشدين وجدت هذا المعنى مرتكزا في أذهانهم ، ولكن تقريره بواضح البيان وإثباته بقائم الحجة والبرهان كان مدّخرا لنا في حقيبة (٣) الزمان.

( فصل )

وكأنّي بك وقد زعمت أني قد أطنبت فمللت ، ولم تدر أني قد سهلت لك الوعر (٤) ، وأوضحت لك الطريق ، وأرحتك عن تلك التطويلات المملّة التي ذكروها في تعداد العلائق المجوّزة لاستعمال المجاز ، وما تجده في المفصّلات من علائمها وعلائم الحقيقة ، وعن الدور والجواب عنه بالإجمال والتفصيل ، وعن البحث في موارد كلّ من قاعدتي أصالة الحقيقة ، وأنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة

__________________

(١) المضّ : الحرقة. لسان العرب ٧ : ٢٣٣.

(٢) البيت من قصيدة لأبي الطيب المتنبي. ( ديوان المتنبي ٣ : ٢٢٨ ) وفيه : الماء ، بدل العذب.

(٣) بالفارسيّة : خورجين. ( مجد الدين ).

(٤) الوعر : ضد السهل. القاموس المحيط ٢ : ١٥٤ ( وعر ).

١١٥

والمجاز إلى غير ذلك من المباحث الكثيرة المبتنية على ثبوت المجاز بالمعنى المعروف.

وأما علائق المجاز فإنما يهمّ أمرها من يزعم أنه استعمال في غير ما وضعه الواضع ، فيطلب مواضع الرخصة ، أو يلتمس عذرا عن مخالفته ، ومندوحة عن الاحتياج إلى وضعه.

وبما عرّفناك ظهر أنه استعمال فيما وضعه الواضع ، ومطابق للغرض الداعي إلى الوضع ، ولا يحتاج فيه إلاّ إلى نكتة محسّنة للاستعمال ، وبدونها لا يكون غلطا بل قبيحا إذا لم يكن عن جهل أو خطأ ، والنكات المحسّنة لا حصر لها ، والموارد تختلف اختلافا شديدا ، هذه علاقة التشبيه وهي من أشهرها وأحسنها ، ترى الاستعارة بها حسنة في مورد خشنة في آخر ، يقبلها الطبع تارة ، وينبو عنها أخرى ، وربّما لا تكون علاقة أصلا أو كانت ولم تكن كافية ، فبالاستعمال والتكرار تقوى العلاقة ويزاح الاستهجان ، حتى أنّ عمّي العلاّمة ـ أعلى الله مقامه ـ عدّ من العلائق علاقة الاستعمال ، وقال : « لم أقف على من تنبّه له » (١) فراجع كلامه إن شئت ، تجده قد أحسن فيه ما شاء.

وكثيرا ما كنت أقول لإخواني الأدباء من أهل العراق : إن أقلّ ما يجب على من اخترع استعارة هذين الحيوانين القبيحين ـ أعني العقرب والحية ـ للأصداغ والشعور ألف سوط ، ولكنهما الآن كأنهما من الأصول الموضوعة في الصناعة ومن أحسن التشبيه ، وربّما لم تكن بين المعنيين علاقة أصلا ، فيحسّن الاستعمال وقوع لفظ آخر قبله أو بعده كما في علاقة المشاكلة ، وقد يعبّر عنها بعلاقة المجاورة ، وهذه العلاقة مما أعيا علماء البيان والأصول أمرها ، وأكثروا من الكلام عليها.

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ٢٥.

١١٦

ولا يخفى على الخبير بأن مجرّد المجاورة لا يحسّن الاستعمال ، بل لا بدّ من انضمام خصوصيّات إليها ، وشرحها لا يناسب المقام ، وربّما يحسّنه مجرّد الاشتراك اللفظي كما في قوله ـ وقد أخذته حمى النوبة ـ : « وهل يبقى الأمير بغير نوبة » والنوبة بمعناها الآخر هي الطبول التي تضرب للأمراء في أوقات معيّنة من الليل والنهار ، وهذا قسم من نكات البديع ، بديع في بابه ، فائق على أترابه ، وهو من النكات العشر التي استخرجتها وسمّيتها : ( المغالطة اللفظية ) والمتأخرون من علماء البديع ذكروا جملة من أمثلتها في صناعة التورية وهي بمعزل عنها ، ولها شواهد مليحة ، ولا يناسب المقام ذكرها ، ولكن لا أملك عنان القلم عن رسم قول القائل (١) ـ في بحر المجتثّ ـ :

يا بدر أهلك جاروا

وعلّموك التجرّي

وحرّموا لك وصلي

وحلّلوا لك هجري

فليفعلوا ما يشاءوا

فإنّهم أهل بدر

وقد أحسن ما شاء وأجاد في الصنعة ، ألا تراه استعار البدر لمحبوبه أوّلا ، وجعل أهله أهل بدر ، ثم بالمغالطة اللفظية نزّل عليهم المنقول من قوله صلّى الله عليه وآله : ( يا أهل بدر افعلوا ما شئتم فقد غفر لكم ) (٢).

وربّما يحسن الاستعمال بغير هذه وتلك ، ألا ترى أنه لو أراد أحد أن يقول

__________________

(١) ونظيره قول سلطان المحقّقين خواجه نصير الملّة والدين :

ما للقياس الّذي ما زال مشتهرا

للمنطقيّين في الشرطي تنديد

أما رأوا وجه من أهوى وطرّته

فالشمس طالعة والليل موجود

فانظر أيّها الأديب كيف اعترض على المنطقيين لقولهم : كلّما كانت الشمس طالعة فالنهار موجود ، إذ لو كان المراد بالشمس الوجه ، وبالليل الطرة فهل يكون ذلك اعتراضا عليهم كيف وهم لم يقصدوا في قولهم إلاّ الشمس الواقعية والنهار كذلك. ( ابن المصنف مجد الدين ).

(٢) صحيح مسلم ٤ : ١٩٤١ ـ ٢٤٩٤ ، كنز العمال ١٤ : ٦٩ ـ ٣٧٩٥٧ و ٣٧٩٥٨ باختلاف يسير.

١١٧

شربت الماء فقال : شربت السماء ، صحّ لك من باب التهكّم والمزاح والتعريض ونحوها أن تقول مثل قوله ، مع أنه لا مناسبة بين الماء والسماء أصلا ، ولم يحسنه إلاّ عدم إحسان الّذي قاله قبلك.

وفذلكة المقام : أنّ العلائق ليست بأمور قابلة للحصر ، بل هي تختلف باختلاف المقامات والخصوصيّات ، بل باختلاف اللغات والعادات اختلافا بيّنا ، فمن حاول عدّها فقد كلّف نفسه شططا.

وبهذا يتفاخر الفصحاء ، وتعرف منازل الشعراء ، ومنه تظهر قوة جنان الشاعر ، وطول باعه ، وقدرته على الصنعة ، فاستعارة الغيث للسيف لا يقدم عليه إلاّ مثل المتنبي حيث يقول :

.............................

وأترك الغيث في غمدي وأنتجع (١)

وأما علائم الحقيقة والمجاز ، وأصالة الحقيقة فلا شك أنّ المعنى الموضوع له يتبادر إلى ذهن السامع إذا كان عارفا بالوضع ملتفتا إليه ، ولا طريق إلى معرفة الوضع إلاّ بتنصيص الواضع أو أتباعه ، أو معرفة ذلك من تتبّع موارد الاستعمال.

ثم إنّ الأصل مطابقة الإرادة الجدّية للاستعمالية لأن الألفاظ إنما وضعت لبيان المقاصد العقلائيّة الواقعية بلفظ مطابق لمعناه وإنما يعدل عنها لدواع أخر لا يصار إليها إلاّ بقرينة معاندة معها لأنّ في عدم نصبها إخلالا بالغرض من الوضع فلا بدّ لمن لم تكن له إرادة جدّية كالمازح والهازل ، أو كانت ولم تكن مطابقة للاستعمال كالمكنّي أو المستعير والمبالغ من نصب القرينة ، وإلاّ كان ناقضا لغرضه.

اللهم إلاّ أن يكون غرضه تغرير السامع وإفهامه خلاف الواقع أعني الكذب فمع القطع بعدم الاعتماد على القرينة يقطع بالمراد الواقعي ، ومع الشك يبنى على عدمها كما في نظائرها.

__________________

(١) صدر البيت هكذا :

أأطرح المجد عن كتفي وأطلبه

.................

ديوان المتنبي بشرح العكبري ٢ : ٢٢٢.

١١٨

وستعلم في محلّه ـ إن شاء الله ـ أنّ أصل العدم من الأصول الفطرية المعتمدة عليها عند العقلاء في أمثال هذا المورد ، وهذا هو الوجه في أصالة الحقيقة ، وقد أغرب بعض أساتيذنا ، فجعل الوجه فيه الوجوب التعبدي من المولى في بيان طويل لا يناسب المقام نقله.

وإن كان لا بدّ من تصوّر المجاز بالمعنى المشهور ، وتكلّف الوضع له فأحسن القول فيه أن يقال : إن اللفظ متى حصلت له خصوصية مع معنى من المعاني بواسطة الوضع ، فلازم ذلك حصولها لما يشابهه بل لمطلق ما يناسبه على ما هو المطّرد في سائر الخصوصيّات الحاصلة بين الأشياء ، فالدار إذا صارت لزيد وحصلت علاقة الملكيّة بينها وبينه فلا بدّ من حصول مرتبة منها بين أولاد زيد وإخوته ـ مثلا ـ معها ، وعلى هذا فاللفظ الموضوع لمعنى لا بدّ لوجود مرتبة من الوضع لما يناسبه ، وإذا منعت القرينة عن إرادة المعنى الأصلي الّذي وضع له اللفظ تعيّن إرادة أقرب ما يناسبه.

اللهم هذا هو التكلّف الّذي يثقل على السمع ، وينبو عنه الطبع ، وعلى علاّته فهو خير من أكثر ما ذهب إليه ، واعتمد الأفاضل عليه ، ويمكنك أن تجعله شرحا لمقال القائل بأنّ جواز المجاز بالطبع.

( المجاز المركّب )

وكما أثبتوا المجاز في المفرد أثبتوه في المركّب أيضا ، وحدّه ـ على ما في الفصول ـ « استعمال المركّب أو المركّب المستعمل في غير ما وضع له لعلاقة بينهما ، وإن كانت العلاقة مشابهة سمّيت استعارة تمثيلية كقولهم للمتردّد في أمر : أراك تقدّم رجلا وتؤخّر أخرى ، فيصحّ فيه أن يلاحظ ما يلزم من تقدّم رجل وتأخّر أخرى عادة من التردّد ، وعدم ثبات الرّأي ، فتطلق عليه الألفاظ الموضوعة بإزاء ملزومه بعلاقة اللزوم فيكون مجازا مركّبا ، وأن يشبّه حال إقبال المخاطب المتردّد على الأمر تارة وإدباره أخرى بحالة من يتردّد في سلوك طريق فيقدّم رجلا

١١٩

ويؤخّر أخرى بجامع التردّد وعدم الثبات ، والتداني إلى المقصود تارة والتباعد عنه أخرى فيكون استعارة تمثيلية » (١).

أقول : فعلى ما ذكره ـ طاب ثراه ـ لا يختص المجاز المركّب بخصوص ما كانت العلاقة فيه المشابهة ، بل يكون الحال فيه كما كان في المفرد ، فكما أنّ المجاز في المفرد مقسوم إلى ما كانت العلاقة فيه المشابهة ، فيسمّى استعارة ، وإلى ما كانت غيرها فيسمّى مجازا مرسلا ، فكذلك المجاز المركّب إن كانت العلاقة مشابهة سمّيت استعارة تمثيلية أو التمثيل مطلقا ، وإلاّ كانت مجازا مركّبا كما اصطلح عليه ، وهذا أحسن من تخصيص صاحب التلخيص المجاز المركّب بخصوص الأول (٢).

عاد كلامه.

قال : « ثم إنهم بنوا أمر المجاز المركّب على ثبوت الوضع للمركّبات ، فالتزموا القول بأن المركّبات موضوعة بإزاء المعاني المركّبة ، كما أنّ المفردات موضوعة بإزاء المعاني المفردة ، وخالف في ذلك العضدي ، فأنكر المجاز المركب رأسا وخصّه بالمفرد محتجّا عليه بأنّ المركّبات لا وضع لها فلا يتطرّق التجوّز إليها ، إذ التجوّز من توابع الوضع ».

« والحقّ ما ذهب إليه الأكثرون من ثبوت المجاز في المركّب ، لكنه عندي لا يبتنى على أن يكون للمركّب وضع مغاير لوضع مفرداته كما زعموه ، بل يكفي فيه مجرّد وضع مفرداته لمعانيها الأفرادية ، فإنّ كلّ مفرد من المفردات إذا دلّ على معناه الأفرادي بالوضع فقد دلّ المركّب منها على المركّب منه بالوضع ، إذ المراد بالمعنى المركّب هو نفس مداليل المفردات المشتملة على النسبة ، كما أنّ المراد باللفظ المركّب هو نفس الألفاظ المفردة المشتملة على النسبة اللفظية ، وكما يجوز

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ٢٧.

(٢) تلخيص المفتاح المطبوع مع شرح المختصر ٢ : ٩٥.

١٢٠