بحوث في علم الأصول - ج ٣

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٥

ولكن الصحيح تماميته حتى إذا كان المخصص متصلاً إذ مفاد المخصص واضح لا إجمال فيه ولا تردد وهو خروج مورد التخصيص من دون أَنْ يكون فيه نظر إلى نوعية العدم المأخوذ في موضوع العام لبّا وانما يستكشف ثبوتاً من خروج مورد الخاصّ انَّ الجعل المدلول عليه بالعامّ لا بدَّ وأَنْ يكون مقيداً لبّا ، ومن الواضح أَنَّ تقيد حكم العام بعدم العنوان الخاصّ معلوم على كل حال وانما الشك في تقيد موضوعه الّذي هو معنى العدم النعتيّ فيكون منفياً بأصالة العموم.

وقد يقال : بعدم إمكان التمسك بالعامّ لنفي العدم النعتيّ حتى إذا كان المخصص منفصلاً وذلك باعتبار التلازم بينهما صدقاً في الخارج فلا يلزم من كون العدم نعتياً خروج فرد زائد لكي يكون تخصيصاً زائداً.

والجواب : انَّ العدم النعتيّ وإِنْ لم يستلزم التخصيص الزائد وإخراج فرد لم يكن يخرج بالعدم المحمولي ، إِلاَّ انه يستلزم تقييداً زائداً فيكون منفياً بالإطلاق ، وأَثره الشرعي جريان الاستصحاب في مورد الشك والحاصل : إِنْ كان الإشكال من ناحية اللغوية وعدم الأثر فيكفي ترتب الأثر في مورد الشك بلحاظ الاستصحاب وإِنْ كان الإشكال من ناحية انه ليس تخصيصاً زائداً فالجواب انه تقييد زائد فيكون منفياً بالإطلاق ومقدمات الحكمة (١).

الوجه الثاني ـ انَّ المخصص سواءً كان متصلاً أو منفصلاً لا إجمال فيه لكونه ظاهراً عرفاً في العدم المحمولي إذا لم يكن بنفسه دالاً على أخذ العدم النعتيّ في موضوع العام كما هو المفروض ، فإنَّ قوله ( أكرم كل فقير إِلاَّ الفساق ) أو ( لا تكرم الفاسق منهم )

__________________

(١) قد يقال : انَّ الإطلاق انما يكون بملاك نقض الغرض حيث ان المولى لو كان مراده المقيد ولم يذكر القيد كان نقضاً لغرضه وهذا غير لازم في المقام بلحاظ حكم العام وامَّا الأثر التنجيزي والتعذيري بلحاظ الاستصحاب فهو لا يكون مصححاً لنقض الغرض في حكم العام أو المطلق وإنْ شئت قلت : انَّ الإطلاق انَّما يكون لبيان حدود الحكم الواقعي المجعول في الخطاب المطلق فلو لم يكن فرق بلحاظه فلا تجري أصالة الإطلاق.

والجواب : ليس الإطلاق بملاك نقض الغرض بهذا المعنى بل بملاك نقض الغرض العرفي.

وان شئت قلت : ان السكوت عن بيان قيد ثابت جداً ولباً بنفسه نقض للغرض العرفي في مقام التخاطب والمحاورة وان فرض تساوي المطلق مع المقيد خارجاً ، نظير ما يقال من ظهور الخطاب في موضوعية العنوان المأخوذ فيه لا طريقيته ومشيريته لعنوان آخر وان فرض تساويهما مصداقاً.

٣٤١

لا يستفاد منه عرفاً أكثر من إخراج الخاصّ عن العام وهذا لا يستفاد منه عرفاً أكثر من تقييد الحكم بما إذا لم يكن عنوان الخاصّ منطبقاً وامّا خصوصية النعتية فأمر زائد بحاجة إلى مئونة بيان فيكون منفياً بالإطلاق ومقدمات الحكمة أي انه خلاف أصالة التطابق بين مقام الإثبات ومقام الثبوت.

وهذا الوجه كما ترى لا يفرق فيه بين المخصص المتصل أو المنفصل لعدم إجمال المخصص كما انه لا يفرق فيه إرجاع العدم النعتيّ إلى امر مباين مفهوماً مع العدم المحمولي أو إلى أمر بينهما الأقل والأكثر فانه على كل تقدير بعد أَنْ كان المستظهر عرفاً التقييد بالعدم الّذي يكون محمولياً فمقتضى التطابق بين المقامين انه هو المأخوذ في موضوع حكم العام لا إرادة عنوان وجودي من العنوان العدمي.

الوجه الثالث ـ لو فرضنا انَّ النسبة بين التقييدين نسبة المتباينين وفرضنا انَّ الخطاب مجمل غير ظاهر في انَّ التقييد بنحو العدم المحمولي لا النعتيّ مع ذلك يمكن إثبات العدم المحمولي ، وذلك باعتبار انَّ أصالة الإطلاق النافي للتقييد بنحو العدم النعتيّ جار من دون معارض إذ لا يترتب على معارضه وهو أصالة الإطلاق لنفي التقييد بالعدم المحمولي أثر عملي إذ لو أُريد به إثبات الحكم للمرأة القرشية فهذا معلوم العدم على كل حال ولا يترتب على نفي العدم المحمولي أثر وهذا بخلاف نفي العدم النعتيّ فانه يترتب عليه أثر عملي وهو جريان الاستصحاب وتنجيز حكم العام.

وهذا الوجه موقوف أولاً : على أَنْ يكون المخصص منفصلاً لا متصلاً وإِلاَّ كان الإجمال سارياً إلى ذات الإطلاقين.

وثانياً : على أَنْ يكون الأثر العملي المذكور أثراً عرفياً واضحاً صالحاً لأنْ يكون إطلاق الخطاب مسوقاً من أجله.

لا يقال : يترتب على الإطلاق النافي للتقييد بالعدم المحمولي أثر بلحاظ لازمه حيث يترتب عليه بالملازمة التقييد بالعدم النعتيّ وبالتالي ينفي جريان الاستصحاب ولوازم الأصول اللفظية حجة فلا يقاس ذلك بما إذا كان الأصلان عمليين.

فانه يقال : كون الإطلاق المقابل للتقييد بالعدم النعتيّ مسوقاً لبيان هذا الاعتبار

٣٤٢

مقطوع العدم لعدم إمكان بيان التقييد بالعدم النعتيّ عرفاً بإطلاق من هذا القبيل معارض مع إطلاق آخر في نفس ذلك الكلام يقتضي خلافه (١).

الوجه الرابع ـ وهو يتألف من مقدمتين :

أولاهما ـ أَنْ يستظهر من مجموع دليل العام والمخصص انَّ العلاقة بين عنوان العام والمخصص علاقة المقتضي والمانع بأَنْ يكون العنوان المخصَّص كالأموية مثلاً مانعاً عن اقتضاء عنوان العام ـ كالفقير مثلاً ـ لوجوب الإكرام ، لا انَّ عدمه أو ضده شرط في ترتب ذلك الحكم ، وهذا امَّا أَنْ يدعى استظهاره عرفاً من نفس دليلي العام والمخصص إذا كان العنوان فيهما معاً امراً وجودياً ، أو يفترض كمصادرة في ذمة الفقيه استظهاره في كل مورد.

الثانية ـ انه لا يشترط في ترتب المعلول والمقتضى ـ بالفتح ـ عند وجود مقتضية إِلاَّ انتفاء المانع الّذي هو العدم المحمولي من دون حاجة إلى اعتبار أي أمر ثبوتي اخر.

وبما انَّ الأحكام والجعول من أجل غرض وملاك في نفس المولى فيكون المأخوذ في موضوع جعله وحكمه على غرار ذلك أي لا يؤخذ فيه أكثر من العدم المحمولي فظهور التطابق بين الجعل والغرض من ورائه بنفسه يصبح قرينة على انَّ القيد هو العدم النعتيّ لا المحمولي.

وهذا الوجه أيضاً لا يفرق فيه بين أَنْ يكون المخصص متصلاً بالعامّ أو منفصلاً

__________________

(١) الإطلاق فيهما معاً بل في كل مورد انما هو لبيان عدم أخذ القيد والمفروض في المقام انَّ المخصص منفصل فكل من الإطلاقين ظهورهما منعقد في نفي القيد المقابل له غاية الأمر علم من المخصص وجود تقييد بالآخر في البين ، فليس الظهور الإطلاقي فيهما من أجل بيان التقييد ليقال انَّ هذا غير عرفي وانما كان الإشكال من ناحية لغوية حجية هذا الظهور الإطلاقي لأنَّ الحجية بحاجة إلى أثر شرعي في موردها ، وحينئذٍ يقال : بأنه كما يترتب على نفي التقييد بالعدم النعتيّ جريان الاستصحاب أي تنجيز حكم العام كذلك يترتب على نفي التقييد بالعدم المحمولي عدم تنجيزه بل التعذير عنه بالبراءة الشرعية مثلاً. ودعوى : انَّ هذا الأثر مترتب على لازم هذا الإطلاق ، يدفعه :

أولاً ـ عدم قدح ذلك بعد أَنْ كان المحذور هو اللغوية في الحجية فانه يكفي في حجية الأصل اللفظي ترتب أثر على لازمه.

وثانياً ـ انه لو اشترطنا ترتب الأثر على المدلول المطابقي ـ كما في الأصول العملية ـ مع ذلك قلنا انَّ أثر نفي التقييد بالعدم المحمولي المفروض مباينته مع النعتيّ هو نفي جريان الاستصحاب المنجز لحكم العام فانَّ جريانه موقوف على ثبوت العدم المحمولي جزء من موضوع حكم العام فنفي التنجيز من ناحية الاستصحاب أيضاً أثر شرعي.

٣٤٣

عنه. ولا بين ان يكون العدم المحمولي مبايناً مع النعتيّ أو بينهما الأقل والأكثر.

هذا كله ما يتعلق بالكلام الأول من المحقق النائيني ( قده ) والّذي لو تم فهو يقتضي عدم إمكان التمسك بالاستصحاب الأزلي في الموضع الأول من المواضع الثلاثة حيث يراد إحراز موضوع حكم العام بالاستصحاب ، وامّا في الموضعين الثاني والثالث الّذي يراد فيهما نفي الحكم المرتب في الدليل الخاصّ أو في دليل مستقل على العنوان المقيد فلا يتم ، إذ لم يؤخذ العدم قيداً فيهما لموضوع حكم يراد إثباته بل يراد نفي الحكم المرتب على الموضوع الوجوديّ بنفي جزء ذلك الموضوع ولو باستصحاب العدم الأزلي.

وامَّا الكلام الثاني له قدس‌سره الّذي ذكره في رسالته المعقودة لبيان حكم اللباس المشكوك ، والّذي لو تم كان دليلاً على المنع عن جريان استصحاب العدم الأزلي في الموضع الثاني والثالث من المواضع الثلاثة المتقدمة أي ما إذا أُريد بالاستصحاب نفي الحكم الخاصّ فيتألف من مقدمتين :

الأولى ـ انَّ الربطية والناعتية طور في وجود ماهية العرض وليس شأناً من شئون نفس الماهية ، لأنَّ ماهية العرض كالبياض مثلاً من حيث هي لا ربط ولا ناعتية لها بل ماهية مستقلة في نفسها إِلاّ انَّ طرز وجودها في الخارج وجود ربطي خلافاً للجواهر التي يكون وجودها في الخارج مستقلاً وفي نفسه.

الثانية ـ انَّ الوجود والعدم متقابلان والمتقابلان لا يقبل أحدهما الاخر ولا يعرض عليه بل يعرضان على موضوع ومحل هو الماهية فانها تتصف بالوجود تارة والعدم أخرى وامَّا نفس الوجود فلا يعرض عليه العدم كما انَّ العدم لا يعرض عليه الوجود.

والمستنتج من مجموع المقدمتين اننا في استصحاب العدم الأزلي لوصف القرشية مثلاً إنْ أردنا استصحاب عدم الوجود الرابط والناعتية التي هي طرز من الوجود الخارجي للعرض فهو غير معقول بحكم ما تقدم في المقدمة الثانية ، حيث قلنا انَّ العدم لا يعرض على الوجود بل يضاف إلى الماهية ، وإِنْ أُريد استصحاب عدم ماهية القرشية فانْ أُريد عدمها الناعت المقابل لوجودها كذلك في الخارج فهذا

٣٤٤

لا حالة سابقة له ، وإِنْ أُريد عدمها المحمولي فهو ليس نقيضاً ومقابلاً للوجود الناعت المأخوذ في موضوع الحكم بحسب الفرض ليكون استصحابه مجدياً في نفي حكمه بل هو مقابل لأخذ الوجود المحمولي للقرشية.

وهذا الكلام مما لا محصل له ، إذ يرد عليه :

أولاً ـ انه قد اتضح في ضوء ما تقدم انَّ النعتية والربطية ليست إِلاَّ عبارة عن ملاحظة مفهوم محصصاً بمفهوم اخر ، فانه تارة : يلحظ مفهوم البياض مطلقاً وبلا قيد فيكون مفهوماً مستقلاً ، وأخرى : يلحظ بياض الكتاب وقرشية المرأة فيكون مرتبطاً بموضوع ، وهذا التحصيص والربط ثابت في مرحلة المفاهيم وبقطع النّظر عن الوجود ، وهذا هو المأخوذ أيضا في موضوع الجعل الشرعي بما هو مرآة عن معنونه الخارجي ، فليس المأخوذ في موضوع الجعل وجود خارجي معين بل أخذ النعتية في الجعل يعني أخذ الحصة الخاصة موضوعاً والاستصحاب أيضاً لا بدَّ من إجرائه بلحاظ هذا المركز نفياً أو إثباتاً ، أي بلحاظ ما أخذ في الجعل الشرعي بما هو حاكٍ ومرآة عن الخارج.

ومن الواضح انَّ العدم يضاف إلى النعتية بهذا المعنى حيث انَّ قرشية المرأة كانت معدومة في الأزل فيكون مجرى للاستصحاب.

وإِنْ شئت قلت : انَّ أخذ القرشية بنحو الناعتية لا يعني أخذ طرز الوجود الخارجي المعين قيداً في الموضوع ، لوضوح انَّ ما يؤخذ في موضوع الجعل ليس إِلاَّ المفاهيم الاسمية أو الربطية بما هي حاكية عن الخارج ، فانْ أُريد من الكلام المذكور هذا المعنى فهو واضح البطلان ، وإنْ أُريد أخذ مفهوم منتزع من ذلك الطرز من الوجود الخارجي المعبر عنه بالوجود الرابط فمن الواضح انَّ الوجود والعدم يضافان إلى هذا المفهوم مهما كانت حقيقته حتى لو كان مفهوم الوجود مأخوذاً فيه ، فانَّ التقابل بين الوجود والعدم والمستوجب لعدم إضافة أحدهما إلى الاخر انما هو بلحاظ واقعهما لا بلحاظ مفهوميهما فمفهوم الوجود يمكن أَنْ يضاف إليه الوجود أو العدم فيقال الوجود موجود أو معدوم.

ثانياً ـ انه لو سلمنا انَّ العدم المحمولي للقرشية لا يصطلح عليه بنقيض الموجود

٣٤٥

الناعت للقرشية إِلاَّ انه لا إشكال في انَّ عدم القرشية المحمولي رافع لموضوع الحكم بحيث لو فرض محالاً وجود المرأة مع العدم المحمولي لقرشيتها لم يكن الحكم ثابتاً إذ يكفي فيه انتفاء أحد اجزاء موضوعه سواءً كان هذا الانتفاء مع ذلك الوجود بحسب مصطلح الفلاسفة يسميان بالنقيضين أم لا ، فانَّ العقل لا يشترط في انتفاء الحكم صدق هذا المصطلح ، فأركان الاستصحاب النافي تام إذ لم ترد آية أو رواية على اشتراط أَنْ يكون مصب الاستصحاب ما يكون نقيضاً بمصطلح المناطقة.

هذا كله في مدرك القول الأول وهو قول المحقق النائيني ( قده ). وامّا القول الثاني المنسوب إلى المحقق العراقي ( قده ) وهو التفصيل في جريان استصحاب العدم الأزلي ، فقد جاء تقريره في الكلمات المنسوبة إلى المحقق العراقي وفي رسالته المؤلفة في اللباس المشكوك بنحو يختلف عنه في رسالته التي ألّفها في استصحاب العدم الأزلي خاصة حيث أضاف فيها جملة من النكات والتعميقات فجاء تفصيله بنحو آخر ، وفيما يلي نذكر كلا التقريرين للتفصيل.

امَّا ما جاء في رسالة اللباس المشكوك والّذي هو التفصيل المشهور نسبته إليه فبيانه بالنحو التالي :

إنَّ الأوصاف المعارضة على موضوع تكون متأخرة بالطبع عن ذلك الموضوع بحسب الرتبة ، فالقرشية في المرأة متأخرة عن ذات المرأة تأخر المعلول عن علته أو جزء علته ، وإذا كان الأمر كذلك في طرف وجود الوصف كان عدمه أيضاً متأخراً عن ذلك الموضوع لأنَّ النقيضين بحكم تقابلهما وتواردهما على محل واحد يكونان في رتبة واحدة ويستحيل أَنْ يكونا في رتبتين ، وعلى هذا الأساس إذا كان موضوع الحكم مركباً من المرأة وقرشيتها فما هو نقيض الجزء الثاني لهذا الموضوع الّذي لا بدَّ من إحرازه بالاستصحاب أيضاً يكون متأخراً عن ذات المرأة رتبة ، ومن الواضح انَّ المتأخر عنها كذلك انما هو العدم النعتيّ لقرشية المرأة لا العدم المحمولي الأزلي والّذي كان ثابتاً قبل وجود المرأة فكيف يكون متأخراً عنها.

وهذا البيان قد يتبادر منه أدائه إلى إنكار جريان الاستصحاب الأزلية مطلقاً

٣٤٦

فكيف يصير منشأ للقول بالتفصيل في المسألة؟ إِلاَّ انَّ الصحيح انه منشأ للتفصيل بين ما إذا كان كيفية أخذ الوصف كالقرشية في موضوع الجعل بنحو عرضي لثبوت الموضوع أو بنحو طولي ، فانَّ الوصف بوجوده الخارجي وإِنْ كان طولياً دائماً إِلاَّ انَّ الميزان ليس هو ملاحظة الخارج بل ملاحظة ما هو الموضوع نفياً وإثباتاً بحسب عالم الجعل لأنَّ مصب الاستصحاب ومركزه ذلك بحسب الحقيقة لا الخارج ، فالميزان أَنْ يلاحظ كيفية أخذ القرشية في موضوع الجعل الشرعي فانْ كانت مأخوذة في طول افتراض وجود المرأة كما إذا قيل ( إذا وجدت امرأة وكانت قرشية حين وجودها فهي تحيض إلى الستين ) بحيث يكون ما هو موضوع الحكم القرشية الثابتة في رتبة وجود المرأة خارجاً لم يجر فيها استصحاب العدم الأزلي لأنَّ نقيض هذا الموضوع عدم القرشية في هذه المرتبة أي العدم الخاصّ في رتبة وجود المرأة وهذا لا يثبت باستصحاب مطلق العدم ، وإِنْ كانت مأخوذة بنحو عرضي أي قيل ( إذا وجدت امرأة قرشية ) بحيث فرض أخذ المرأة المتصفة بالقرشية في مرتبة ذاتها موضوعاً جرى الاستصحاب المذكور وإِنْ كان بحسب الواقع تحقق الوصف في طول الموصوف إِلاَّ انَّ ذلك غير دخيل في الحكم بحسب موضوع الجعل فلا يكون الترتب المذكور مأخوذاً في طرف عدم الوصف بل ما هو جزء الموضوع إثباتاً ونفياً نفس القرشية فإذا كان عدمها ثابتاً في الأزل جرى الاستصحاب فيه لا محالة.

وهذا محصل التفصيل المشهور نسبته إلى المحقق العراقي ( قده ).

وفيه أولاً ـ عدم تمامية الأصل الموضوعي الّذي افترضه ( قده ) من انَّ النقيضين في رتبة واحدة فإذا كان الوصف متأخراً عن الموصوف كان عدمه متأخراً عنه أيضاً ، ذلك انَّ المقصود من كون النقيضين في رتبة واحدة إِنْ كان بمعنى عدم تقدم أحدهما على الاخر لعدم كونه علّته أو جزء علّته فهذا صحيح ولكنه لا يقتضي أنْ يكون تأخر أحدهما عن شيء ثالث لكونه معلولاً له مستوجباً لتأخر الاخر عنه أيضاً إذ الرتبة بهذا المعنى يراد بها العلّية ولا علّية إِلاَّ مع أحد النقيضين لا كليهما.

وإِنْ أُريد من ذلك انهما متلازمان في الرتبة كالمعلولين لعلّة ثالثة فمن الواضح بطلانه لأنَّ النقيضين لا يكونان معلولين لعلّة واحدة بل علّة أحدهما منافرة مع الاخر

٣٤٧

ولا تجتمع معه كما هو واضح.

وقد أوضحنا ذلك مفصلاً في بحوث الضد. وعليه فالعدم المحمولي الأزلي أيضاً نقيض للوصف.

وثانياً ـ ما أشرنا إليه في التعليق الاخر على كلام المحقق النائيني ( قده ) فانه لم يردد دليل على اشتراط أَنْ يكون مركز الاستصحاب النافي هو عنوان نقيض الموضوع بل كلّما يراه العقل موجباً لانتفاء الحكم المجعول شرعاً لا بدَّ أَنْ يكون هو مجرى الاستصحاب النافي سواءً سمّاه المنطقي بالنقيض أم لا ، ومن الواضح انَّ العقل يرى انه إذا رتب الشارع حكمه على جزءين المرأة وأنْ تكون القرشية فبانتفاء أحد هذين الجزءين ينتفي الحكم لا محالة سواءً كانت حالة الانتفاء تلك تسمى بالنقيض أَمْ لا والعدم المحمولي الأزلي لقرشية المرأة أيضاً من حالات انتفاء أحد جزئي هذا الموضوع بحيث لو فرض محالاً وجود المرأة فيها لم يكن الحكم المجعول فعلياً ، فيجري الاستصحاب بهذا الاعتبار.

ثم انَّ المحقق المذكور حاول في رسالته في استصحاب العدم الأزلي إبطال هذا البيان للتفصيل مع تسليم نفس الأصول الموضوعية وطرز التفكير الموجود فيه ، وذلك بدعوى : انَّ العدم المحمولي الأزلي للقرشية أيضا في طول وجود المرأة فيكون نقيضاً لقرشيتها لأنَّ العدم الأزلي للقرشية معلول لعدم نفس المرأة وعدم المرأة في رتبة وجودها بحكم وحدة رتبة النقيضين فيكون عدم القرشية في طول وجود المرأة أيضاً فلو كان هذا هو الإشكال لما صح التفصيل بل جرى الاستصحاب في التقديرين.

إِلاَّ انَّ هذا الكلام غير صحيح فاننا إذا قبلنا الطرز المذكور من التفكير أمكننا أَنْ نقول بأنَّ العدم الأزلي للقرشية انما هو معلول لعدم المرأة في الأزل لا في الآن الّذي يراد إجراء الاستصحاب وتطبيقه ، ببرهان ثبوت ذلك العدم حتى مع وجود المرأة فعلاً.

وعدم المرأة في الأزل نقيض لوجودها في الأزل أيضاً لا مطلقاً لاشتراط وحدة الزمان في النقيضين فيكون عدم القرشية الأزلي في طول وجود المرأة في الأزل لا في طول وجودها في زمن تطبيق الاستصحاب على المصداق الخارجي ، مع أَنَّ جزئي الموضوع الطوليين في

٣٤٨

كل مصداق لا بدَّ وأَنْ تحفظ الطولية بينهما بلحاظ ذلك المصداق لا مصداق اخر ، فانَّ ترتب الحكم إثباتاً أو نفياً في كل زمان منوط بانحفاظ ما أخذ في موضوع الحكم في ذلك الزمان فلا بدَّ وأَنْ يكون المستصحب عدم القرشية الّذي هو في طول وجود المرأة الآن وهذا لا حالة سابقة له.

وامَّا ما ذكره المحقق العراقي ( قده ) في رسالته المعقودة لاستصحاب العدم الأزلي فحاصله : انَّ القرشية بما هي موضوع للحكم متأخرة عن المرأة برتبتين لأنها في طول تقيد الموضوع بها إذ لو لا ذلك لما كانت القرشية جزءً لموضوع الحكم وتقيد الموضوع ـ وهو المرأة ـ في طول المرأة لكونها من عوارضه وأطواره فتكون القرشية متأخرة عن المرأة برتبتين فلا بدَّ وأَنْ يكون عدم القرشية أيضاً متأخراً عن المرأة برتبتين. وحينئذٍ إذا فرض انَّ المأخوذ في موضوع الحكم تقيد ذات المرأة بالوصف بقطع النّظر عن وجودها بحيث تكون النسبة والاتصاف ثابتين بين الذاتين صح إجراء الاستصحاب في الاعدام الأزلية ، لأنَّ في ظرف عدم الذات كان التقيد القائم بالطرفين ثابتاً ولا يوجب عدم الذات في الخارج سلب التقيد والنسبة لما عرفت من انَّ معروض التقيد ليس إِلاَّ نفس الذات المحفوظ بين طرفي الوجود والعدم فيصدق على عدم الوصف حتى في ظرف عدم الذات عدم ذات القيد الّذي هو نقيض موضوع الأثر فإذا جرَّ هذا العدم بالاستصحاب إلى حين الوجود يصدق نقيض القيد في هذا الظرف فيترتب عليه رفع الحكم ، وامّا لو كان التقيد والاتصاف ثابتاً لوجود المرأة ومنوطاً به ففي ظرف عدم هذا الوجود لا يكون تقيد أصلاً ، ففي هذا الظرف وإِنْ صدق عدم الوصف الناشئ من عدم الموضوع لكن مثل هذا العدم ليس موضوعاً للأثر لا بنفسه كما هو واضح ولا بمناط المناقضة لأنَّ ذات العدم في ظرف عدم الموضوع ليس نقيض الوجود المأخوذ في الرتبة المتأخرة عن التقيد المتأخر عن وجود الموضوع الّذي هو ظرف ثبوت التقيد وهذا هو العدم النعتيّ لا الأزلي.

وفيه : أولاً ـ انَّ المستصحب انما هو ذات الموضوع لا الموضوع بما هو موضوع فانَّ استصحاب الموضوع بما هو موضوع على ما حقق في محله يرجع إلى استصحاب الحكم

٣٤٩

وذات الموضوع هي القرشية وهي ليست متأخرة عن الذات إِلاَّ برتبة واحدة.

وثانياً ـ انَّ التقيد امَّا أَنْ يراد به تقيد الموضوع في عالم الجعل أو يراد به وجود التقيد والنسبة بين المرأة والقرشية خارجاً ، فعلى الأول وإِنْ كانت القرشية بما هي ذات أثر متأخرة عن التقيد إِلاَّ انَّ التقيد المذكور ليس متأخراً عن الموضوع وهو الإنسان خارجاً لوضوح انَّ الجعل والتقيد الملحوظ في موضوعه ثابتان قبل أَنْ يوجد في الخارج موضوعه ، وعلى الثاني فالتقيد وإِنْ كان متأخراً عن وجود موضوعه خارجاً إِلاَّ انَّ القرشية ذات الأثر ليست في طول هذا التقيد بل في طول التقيد بالمعنى الأول ، وامَّا التقيد بهذا المعنى فهي نسبة تكون في طول طرفيها لأن انَّ طرفيها في طولها ، هذا كله مضافاً إلى عدم تمامية الأصول الموضوعية لأصل هذا الطرز من الاستدلال كما عرفت في إبطال البيان الأول لتفصيله.

وهكذا يتضح انَّ الصحيح جريان الاستصحاب في الاعدام الأزلية مطلقاً ، نعم لو فرض انَّ الوصف المشكوك كان من لوازم ذات الموصوف الثابتة له في مرتبة ذاته بقطع النّظر عن وجوده وعدمه في الخارج كزوجية الأربعة فلا يجري في مثله استصحاب عدمه الأزلي إِلاَّ انَّ هذا في الحقيقة ليس إشكالاً على جريان الاستصحاب في الاعدام الأزلية بل عدم جريانه هنا من باب ارتفاع الموضوع لعدم ثبوت عدم أزلي للوصف على ما حققناه مفصلاً في شرح العروة الوثقى حيث حاول السيد الأستاذ هناك اعتباره تفصيلاً في الاستصحابات الأزلية وجعَله التفصيل المنسوب إلى المحقق العراقي ( قده ) ثم حاول تفنيده ولتفصيل ذلك تراجع بحوثنا في شرح العروة الوثقى.

« فصل : الدوران بين العام واستصحاب حكم المخصص ».

إذا خرج عن العام عنوان بالتخصيص ثم شك بقاءً في الحكم هل هو على طبق حكم الخاصّ أو العام فهل المرجع العموم أو استصحاب حكم المخصِّص؟

تارة : يفرض الشبهة حكمية غير مفهومية ، وأخرى يفرض الشبهة مفهومية ، فإذا فرضت الشبهة حكمية غير مفهومية كما إذا دل دليل على وجوب الخمس في كل فائدة خرج منه بالتخصيص ما يكون مئونة للشخص ولعياله فكان ربح ما مئونة إلى مدة ثم

٣٥٠

خرج عن كونه مئونة لانتفاء حاجة الشخص إليه فهل يرجع فيه إلى عموم العام فيجب تخميسه أم استصحاب حكم المخصص ، والصحيح انَّ الرجوع إلى عموم العام انما يصح فيما إذا كان للعام إطلاق أزماني بلحاظ كل فرد من افراده فيكون حجة ومقدماً على استصحاب حكم المخصِّص وامّا إذا لم يكن له إطلاق أزماني كذلك فالمرجع هو الاستصحاب إذا ما تمت أركانه أي لم يكن العنوان الخارج بالتخصيص حيثية تقييدية وإِلاَّ كان من تبدل الموضوع فيرجع إلى الأصول الأخرى.

واما إذا كانت الشبهة مفهومية كما في تخصيص عمومات الأحكام الإلزامية بالبالغين وإخراج غير البالغين وهو من لم تظهر فيه إحدى علامات البلوغ ـ كنبات الشعر الخشن مثلاً ـ فشك في مرتبة من الشعر هل يعتبر خشناً أم لا بنحو الشبهة المفهومية ، فهل يرجع فيه إلى عمومات التكليف أو يستصحب حكم الخاصّ بعدم التكليف؟.

وتفصيل الكلام في ذلك انه قد يتوهم في المقام.

أولاً ـ انَّ الاستصحاب المذكور يجري ويكون مقدماً على أصالة العموم ونافياً لموضوعه المختص بمن له شعر خشن والاستصحاب ينفي ذلك في الفرد المشكوك.

وقد يتخيل ثانياً ـ العكس فانَّ الاستصحاب لا ينفي موضوع العام حقيقة والمفروض انَّ موضوعه واقع من ينبت عنده الشعر الخشن وقد فرضنا جواز التمسك به في مورد الشبهة المفهومية لتحقق ظهوره فيه وبذلك يحكم على الاستصحاب الموضوعي لكونه بالملازمة يثبت كون الفرد المشكوك ذو شعر خشن فيرتفع موضوع الاستصحاب الموضوعي.

وقد يتخيل ثالثاً ـ بجريان كلا الأصلين ـ أصالة العموم والاستصحاب الموضوعي ـ من دون تقدم أحدهما على الاخر فيكون من التعارض بينهما بمعنى وقوع التعارض بين إطلاقي دليلي الحجية الشامل لكل منهما في نفسه. وذلك بتقريب انَّ أصالة العموم وإِنْ صح التمسك به في الشبهة المفهومية للمخصص إلا انه لا يمكن أَنْ نثبت به إِلاَّ الحكم وهو وجوب الصلاة وامَّا الموضوع وهو كون الفرد المشكوك ذا شعر خشن فإثباته موقوف على ثبوت الملازمة بين وجوب الصلاة على فرد وكون شعره خشناً وهذا انما يثبت ببركة التمسك بإطلاق دليل التخصيص الدال على انَّ كل من لم ينبت عنده

٣٥١

شعر خشن لا تجب الصلاة عليه للفرد المشكوك لإثبات انه إذا لم يكن شعره خشناً فلا تجب الصلاة عليه وبما أنه تجب عليه بمقتضى العموم فشعره خشن. ومثل هذا الإطلاق غير جار لأنَّه من موارد الدوران بين التخصيص والتخصص وإثبات عكس النقيض لما هو مفاد الدليل به وهو غير صحيح عند المشهور كما تقدم ، ومعه فلا يمكن بأصالة العموم إثبات حال الفرد المشكوك من حيث كون شعره خشنا أم لا ليرتفع موضوع الاستصحاب الموضوعي فيكون الاستصحاب جاريا لا محالة ومنافيا بحسب اثره العملي مع أصالة العموم فيتعارضان.

ولكن الصحيح ان الجمع بين فرض جريان الاستصحاب في الشبهة المفهومية وفرض التمسّك بالعامّ فيها في نفسه متهافت لأنَّ كلاً منهما مبتنٍ على نقيض ما يبتني عليه الآخر ، لأنَّ العام إِن كان قد تعنون بعنوان غير مدلول اللفظ الوارد في دليل التخصيص فالشبهة مصداقية حينئذٍ بالنسبة للعام لا مفهومية على ما تقدم شرحه مفصلاً في أبحاث العام والخاصّ ، ولا يجوز حينئذٍ التمسك بالعامّ بل يجري الاستصحاب الموضوعي فقط. وإِنْ كان التعنون بواقع المدلول الخاصّ وقلنا ان هذا التعنون في موارد الإجمال المفهومي يثبت بمقدار عدم القدر المتيقن من الخاصّ فأصالة العموم جارية ولا أثر للاستصحاب الموضوعي لأنه لو أريد استصحاب عدم مدلول اللفظ بما هو مدلول اللفظ فليس هو موضوع الأثر الشرعي وإِنْ أريد استصحاب عدم واقع المدلول فلا شك فيما هو الواقع كما هو واضح.

فصل : ( في جواز التمسك بالعامّ لإثبات التخصص )

بعد الفراغ عن حجية العام في نفسه وجواز التمسك بأصالة العموم لإثبات حكمه في ما يحرز دخوله تحته موضوعاً ، يقع البحث فيما إذا علم عدم ثبوت حكمه في مورد ولكن شك في كونه خارجاً عنه موضوعاً فلا يكون تخصيص في البين أولا فيكون تخصيصاً ، فهل يصحّ التمسك بالعامّ لنفي التخصيص وإثبات التخصص ـ الخروج الموضوعي ـ أم لا؟

وهذا البحث لا يختص بباب العمومات بل يجري في المطلقات أيضا في

٣٥٢

موارد الدوران بين التقييد والتقيّد لعدم الفرق في ملاك البحث ، فانَّ ملاكه إمكان التمسك بالأصل اللفظي وهو الظهور في الدليل المتكفّل لقضية كلية لإثبات عكس نقيضه وهذا لا يفرق فيه بين أَنْ يكون الظهور وضعياً أو حكمياً.

وقد مال جملة من العلماء في بعض التطبيقات والاستدلالات إلى التمسك بالظهورات في مثل هذه الموارد فمثلاً قد وقع من قبل بعض الأصوليين الاستدلال على عدم كون الاستحباب امراً بعموم قوله تعالى ( فليحذر الذين يخالفون عن امره ) حيث يعلم بعدم لزوم الحذر في الطلب الاستحبابي فيكون مقتضى عموم الآية عدم صدق مادة الأمر عليه.

ومن قبيل ما ورد من الاستدلال في الفقه على عدم نجاسة ماء الاستنجاء الّذي ثبت عدم نجاسة ملاقيه تمسكاً بعموم أو إطلاق أدلة تنجيس المائع المتنجس وكلا هذين الموردين من موارد التمسك بالعامّ أو المطلق لإثبات التخصص كما هو واضح.

والتقريب الّذي يخطر في الأذهان لإثبات حجية العام أو المطلق لإثبات التخصص أو التقيّد واضح ، حيث انَّ مقتضى أصالة العموم أو الإطلاق في القضية الكلية ثبوت عكس نقيضها وهو انتفاء موضوعها عند انتفاء محمولها فإذا ثبت بدليل انتفاء المحمول في مورد ثبت بالملازمة انتفاء الموضوع وهو معنى التخصص.

وإِنْ شئت قلت : انَّ كل قضية حقيقية وإِنْ كانت حملية إِلاَّ انها في قوة قضية شرطية مفادها انه كلّما صدق الموضوع ثبت المحمول وانتفاء الشرط عند انتفاء الجزاء لازم عقلي لا محالة. فإذا ثبت بدليل انتفائه ثبت انتفاء الموضوع.

وهذا المدلول وإِنْ كان التزامياً بالنسبة لظهور العام أو المطلق إِلاَّ انَّ المفروض حجية مثبتات الظهور لكونه من الأمارات وعدم اختصاص حجيته بالمداليل المطابقية خاصة.

إِلاَّ انَّ جمهور المحققين من علماء الأصول عند تحريرهم لهذه المسألة بنوا على عدم حجية الأصول اللفظية في أمثال المقام ، وقد حاول صاحب الكفاية ( قده ) أَنْ يُخرج هذا الموقف على أساس انَّ مدرك حجية الأصول اللفظية هو السيرة العقلائية وهو دليل لبّي يقتصر فيه على المقدار المتيقن من مورده الّذي هو صورة الجزم بدخول الفرد

٣٥٣

تحت موضوع العام أو المطلق والشك في خروجه عن حكمه لا صورة عكسه.

إِلاَّ انه من الواضح انَّ الحجية عند العقلاء لا تكون على أساس التعبد البحث ليقال بأنَّ مورد هذا التعبد إِما جزماً احتمالاً مضيق بل تكون على أساس الكاشفية والطريقة إلى الواقع ومن الواضح انَّ نفس الدرجة من الكشف والطريقية الثابتة للعام أو المطلق بلحاظ إثبات حكمه ومدلوله المطابقي أو الالتزامي من سائر النواحي ثابت بلحاظ دلالته على نفي التخصص أيضاً ، فلا بدَّ من التفتيش عن نكتة هذا الضيق المدّعى في كبرى حجية الظهور لتكون هي ملاك التفصيل (١).

ومن هنا حاول أحد تلامذة هذا العلم وهو المحقق العراقي ( قده ) أَنْ يبرز هذه النكتة بما حاصله :

انَّ العقلاء يفككون في حجية الظهور بين الشبهة الحكمية التي يراد فيها تعيين حكم الفرد وبين الشبهة المصداقية التي يراد فيها تعيين عنوان الفرد مع العلم بحكمه وذلك لعدم نظر الخطاب إلى تعيين صغرى الحكم نفياً أو إثباتاً وانما نظره تماماً إلى إثبات الكبرى وهو الحكم على تقدير تحقق موضوعه ، وقد جعل هذه النكتة منشأ لأمرين عدم حجية العام في الشبهة المصداقية وعدم حجيته في نفي التخصيص وإثبات التخصص ، ومن هنا يتحد في نظره ملاك هذا البحث والبحث السابق فانه لا فرق بينهما إِلاَّ من ناحية انَّ المقصود من أصالة العموم في السابق إدخال المشكوك في العام وفي المقام إخراجه عنه مصداقاً وهذا ليس بفارق (٢).

وهذا الكلام غير تام فانَّ عدم نظر الدليل إلى إثبات الصغرى نفياً وإثباتاً انما يجدي في عدم حجية أصالة العموم في المسألة السابقة لإثبات حكم العام في الفرد المشكوك بتقريب تقدم لا في المقام وحاصل ذلك التقريب : انَّ التمسك بالعامّ في الفرد المشكوك انْ أُريد به إثبات الحكم فيه مطلقاً أي عدم خروج ذلك الفرد عن عموم الجعل بالتخصيص فهذا خلف ثبوت التخصيص ، وإِنْ أُريد به إثبات الحكم فيه

__________________

(١) كفاية الأصول ، ج ١ ، ص ٣٥١ ـ ٣٥٢

(٢) مقالات الأصول ، ج ١ ، ص ١٥٤

٣٥٤

لكونه من غير الافراد المخصصة أي لثبوت موضوع العام فيه فالحكم بهذا المعنى هو المجعول والدليل مفاده الجعل لا المجعول.

وواضح انَّ هذا البيان لا يجري في المقام إذ ما يراد نفيه بأصالة العموم فيه انما هو التخصيص الزائد وهو من شئون الجعل الّذي هو مفاد الخطاب لا المجعول ، فلا يبقى إِلاَّ دعوى : انَّ هذا المدلول الالتزامي في المقام أمر خارجي تكويني وليس حكماً شرعياً. ومن الواضح انَّ مجرد هذا الأمر لا يمكن أن يشكل محذوراً عن التمسك بالأصول اللفظية ولذلك لا يتوقّف أحد في حجية أصالة العموم فيما إذا ترتب عليه لوازم خارجية ولا يشترط في حجيتها أَنْ تكون أحكاماً شرعية.

والصحيح في المقام أَنْ يقال : انه اتضح مما سبق وجود بيانين في تقريب دلالة العام أو المطلق على الخروج الموضوعي للفرد.

أحدهما ؛ انه مقتضى عكس نقيض الموجبة الكلية ، والاخر : انحلال مفاد الدليل إلى قضايا شرطية بعدد الافراد ، شرطها تحقق الموضوع وجزائها ثبوت الحكم فإذا انتفى الجزاء انتفى الشرط لا محالة.

وهذان البيانان بينهما اختلاف ، فانَّ البيان الثاني لا يتم فيما إذا كان العام أو المطلق على نهج القضية الخارجية لا الحقيقية إذ لا يرجع مفاد العام أو المطلق حينئذٍ إلى قضية شرطية لأنَّ القضية شرطية فرع كون الموضوع ملحوظاً مقدَّر الوجود وهو انَّما يكون في القضايا الحقيقية لا الخارجية التي يتكفّل فيها المولى بنفسه إحراز موضوع حكمه في افراد معينة مشخصة في الخارج سواءً كانت الافراد الملحوظة هي الموجودة بالفعل أو الأعم منها ومما سيوجد في المستقبل فانَّ طرز القضية الخارجية فيهما واحد بحيث يبقى الفرق النظريّ والمدلول بين القضية الخارجية والقضية الحقيقية محفوظاً ، فانه لو فرض ـ ولو فرضا لا يقع خارجاً ـ انَّ شيئاً ما انطبق عليه الموضوع المأخوذ في الجعل على النهج الأول أي القضية الحقيقية انطبق عليه الحكم وشمله لاندراج ذلك الشيء تحت القضية الشرطية المفادة في القضايا الحقيقية بخلاف ما إذا كان الجعل على نهج القضية الخارجية ولو الأعم من الفعلية والاستقبالية فانها باعتبار عدم رجوعها إلى قضية شرطية بل فعلية لا يمكن أَنْ يستفاد من مفادها أكثر من القضايا الفعلية بعدد

٣٥٥

الافراد الملحوظة في الخارج ، وهذا أحد الفوارق بين نهج القضيتين التي تترتب على أساسها آثار منطقية وأصولية تقدمت الإشارة إلى بعضها في بحوث سابقة.

وعلى هذا الأساس لا يصح البيان الثاني لتقريب دلالة العام أو المطلق على الخروج الموضوعي في ما إذا كان العام أو المطلق مجعولين على نهج القضايا الخارجية.

كما انَّ البيان الأول موقوف على أَنْ يكون المفاد بالخطاب قضية موجبة كلية ، أي لا بدَّ من دلالة الخطاب على الكلية والاستيعاب في طرف الموضوع ولا يكفي فيه ثبوت واقع القضايا المنحلة بعدد الافراد لتوقف عكس النقيض على ذلك وهذا بخلاف البيان الثاني فانه يكفي فيه ثبوت مفاد القضية الشرطية في الفرد المشكوك خروجه موضوعاً ، ولهذا يكون البيان الثاني اقرب في باب المطلقات من البيان الأول.

وكلا البيانين غير تامين في موارد الخطابات المجعولة على نهج القضايا الحقيقية.

توضيح ذلك ، انه تارة : يفرض انَّ كلاً من الخطاب العام والخطاب الخاصّ الدال على عدم ثبوت حكم العام في الفرد المشكوك مجعول على نهج القضايا الحقيقية ، وأخرى : يفرض انَّ كليهما من القضايا الخارجية ، وثالثة : يفترض الاختلاف ، ونحن قد عرفنا فيما سبق انَّ من جملة الفوارق بين النهجين انَّ العنوان المأخوذ في القضية الحقيقية يكون ملقى إلى المكلفين أنفسهم ولا يتكفل المولى إحرازه نفياً أو إثباتاً وانما يقدر وجوده في مقام الحكم ولهذا كانت القضايا الحقيقية قضايا شرطية في روحها. وهذا بخلاف القضية الخارجية التي يتكفل المولى فيها بنفسه إحراز ما هو موضوع حكمه لبّا في الخارج ليجعل الحكم الفعلي النهائيّ عليه.

وعلى هذا الأساس نقول : إذا كانت الخطابات مجعولة على نهج القضايا الحقيقية كما هو كذلك ـ أي كان كل من الدليل العام والدليل الخاصّ على نهج القضايا الحقيقية ـ فلا يصح التمسك بأصالة العموم لإثبات الخروج الموضوعي للفرد المشكوك ، إذ في هذه الحالة يكون مفاد كل من الدليلين منحلاً إلى قضايا شرطية فمفاد ( أكرم كلَّ قرشي ) انَّ زيداً إذا كان قرشياً وجب إكرامه ومفاد ( لا يجب إكرام زيد ) انه لا يجب إكرامه سواءً كان قرشياً أولا ، أي إذا كان قرشياً فائضاً لا يجب إكرامه ، ومن الواضح التنافي بين مثل هذين الجعلين بمعنى انه يستلزم تخصيص الدليل العام

٣٥٦

بالقرشي الّذي لا يكون زيداً لا محالة إذ لا يمكن أَنْ تجتمع القضية الشرطية المستفادة من عموم العام بالنسبة لهذا الفرد مع القضية الشرطية المستفادة من إطلاق الدليل الخاصّ لما إذا كان هذا الفرد قرشياً ، وبما انَّ الدليل الخاصّ مقدم على العام فلا محالة يكون التخصيص متعيناً ومعه لا يمكن التمسك بأصالة العموم لنفيه.

وهكذا يتضح انه لا دلالة للعام أو المطلق بحسب الحقيقة على نفي التخصيص في الخطابات المتعارفة ، نعم إذا كان الخطابان أو أحدهما مجعولين على نهج القضايا الخارجية فلا يبعد صحة التمسّك بالدلالة المنعقدة حينئذٍ لكون الخطاب ناظراً إلى الوضع الخارجي للأفراد فلو قال ( أكرم كلّ جيراني ) وثبت بعد ذلك عدم وجوب إكرام زيد فلا يبعد صحة استكشاف عدم كونه من جيرانه عرفاً وترتيب آثار ذلك عليه من نفس الخطاب العام (١).

__________________

(١) هذا لا يتم في موردين حينئذٍ بحيث لا بد من استثنائهما.

ألف ـ ما إذا كان العنوان الوارد في الخطاب العام امراً شرعياً في نفسه كعنوان النجاسة في منجسية الماء المتنجس فانه في مثل ذلك لا ينعقد إطلاق لدليل عدم انفعال ملاقي ماء الاستنجاء لما إذا كان الماء نجساً أيضاً واقعاً إذ لعل الخطاب الخاصّ من هذه الناحية قضية خارجية لا حقيقية إذ لعل المولى انما أطلق الخطاب من هذه الناحية لإحرازه كون ماء الاستنجاء طاهراً ، وهذا عين الاستثناء الّذي تقدم في بحث عدم جواز التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية.

ب ـ أَنْ يكون موضوع العام من الأمور التي على تقدير تحققها في موضوع تكون ثابتة ولا تكون متغيرة ومتواردة كعنوان القرشية مثلاً فانَّ قرشية زيد إذا كانت ثابتة فهي ثابتة منذ البداية وإلى النهاية فانه في مثل هذه العناوين لا ينعقد إطلاق في دليل نفي الحكم عن زيد لما إذا كان قرشياً أو لم يكن إذ ليست حالتي القرشية وعدمها كالعلم والجهل أو العدالة والفسق حالتين متواردتين على زيد لكي ينعقد إطلاق في الدليل بنحو القضية الحقيقية من ناحيتهما إذ لا حاجة إلى البيان لكي يجب أَنْ يبين على تقدير التقييد ثبوتاً ومع عدم انعقاد الإطلاق المذكور لا يثبت التخصيص كما هو واضح والحاصل الدليل الخاصّ في مثل هذين الموردين لا يكون فيه ظهور عادة في كونه على نهج القضية الحقيقية لا الخارجية وهذان موردان شائعان في الفقه وليس خلاف المتعارف فالإشكال باقٍ على حاله بحيث لا بدَّ له من حلّ آخر بعد وضوح ان العرف لا يرجع إلى العموم فضلاً عن الإطلاق لإثبات التخصيص ، ولعل الوجه في ذلك ان الخطابات انما تجعل الحكم على تقدير تحقق الموضوع لا أنها تجعل الملازمة بين الحكم والموضوع كقضية خبرية وظاهر المتكلم في الخطابات الإنشائية انه يتصدّى جعل الحكم على تقدير الموضوع فيكون هذا نكتة لجعل الحجية له في الكشف عن الحكم لا عن الموضوع نفياً أو إثباتاً مع فرض معلومية الحكم ، ومن هنا يمكن ان يقال بعدم حجية العام في الخطابات لإثبات التخصص سواءً كانت بنحو القضايا الحقيقية أو الخارجية ، وانما يصح إثبات التخصّص في الخطابات الاخبارية التي تحكي ابتداءً الملازمة بين موضوعين.

٣٥٧

( فصل : في اشتراط الفحص قبل التمسك بأصالة العموم ).

والبحث تارة في أصل وجوب الفحص وأخرى في مقداره ؛

أمَّا المقام الأول ـ فقد استدل على وجوب الفحص بمعنى عدم حجية العام قبل الفحص بوجوه.

الوجه الأول ـ ما استدلّ به المحقق العراقي ( قده ) (١) والسيد الأستاذ من التمسك بأخبار وجوب التعلم والتفقه في الدين

وهذا نظير الاستدلال الواقع بهذه الأخبار على وجوب الفحص قبل الرجوع إلى الأصول العملية والمؤمنة.

ولكن الصحيح عدم صحة الاستدلال المذكور ، فانَّ هذه الروايات على طوائف ثلاث :

منها ـ ما دلَّ على لزوم التفقه في الدين وتعلم أحكام الشرع المبين (٢) ومن الواضح انَّ هذا اللسان لا يدل على وجوب الفحص بمعنى عدم حجية العام قبله بل انما يدل على وجوب الفحص بعد الفراغ عن عدم حجية العام قبل الفحص وإِلاَّ كان الأخذ بالعامّ بنفسه تعلماً للدين وتفقها إذ لا يراد من التعلم والتفقه تحصيل العلم الوجداني بواقع الحكم الشرعي الإلهي بحيث يشترط فيه أَنْ يكون الدليل قطعياً سنداً ودلالة وجهة ، وانما المقصود انه لا يمكن للمكلف أَنْ يجلس في بيته ويترك تعلم الأحكام الشرعية بطرقها المتعارفة العقلائية والتي من أهمها التعويل على الظهورات والعمومات فإثبات وجوب الفحص بالمعنى المطلوب في المقام بهذه الأخبار دوري.

ومنها ـ ما ورد بلسان الذم واللوم على ترك السؤال كما ورد فيمن غسل مجدوراً اصابته جنابة فكزَّ فمات قتلوه قتلهم الله الا سألوا إلا ييمّموه (٣).

وهذا اللسان أيضاً حال اللسان السابق لوضوح عدم صدق عدم السؤال فيما لو فرض حجية العام في نفسه فلا يمكن أَنْ يكون دليلاً على عدم حجيته.

__________________

(١) مقالات الأصول ، ج ١ ، ص ١٥٤.

(٢) الكافي ، ج ١ ، ص ٣١.

(٣) الكافي ، ج ١ ، ص ٤٠

٣٥٨

ومنها ـ ما ورد بلسان هلاّ تعلمت وهو ما ورد في الرواية المعروفة من انه يقال يوم القيامة للعبد هل علمت؟ فانْ قال نعم قيل فهلا عملت؟ وإِنْ قال لا قيل فهلا تعلمت حتى تعمل؟

وهذا اللسان أيضاً لا يمكن الاستدلال به في المقام لأنَّ التعلم لا يراد منه أكثر من تحصيل دليل يبين ما هو الحكم الشرعي الواقعي والعام بناء على حجيته يكون كذلك ، نعم في الأصول العملية قبل الفحص يصح مثل هذا الاستدلال لكون هذه الأخبار مسوقة مساق إلغاء معذرية الشك من دون التفحص عن أدلة الأحكام من الكتاب والسّنة.

فقياس المقام بباب الأصول العملية في الاستدلال بهذه الروايات في غير محله.

الوجه الثاني ـ التمسك بالعلم الإجمالي بوجود المخصصات والمقيدات للعمومات ومعه لا يمكن التمسك بشيء منها لوقوع الإجمال والتعارض فيما بينها.

وقد اعترض على هذا الوجه بإيرادين :

الأول ـ انَّ الفحص حينئذٍ لا يكون رافعاً لأثر هذا العلم الإجمالي أعني عدم جواز العمل بالعامّ إذ بعد الفحص والظفر بمقدار من المخصصات لا يحصل أيضاً القطع بعدم وجود مخصص آخر لم يصل إلينا فباقي العمومات لا تسقط عن الطرفية للعلم الإجمالي المذكور ، فهذا الوجه ينتج عدم حجية العمومات رأساً.

وقد أُجيب عنه : بأنَّ العلم الإجمالي بوجود مخصصات لمجموع العمومات منحل بالعلم الإجمالي بوجود مخصصات ضمن ما وصلت إلينا في الكتب الأربعة من الروايات إذ لا موجب لافتراض العلم بوجود مخصصات أكثر مما يعلم إجمالاً بوجوده ضمن ما في الكتب الأربعة فينحل العلم الإجمالي الكبير بالعلم الإجمالي الصغير من أول الأمر لتساوي المعلومين بالإجمال فيهما فيكون مرجعه إلى العلم الإجمالي بوجود مخصصات في الكتب الأربعة والشك البدوي بوجود مخصص آخر وراءها فإذا لم نجد في حق عموم مخصصاً في الكتب الأربعة خرج بذلك عن الطرفية للعلم الإجمالي.

الثاني ـ ما ذكره المحقق الخراسانيّ ( قده ) من انَّ هذا الوجه غاية ما يقتضيه وجوب الفحص عن المخصصات حتى يظفر بها بمقدار المعلوم بالإجمال ، وامّا بعد ذلك فلا يجب

٣٥٩

الفحص لانحلال العلم الإجمالي حينئذٍ مع ان المطلوب إثباته وجوب الفحص مطلقاً (١).

وقد استشكل في هذا الكلام المحقق العراقي ( قده ) في المقام وفي بحث البراءة حيث كان يستدل الأخباري على الاحتياط بالعلم الإجمالي بالتكاليف ويجيب عنه الأصولي بانحلاله بعد الظفر بما في موارد الأدلة والروايات ففي المقامين للمحقق المذكور ( قده ) مناقشة حاصلها : انَّ العلم الإجمالي انما ينحل بالعلم التفصيليّ ـ أو الإجمالي الصغير ـ حقيقة فيما إذا كان العلم التفصيليّ ناظراً إلى العلم الإجمالي ومتعلقاً بنفس ما تعلَّق به بحيث يعلم تفصيلاً انَّ نفس ما علم إجمالاً أولا ثابت في هذا الطرف وامَّا إذا لم يكن كذلك فليس الانحلال حقيقياً حتى إذا كان متعلق العلمين عنواناً واحداً قابلاً للتطابق ، كما إذا علم إجمالاً بنجاسة من دم في أحد الإناءين وعلم تفصيلاً بنجاسة من دم في الإناء الغربي مثلاً مع احتمال تطابق المعلومين ، فضلاً عما إذا كان المعلوم بالعلم الإجمالي مقيداً بقيد زائد ، فانه حكم في كل ذلك بأنَّ الانحلال حكمي لا حقيقي وقد اشترط في الانحلال الحكمي أَنْ يكون العلم التفصيليّ أو غيره مما يستوجب الانحلال الحكمي حاصلاً معاصراً مع حصول العلم الإجمالي الكبير وامّا إذا حصل العلم الإجمالي الكبير أولاً ونجز تمام أطرافه وبعد ذلك حصل ما يوجب الانحلال الحكمي في بعض الأطراف فذلك لا يجدي في حل العلم الإجمالي الأول وإحياء الأصول في الأطراف الأخرى فانَّ الأصل بعد أَنْ مات لا يعود حيّاً (٢).

ونحن لا نوافق معه ( قده ) في كلا هذين المطلبين في المقام فانه :

أولاً ـ لا نسلم عدم انحلال العلم الإجمالي بالعلم التفصيليّ فيما إذا كان متعلقهما عنواناً واحداً يحتمل تطابقهما بل الصحيح انَّ هذه الصورة من صور الانحلال الحقيقي للعلم الإجمالي على تفصيل وتحقيق موكول إلى محله.

ومقامنا أيضاً من هذا القبيل لأنَّ ما يعلم إجمالاً من المخصصات لا يمتاز بقيد زائد على صرف وجود المخصص والّذي علم تفصيلاً بمقدار منه.

__________________

(١) كفاية الأصول ، ج ١ ، ص ٣٥٢ ـ ٣٥٣

(٢) مقالات الأصول ، ج ١ ، ص ١٥٤ ـ ١٥٥

٣٦٠