وقاية الأذهان

الشيخ أبي المجد محمّد رضا النجفي الإصفهاني

وقاية الأذهان

المؤلف:

الشيخ أبي المجد محمّد رضا النجفي الإصفهاني


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٩

غيرهما ، علمنا أنّ وضع تلك الهيئات نوعي إذ من البعيد ـ بل من المقطوع بعدمه ـ أن يضع الواضع في كلّ مادّة مادّة على كثرتها هيئة ( فعل ) للماضي ، و ( يفعل ) للمضارع وهلمّ جرّا ، فإنه لغو وعبث صرف لا تكاد أن يصدر عن عاقل.

وإذا أضفت إلى ذلك ما تعلمه من أنّ الماضوية ، أو المضارعية ، أو المصدرية ـ مثلا ـ يفهم من تلك الهيئات من غير توقف على فهم المادة ، وتذكرت ما نبّهناك عليه من قياسيّة تلك الهيئات ، وصحّة إجرائها حتى في الجوامد ، عرفت أنّ القطع الّذي ادّعيناه ليس بكذب ولا بجزاف ، والوضع النوعيّ ـ كما عرفت ـ يحتاج إلى مبدأ سابق عليه ، احتياج الصورة إلى الهيولى.

وكان السيد الأستاذ يقول : إن أسماء المصادر أولى بأن يكون مبادئا لمشتقّاتها ، ولكنها قليلة في لغة العرب ، فلا يمكن اعتبارها في جميع الأبواب.

فالتحقيق في المقام أن يقال : للواضع أن يلاحظ أولا حروف لفظ المادة مجرّدة عن كلّ هيئة ، وصورة إجمالية أو تفصيلية كحروف ( ض ) ( ر ) ( ب ) ويضعها بإزاء صرف المعنى كذلك غير ملحوظ معه نسبة إلى فاعل ، أو مفعول ، أو زمان ، ونحوها من الخصوصيّات حتى المصدرية وهو المعنى الساري في جميع المشتقات بوحدته المطلقة ، ويفعل كذلك في كلّ الموادّ التي يريد وضعها ، ثم يعقبه بوضع الهيئات.

لا يقال : يلزم ـ على ما ذكرت ـ أن يكون معاني المشتقات مركبة ، وسيأتي أنها بسيطة ، بل يلزم منه ما هو أمرّ من التركيب ، وهو أن يدلّ كلّ واحد منها على معنيين متعدّدين مستقلّين غير مركّبين ، وغاية الأمر كونهما متناسبين كبائع التمر ، فإنّهم وإن اختلفوا في بساطة معاني المشتقات وتركيبها ، ولكن لم يقل أحد بتعدّدها.

لأنا نقول : المادة ملحوظة أيضا في وضع الهيئات ، فيكون الموضوع هي المادّة المتهيّئة بالهيئة الخاصة ، وهو الوضع الحقيقي الدالّ على المعنى ، وليس الوضع

١٦١

الأول إلاّ مقدّمة لهذا الوضع وتهيئة له ، ولا نبالي بعدم تسمية الأول وضعا ، إذ تمام المقصود هو الوضع الثاني ، كذا قال السيد الأستاذ أعلى الله رتبته وقدّس تربته.

أقول : وهذا أيضا قسم من الوضع يسمّى بالوضع التحصّلي ، كما ذكره ـ الجدّ ـ العلاّمة في الهداية ، ومثّل له بوضع الحروف الهجائية لتركيب الكلمات (١).

وهذا إن لم يكنه فهو قريب منه ، ولكن ينبغي أن يكون مراده ـ طاب ثراه ـ ملاحظة الموادّ إجمالا عند وضع الهيئات ، إذ ملاحظتها تفصيلا يعيد محذور الوضع الشخصي ، وكما أنّ المحذور يندفع بملاحظة الموادّ إجمالا ، كذلك يندفع بوضع الهيئات في مادة مخصوصة كمادّة ( ض ) ( ر ) ( ب ) ثم قياس بقية الموادّ عليها.

هذا ، ولي في المقام كلام لعلّه ممّا يرتضيه الأفكار العالية ، والأفهام الثاقبة ، ويتوقّف ذلك على بيان معنى الهيئة ، ونقول مقدمة لتوضيحه :

إن المركوز في الأذهان أنّ حروف المباني بأنفسها ومن غير ملاحظة ما بعدها إمّا متحركة أو ساكنة ، وأنّ السكون والحركات الثلاث عوارض على نفس الحروف ، وكيفيّات لها ، وليس الأمر كذلك عند دقيق النّظر ، كما نبّه عليه الشيخ نجم الأئمة (٢) في شرح الكافية (٣) ، بل الحرف بنفسه ليس بمتحرك ولا ساكن ، وليس الّذي يدّعى متحركا إلاّ الّذي بعده أحد حروف الإعراب أعني : الألف والياء والواو ، أو مرتبة ناقصة خفيفة منها ، وهي التي تسمّى بالفتحة والكسرة

__________________

(١) هداية المسترشدين : ٢٣.

(٢) هو إمام العربية ، وركن الأدبيّة ، وفخر الإماميّة ، رضي الدين محمد بن الحسن الأسترآبادي ، المشتهر بالشارح الرضي ، صاحب شرح الكافية ، وشرح الشافية اللذين لم يعمل مثلهما ، بل ولا نظيرهما من حيث التحقيق ، وقد اعترف بذلك الموافقون والمخالفون ( والفضل ما شهدت به الأعداء ) وكلاهما مبسوطان موجودان الآن عندي ، وله أيضا شرح قصائد ابن أبي الحديد السبع المشهورات في فضائل أمير المؤمنين عليه السلام ، وغير ذلك ، وبالجملة ، فهذا الرّجل محقّق ، مدقّق ، عالم ، فاضل ، جليل القدر ، عظيم المنزلة ، شيعيّ اثنا عشري. هذا ، وتوفي طاب ثراه سنة (٦٨٦) من الهجرة المقدّسة. ( مجد الدين )

(٣) شرح الكافية ١ : ٢٣ ـ ٢٤.

١٦٢

والضمة ، ولا الساكن إلاّ الّذي لم يكن بعده أحدها ، سواء كان بعده حرف من غيرها أو لم يكن حرف أصلا ، ومن شأن هذه الحروف أنّ قلّتها في الكلام توجب صعوبة النطق ، بل عدم إمكانه كما في ابتداء الكلام ، وكثرتها توجب ركاكته وانحلاله ، ولهذا منعوا من التقاء الساكنين ، ومن توالي أربع حركات أو أكثر ، وفي بعض اللغات (١) المتعارفة لا توجد هذه الحروف إلاّ تامة ، وليس فيها ما نسمّيه فتحة وضمة وكسرة.

إذا عرفت هذا ، فاعلم أنّ هيئات المشتقّات ليست إلاّ حروفا تامة وناقصة وزّعت على حروف المادّة ، وجعلت خلالها على ترتيب مخصوص ، وليست هيئة ( مضروب ) إلاّ ميم وواو ، جعلت الميم قبل الحرف الأول من المادّة ، والواو ما قبل آخرها ، وما هي إلاّ كلفظ ( من ) من حيث الوضع والمعنى.

وقد سبق منّا في مبحث معاني الحروف أنّ الحروف ليست إلاّ علامات لتعيين موضع مدخولاتها ، فلفظ ( في ) في قولك : زيد في الدار. لا وظيفة لها إلاّ تعيين أنّ الدار في هذه الجملة موضعها الظرفية ، وكذلك الحرف المتخلّل بين حروف المادّة لا موقع لها إلاّ بيان أنّ المادة في هذا الاستعمال وقعت موقع المفعوليّة ، وقس عليه سائر الهيئات المشتقات.

وبالجملة ، فالحروف على قسمين : قسم يقع بجميع حروفه قبل الأسماء كـ ( من ) و ( إلى ) ونحوهما ، وقسم يتفرق بين أجزاء المادة ، والسرّ في ذلك واضح.

الثاني : أنه قد تقدّم في صدر المبحث عن ( الفصول ) تعريف لفظ المشتق وعن السيد الأستاذ تعريف المبدأ ومعناه إجمالا ، وبقي علينا البحث عن معنى المشتق وما يصلح للمبدئيّة.

فنقول : لو قيل : إنّ المشتق هو المادّة الملحوظة ببعض تطوّراتها وحيثيّاتها

__________________

(١) كاللغة الأروبائية. ( مجد الدين )

١٦٣

لم يبعد كلّ البعد عن الواقع ، فعلى هذا فالمبدأ هو الملحوظ بذاته من غير نظر إلى شيء من اعتباراته ، والمشتق هو المبدأ مع لحاظها معه.

وبهذا يظهر الفرق بينهما من غير حاجة إلى تلك التطويلات المملّة ، والعبائر المفصّلة التي فهمها أشكل من فهم أصل المسألة.

ويظهر أيضا السرّ في عدم صحّة حمل المبدأ على الذات ، وصحة حمل المشتق عليه ، إذ من الواضح أنّ المبدأ بما هو مبدأ مباين مع الذات ، فمفهوم القيام غير ( زيد ) ولكنّه عين ( زيد ) باعتباره الفاعلي ، وعين ( عمرو ) باعتباره المفعولي ، وهكذا.

ثم إنّ الاعتبارات التي تعتور الموادّ ذات أنواع شتّى ، وأكثر الأنواع له أصناف بها تحصل للمشتق أبواب مختلفة ، ويبتنى منها صيغ مختلفة ، فإن لوحظ المبدأ باعتبار ثبوته للشيء فقط كالحسن والقبيح فهو باب الصفة المشبّهة.

وإن كان معه اعتبار الكثرة والشدّة ونحوهما ، فهو معنى صيغ المبالغة كالشرّيب والقتّال ونحوهما ، وعكسه باب التصغير بحسب أصل الوضع لا ما يؤتى منه للتعظيم ببعض العنايات.

وإذا بلغت الشدّة مرتبة تورث التعجّب ، فهي باب أفعال التعجّب ، وينبغي التأمل في عدّ هذا الباب من الأفعال ، مع أنه ألصق بالأسماء ، ولا يوجد فيه شيء من العلائم اللفظيّة والمعنويّة للفعل ، اللهم إلاّ ببعض التأويلات المذكورة في محلّها.

وإذا وجدت المادّة في شيئين ، وكانت في أحدهما أشدّ من الآخر كان باب أفعل التّفضيل.

ومنه يظهر التقارب بين صيغ المبالغة وبينه ، إذ لا فرق بينهما ، إلاّ أنّ تلك الصّيغ موضوعة للأشديّة المطلقة ، وباب ( أفعل ) للأشديّة النسبيّة.

وإن كان باعتبار صدوره ، فإن لم يعتبر فيه الوقوع على الغير ، والزّمان

١٦٤

فهو اسم الفاعل من اللازم كقائم ، وإن أخذ فيه الوقوع على الغير فهو اسم الفاعل من المتعدّي كـ ( ضارب ).

وإن اعتبر الآليّة ، أو الزّمان ، أو المكان للمبدإ فهو اسم آلة ، أو زمان ، أو مكان.

وإن كان معه اعتبار الزّمان على النحو الآتي فمع اعتبار الاتّصاف به فقط مع زمن مّا ، فهو من باب الفعل اللازم ، ومع ملاحظة وقوعه على الغير فهو باب المتعدّي المجرّد ، وبعض الزّوائد مثل باب الأفعال.

ومع ملاحظة مطاوعة المبدأ فهو من باب الانفعال نحو كسّرته فانكسر ، وقد يأتي من هذا الباب عدم ملاحظة الفاعل أصلا نحو : انفطر الجدار ، حيث يراد به صرف ظهور الأثر من غير لحاظ مطاوعة الغير أصلا.

وقد يكون باعتبار تكلّف المادّة فهو بعض معاني باب التفعّل كـ ( تجلّد ) أو باعتبار قيام فرد واحد منه لشخصين نحو زيد وعمرو تراميا.

أو باعتبار طلب المبدأ كبعض معاني باب الاستفعال نحو الاستعلام ، إلى غير ذلك ممّا لا يساعد على استقصائه الحال ، ولا يسعه المجال.

وما ذكرناه فانّما هو من باب النموذج ، قصدا لتنشيط همم أذكياء المحصّلين في استخراج معاني سائر الأبواب.

وليعلم أنّ لتنوّعات الموادّ أنواعا غريبة ، وضروبا شتّى ، حتّى أنّ باب الأفعال كثيرا ما يأتي لإزالة المبدأ على خلاف غالب المشتقّات التي هي لقيام المبدأ بها ، نحو أشكيته أي : أزلت شكايته ، وبه فسر الجمهور قوله تعالى : ( إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها )(١) أي : أزيل خفاءها ، فعلى المتأمّل الفطن أن يعلم أنّ جميع ذلك نحو من اعتبار القيام ، ولا يخرج شيء منه عمّا عرفت من الأقسام.

ثمّ لا يخفى أنّ جميع ما ذكر ، إنّما هو بحسب وضع الأبواب ، فلا ينافي

__________________

(١) طه : ١٥.

١٦٥

خروج بعضها عن الأصل ، لخصوصيّات لبعض الموادّ ، أو عنايات خارجيّة في بعض الاستعمالات ، واستقصاء ذلك متعسّر ، بل متعذّر ، ومع ذلك فليس من وظائف هذا الكتاب.

هذا ، وقد كان السيّد الأستاذ قدّس الله تربته وشرّف رتبته ، يقول ـ عند ذكر بعض هذه الأقسام ـ : إنّها إنّما تكون بالنظر إلى كلّية الأبواب ، فلا ينافي وجود مادّة من الموادّ غير قابلة لتمام تلك الاعتبارات ، إذ لم يستعمل بعضها في اللّغة ، أو صرّح بعدمه علماؤها.

قلت : توقف صحّة الاستعمال على السّماع ينافي ما أسّسه رحمه الله من الوضع النّوعي للهيئات ، بل مقتضاه جوازه ، حتّى مع منع الواضع عنه ، لما عرفت سابقا في مبحث معاني الحروف ، من عدم معقوليّة شرط الاستعمال.

وبالجملة مجرّد عدم الاستعمال ، بل ومجرّد منع اللّغويّين عن بعض الهيئات في بعض الموادّ لا يوجب عدم قابليّة المادّة ، بل لا بدّ أن يكون كلّ من عدم الاستعمال أو المنع مسبّبا عن قصور في نفس المادّة أو الوضع.

أما الأول فمثاله : المساجلة ، فإنّها بمعنى المفاخرة (١) ، ولا تستعمل من غير باب المفاعلة ، والسر فيه أنّ السجل في اللّغة بمعنى الدّلو العظيمة (٢) ، ولا مناسبة بين الدّلو والفخر حتّى يطّرد القياس ، ويتأتّى منه جميع الهيئات ، وإنّما المناسبة المصحّحة للاستعمال في خصوص هذا الباب (٣) ، أنّ المتفاخرين لمّا كان كلّ منهما إذا أتى بمكرمة لنفسه أو منقبة لعشيرته عارضه الآخر بمثله ، ونزح من ركيّ مكارمه دلوا كدلوه ، كانا كالمتساجلين ، يمتح (٤) هذا دلوا والآخر أخرى.

__________________

(١) راجع لسان العرب ١١ : ٣٢٦.

(٢) لسان العرب ١١ : ٣٢٥.

(٣) أي : باب المفاعلة. ( مجد الدين ).

(٤) الماتح : المستقي من البئر. من أعلاها. لسان العرب ٢ : ٥٨٨.

١٦٦

وأما الثاني فمثاله : المناضلة وهي بمعنى المراماة ، ولا يأتي ـ فيما أعلم ـ من غير باب المفاعلة ، أو ما فيه معناها أيضا ، والسر فيه أنّ الواضع لم يضع أصل النضل للرمي كما فعله في لفظ الرمي ، كي يصحّ منه جميع الهيئات ، وإنّما وضع المادّة المتهيّئة بهيئة هذا الباب خاصة.

ومن هذا الباب : الملوان بمعنى الليل والنهار ، حيث لا يستعمل مفرد هذا اللفظ ، وذلك لأنّ الواضع لم يلاحظ مادّة الملو مستقلا ، كما فعله في لفظ الليل ، بل لاحظها مقرونة بصورة التثنية ، ووضعها مقيّدة بها لمجموع الليل والنهار.

ومن هذا النمط الألفاظ المفردة التي لا تثنّى ولا تجمع ، والجموع التي لا مفرد لها من جنسها ، وهي في غاية الكثرة في لغة العرب.

هذا كلّه في البحث عن معنى المشتق ، وأمّا البحث عن معنى المبدأ ، فمختصر الكلام فيه أنّه كلّ ما أمكن أن ينتزع منه اعتبار يتّحد مع الذات ، كالأفعال ، والصفات ، والحالات ، وغيرها حتّى الجوامد ، نحو : أدماه ، فإنّ الدم وإن كان اسم عين ، لكنّه كجرح وقتل ، لاتّحادهما في المناط المذكور ، ومثله : ( تدثّر ) و ( تجورب ) ونحوهما ، لأنّ منهما ينتزع عنوان اللبس والاشتمال.

وما يرى من غرابة الاشتقاق في بعض الجوامد فمنشؤه قلّة الاستعمال ، إذ الاستعمال في تأهيل الوحشي من الألفاظ ، وتسهيل الوعر منها عمل عظيم ، ألا ترى أنّ الرمح ، والسيف ، والخنجر ، أسماء ثلاثة للأعيان الثلاثة من السلاح ، والرمح بلغ حدّا من الشيوع حتّى صار كالقائم والقاعد ، فلا يتّصف بحسن ولا قبح ، والسائف لطيف في الذوق لاستعماله قليلا في كلمات الفصحاء ، والمخنجر قبيح ، ولا منشأ له إلاّ عدم الاستعمال ، وعلى هذا فلا فرق بين المشتقّات الأصليّة وما يسمّى بالاشتقاقات الجعلية إلاّ أنّ الموادّ في الأولى لا أوضاع لها تامّة إلاّ في ضمن الهيئات ـ على ما مرّ تحقيقه ـ بخلاف الثانية.

الثالث : أنّ المشتقّات على قسمين : فعليّة واسميّة ، فالكلام هنا في مقامين :

١٦٧

الأوّل : قد مرّ القول في معنى الفعل إجمالا ، ونزيده توضيحا ، ونقول : مدلول الفعل هو الحدث المقيّد بالزمان ، والنسبة إلى فاعل مّا على نحو دخول التقييد ، وخروج القيد ، فمدلول الفعل مركّب من أمرين : نفس الحدث ، والتقييد ، بل إطلاق التركيب عليه مسامحة ، لأنّ ذلك التقييد ليس أمرا مغايرا للحدث ، بل هو من خصوصيّاته وحدوده ، فمدلوله حقيقة هو الحدث الخاصّ كالمصدر وسائر المشتقّات ، فجميعها مع اشتراكها في معنى الحدث يتمايز بتمايز الخصوصيّات ، ويتباين بتباين القيود.

إذا عرفت ذلك عرفت أنّ دلالة الفعل على الزمان ليس بالتضمّن ، كما يظهر من جمهور علماء العربية ، لخروج الزمان ـ بداهة ـ عن مدلوله ، وإنما هو بالالتزام البيّن بالمعنى الأخصّ ، لأنّ مدلوله لمّا كان الحدث المقيّد بالزمان فتصوّره يتوقّف على تصوّر الزمان ، كما في العمى والبصر ، إذ العمى لمّا كان موضوعا لعدم البصر ممّا هو من شأنه ، فتصوّر العمى موقوف على تصوّر البصر ، وبهذا تمتاز دلالة الفعل على الزمان عن دلالته على المكان ونحوه ، مع اشتراك الكلّ في اللزوم العقلي ، إذ دلالته على الزمان دلالة لفظية من القسم الثالث من أقسامها ، بخلاف المكان ، فإنّ دلالته عليه عقليّة صرفة.

هذا وأما دلالته على التقييد بالزمان ، لا على نفس الزمان يكون تضمّنيّا لأنه من أجزائه العقلية ، وإن لم يكن من أجزائه الخارجية.

هذا إن قلنا بوجود الدلالة التضمنية ، وتثليث أقسام الدلالات بها ، كما هو المشهور ، وأمّا على ما هو التحقيق من إنكار دلالة الكلّ على الأجزاء دلالة مستقلّة تعدّ في قبال المطابقة ، فلا وجود لهذا القسم من الدلالة أصلا ، كما حقّقه السيد الأستاذ طاب ثراه ، ويأتي تفصيله ـ إن شاء الله ـ في بحث وجوب الأجزاء من مباحث مقدّمة الواجب.

وإجمال الكلام فيه أنّ التركيب بين الأشياء المتباينة لا يتحقق إلاّ بلحاظ

١٦٨

الوحدة بينها ، ولا يتحقّق هذا اللحاظ إلاّ بتجريد المتباينات عن الخصوصيات ، وتعريتها عن المشخّصات ، فيرجع الكثرة إلى الوحدة ، ولا تبقى بهذا اللحاظ أجزاء بالمرة ، فحينئذ فإن دلّ اللفظ على الجزء بتميز عن الجزء الآخر ، وكان ذلك خلاف مفهوم الكلّ ، فلا جزء إلاّ مندمجا للكلّ لا تشخّص له غير تشخص الكلّ ، ولا صورة له غير صورته ، فهو عين الكلّ ، فدلالته عليه عين دلالته على الكلّ.

نعم للعقل أن يلاحظ الكلّ ثانيا ، ويحلّله إلى أجزائه ، ويلاحظ دلالة اللفظ على كلّ واحد منها ، ولكن هذا بالالتزام أشبه منه بالتضمّن ، هذا ملخّص كلامه طاب ثراه.

ولقائل يقول : إنّ هذا القسم من الالتزام سمّاه القوم تضمّنا ، فهو أمر اصطلاحيّ لا مشاحة فيه ، ولا أهمية له في هذا المقام وإن كان نفسيا في نفسه ، نافعا في مسألة وجوب الأجزاء ، كما يأتي إن شاء الله ، وإنّما المهم صرف عنان الفكر إلى أصل دلالة جميع الأفعال على الزمان بأيّ نحو كانت ، بحيث تكون مقوّمة لمعنى الأفعال مطلقا ، وفارقة بينها وبين الأسماء ، كما ذكره النحاة ، مع ما نرى بالوجدان عدم دلالة الأمر عليه مطلقا ، فضلا عن خصوص الزمان الحاضر ، كما ذكره الصرفيّون.

نعم هو زمان لوقوع الإنشاء ، كما هو زمان لوقوع الإخبار أيضا ، وكذا الكلام في النهي أيضا.

نعم دلالة الماضي على وجود المبدأ على نحو المضي ، ودلالة المضارع على نحو الوجود الاستقبالي مما لا ينبغي أن يشكّ فيه ، ولا أظن أحدا يصحّح قول القائل : ضرب زيد غدا ، ويضرب زيد أمس.

نعم في كون هذا النحو من التقييد تقييدا بالزمان تأمّل ، فكأنّه غير التقييد به أصلا وإن كان لازما له ، ولهذا يصح قولك : مضى الزمان الماضي ، ويأتي

١٦٩

الزمان المستقبل.

ومن رام إنكار دلالة جميع الأفعال على الزمان حتى الماضي والمضارع ولو بهذا المعنى فهو إنكار لصريح الوجدان ، وإلاّ فله وجه ، بل هو الوجه.

وقد تمسّك بعض من عاصرناه من الشيوخ (١) على نفي دلالة الفعل على الزمان بأنّ الفعل ليس إلاّ مادّة وهيئة ، والمادّة تدلّ على الحدث ، والهيئة على النسبة ، فأين الدالّ على الزمان؟

وجوابها يظهر ممّا تقدّم من إفادات السيد الأستاذ أعلى الله رتبته.

الثاني من المقامين : في المشتقات الاسمية ، فنقول : معنى المشتق مفهوم بسيط منتزع عن الذات بلحاظ تلبّسه بشيء من الصفات ، فيكون المفهوم عنوانا للذات بعنوان بعض صفاته.

وقال بعضهم : إنّ معناه ذات ثبت له المبدأ كالضرب مثلا في ( ضارب ) فإن أراد ـ على بعد ـ بيان منشأ الانتزاع وما يعتبر فيه فلا كلام فيه ، وإن أراد أنه معنى اللفظ فيرد عليه أنّ هذه ألفاظ متعدّدة ، لها معان متعدّدة مرتبطة ، ولا شك أنّ المشتق دالّ واحد على معنى واحد ، وهذا من الوضوح ممّا لا يرتاب فيه أحد.

والقائل بالتركيب في معناه لا يريد به هذا المعنى ، وإنّما يريد به كونه ذا أجزاء ، وأنّه قابل للتحليل إليها.

وفي مقابل هذا القول ، أنه بسيط لا يقبل الانحلال وإن كان منشؤه ذا أجزاء فعليّة ، اللهم إلاّ باللحاظ الثانوي الّذي هو حقيقة غير معنى المشتق ، فانه لا يضرّ بالبساطة ، كما تقدمت الإشارة إليه ، وستأتي تتمة بيانه ، كما قلنا مثله في مأخوذية المبدأ في المشتقات أنّ مثله لا يضرّ بالبساطة.

هذا ، والحقّ هو الثاني ، والّذي دعا القائل بالتركيب إلى القول به ، إن كان

__________________

(١) الشيخ هادي الطهراني أعلى الله تعالى مقامه. ( مجد الدين )

١٧٠

عدم تصوّره انتزاع البسيط من المركّب ، وزعمه عدم إمكان ذلك ، كما هو الظاهر ، فعلينا بيان إمكانه ، وإن كان نزاعه في مقام الإثبات فبيننا وبينه التبادر ، ويأتي بيانه قريبا إن شاء الله.

ونقول في تقريب إمكان الانتزاع المذكور : إنّ للعقل أن ينتزع من عدّة أمور مقيّد بعضها ببعض ، مفهوما بسيطا لا تركيب فيه أصلا ، ألا ترى أنّ المفهوم من لفظ ( الحجر ) معنى بسيط ، مع أنه منتزع من ذات ثبت له الأبعاد الثلاثة ، أو أمكن أن تتقاطع فيه ثلاثة خطوط على زوايا قائمة صلب لا نموّ له أصلا ولا نطق ، وهكذا معاني سائر الألفاظ.

وبالجملة فالمفاهيم المنتزعة بإزاء الأنواع الذاتيّة بناء على كونها أجناسا لما تحتها ليس اختلافها إلاّ باعتبار الخصوصيّات المتبادلة ، أي الفصول المقوّمة ، مثلا : الفرق بين النبات والحيوان ليس إلاّ أنّ مفهوم الأول منتزع من جسم ذي نموّ بلا إرادة ، والثاني من جسم نام مع الإرادة ، وهكذا ، ولو كان مثل ذلك موجبا للتركيب لانحصرت البسائط في المختلفات بتمام الحقيقة كالجوهر والكمّ مثلا ، ويكون تمام الأجناس الداخلة تحت الأجناس العالية مركّبات مفهوما ، وهذا ممّا لا يلتزم به أحد.

فإذا جاز ذلك في سائر المفاهيم جاز في المشتق أيضا ، بل الجواز فيه أولى لأنه منتزع من صرف التلبّس بأحد المبادئ ، بخلاف المفاهيم فإنها تنتزع من عدّة أمور.

ثم نقول في مقام الإثبات : إنّ مفهوم المشتق مطابق لأوّل ما ينطبع في مرآة الذهن من ملاحظة المبدأ المعنون بأحد العناوين ، وتلتفت إليه النّفس ، ولا شك أنّه معنى بسيط ، فمن نظر إلى النجم لا يرى في بدء النّظر جسما ونورا مرتبطين ، ولا شيئا ثالثا مركّبا ، بل يرى جسما معنونا بعنوان النورانيّة ، وكذلك من رأي فرسا راكضا لا يرى إلاّ الفرس المعنون بعنوان الركض ، لا فرسا وركضا ، ولا

١٧١

ثالثا مركّبا منهما.

وقس عليهما الضارب ، والمضروب ، وسائر المشتقات ، وإذا فعلت ذلك وأنصفت عرفت أنّ مفاد المشتق ليس إلاّ الذات ، محدودة بتلك الحدود ، ومعنونا بتلك العناوين ، ولا فرق بين هذه المفاهيم وبين مفهوم الحجر ، وسائر مفاهيم الذوات ، إلاّ أنك تفهم من لفظ الحجر العنوان المنتزع من الذات بما هو ذات ، ومن المشتقات بما هو متصف بصفة معيّنة ، ومحدود بحدود معلومة ، ومجرّد ذلك لا يوجب بساطة مفهوم الأول وتركّب الثاني ، إذ لا فرق بينهما في ناحية المعنى أصلا ، وإنّما هو في اللفظ فقط.

وإذا عرفت ذلك ظهر لك الفرق بين المشتق ومبدئه ، إذ هذا المعنى الأوّلي البسيط هو معنى المشتق ، وللعقل بعد ذلك أن يجرّد المبدأ عن الذات ويفكّكه ، كما تجرّد الصور عن موادّها ، والأجناس عن فصولها ، وينسبه إلى الذات ، وهذا الملحوظ بالنظر التحليلي الثانوي هو معنى المبدأ.

وقد اتّضح من ذلك مراد بعض أهل المعقول ، حيث قال : إنّ الفرق بين المشتقّ ومبدئه كالفرق بين العرضي والعرض ، وجعلهما متّحدا في الذات ، وجعل الفرق بينهما بالاعتبار ، فإن أخذ لا بشرط كان عرضيّا ، فيصحّ حمله على الذات ، كما أنّ الجزء الصوري أو المادي إن أخذا لا بشرط كانا جنسا أو فصلا ، وصحّ حملهما على الذات ، وإن أخذا بشرط لا كانا المعبّر عنهما بالصورة والهيولى ، فإنّ مراده من لا بشرط ، ملاحظة المعنى من دون ضمّ شيء آخر معه وجودا ولا عدما ، ومعلوم أنّ المبدأ بهذا الوجه لا يكون إلاّ مندكّا في الذات ، متّحدا في اللحاظ لا يمتاز عنه ، لما عرفت أنّ ملاحظة المبدأ في ذاته بذاته يحتاج إلى عناية زائدة من ملاحظة تجرّده وتفكيكه ، إذ لا وجود له في الخارج مستقلا ، بل هو موجود مندكّا في الغير ، مندمجا فيه ، وغير ملحوظ إلاّ بصفة أنّه حدّ لموجود ، وما أشبهه من هذه الجهة بجملة من الأعراض ، فإنّ من نظر إلى مربّع لا يرى إلاّ جسما بصفة

١٧٢

التربيع ، ولكن العقل يفكّكه في النّظر الثانوي ، ويفرّق بين الحدّ والمحدود.

وتبيّن من جميع ما ذكرنا ، أن المبدأ بشرط لا ، والمشتق لا بشرط ، وأنّ المصحّح لحمله على الذات ملاحظته لا بشرط ، لأنه إذا لوحظ هكذا ـ على ما عرفت ـ اتحد مع الذات ، وصحّ حمله عليها ، دون ما إذا لو حظ بشرط لا فإنه مباين معها ، ولا يكاد يتصور حمله عليها.

والسرّ فيه أنه إذا لوحظ الوصف فمجرّد عدم اعتبار عدم الذات يكفي في كونه عنوانا للذات ، ومتحدا معه بالاعتبار.

ثم إن صاحب الفصول ـ طاب ثراه ـ جعل مفاد المشتق باعتبار الهيئة مفاد ( ذو ) وحكم بعدم الفرق بين قولنا : ذو بياض ، وذو مال ، ثم قال : « فالفرق بين المشتق ومبدئه هو الفرق بين ذي الشيء والشيء » (١) انتهى.

ولو كان معنى الهيئة معنى ( ذو ) فلا شك أنّ مفاد ( ذو ) مفاد ( صاحب ) ، فكانت هيئته أيضا مرادفا له ، وكذلك إلى أن يتسلسل.

ويرد نظير هذا على القائل بأنّ المشتق ذات ثبت له المبدأ ، لأن المصحّح لحمل المبدأ على الذات لو كان معنى مصدريّا كالثبوت وأمثاله لاحتاج ذلك المعنى إلى معنى مصدريّ آخر ، يتسلسل أيضا.

فالتحقيق ما عرفت من أن معنى المشتق مفهوم بسيط منتزع من الذات ، بلحاظ تلبّسه بشيء من الأعراض ، سواء وضع له لفظ من المشتقات كضارب ، أم لم يوضع له كالحجر ونحوه ، انتهى ملخّص مرامه ، زاد الله في علوّ مقامه.

أقول : ما يذهب إليه السيد الأستاذ في معنى المشتق ، هو الّذي ذهب إليه صاحب الفصول بعينه ، فإنه قال في آخر كلامه ما لفظه : « فمدلول المشتق أمر

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ٦٢.

١٧٣

اعتباري منتزع من الذات بملاحظة قيام المبدأ بها » (١).

وهذا الكلام كما تراه صريح فيما أفاده الأستاذ فينبغي التأمل في مراده من الكلام السابق ، وفي وجه الجمع بينه وبين ما ذكره أخيرا.

وظنّي أنه رحمه الله لا يريد ترادف الهيئة مع لفظ ( ذو ) ، فإنه يبعد صدوره عن صغار المحصّلين فكيف عن محقّق مثله ، وإنما يريد به بيان أنّ مفاد المشتق ليس عين المبدأ ولو باعتبار اللاّبشرطية ، كما يوهمه ظاهر كلام بعض أهل المعقول ، وإنما معناه انتساب المبدأ بالذات وقيامه بها باعتبار الانتساب ، ولهذا لم يقل : إنه مرادف لـ ( ذو ) ، ولا انّ معناه معنى ( ذو ) ، بل قال : مفاده أي حاصله ومآله ، وبيان تلك النسبة الحرفية الربطية التي هي معنى الهيئة لا يمكن بأحسن من هذا البيان.

وإذا نظرت إلى مجموع كلامه ، وجمعت بين جميع أطرافه ، علمت أنه لا يريد بما أفاده إلاّ أنّ مجرد أخذ المبدأ لا بشرط لا يجوّز حمل الذات عليه ، بل لا بدّ فيه من اعتبار الوحدة كما في قولك : الإنسان جسم. ولا يمكن ذلك في قولك : زيد عالم ، أو متحرك. لأنه لا يراد بـ ( زيد ) المركّب من الذات ، وصفة العلم أو الحركة ، وهذا بحث آخر غير البحث عن مفهوم المشتق ، بل هو بحث في بيان شرائط الحمل فيه ، كما هو صريح قوله : ( إن حمل أحد المتغايرين لا يصح إلاّ بشروط ثلاثة ) (٢) فراجع.

الرابع : إطلاق المشتق على الذات المتصفة بمبدئه في الحال حقيقة اتفاقا ، كما أنّ إطلاقه على ما يتصف به في الاستقبال مجاز اتفاقا ، وفي إطلاقه على ما

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ٦٢.

(٢) الفصول الغرويّة : ٦٢.

١٧٤

اتّصف به في الماضي ، أقوال ، كذا في الفصول (١).

ولم يظهر لي وجه حسن للفرق بين الماضي والاستقبال مع اتحادهما في المناط ، وما أدري ما الّذي يمنع القائل بأن زيدا ضارب حقيقة وقد ضرب أمس ، أن يقول بها إذا علم أنه سيضرب غدا.

ثم عدّ أقوالا كثيرة ستعرف أكثرها ، مع السبب الّذي دعا أربابها إليها ، إذا عرّفناك بالحقّ منها.

ثم إنه رحمه الله بعد ما جزم بعدم شمول النزاع للأفعال والمصادر المزيدة ، نقل الخلاف في أنّ النزاع هل يعمّ جميع المشتقات ، أو يختص باسم الفاعل وما في معناه؟ وعدّ فيها أقوالا كثيرة (٢).

أقول : أما خروج الأفعال عن حريم النزاع فواضح ، لدلالتها على الزمان كما سبق ، وأما غيرها فلا أعرف ـ أيضا ـ وجها وجيها للفرق بين كثير من صنوف المشتقات بعد اشتراكها في المناط.

وبالجملة فالحقّ أنها حقيقة في المتلبس به في طرف الحمل وزمان النسبة كما في الجوامد في العناوين المنتزعة من الذات بما هي ذات ، فكما أنّ الحجر لا يصدق على ما كان حجرا سابقا ، والنطفة على من هو إنسان فعلا ، فكذلك الضارب ونحوه ، إذ لا فرق بين الجوامد وبين المشتقات من هذه الجهة ، وهذا لوضوحه غني عن إطالة البيان.

ومع ذلك يرد على من يجعله حقيقة فيما انقضى عنه المبدأ ، أن يكون المشتق مشتركا بين الحال والاستقبال ، فيلزم أن يتوقف بينهما إذا ورد اللفظ مجرّدا عن القرينة ، ويحتاج في التعيين إلى القرينة ، والوجدان يدل على خلافه إلاّ أن

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ٥٩.

(٢) الفصول الغروية : ٦٠.

١٧٥

يتمسّك الخصم بالتبادر الإطلاقي ، نظرا إلى كثرة استعماله في الحال ، وهو ممنوع.

هذا ، على أنّ لازم مذهبه أن يصحّ قول القائل : زيد ضارب فعلا في المستقبل ، وهذا لوضوحه لا ينبغي أن

يكون محطّا لأنظار العلماء ، نعم اختلاف قيام المبادئ بالهيئات تختلف من حيث كونها فعلا ، أو قوة ، أو ملكة ، أو صنعة ، فلو أخذت من حيث القوة والملكة لزم وجودهما فعلا ، ففي قولك : هذا النبت سمّ ، أو هذا السيف قاطع. ليس المراد من المادة إلاّ القوة والملكة ، ويلزم بقاؤهما فعلا ، وكذلك قولك : زيد شاعر. أي صنعته الشعر ، فيلزم كونه صناعته فعلا.

ومن هنا يظهر أنّ الحكم المترتب على الشجرة المثمرة ونحوه لا ينبغي أن يعدّ من ثمرات هذه المسألة ، لأنّ مبنى الشك ومنشئه هو أنّ الموضوع للحكم هل هو قوة للأثمار في مقابل الشجرة اليابسة أو وجود الثمرة فعلا؟ وأيّهما كان فاللازم وجوده فعلا ، وتعيين أحدهما ليس من وظيفة مسألة المشتق ، بل هو شأن الأدلة الدالة على أصل الحكم.

وليعلم أنّ المشتق كثيرا مّا يلاحظ عنوانا للذات ، ومعرّفا لها كالقاتل والسارق والمحدود ونحو ذلك ، حتى أنه قد يقوم مقام النعت والصفة إذا كان من الأفعال العظيمة كقالع الباب ، وفاتح البلد ، وحينئذ يكفي في صدق اللفظ اتصافها به ولو في غير زمان التلبّس.

ومن الخلط بين هذين القسمين نشأ كثير من الأقوال التي تجدها مفصّلة في الفصول وغيره ، حيث إنّ صاحب كل قول نظر إلى عدّة استعمالات اعتبر فيها المشتق عنوانا للذات ، فقاده ذلك إلى القول بعدم اشتراط التلبس في الحال فيما هو من قبيلها ، فلا بدّ في تعيين ذلك إلى ملاحظة المتعارف في المحاورات ، وخصوصيات المقامات ، ومناسبات الأحكام مع الموضوعات ، فربّما حصل القطع بأحد الوجهين ، كما لو قال : أو لم على باني المساجد ومعمّري المشاهد. وربما بقي الأمر على الشك كما في الماء المسخّن بالشمس ، الّذي حكموا بكراهة التوضّؤ به.

١٧٦

وقد احتمل العلاّمة ـ الجدّ ـ البناء حينئذ على الوجه الأول ، نظرا إلى أنه قضيّة ظاهر اللفظ ، ولأصالة عدم تعلّق الحكم بما عدا ذلك (١) ، وفي كلا الوجهين نظر.

( القول في الأوامر والنواهي )

وفيه مطالب :

الأول : اللفظ الدال على الطلب إمّا أن يكون دالاّ عليه بمادّته ، أي تكون المادة موضوعة له نحو : آمر وأريد وأطلب ، أو بهيئته كافعل ، أو بوضعه الابتدائي كـ ( صه ) ونحوه من أسماء الأفعال.

ومن خصائص القسم الأول أنه لا بد أن تكون دلالته على الطلب بلفظ الإخبار ، وأن يذكر بعده المطلوب نحو آمر بكذا ، وأريد كذا ، ولا تتعلق به الهيئة إلاّ إذا كان الطلب هو المطلوب نحو مر زيدا بكذا ، وهذا موضوع البحث الآتي من أنّ الأمر بالأمر هل هو أمر به أم لا؟

والظاهر أنّ العلوّ مأخوذ في خصوص لفظ الأمر لغة ، فلا يقال : إنّ الفقير أمر بإعطاء الكسرة من الخبز ، بل يقال : سألها.

نعم لا يعتبر فيه العلوّ الحقيقي ، بل يكفي الادّعائي منه ، فمن اعتبر الاستعلاء في الأمر مقتصرا عليه ـ كما هو المنسوب إلى أكثر العلماء الأصوليّين من العامة والخاصة ـ إن أراد به ما ذكرنا من كفاية العلوّ ادّعاء فهو حقّ ، وإلاّ فلا وجه له ، بل يردّه ما ذكره ـ الجدّ ـ العلاّمة في الهداية من إطلاق الأمر حقيقة على الأوامر الصادرة من الأمير إلى الرعية ، والسيّد إلى العبد وإن كان المتكلّم غافلا عن علوّه حين الخطاب (٢).

__________________

(١) هداية المسترشدين : ٩٠.

(٢) هداية المسترشدين : ١٣٢.

١٧٧

ومنه يظهر وجه التأمل فيمن جمع بين اعتبارهما معا كما ذهب إليه بعض المتأخرين ، وحكاه عن جماعة ، والظاهر أن ألفاظ هذا القسم ولا سيّما لفظ الأمر منها لها ظهور قوي في الوجوب ، حتى أنّ كثيرا من القائلين باشتراك الصيغة بين الوجوب والندب يقولون باختصاص لفظ الأمر بالوجوب ، والدليل عليه الفهم العرفي لا بعض الاستعمالات الواردة في الكتاب والسنة ، كما استدلّ به في الفصول (١) ، وتبعه فيه بعض الأساتيذ ، لوجوه شتّى لا يخفى شيء منها على المتأمّل ، كما اعترف ببعضه.

وأما القسم الثاني فهو الّذي يسمّى في اصطلاح الأصوليين بصيغة الأمر ، وهذا مراد من جعل العنوان صيغة افعل ، وما في معناها ، ولعلّه عدل عنه لئلا يوهم أنّ المراد لفظ الأمر ، كما ذكره في الفصول ، وأورد عليه بأنه يتناول ما دلّ على معناه ولو مجازا ، وهو خارج عن المبحث قطعا (٢).

ولم يظهر لي وجه خروج ذلك عن المبحث ، فضلا عن القطع به ، إذ البحث في مدلول الهيئة ، والهيئة في مثل قولك : اقتله. أي اضربه ضربا موجعا ، مستعملة في معناها الحقيقي ، ولا مجاز فيه إن قلنا به إلاّ في المادة ، وهو إرادة الضرب من القتل ، ومثل هذا داخل في محل النزاع قطعا.

اللهم إلاّ أن يريد به الجمل الإخباريّة المستعملة في الإنشاء ، فإن كانت خارجة عن مورد النزاع فهي أيضا خارجة عن معنى افعل.

وأما القسم الثالث فقد جزم في الفصول بخروجه من محل النزاع لفظا وإن دخل فيه معنى (٣).

أقول : وهذا حسن لو كان الكلام في مدلول هيئة المشتقات ، كما هو ظاهر

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ٦٢ و ٦٣.

(٢) الفصول الغرويّة : ٦٤.

(٣) الفصول الغرويّة : ٦٤.

١٧٨

كثير من العناوين ، ولكن سوف تعلم أنّ النزاع في مطلق الألفاظ الدالّة على الطلب.

وأما صيغة الأمر فلا ينبغي الإشكال في كونها موضوعة لمطلق الطلب ، كما أنه لا ينبغي الإشكال في أنّ الطلب المجرّد عن القرينة يحمل على الوجوب بالمعنى الّذي ستعرفه.

وهل ذلك لظهور اللفظ فيه وانصرافه إليه عند الإطلاق للأكملية ، كما ذكره ـ الجدّ ـ العلامة في الهداية (١) ، أو لغيرها من أسباب الانصراف ، أو أنّ الطلب بنفسه موجب لتمامية الحجة من طرف الآمر وانقطاع العذر من المأمور ، إلاّ أن يأذن الآمر في الترك؟ وجهان.

هذا ، ومن الغريب ما تكلّفه جمع من المتقدمين ، وحاوله بعض المتأخرين من إقامة القرائن العامة على الوجوب في خصوص الأوامر الشرعية ، مع أنه لا فرق بين أوامر الشارع ، وبين أوامر غيره من هذه الجهة قطعا ، بل ولا فرق بين مطلق الأمر وبين غيره من أقسام الطلب ، كالسؤال ونحوه ، ولنا أن نبيّن الوجه في حمل الصيغة المجردة على الوجوب العيني التعييني بعينه ، كما لا يخفى على المتأمل.

واعلم أنّ الصيغة قد تستعمل للتهديد والتعجيز ونحوهما ، فيظن أنّها مستعملة فيها ، وأنها خرجت بذلك عن معناها الأصلي ، وليس كذلك ، بل هي مستعملة في الطلب لكن لا بداعي الطلب بل بتلك الدواعي ، بل تلك الدواعي لا تتحقق إلاّ بإنشاء الطلب حقيقة ، كما تستعمل الهمزة في الاستفهام لكن بغير داعي الاستفهام ، وليست حينئذ خارجة عن معناها كما زعم صاحب مغني

__________________

(١) هداية المسترشدين : ١٣٦.

١٧٩

اللبيب ، فقال : قد تخرج الهمزة عن معناها الحقيقي فترد لثمانية أمور (١). وقد سبق الكلام فيه في بحث الاستعمال.

أحسنهما (٢) : الثاني ، كما اختاره بعض مشايخنا.

وأقوى أدلة القائلين بوضع الصيغة للوجوب وهو التبادر ، لا يدلّ على أزيد من استحقاق تارك الامتثال الذمّ والعقاب بمجرد الترك ، ولا يدلّ على أنه لظهور اللفظ في الوجوب ، بل التأمل الصحيح يشهد بأن العقلاء لا يسندون الذم على المخالفة إلى ظهور اللفظ في الوجوب ، فضلا عن كونه معناه ، بل يسندونه إلى مخالفة الطلب ولو لم يكن بصيغة الأمر ، ويرون الطلب بنفسه مقتضيا للامتثال ، ولا يكترثون باعتذار المأمور بأن الطلب له فردان ، ولم أعلم بأنّ المراد من الطلب هو الفرد الإلزاميّ.

لا يقال : إنّ اللازم من هذا البيان الحكم بالوجوب فيما ثبت فيه الطلب بالدليل اللّبي ، مع أنه لا يحمل عليه إجماعا ، ولا شك أنه مورد أصالة البراءة.

لأنا نقول : إن كان مفاد الدليل اللبي صدور اللفظ الدال على الطلب وشبه اللفظ فإنّا لا نلتزم بجريان البراءة ، بل نقول باتحاد الحال فيه مع غيره ، ولا نرى فرقا بين أسباب العلم بالطلب وإن كان مفاده صرف الرجحان والمحبوبية ، فمثله لا يوجب الإلزام ولو بسماعه من شفتي الآمر ، بل ليس هذا بأمر حقيقة كما سيتضح لك ذلك بما نبيّنه من معنى الطلب.

( المطلب الثاني ) : في بيان معاني بعض الألفاظ المستعملة في هذه المباحث كالوجوب والندب.

قد يقال : إن الوجوب أو الإيجاب هو طلب الفعل مع المنع من الترك ، والندب طلب الفعل مع عدم المنع عنه ، وعلى هذا فالفصل في حدّ الوجوب

__________________

(١) مغني اللبيب ١ : ٢٤.

(٢) أي : أحسن الوجهين الذين سبق ذكرهما آنفا.

١٨٠