بحوث في علم الأصول - ج ٣

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٥

وقد تقدم الكلام في ذلك مفصلاً في بحث الواجب المطلق والمشروط.

وهنا بنحو الاختصار نقول : انه يمكن أَنْ يتخذ أحد مواقف ثلاثة للتغلب على هذا الإشكال.

الموقف الأول ـ ما ذهب إليه المحقق الأصفهاني ( قده ) وحاصله : إنكار التعليق رأساً فلا تكون هناك نسبة إرسالية في عالم الذهن تامة الأركان في المرتبة السابقة على الشرط بل في الذهن نسبة واحدة يكون الشرط من أول الأمر داخلا في تصميمها وبنائها الذهني وتكون ذات ثلاث أطراف ، الطرف الأول والثاني هما الطرفان في الجزاء والطرف الثالث هو الشرط ، وهذه الأطراف عرضية لهذه النسبة وبذلك تنحل المشكلة ، إذ من الأول تنعقد النسبة بأطراف ثلاثة وهو معنى الجزئية في المعاني الحرفية لا الجزئية المصداقية.

الموقف الثاني ـ ما ذهب إليه المحقق النائيني ( قده ) وحاصله : اختيار انَّ مفاد المادة هو المعلق لا مفاد الهيئة. فمفاد المادة بناء على هذا يكون طرفا لنسبتين للنسبة الإرسالية وللنسبة التعليقية ، (١) وفي مقام تنظيم العلاقة بين هاتين النسبتين يتصور ثلاثة أنحاء :

النحو الأول ـ أَنْ تُقيد المادة أولاً بالشرط ثم هي بما انها مقيدة تجعل طرفا للنسبة الإرسالية.

وهذا النحو ساقط وغير محتمل فانه بناءً على هذا يصير معنى قولنا ( إِنْ جاء زيد فأكرمه ) انه يجب أَنْ تكرم زيداً إكراماً مقيداً بمجيئه فيكون المجيء قيداً للواجب لا الوجوب وهو خلاف المقصود.

النحو الثاني ـ أَنْ تطرأ النسبتان الإرسالية التعليقية على مفاد المادة في عرض واحد. وهذا النحو أيضا ساقط فانه بناء عليه لا يثبت التقييد لا في الوجوب ولا في الواجب ، ولازمه انه يجب على المكلف بالفعل أَنْ يكرم زيدا وإِنْ لم يجئ ، فانَ

__________________

(١) فوائد الأصول ، ج ١ ، ص ٤٧٩

١٦١

المفروض انَّ الوجوب لم يعرض على القيد كما انَّ المفروض انَّ التقيد ليس في طول الوجوب.

وهذا النحو وإِنْ كان هو ظاهر عبارة تقريرات بحث الميرزا ( قده ) الا اني أظن انه قصور في التعبير ومقصوده هو النحو الثالث.

النحو الثالث ـ أَنْ تكون المادة بما هي معروضه للوجوب وللنسبة الإرسالية طرفا للنسبة التعليقية فيكون الإكرام بما هو واجب معلقا على الشرط ، وليس المقصود من هذا انَّ الشرط قيد لنسبة الإكرام إلى الوجوب كما فهم السيد الأستاذ فأشكل عليه :

بأنَّ هذا رجوع إلى المشكلة ، وانما المقصود انَّ الشرط قيد لحصة خاصة من الإكرام وهي ذاك الإكرام الّذي يكون معروضا للنسبة الإرسالية وللوجوب (١).

وبعد بطلان النحوين السابقين يتعين هذا النحو وبه تنحل المشكلة.

الموقف الثالث ـ ما ذهبنا نحن إليه واخترناه وحاصله :

انَّ المعلق هو مفاد الهيئة لكن لا مباشرة بل بتوسط مفهوم اسمي مشار إليه كمفهوم هذه النسبة مثلا فكأنما قيل أكرم زيداً وهذه النسبة الإرسالية معلقة على الشرط (٢).

__________________

(١) ولكن تقيد المادة بما هي معروضة للنسبة الإرسالية لا يعقل الا بأحد نحوين :

الأول ـ انتزاع مفهوم اسمي من جملة الجزاء وتقييده بالشرط وهذا هو الموقف الثالث القادم. الثاني ـ جعل الشرط قيداً لنفس النسبة الإنشائية أو الاخبارية التامة في طرف الجزاء فيكون تحديداً وتقديراً لوعاء صدق الجزاء فان النسبة التامة قابلة للتقدير والتقييد من حيث الوعاء وهذا هو روح مقصود المحقق الأصفهاني ( قده ).

(٢) أقول : لازم هذا الموقف وموقف الميرزا ( قده ) هو إرجاع الجملة الشرطية إلى جملتين مستقلتين بأَن تجعل جملة ( أكرمه ) جملة مستقلة وليست هي الجزاء بل الجزاء مفهوم اسمي مقدر منتزع منها. وحسب الظاهر هذا شيء لا يفهمه العرف فانَّ العرف يفهم من جملة ( إِنْ جاء زيد فأكرمه ) انها جملة وحدانية ترتبط بعضها مع بعض ، بل الأنسب بناء على مبنى المشهور في تفسير الشرطية أَنْ يقال : بأنَّ الجملة الشرطية تدل على النسبة التعليقية كنسبة تامة حقيقية نظير النسبة التصادقية في الجملة والنسبة التامة الحقيقة كما يمكن أَنْ تقوم بين مفهومين إفراديين يمكن أَنْ تقوم بين نسبتين تامتين ويكون معنى ذلك تلازمهما في الصدق خارجاً فكأنه قيل إذا صدقت جملة الشرط صدقت جملة الجزاء ولعل سيدنا الأستاذ ( ١ الشريف ) انما لم يلتزم هذا الجواب لوضوح انَّ النسبة التعليقية والارتباط أو التلازم بين مفاد الجزاء والشرط أمر خارجي حقيقي كالنسب الخارجية وليست من قبيل النسبة التصادقية التي لا حقيقة لها في الخارج.

إلاّ انَّ هذا الاعتراف بنفسه يقتضي إنكار مبنى المشهور واختيار ما ذهب إليه المحقق الأصفهاني من انَّ الشرطية ليست إلاّ لتحديد الجزاء وتخصيص مفاده بفرض تحقق الشرط ...

١٦٢

وهذا يرجع في الحقيقة إلى روح ما قاله الميرزا ( قده ) من انَّ المادة بما هي معروضة للنسبة تكون معلقة فانَّ هذا يعني انه اتخاذ مفهوم اسمي مشير إلى النسبة وتعليق ذاك المفهوم الاسمي على الشرط.

هذا هو تمام الكلام في المرحلة الثالثة وبذلك انتهى الكلام في النقطة الأولى ..

النقطة الثانية : في البحث عن الركن الأول في ضابط المفهوم وهو على حسب تعبير المشهور وتفكيرهم دلالة الجملة الشرطية على الوجوب الكلّي الانحصاري ، وقد أشرنا فيما سبق إِنَّ انتزاع المفهوم تارة : يكون بحسب المفهوم ومرحلة الدلالة التصورية للكلام ، وأخرى : يكون بحسب المدلول التصديقي ومرحلة الدلالة التصديقية للكلام وانتزاعه بلحاظ المرحلة الأولى ميزانه أَنْ تدل الجملة الشرطية على النسبة التوقفية ، وانتزاعه بلحاظ المرحلة الثانية ميزانه أَنْ تدل على انَّ الربط بين الشرط والجزاء على نحو الربط بين المعلول وعلّته المنحصرة ، ومن هنا بالإمكان تصنيف التقريبات المذكورة لتخريج مفهوم الشرط إلى صنفين فمنها ما يثبت المفهوم بحسب المدلول التصوري للجملة الشرطية ، ومنها ما يثبته بحسب المدلول التصديقي لها والتقريبات التي تحاول إثبات المفهوم عن طريق دعوى الانسباق والتبادر تكون من الصنف الأول ، والتقريبات المبتنية على التمسك بالإطلاق ومقدمات الحكمة التي تكشف عن المدلول التصديقي من وراء اللفظ ترجع إلى الصنف الثاني.

وأيّا ما كان فما ذكر لتخريج المفهوم في الجملة الشرطية خمسة تقريبات نذكرها فيما يلي تباعا مع التعليق على كل واحد منها.

التقريب الأول : دعوى انَّ هيئة الشرط أو أداته موضوعة للربط بنحو اللزوم العلّي الانحصاري ـ أي النسبة التوقفية بحسب اصطلاحنا ـ وذلك بشهادة التبادر الّذي يكون علامة الحقيقة. وهذا التقريب إِنْ تم فهو يثبت المفهوم للجملة الشرطية في مرحلة المدلول التصوري الوضعي.

وقد لوحظ على هذا التقريب : أنَّ لازمه الالتزام بالتجوز والعناية في موارد عدم إرادة المفهوم من الجملة مع انَّ الوجدان قاض بعدمها في جملة من موارد عدم المفهوم كما في قولك ( إذا أغرقت تموت )

١٦٣

وسوف يأتي تعليقنا على هذه الملاحظة وعلى أصل هذا التقريب بعد الانتهاء من التقريبات المشهورة.

التقريب الثاني : انَّ الجملة الشرطية وإِنْ لم تكن موضوعة للزوم العلّي الانحصاري بالخصوص لكنها تنصرف إليه باعتباره الفرد الأكمل والأجلى من افراد اللزوم ، وهذا التقريب كسابقه أيضا يثبت المفهوم على مستوى مرحلة المدلول التصوري للكلام.

وفيه : منع الصغرى والكبرى معاً ، إذ ليس اللزوم الانحصاري بأكمل أو بأشد استحكاماً في اللزوم من غير الانحصاري فانَّ وحدة العلّة أو تعددها لا تؤثر في درجة الإيجاد والاستلزام الموجودة بين العلّة ومعلولها وانما تختلف درجة حاجة المعلول إلى العلّة بوجود علّة أخرى أو عدمه وتوقفه عليها ، نعم لو استفيد من الشرطية النسبة التوقفية ثبت المفهوم حينئذ ولكنه غير موقوف حينئذ على إثبات العلّية الانحصارية للشرط كما تقدم.

كما أنَّ الانصراف لا يكون على أساس الأكملية أو أشدية بعض حصص المعنى ثبوتاً ولذلك لا تنصرف كلمة الإنسان إلى أكمل

أفراده ، وانما ينشأ الانصراف من مزيد علاقة وربط بين اللفظ وبعض حصص معناه لعوامل وأسباب خارج الوضع تجعل علاقته ببعض الحصص من المعنى الموضوع له أكثر وآكد من علاقته بالبعض الآخر ، وهذا راجع إلى المناسبات والاستعمالات الخارجية لا مجرد الأكملية الثبوتية.

التقريب الثالث : انَّ هناك فقرات لا بدَّ من إثباتها للتوصل إلى المفهوم في الجملة الشرطية.

الفقرة الأولى : الاستلزام بين الشرط والجزاء الفقرة الثانية : كون الاستلزام بينهما على أساس العلّية.

الفقرة الثالثة : كون العلّية انحصارية.

الفقرة الأولى من هذه الفقرات تثبت بالوضع في مرحلة المدلول التصوري للجملة الشرطية لأنها مدلول الهيئة الشرطية أو أداتها بعد أَنْ كان استعمالها في موارد الصدفة بعناية وتكلف وجدانا.

وامّا العلّية ـ الفقرة الثانية ـ والانحصارية ، ـ الفقرة الثالثة ـ فبثبتهما بالإطلاق ، وذلك

١٦٤

امّا بالنسبة إلى العلّية فلأنه مقتضى التطابق بين مقام الإثبات والثبوت للكلام إذ كما يكون الجزاء بحسب مقام الإثبات متأخراً ومترتباً على الشرط كذلك يكون الأمر بينهما ثبوتا وإلاّ لم تكن مرحلة الإثبات مطابقة مع عالم الثبوت وهو خلاف الإطلاق.

وامّا الانحصارية فلأنها مقتضى الإطلاق الأحوالي للشرط فانَّ مقتضى الجملة الشرطية ثبوت الاستلزام والعلّية للشرط مطلقاً سواء اقترن بشيء آخر أو سبقه شيء آخر أولا ، وهذا لا يكون إلاّ مع افتراض الشرط علّة منحصرة. وبعبارة أخرى : في حالة اجتماع الشرط مع شيء آخر يحتمل علّيته اما أَنْ يكون كل منهما علة مستقلة لحكم واحد ، أو يكون كل منهما علّة مستقلة لفرد من الحكم غير الآخر ، أو ويكون كل منهما جزء العلّة للحكم الواحد ، وكل هذه الاحتمالات مستحيلة إذ يلزم من الأول اجتماع علّتين مستقلتين على معلول واحد ، ويلزم من الثاني اجتماع الحكمين المثلين على متعلق واحد (١) ويلزم من الثالث مخالفة ظهور الشرطية في انَّ الشرط تمام السبب لترتب الجزاء كما يعترف به المنكر للمفهوم أيضاً.

وهذا التقريب لو تم ثبت المفهوم بلحاظ مرحلة المدلول التصديقي للكلام المستكشف بالإطلاق ومقدمات الحكمة.

إلاّ انَّه غير تام. وذلك :

أولا ـ انَّ ما جاء في الفقرة الثانية من إمكان إثبات العلّية بأصالة التطابق بين

__________________

(١) ليس اجتماع حكمين مثلين على متعلق واحد محالاً دائماً فان وجه هذه الاستحالة ليس هو اجتماع المثلين بالمعنى المحال بالدقة ، بل وجهه لغوية جعل وجوبين أو تحريمين على متعلق واحد وهذا لا يجري في جملة من الأحكام التي يمكن اجتماع فردين منهما على متعلق واحد كحق الفسخ فانه يمكن ان يكون هنالك حقان لفسخ معاملة واحدة أحدهما من جهة العيب والآخر من جهة المجلس مثلاً ، وأثره إمكان إسقاط أحدهما دون الآخر ، ففي مثل هذه الأحكام لا يتم أيضاً هذا التقريب.

كما انه ظهر مما ذكرنا : ان تمامية هذا التقريب موقوف على إطلاق متعلق الحكم في الجزاء كي يلزم من فرض وجود سبب آخر للحكم اجتماعهما على متعلق واحد ، والا فلو كان كل واحد منهما متعلقاً بفرد غير الآخر فلا يلزم اجتماع حكمين مثلين على متعلق واحد ، الا ان هذا خلاف إطلاق المتعلق في الجزاء فلو لم يكن للجزاء إطلاق من هذه الناحية لم يثبت المفهوم.

وهذه نقطة ضعف مخصوص بهذا التقريب دون التقريبات الأخرى ، لأن ثبوت فرد آخر للحكم ولو كان متعلقاً بفرد آخر ، غير ما يتعلق به الحكم الأول ينافي انحصار طبيعي الحكم بالشرط المستفاد وضعاً أو انصرافاً كما ينافي قانون امتناع صدور الواحد بالنوع من واحد وينافي الإطلاق المقابل لأو بالنسبة إلى طبيعي الحكم فتأمل جيداً.

١٦٥

مقام الإثبات والثبوت يرد عليه : بأنَّ غاية ما يقتضيه مقام الإثبات ترتب الجزاء على الشرط من دون تعيين ذلك في الترتب العلّي الرتبي فلعلّه ترتب زماني من دون علّية ومعلولية.

وثانياً ـ ما جاء في الفقرة الثالثة من إمكان إثبات العلّية الانحصارية بالإطلاق الأحوالي للشرط انما يجدي في علّة محتملة يمكن أَنْ تجتمع مع الشرط في الجملة الشرطية ، واما إذا كانت العلّة المحتملة مما لا يمكن اجتماعها مع الشرط فلا معنى للتمسك بالإطلاق الأحوالي المذكور حينئذ ، إذ يمكن اختيار الشق الثاني من الشقوق الثلاثة في ذلك التقريب أعني احتمال كون العلّة الأخرى علّة مستقلة أيضاً لحصة أخرى من الحكم إذ لا يلزم منه اجتماع حكمين مثلين على موضوع واحد بعد أَنْ افترضنا عدم اجتماع الشرطين معاً.

وثالثا ـ إمكان اختيار الشق الثالث من الشقوق المتقدمة في التقريب ، أعني احتمال كون الشرط حين اجتماعه مع العلّة الأخرى المحتملة كل منهما جزء العلة لإيجاد الجزاء الواحد ، لأنَّ هذه الجزئية ليست ناشئة عن القصور الذاتي للشرط كي يكون خلاف ظاهر الجملة الشرطية في كفاية الشرط لإيجاد الجزاء وانما هو قصور بالعرض ونتيجة الاقتران بين علّتين مستقلتين في نفسهما ومثل هذه الجزئية غير منفية بالإطلاق لأنَّ الترتب والعلّية بين الشرط والجزاء محفوظ في هذه الحالة أيضاً غاية ما هنالك وجود فرق في كيفية تخريج هذه العلّية فلسفياً وحلّ إشكال عقلي في كيفية استناد المعلول إلى علّته ولا ربط لذلك بالدلالة.

التقريب الرابع : وهو كسابقه في الفقرات الثلاث ولكنه يختلف عنه في كيفية البرهنة على الفقرة الثالثة. فانَّه يتمسك هنا بظهور آخر في الجملة الشرطية لإثبات الانحصارية وهو ظهورها في كون الشرط بعنوانه دخيلا في مقام التأثير في الجزاء لا بعنوان آخر ملازم أو مقارن ، وهذا لا يكون إِلاّ حيثما يكون الشرط علّة منحصرة للجزاء إذ لو كان هناك علّة أخرى ، فاما أَنْ يكون كل من العلّتين بخصوصيته علّة للجزاء أو بالجامع بينهما ، والأول مستحيل لأنه يلزم منه صدور الواحد بالنوع من الكثير ، والثاني خلاف ظاهر الشرطية في دخل خصوصية الشرط في الحكم أيضا.

١٦٦

وهذا التقريب غير تام أيضاً ، لأنه يمكن أَنْ يختار الشق الأول ولا يلزم منه محذور ، اما على القول باختصاص قانون ( الواحد لا يصدر إلاّ من واحد ) بالواحد الشخصي ، فواضح ، وامّا على القول بعمومها للواحد النوعيّ أيضا فلأنَّ الواحد بالنوع في المقام إِنْ أُريد به الوجوب فإِن أريد به المجعول فهو ليس امراً حقيقياً تصديقياً كي يطبق عليه قوانين العلّية وانما هو امر فرضي حالي تصوري على ما تقدم توضيحه مراراً ، ولو أُريد به الجعل فهو صادر عن الجاعل ومعلول له وليس معلولاً للشرط أصلا ودور الشرط بحسب الحقيقة دور التحصيص والتقييد ، وإنْ أُريد بالواحد النوعيّ الملاك فلا موجب لافتراض وحدته بالنوع في الوجوبين المستندين إلى العلّتين.

التقريب الخامس : ما ذكره المحقق النائيني ( قده ) وهو مؤلف من الفقرات الثلاث المتقدمة أيضا وانما يختلف عن التقريبين السابقين في كيفية البرهنة على الفقرة الثالثة منها ، حيث يبرهن على إثبات الانحصار في هذا التقريب ببيان جديد حاصله : انَّ الجزاء لو نسب إلى الشرط فيما إذا كان الشرط امراً زائداً على الموضوع وليس مسوقاً لتحققه ، فيعقل فيه ثبوتا احتمالان لا ثالث لهما ، امّا إطلاق الجزاء من ناحية الشرط أو تقيّده به لاستحالة الإهمال. والإطلاق غير صحيح لأنَّه خلاف الشرطية فيتعين تقييد الجزاء بالشرط وحينئذ يقال : انَّ هذا التقييد يواجه سؤالين وتشكيكين.

الأول : انه هل يكون الشرط كل العلّة أو جزؤها.

الثاني : انه هل يكون الشرط علّة تعيينية أو بدلية بحيث يوجد هناك امر آخر يصلح أَنْ ينوب مقامها.

والتشكيك الأول ينفى بالإطلاق المقابل للواو ، فانّه لو كان الشرط جزء العلّة والمولى في مقام بيان تمام علّة حكمه وموضوعه كان ينبغي عطف الجزء الآخر عليه وجعلها معاً شرطاً وهو خلاف الإطلاق.

والتشكيك الثاني ينفى بالإطلاق المقابل لأو ، إذ لو كان الشرط علّة بدلية كان ينبغي عطف العلّة الأخرى عليه بأو فيكون مقتضى السكوت عنه عدم البدل

١٦٧

وبالتالي كون الشرط علّة بنحو التعيين والانحصار (١).

وهذا التقريب أيضا غير تام ، لأنَّ المراد من تقيد الجزاء بالشرط إِنْ كان معنى يساوق مع التوقف والنسبة التوقفية فمن الواضح حينئذٍ انَّ هذه النسبة إذا ثبت دلالة الشرطية عليها فسوف يكون لها مفهوم بلا كلام إذ مقتضى الإطلاق الأحوالي لهذا التوقف هو الانحصار لأنه لازم التوقف المطلق وفي جميع الأحوال ، إلاّ انَّ هذا المعنى لا يمكن إثباته بصورة برهان لوضوح انَّ التوقف امر زائد على التقييد ، فليس مجرد عدم الإطلاق في الجزاء من ناحية الشرط مساوقا مع تقيده به بهذا النحو ، وإِنْ أراد بالتقييد معنى يلائم عدم التوقف ، أي مجرد الإيجاد والاستلزام ، فلا يمكن أَنْ نثبت بإطلاق التقييد الانحصار إذ ليس كل ما لم يذكر في الكلام يستكشف من عدم ذكره عدم وجوده ثبوتا بل ذلك المطلب الّذي لو كان موجوداً لكان مقيداً لدائرة مدلول ما قال ومحدداً له هو المستكشف عدمه ثبوتا من عدمه إثباتا ، ومن الواضح انَّ عدم العطف بأو لو كان هناك علّة أخرى ليس من هذا الباب إذ لا يؤثر وجوده ولا يغير من مدلول المنطوق في الشرطية الدال على الاستلزام أو العلّية بين الجزاء والشرط ، لأنه يكون استلزاما آخر غير هذا الاستلزام المدلول عليه بالمنطوق بتمامه. ولا يقاس هذا بالتقييد بأو في طرف الحكم ـ كما في إثبات الوجوب التعييني بالإطلاق ـ لأنَّ وجود عدل آخر للواجب هناك يكون مقيداً لمدلول الكلام ، لأنه امّا أَنْ يكون تقييداً للوجوب وجعله مشروطا بعدم تحقق العدل الاخر ، وهذا تحديد لمفاد الهيئة منفي بالإطلاق ، أو يكون متعلق الوجوب هو الجامع بين العدلين وهذا تغيير في المادة المتعلق بها الوجوب وكلاهما تصرف في مدلول الكلام فيكون منفياً بالإطلاق ، وأين هذا من وجود استلزامين مستقلين في موارد الجمل الشرطية. والشاهد على عدم تمامية مثل هذا الإطلاق انا إذا حولنا الربط إلى معنى اسمي فقلنا ( مجيء زيد علّة لوجوب إكرامه ) لم يكن مقتضى الإطلاق وعدم العطف بأو كونه علّة منحصرة كما هو واضح.

وامّا الفقرة الثانية المشتركة بين التقريبات الثلاث وهي محاولة إثبات العلّية

__________________

(١) أجود التقريرات ، ج ١ ، ص ٤١٨

١٦٨

بالإطلاق الّذي وجهنا عليها اعتراضا فيما سبق ، فنضيف عليه هنا اعتراضا أساسياً حاصله : انَّ تطبيق فكرة التطابق بين مقام الإثبات والثبوت بتلك الصيغة خطأ ، لأنَّ مقام الإثبات والثبوت له معنيان.

الأول : مرحلة المدلول التصوري للكلام ومرحلة المدلول التصديقي فيراد بأصالة التطابق بينهما إِنَّ كل ما ورد على لسان المتكلم في مرحلة المدلول الوضعي التصوري للكلام الأصل أَنْ يكون المتكلم قاصداً له واقعاً ، وهذا المعنى لا يمكن افتراضه هنا لأنه يقتضي أَنْ يكون الترتب أو العلّية مأخوذاً في المدلول التصوري الوضعي بحيث يلزم التجوز إذا استعملت الشرطية من دون علّية مع انه واضح البطلان.

الثاني : أَنْ يراد بمقام الإثبات عالم نفس الألفاظ بما هي دوال لا عالم المدلول ، فيقال انَّ تركيب الكلام وبنائه اللفظي والترتيب المقرر نحوياً ولغوياً بين مفرداته وفقراته الأصل فيه أَنْ يكون مطابقاً مع مقام الثبوت والمراد التصديقي من ورائه ، فالشرط مثلا باعتباره مقدما على الجزاء بحسب الرتبة في عالم اللفظ ينبغي ان يكون كذلك بحسب عالم الثبوت أيضاً بمقتضى أصالة التطابق.

إلاّ انَّ هذا المعنى غير صحيح إذ لا يوجد أي أصل عقلائي يقتضي مثل هذه المطابقة ، وأصالة التطابق المعروفة انما هي ظهور حالي للمتكلم يراد به المعنى الأول وانَّ ما يذكره المتكلم من مداليل تصورية ينبغي أن يكون قاصداً لها وليس هازلاً. ومما يبرهن على عدم صحة هذا المعنى الأخير للمطابقة بين مقام الإثبات والثبوت ما نجده مثلا من انَّ الفعل متقدم على الفاعل بحسب تركيبه اللفظي ورتبته النحوية فهل يمكن أَنْ يُدّعى انَّ مقتضى التطابق بين عالم الإثبات والثبوت أَنْ يكون الفعل متقدما على الفاعل بحسب عالم الثبوت ومرحلة المدلول التصديقي أيضاً؟

وتحقيق الحال في مسألة مفهوم الشرط بعد أَنْ اتضح مما تقدم فشل كل المحاولات التي كانت ترمي إلى الاستدلال على وجود مفهوم للجملة الشرطية أَنْ نقول :

انَّ الاستدلال على وجود ظهور ودلالة في كلام يكون بأحد أنحاء.

١ ـ الاستدلال عليه بتطبيق كبرى من كبريات الدلالة وقرينة عامة مفروغ عنها

١٦٩

على محل الكلام كما هو الحال في تطبيق قرينة الحكمة العامة في مورد من الموارد لإثبات معنى معين.

٢ ـ الاستدلال على الملازمة بين ما يفرغ عن كونه معنى اللفظ مع معنى آخر فيثبت تبعاً لذلك دلالته على المعنى الثاني.

٣ ـ إبراز الحيثية التعليلية للاستظهار بنحو يكون قابلاً للإدراك المباشر ، كما في موارد يكون الاستظهار فيها ناشئاً من قرينة اما لفظية غفل عنها أو معنوية قائمة على أساس مناسبات الحكم والموضوع ، وجامع القسمين هو إثبات الدلالة والظهور على أساس إبراز القرينة الشخصية القابلة للإدراك المباشر.

وحيث لا يمكن إثبات ظهور ودلالة في مورد على أساس أحد هذه الأنحاء الثلاثة فلا يبقى طريق إلاّ دعوى الوجدان القائم على أساس التبادر والانسباق الّذي هو الطريق الساذج الاعتيادي لإثبات الدلالات الوضعيّة.

والّذي أريد قوله بالنسبة لمفهوم الجملة الشرطية إثباتاً أو نفيا اننا لا يمكننا البرهنة والاستدلال عليه بشيء من الطرق الثلاثة المتقدمة ، لأنَّ المحاولات التي كانت تحاول إثباته على أساس قرينة الحكمة العامة قد عرفت المناقشة فيها طراً ، ولا برهان على الملازمة بين ما هو المدلول الوضعي للجملة أو الأداة مع المفهوم ، والطريق الثالث لا يتم إلاّ في الموارد الخاصة التي يتعين فيها مفاد الكلام بحكم معين له مناسبات وقرائن معينة فلا يمكن إعمالها في المداليل الكلية اللا بشرط من حيث محتوى معين كما في مداليل الهيئات بقطع النّظر عن مدخولاتها والتي منها هيئة الشرطية أو أداة الشرط ، فلا محالة لا يبقى طريق إلاّ دعوى الوجدان العرفي والانسباق الّذي لا نشك فيه ، ومن هنا أرى انه لا بدَّ في أمثال هذه المسائل من مباحث هذا العلم أَنْ نغير من منهج البحث فبدلاً من أَنْ يفكر في صياغة البراهين العقلية والاستعانة بالقواعد الفلسفية التي هي أبعد ما تكون عن الفهم العرفي للاستدلال بها على إثبات معنى معين للكلام لا بدَّ وأَنْ يبحث عن تنسيق الوجدانات العرفية التي نحس ويحس بها كلُّ إنسان عرفي ضمن نظرية موحدة قابلة لتفسيرها جميعاً ، وفي المقام لنا عدة وجدانات عرفية لا بدَّ من التفكير في تخريج نظري موحد لها يمكن أَنْ ينسّق على أساسه كل هذه الوجدانات.

١٧٠

فمن ناحية نحس وجداناً بثبوت المفهوم للجمل الشرطية التي يكون الجزاء فيها إنشائياً ولم يكن الشرط مقوما لموضوعه.

ومن ناحية ثانية نرى انَّ دلالتها على المفهوم ليست بنحو بحيث لو لم يكن لها المفهوم كان استعمال أداة الشرط في ذلك المورد مجازاً وبعناية كما أدرك ذلك الأصوليون أنفسهم.

ومن ناحية ثالثة لا بدَّ وأَنْ نلحظ بأنَّ دلالة الجملة الشرطية على المفهوم سنخ دلالة قابلة للتبعيض والتجزئة بمعنى انه إذا ثبت وجود علّة أخرى بدليل خارج غير الشرط المصرح به في الجملة الشرطية لا يلغو المفهوم بذلك رأساً بل يتبعض ويثبت المفهوم بلحاظ ما عدا العلّتين ولو فرض انَّ الانحصار في ذلك الشرط قد انتقض على كل حال.

ومن ناحية رابعة نرى بوجداننا العرفي انه لا مفهوم للجمل الشرطية التي يكون الجزاء فيها جملة خبرية ، كما إذا قيل ( إذا أكلتَ السمَّ مُتّ ) فانه لا يدل على عدم الموت إذا لم يأكل السم. فلا بدَّ من وضع تخريج نظري فني لدلالة الجملة الشرطية على المفهوم بنحو تفي بتفسير كل هذه الوجدانات الأربعة ، والظاهر انَّ المنكرين للمفهوم انما أنكروه لأنهم لم يستطيعوا التوفيق بين هذه الوجدانات فشككوا في أصل ثبوت مفهوم للجملة الشرطية.

وثمرة هذا البحث رغم انه بحث تفسيري وليس استدلالياً تظهر في نقطتين :

الأولى : انه إذا عجزنا عن وضع نظرية موحدة لتفسير هذه الوجدانات بمجموعها نكتشف انَّ بعضها خطأ وغير موضوعي لأنها متهافتة وغير قابلة للتنسيق.

الثانية : اننا من خلال هذا البحث النظريّ التفسيري سوف نكتشف جوهر الدلالة المبحوث عنها ومرتبتها وقيمتها الدلالية مما يساعدنا في تشخيص حكمها من حيث لزوم أخذها أو تأويلها في موارد التعارض بينها وبين غيرها من الدلالات ، تماما من قبيل ما أشرنا إليه في بحث دلالة الأمر على الوجوب والّذي قلنا فيه انه لا إشكال عند أحد في أصل الدلالة وانما لا بدَّ من البحث عن تحديد كنهها وجوهرها وهل انها بالوضع ـ كما يقول صاحب المعالم ـ أو بالإطلاق والقرينة العامة ـ كما يقول

١٧١

صاحب الكفاية ـ أو بحكم العقل ـ كما تقول مدرسة الميرزا ، ولكل من هذه الدلالات رتبتها وقيمتها الخاصة في مجال التعارض كما لا يخفى.

وامّا تفسير هذه الوجدانات في صياغة نظرية موحدة في المقام فيكون بالنحو التالي :

انَّ الجملة الشرطية تتضمن ثلاث دلالات مختلفة ينتج من مجموعها الدلالة على المفهوم بنحو لا يتهافت مع ما يقتضيه الوجدان من الخصائص المذكورة لهذه الجملة ، وتلك الدلالات على ما يلي :

١ ـ الدلالة الوضعيّة على الربط بين الجزاء والشرط بنحو النسبة التوقفية ولا نريد بالنسبة التوقفية الترتب العلّي الفلسفي ، بل لا نريد حتى اللزوم الفلسفي وانما معنى أوسع من كل ذلك وهو مطلق الالتصاق العرفي وعدم الانفكاك بين الجزاء والشرط ، ولو كان ذلك من جهة الصدفة والاتفاق وهذه دلالة ندّعي انها مأخوذة في مدلول أداة الشرط وضعاً بشهادة الانسباق والتبادر العرفي.

٢ ـ الدلالة الإطلاقية على انَّ المعلّق على الشرط انما هو طبيعي الحكم لا شخصه بالنحو المتقدم شرحه.

٣ ـ الإطلاق الأحوالي للنسبة التوقفية وانها ثابتة في جميع حالات الشرط وليست مخصوصة بحالة دون أخرى فقولنا ( أكرم زيداً إِنْ جاءك ) يتضمن إطلاقا أحوالياً دالاً على ثبوت توقف وجوب الإكرام على مجيء زيد في جميع الحالات في قبال ما إذا قيّد بحال صحته مثلا فقال ( أكرمه إذا جاءك ما دام صحيحاً ) (١).

__________________

(١) لا إشكال في ان الشرطية تختلف عن الجملة الوصفية من حيث ان النسبة الحكمية فيها ملحوظة بصورة مستقلة عن الشرط بمعنى ان الشرط لم يؤخذ قيداً في المرتبة السابقة لنفس النسبة الحكمية في طرف الجزاء ، وهذا بخلاف الوصف في الجملة الوصفية فلا يلحظ الحكم بصورة منفصلة عنه وهذه الخصيصة هي منشأ دعوى المفهوم للجملة الشرطية لأنها تفسح المجال لجريان الإطلاق في الحكم لإثبات ان المعلق طبيعي الحكم وسنخه لا الحكم المقيد بالشرط ، الا ان هذه النسبة بين الشرط والحكم لا بد من تحليلها وكشف حقيقتها ، فان كانت نسبة تامة توقفية أمكن إجراء الإطلاق وإثبات المفهوم وان كانت نسبة ذهنية حقيقتها تحديد فرض صدق الجزاء فلا مفهوم ، ونحن لا نستفيد أكثر من هذا المقدار وذلك. أولاً : ـ لأن معنى التوقف كالانحصار أجنبي عن مفاد الشرطية ولا يوجد دال عليه فيها ، وانما المتبادر منها مجرد الترتب والتقدير.

وثانياً ـ ما أشرنا إليه فيما سبق من لزوم بعض المفارقات التي لا يمكن الالتزام بها ، فان التوقف إذا كان مدلولاً كنسبة ناقصة تحليلية فلا يمكن استفادة المفهوم حينئذٍ وان كان مدلولاً تاماً وبإزائه المدلول التصديقي للجملة الشرطية لزمت محاذير تقدمت الإشارة إليها.

١٧٢

وعلى ضوء هذه الظهورات الثلاثة في الجملة الشرطية نستطيع تفسير كل النقاط الوجدانية المتقدمة.

فالوجدان الأول الّذي كان يقضي بعدم مجازية استعمال الشرطية في غير موارد العلّية والّذي اعترف به المشهور الّذي حاولوا إثبات المفهوم عن طريق إثبات دلالتها على العلّية الانحصارية ، هذا الوجدان الّذي أضفنا إليه عدم التجوز حتى في حالة عدم اللزوم فضلا عن العلّية الانحصارية مع الوجدان الثاني القاضي بثبوت المفهوم للجملة الشرطية هما اللذان أوقعا المحققين فيما يشبه التناقض ، إذ لو لم تكن الشرطية دالة على العلّية الانحصارية بشهادة عدم العناية حين عدمها فكيف يستفاد المفهوم الّذي ضابطه الدلالة على العلّية الانحصارية؟ ومن هذا الموقف المحير انطلق اتجاهان. اتجاه ضَحى بوجدانه الثاني فأنكر الدلالة على المفهوم أصولياً رغم اعترافه به فقهياً ويمثل هذا الاتجاه صاحب الكفاية ( قده ) ، واتجاه آخر حاول إثبات انَّ خصوصية العلّية الانحصارية غير مفادة بالدلالة الوضعيّة للجملة الشرطية وانما مستفادة بالإطلاق ومقدمات الحكمة بأحد التقريبات المتقدمة والتي رأينا مدى التكلف والغرابة فيها.

ولكن في ضوء ما ذكرناه يتضح عدم التهافت بين هذين الوجدانين فانَّ الجملة الشرطية لم يؤخذ في مدلولها وضعاً الدلالة على اللزوم فضلا عن العلّية أو الانحصارية وانما المأخوذ في مدلولها الربط بنحو النسبة التوقفية المساوقة مع عدم الانفكاك عرفا ولذلك كان استعماله في غير موارد اللزوم فضلاً عن غير موارد العلّية بلا عناية المجاز وانَّما نشعر بعناية المجاز في استعماله لموارد لا ربط فيها بين الشرط والجزاء كما في قولنا ( إذا كان الإنسان ناطقاً فالحمار ناهق ) حيث يكون الجزاء في نفسه مع قطع النّظر عن الشرط ومن دون التصاق به ثابتاً في الوقت الّذي يتمّ الوجدان الثاني حيث انَّ المفهوم

__________________

وثالثاً ـ النسبة التوقفية بين الجزاء والشرط بمعنى عدم الانفكاك بينهما له معنيان. أحدهما ـ ان الشرط لا ينفك عن الجزاء في الصدق ، والثاني ـ ان الجزاء لا ينفك عن الشرط ، فإذا أريد استفادة الأول فهذا لا يثبت المفهوم ، وإذا أريد الثاني لا يمكن إثباته بالإطلاقين المذكورين فانهما يثبتان التوقف بالمعنى الأول أي ثبوت الجزاء في تمام حالات الشرط دون استثناء واما المعنى الثاني للتوقف وعدم الانفكاك فيحتاج استفادته إلي دعوى دلالة الجملة عليه وضعاً فيلزم المجاز لو ثبت في مورد عدم التوقف تماماً كما يلزم ذلك إذا أبدلنا الجملة إلى مكافئها الاسمي فقلنا ( وجوب إكرام زيد متوقف على مجيئه ).

١٧٣

لازم الدلالة على النسبة التوقفية ولذلك نجده أيضا فيما إذا أبدلنا الجملة إلى مكافئها الاسمي فقلنا ( طبيعي وجوب إكرام زيد متوقف على مجيئه ).

وامّا الوجدان القائل بعدم التجوز في موارد عدم المفهوم وعدم العلّية الانحصارية للشرط كما إذا كان له عدل آخر والّذي اتفق عليه المحققون المتأخرون ، فالوجه فيه واضح أيضا إذ استفادة المفهوم لم تكن على أساس الظهور الأول الوضعي للجملة الشرطية فانَّ النسبة التوقفية وحدها لا تكفي لإثبات المفهوم وانما يستفاد ذلك منها بعد ضم الدلالتين الإطلاقيتين. إذ لو كان بعض حصص الحكم متوقفا على الشرط لم يكن يستلزم الانتفاء المطلق عند الانتفاء وكذلك لو كان توقف طبيعيّ الحكم على الشرط في حال دون حال من أحوال الشرط ، وهذا يعني انه كلما ثبتت علّة بديلة كلفنا ذلك رفع اليد عن إطلاق المعلّق أو الإطلاق الأحوالي للشرط لا رفع اليد عن الدلالة الوضعيّة على النسبة التوقفية الربطية فلا يكون مجازاً.

وامّا وجدان إمكان التجزئة في المفهوم فهذا أيضا يفسر بما فسر به الوجدان السابق دون أَنْ يورث التحير أو التهافت مع الوجدان القاضي بالمفهوم ودلالة الجملة الشرطية على النسبة التوقفية ، حيث عرفنا انَّ المفهوم انما كان يستفاد من مدلول الأداة بعد ضم إطلاق المعلّق وإطلاق التعليق وهذا يعني انَّ ثبوت عدل آخر يرجع إلى تقييد في أحد هذين الإطلاقين ولا يلزم منه تغيير المدلول الوضعي للأداة وانه استعمل في غير ما وضع له حتى لا يمكن الرجوع إليه ، ومن الواضح انه إذا كانت الدلالة على المفهوم متوقفة على الإطلاق ، فهو أمر قابل للتجزئة والتبعيض لأنَّ الإطلاق يعني عدم ذكر القيد ، وبقدر ما لم يذكر من القيود توجد إطلاقات لا محالة وثبوت قيد في مورد لا يهدم إلاّ الإطلاق المقابل له خاصة على ما هو محقق في بحوث المطلق والمقيد.

وامّا الوجدان القاضي بعدم المفهوم للجملة الشرطية الخبرية كقولنا ( إذا شرب زيد السم فسوف يموت ) ، والتي لا تدل على المفهوم جزما ، ولذلك لا يستفيد أحد من مثل هذه الجملة الدلالة على خلود زيد وعدم موته أبداً إذا ما لم يشرب السم ، فهذا الوجدان بحسب الحقيقة من أهم المصادرات الوجدانية في باب الجمل الشرطية الداعية إلى إنكار المفهوم لها فالتنسيق بين هذا الوجدان ووجدانية المفهوم في الجملة

١٧٤

الشرطية الإنشائية أمر يبدو صعباً جداً على مستوى النظرية ، إذ أيّ فرق بين أداة الشرط الداخلة على الجملة الخبرية أو الداخلة على الجملة الإنشائية بعد أَنْ كانت الأوضاع في الهيئات نوعية لا شخصية؟

وتحقيق حال هذه النقطة التي تعتبر أدق مراحل البحث عن مفهوم الشرط متفرع على استذكار المباني التي حققناها في بحث الوضع في التفرقة بين مفاد الجملة الخبرية والجملة الإنشائية وبين النسبة التامة والنسبة الناقصة ، ذلك انَّ هذا التهافت مبنيٌّ على تخيل انَّ مفاد الجملة الشرطية الخبرية إذا كان على وزان الجملة الشرطية الإنشائية من حيث الدلالة على الانتفاء عند الانتفاء وتعليق النسبة الواقعية بين المخبر والمخبر به على الشرط فلا بدَّ وأَنْ يكون المثال السابق على تقدير وجود المفهوم مكافئا مع قولنا ( موت زيد معلّق على شربه السم ) الدال بمقتضى إطلاقه على عدم موته إذا لم يشرب السم. في حين انّا حققنا في محله انَّ مفاد الجملة الخبرية ليس هو النسبة الواقعية الخارجية وانما النسبة الحكمية التصادقية التي لا موطن لها إلاّ في الذهن وهي نسبة هذا ذاك ، التي هي نسبة غير خارجية بل في الخارج لا توجد إلاّ وحدة وعينية بين هذا وذاك وامّا النسبة الخارجية فتأتي في الذهن بصورها التي لا تكون نسبةً حقيقة في الذهن بل تحليلة ومختزلة أي صورة نسبة ، وقد برهنا هناك انَّ جميع النسب الخارجية كالظرفية أو الابتدائية أو غيرهما ومما وضع بإزائها الحروف والهيئات الناقصة ، يكون ما بإزائها في الذهن نسبة ناقصة تحليلية وكل النسب التي موطنها في الذهن وتكون نشأتها فيه فهي نسب تامة. وتوضع بإزائها الجمل التامة ، وعلى هذا الأساس يتضح انَّ المعلَّق على الشرط في قولنا ( إذا شرب زيد السم سوف يموت ) ليس هو موت زيد المتضمن لنسبة خارجية ناقصة هي نسبة عروض الموت إلى زيد بل المعلّق هو النسبة التصادقية الذهنية بين الذات التي عرض عليها الموت وبين زيد التي هي مدلول الجملة التامة في الجزاء ، أي النسبة الحكمية الاخبارية فيكون المعلّق هو اخباره بالموت لا واقع الموت فيكون الناتج من دلالة الجملة على التعليق انتفاء النسبة الحكمية والاخبار عن موته عند انتفاء الشرط لا انتفاء موته الخارجي.

١٧٥

وامّا الجملة الشرطية الإنشائية فهي وإِنْ كانت متضمنة لنسبة تامة إنشائية هي النسبة الإرسالية مثلا وتكون هي المعلَّقة على الشرط لا النسبة الإرسالية الخارجية ، ولكن حيث انَّ الحكم لا واقع ولا حقيقة له وراء الإنشاء والنسبة الحكمية فلا محالة يدل انتفاء هذه النسبة الحكمية الإنشائية عند انتفاء الشرط على انتفاء الحكم واقعا إذ لا واقع له في غير أفق الإنشاء المنتفي بحسب الفرض ، وهذا بخلاف الاخبار الّذي يبقى واقع المخبر به محفوظا مع انتفاء الاخبار أيضا (١).

وهكذا ينتهي البحث عن أصل مسألة دلالة الشرطية على المفهوم ، وينبغي أَنْ تعالج بعد هذا المشاكل التي تواجهنا في تنبيهات هذه المسألة.

التنبيه الأول : ونعالج فيه مشكلة الفرق بين الجملة الشرطية المسوقة لتحقيق الموضوع التي اشتهر بين الألسنة عدم دلالتها على المفهوم والجمل الشرطية الأخرى وتحقيق الحال في هذه النقطة مرتبط بتحليل مفاد الجملة الشرطية فنقول : الحكم المفروض في الجزاء من الجملة الشرطية كوجوب إكرام زيد على تقدير مجيئه يتصور له تقييدان ، أحدهما التقييد بموضوعه ، والآخر التقييد بالشرط ، والتقييد الأول تستبطنه جملة الجزاء بينما التقييد الثاني تدل عليه أداة الشرط ، وهذان التقييدان طوليان بحسب الفهم العرفي وبحسب التخريج الصناعي والفني أيضا ، بمعنى انَّ التقييد بالشرط يطرأ على وجوب الإكرام المفروغ عن تقيده بموضوعه فالمقيد بالشرط هو وجوب إكرام زيد لا ذات وجوب الإكرام ، وذلك باعتبار انَّ التقييد الأول مرجعه إلى النسبة الناقصة بين المادة وهو الإكرام في المثال وبين الموضوع ، لأن الموضوع في الجزاء طرف لنسبة

__________________

(١) يمكن ان تثار هنا مناقشتان. إحداهما : ـ يلزم من هذا التخريج إنكار المفهوم في الجمل الخبرية التي يكون جزاؤها اخباراً عن حكم شرعي كما في الأوامر الإرشادية أو في مثل قولك ( إذا سافرت وجب عليك قصر الصلاة ) مع ان القائلين بالمفهوم لا يفرقون بينها وبين الجمل الإنشائية ، وتأويل مدلول الجزاء فيها من الحكاية والاخبار إلي الإنشاء تكلف ظاهر.

الثاني ـ كما ان انتفاء الاخبار عن نسبة لا يستلزم انتفاء النسبة والاخبار عنها في مورد آخر كذلك انتفاء إنشاء نسبة لا يستلزم انتفاء إنشاء آخر لتلك النسبة في مورد آخر لأن المعلق على الشرط إذا كان هو الإنشاء والاخبار لا النسبة المنشأة أو المخبر عنها فهذان مدلولان تصديقيان جزئيان وحينئذ لا معنى لإجراء الإطلاق فيها لإثبات ان المعلق طبيعي الحكم لا شخصه فان هذا انما يصح إذا كان المعلق هو المجعول والمنشأ لا الجعل والإنشاء فهذا التفسير يهدم أحد شروط الدلالة على المفهوم حتى في الجملة الإنشائية.

١٧٦

ناقصة بينه وبين المادة فتكون النسبة الإرسالية ( أي الوجوب ) أيضاً متقيدة بالموضوع لأنَّ الموضوع تحصيص لمتعلق الحكم وتكون النسبة بينه وبين المادة بحسب الروح نسبة الإضافة الناقصة وإِنْ كان المتعلق بحسب القواعد النحوية مفعولاً به. واما التقييد الثاني أعني تقيد الجزاء بالشرط فهو نسبة توقفية تامة كما تقدم ، وكلما اجتمعت نسبتان إحداهما تامة والأخرى ناقصة كانت النسبة الناقصة مأخوذة في طرف النسبة التامة لكي تتم بها إذ لو كانت في عرضها كان الكلام ناقصاً وبحاجة إلى تتمة وهذا هو معنى الطولية المقصودة.

وفي ضوء هذا التحليل لمفاد الجملة الشرطية نقول : انَّ المفهوم في الجملة الشرطية من شئون التقييد الثاني أي من شئون الدلالة على النسبة التوقفية ، إلاّ إِنَّ هذا التقييد لا يقتضي أكثر من انتفاء ما عُلق على الشرط الّذي هو الحكم المفروغ عن تقيده بموضوعه وحينئذ إذا كان الشرط مغايراً مع الموضوع وتحققه غير مساوق لتحققه كما في ( إذا جاءك زيد فأكرمه ) كان مقتضى إطلاق النسبة التوقفية انتفاء وجوب إكرام زيد عند انتفاء الشرط الّذي هو المجيء فيدل لا محالة على المفهوم المطلوب ، وامّا إذا كان الشرط مساوقا مع الموضوع بحيث كان انتفائه مستلزما لانتفاء الموضوع أيضا كما في مثال ( إذا رُزقت ولداً فاختنه ) فلا تدل الجملة على المفهوم ، لأنّها وإِنْ كانت دالة على انتفاء الحكم المقيد بموضوعه عند انتفاء الشرط إلاّ انَّ انتفائه بحسب الفرض يساوق انتفاء موضوع الحكم الّذي يكون انتفاء الحكم به ثابتاً في نفسه عقلا بقطع النّظر عن الشرطية ، نعم لو أُريد نفي الحكم بقطع النّظر عن تقييده أي نفي مطلق وجوب الختان ولو عن ولد آخر في المثال فهذا امر لم يكن منتفياً عقلا ، إلاّ انه لا يمكن استفادته لأنه خلاف الطولية بين التقييدين كما هو واضح (١).

__________________

(١) هذا النحو من الجمل الشرطية أيضا يمكن اتخاذها دليلاً على صحة مسلك المحقق الأصفهاني في تفسير الشرطية إذ لو كانت تدل على التعليق كان المعنى ( ختانك لولدك معلق على مجيء الولد ) ومثل هذا تعليق مستهجن عرفاً لثبوته عقلاً فيكون أشبه بالقضية بشرط المحمول. بخلاف ما إذا فسرنا الشرطية بان الشرط فيها لمجرد التقدير وتحديد فرض صدق الجزاء من دون تعليق إذ تكون النسبة التامة والمدلول التصديقي حينئذ بإزاء الجزاء فلا تستبطن الجملة للتكرار أو القضية بشرط المحمول فتأمّل جيداً.

١٧٧

هذا ولكن فيما إذا كان الشرط مساوقا مع تحقق موضوع الحكم ولكنه ليس هو الأسلوب الوحيد لتحقق الموضوع أي يمكن انتفائه مع بقاء الموضوع كما في آية النبأ إذا رجعت إلى قولنا ( النبأ إِنْ جاءكم به الفاسق فتبينوا ) فانَّ مجيء الفاسق محقق للنبإ الموضوع للحكم بالتبين الا انه مع ذلك يمكن افتراض النبأ من غير ناحيته فلا يكون انتفائه مساوقا مع انتفاء مصب الحكم وموضوعه دائما فيكون مقتضى إطلاق التعليق ثبوت المفهوم أيضا.

التنبيه الثاني : لا إشكال في انَّ جملة الجزاء في الشرطية مطلقة فقولنا إذا جاءك زيد فأكرمه يدل على وجوب مطلق الإكرام لزيد إذا جاء ، وحينئذ قد يستشكل في دلالة الشرطية على المفهوم بأنَّ الجزاء المعلق على الشرط إِنْ كان هو وجوب مطلق الإكرام فغاية ما تقتضيه دلالة الشرطية على الانتفاء عند الانتفاء هو انتفاء هذا الوجوب ، فلا ينافي ثبوت وجوب إكرام مقيد كالإكرام بنحو الضيافة مثلا وانما الّذي ينافيه انتفاء مطلق وجوب الإكرام.

والجواب : انا ذكرنا فيما سبق انَّ مفاد الجملة الشرطية ومدلولها التصديقي هو ربط الجزاء بالشرط أي النسبة التوقفية وليس هو النسبة الإرسالية الحكمية ، بل مدلول الجزاء وهو الوجوب ـ بالمعنى الحرفي ـ ليس إلاّ مفهوما أخذ في موضوع التعليق من قبيل قولنا ( وجوب إكرام زيد معلق على مجيئه ) وحينئذ نقول : يوجد في المقام إطلاقان :

أحدهما ـ الإطلاق في نفس الوجوب المأخوذ بنحو المعنى الحرفي موضوعاً للحكم بالتعليق لأنَّ الوجوب له حصتان حصة وجوب مطلق الإكرام وحصة أخرى وجوب الإكرام الخاصّ ، وهذا الإطلاق هو الّذي يكون مأخوذاً في موضوع التعليق ويكون التعليق طارئا عليه وهو الّذي على أساسه يكون للجملة الشرطية مفهوم لأنَّ تعليق مطلق الوجوب على شيء يستلزم انتفاء الوجوب بكل حصصه عند انتفاء المعلق عليه ولا يضر بهذا الإطلاق كون مصاديق الوجوب من موجودات عالم الذهن لا الخارج فانَّ كل مفهوم يكون له إطلاق بلحاظ حصص مصاديقه في العالم المناسب لها سواءً كان عالم الخارج أو النّفس ، كما انَّ الوجوب مأخوذ بنحو المفهوم أي المدلول التصوري في طرف الجزاء لا بنحو المدلول التصديقي الّذي هو واقع الوجوب كي لا يتصور كونه طبيعيّ

١٧٨

الوجوب الجامع بين الحصتين بل امّا وجوب الإكرام المطلق أو وجوب الإكرام الخاصّ.

الثاني : الإطلاق في متعلق الوجوب وهو الإكرام ، فانه لا إشكال ولا ريب في انَّ المستفاد من منطوق الجملة الشرطية ثبوت وجوب مطلق الإكرام على تقدير المجيء وهذا الإطلاق لا يكون مأخوذاً في موضوع التعليق ولا يكون التعليق طارئاً عليه بل هو في طول التعليق وطارئ على الحكم المعلق ولو كان مأخوذاً في موضوعه لما كانت الشرطية تدل على المفهوم إذ معناه انَّ المعلق ليس هو مطلق الوجوب بل وجوب مطلق الإكرام الّذي هو إحدى حصتي الوجوب ، ومنه يظهر انَّ إطلاق متعلق الوجوب يساوق التقييد في نفس الوجوب.

وليس المبرر لهذه الدعوى منحصراً في وجدانية ثبوت المفهوم للجمل الشرطية وهو لا يكون إلاّ مع افتراض انَّ المأخوذ في موضوع التعليق هو الإطلاق الأول لا الثاني بل البرهان يقتضيه أيضاً.

وتوضيح ذلك : انه يستحيل أَنْ يجري الإطلاق ومقدمات الحكمة في متعلق الجزاء في المرتبة السابقة على التعليق لأننا ذكرنا فيما سبق انَّ المدلول التصديقي بإزاء الجملة الشرطية ليس هو النسبة الإرسالية في طرف الجزاء بل النسبة الربطية والتوقفية وامّا الجزاء فمأخوذ كمفهوم طرفا لتلك النسبة الربطية ، ومعه لا معنى لإجراء الإطلاق في متعلق الجزاء ـ وهو الإكرام ـ لإثبات انَّ الوجوب قد تعلق بمطلقه ، فانَّ هذا فرع أَنْ يكون الوجوب مدلولاً تصديقياً لا مفهوما تصوريا ، لأنَّ الإطلاق انما هو بملاك التطابق بين المدلول التصوري والتصديقي ، لإثبات انَّ طرف المدلول التصديقي لا قيد فيه واما إذا لم يكن طرفا لمدلول تصديقي ، كما هو الحال في المقام ، يكون المأخوذ فيه مدلوله التصوري وهو الماهية طالما لم يؤخذ الإطلاق كمفهوم تصوري فيه. وبهذا يتبرهن : انَّ الإطلاق ومقدمات الحكمة لا تجري في المرتبة السابقة على التعليق وانما تجري في المرتبة اللاحقة عليه ، والمبرر لجريانه كذلك انَّ الجملة الشرطية متكفلة لإثبات التصاق الجزاء بالشرط في طرف المنطوق وبيان حدوده وليست لبيان النسبة التوقفية الفلسفية كي يتوهم عدم الموجب لإجراء الإطلاق حينئذ في طول التعليق.

١٧٩

ومن مجموع ذلك يتضح : انه يستفاد من الجملة الشرطية من جهة انتفاء مطلق وجوب الإكرام الأعم من وجوب مطلق الإكرام أو الإكرام الخاصّ ، حيث أخذ وجوب الإكرام بنحو المدلول التصوري الحرفي موضوعاً للحكم بالتعليق والمفروض معقولية الإطلاق والتقييد في المعاني الحرفية المصحح لرجوع الشرائط إلى مدلول الهيئة لا المادة ، ويستفاد منها من جهة ثانية انَّ الثابت على تقدير الشرط هو وجوب مطلق الإكرام ببركة إجراء مقدمات الحكمة في طول التعليق (١).

التنبيه الثالث : فيما إذا كان الحكم في الجزاء عاماً بلحاظ موضوع الحكم كما إذا قال ( إِنْ رُزقت ولداً فأكرم كل فقير ) فهل يثبت في طرف المفهوم انتفاء العموم أو عموم الانتفاء؟ فنقول تارة يفرض العموم في موضوع الحكم بالوجوب في طرف الجزاء مجموعياً ، وأخرى : استغراقياً.

امّا الأول : فلا إشكال انَّ المفهوم حينئذ انتفاء العموم المجموعي لأنه بحسب الحقيقة ليس إلاّ حكماً واحداً متعلقا بمجموع الافراد كموضوع واحد والمفهوم ينفي به ثبت في طرف المنطوق لا غير.

وامّا الثاني : الّذي يكون فيه أحكام عديدة بعدد افراد العام ، فالصحيح فيه انه بحسب عالم الثبوت تارة : يكون المعلق صفة العموم ، وأخرى يكون المعلق ذات العام أي الافراد المستوعبة مع افتراض انها ملحوظة بنحو الاستغراق ، وثالثة يكون المعلق ذات العام مع ملاحظة الافراد بنحو المجموعية والوحدة.

فعلى الأول يثبت انتفاء العموم فلا تثبت السالبة الكلية بلحاظ موضوع الحكم ففي المثال لا يثبت أكثر من عدم وجوب إكرام جميع العلماء فيما إذا لم يُرزق ولداً ، ولعله يجب إكرام الفقيه منهم خاصة.

__________________

(١) إِنْ قيل ـ على هذا إذا فرض تقييد الإكرام بقرينة متصلة ولكن لا بأَنْ يؤخذ قيداً تصوريا مع الإكرام بل بنحو الجملة المستقلة بأَنْ يقول إِنْ جاءك زيد فأكرمه وليكن إكرامك بالضيافة. فإطلاق المفهوم ينبغي ان يبقى على حاله مع كون مفاد المنطوق هو وجوب الإكرام الخاصّ.

قلنا ـ انَّ التقييد المذكور إِنْ لم نستظهر رجوعه إلى تحديد المدلول الاستعمالي للإكرام المأخوذ في الجزاء فلا أقل انَّه يمنع عن انعقاد الإطلاق فيه بلا إشكال ، ولو فرض قيام قرينة على اختصاص التقييد لطرف المنطوق فقط التزمنا بإطلاق المفهوم بلا كلام.

١٨٠